Taariikhda Cilmiga ee Carabta
بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
Noocyada
21
وهذه محصلة لا ريب فيها؛ إذ يقول جابر: «إياك أن تجرب أو تعمل حتى تعلم، ويحق أن تعلم الباب من أوله إلى آخره بجميع تنقيته وعلله، ثم تقصد لتجرب فيكون في التجربة كمال العلم.»
22
إذن وضع عالمنا يده على سر العلم، أدرك أن فهم الطبيعة يقتضي حتما الرجوع إليها واستجوابها عن طريق التجريب، ولم يكن جابر مجربا فحسب، بل مجربا منهجيا؛ أي مدركا لوجوب وضع أصول وقواعد للتجريب كي يمثل منهج استدلال علمي، وأخطر ما في الأمر إيضاح جابر لطبيعة الاستدلال التجريبي وحدوده وقصوراته، وبلا مبالغة - طالما نحذر منها - فإن ما أثاره ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر وهو يفجر مشكلة الاستقراء الشهيرة، التي هي حجر الزاوية في نظرية المنهج التجريبي، سبق أن أثاره جابر مستشرفا الآفاق التي تخلقت في العصور الحديثة!
إذ يستحيل على الاستدلال الاستقرائي حصر كل الحالات التي تمثل الظاهرة، فيكتفي بأمثلة جزئية هي نماذج للظاهرة، وينتقل منها إلى قانون كلي عام يحكم كل الحالات والوقائع المماثلة، فتوقف هيوم متسائلا عن مبرر التعميم والحكم على ما لم نشاهده، من أدرانا أنه مطابق للحالات التي شاهدناها؟ وإذا كانت العلية الكونية هي الأساس، فمن أين أتينا بها؟ ولأنه ليس هناك إجابة منطقية على هذا السؤال، انتهى هيوم إلى أن التعميم الاستقرائي عادة سيكولوجية، فالنفس الإنسانية مفطورة على عادة، هي توقع حدوث ما لاحظته، سيما إذا تكرر كثيرا، إذن فالاستدلال التجريبي أو الاستقرائي ليس البتة ذا أي رسوخ منطقي، وهذه الثورة الهيومية أدت إلى توترات ومد وجذر جم، وفي النهاية نجد محصلتين تسلم بهما فلسفة العلم تسليما: الأولى: هي أن كل معرفة تجريبية احتمالية يستحيل أن تكون يقينية، والثانية: أن الاستقراء والاستنباط أو العقل والتجريب، أو اليد والدماغ أو الفرض والملاحظة، يتآزران معا في نظرية المنهج العلمي.
وكل هذه الخطوط مترسمة في نصوص جابر، لا سيما «كتاب التصريف» كما سنرى. •••
بادئ ذي بدء، نجد بعدا كلاميا جذريا، وهو قياس الغائب على الشاهد - الذي أوضحناه في المبحث السابق - ترتكز عليه نظرية جابر المنهجية التجريبية، إنه يوضح بمزيد من النسقية كيف نستدل من الشاهد على الغائب، بطريقة تجعلنا نفهم من الوقائع المتاحة أمامنا القانون العام الذي يحكمها جميعا. إنها وظيفة العلم وصلب منهجه، وينطبق عليه ما أوضحه جابر من سبل ثلاثة للاستدلال؛ إذ يقول: «إن هذا التعلق يكون من الشاهد بالغائب على ثلاثة أوجه: وهي المجانسة ومجرى العادة والآثار، وأنا ممثل كل واحد من هذه الوجوه، وقائل فيه بحسب ما أراه كافيا.»
23
بيد أن ما قاله جابر بشأن الوجه الثالث - الآثار - مفقود تماما. لكن الاستدلالين الأولين ماثلان ومشبعان.
أما المجانسة فهي الاستدلال من الأنموذج، وهي صحيحة لكنها احتمالية «غير اضطرارية ولا ثابتة في كل حال».
Bog aan la aqoon