إهداء
تمهيد
1 - أديلارد الباثي ومدارس الرياضيات في قرطبة1
2 - الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في التراث العربي1
3 - الأبعاد المعرفية1 لكيمياء جابر بن حيان
4 - المنهج العلمي عند العالم النابغة أبي الريحان البيروني
إهداء
تمهيد
1 - أديلارد الباثي ومدارس الرياضيات في قرطبة1
2 - الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في التراث العربي1
3 - الأبعاد المعرفية1 لكيمياء جابر بن حيان
4 - المنهج العلمي عند العالم النابغة أبي الريحان البيروني
بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
تأليف
يمنى طريف الخولي
إهداء
لأن كل سؤال عن التاريخ - تاريخ العلوم أو سواها - ينطلق من الماضي، ليصب في بوتقة تفهم وتأصيل الحاضر لاستشراف المستقبل، تواصلا ... ونماء ... وتطورا ... أهدي هذا العمل إلى العصفور الذي يغرد في القلب قبل السمع ... إلى ابنتي يمنى حاتم.
حبا ... وتواصلا ... ونماء ...
ي. ط.
تمهيد
الوعي بتاريخ العلوم ... وعند العرب
لعل أبرز معالم فلسفة العلم في الهزيع الأخير من القرن العشرين هو أنها باتت معنية بتاريخ العلم، ولا تنفصل البتة عنه إن رامت تفهما حقيقيا لظاهرة العلم الحديث الذي يواصل نماءه وتطوره وتعملقه إلى غير نهاية، وبالنظر إلى الحقبة السابقة من فلسفة العلم التي سادتها الوضعية المنطقية، واستغرقها السؤال عن المنهج، يمكن اعتبار هذا الاهتمام بتاريخ العلم بمثابة تطور ونماء معرفي لفلسفته ...
فإذا عدنا إلى القرن التاسع عشر، وجدنا العلم الكلاسيكي مزهوا بنفسه معتدا بذاته إلى أقصى الحدود، ولم تنشغل فلسفته كثيرا بتاريخ العلم، ولأعني أهلوها وأهل عصرها بالإجابة على السؤال: كيف بدأ العلم؟ كيف اتجه وسار؟ كيف نما وتطور حتى وصل إلى تلك المرحلة؟ وكان حسبهم الافتتان برونق جلال تلك المرحلة وجبروت شموخها، هذا رغم أن العلم - كما أكد كروثر
J. G. Crowther - أقدم عهدا من التاريخ، فكانت معطياته الأساسية أول ما تأمله الإنسان في العصر الحجري. فالتوجه العلمي متأصل في صلب العقل الإنساني، حتى يعنى الأنثربولوجيون الآن بالأصول البعيدة القصية للعلم عند الشعوب البدائية، أو ما أسماه برنسلاو مالينوفسكي
B. Malinowski
العقلية القبل علمية.
إن فلسفة العلم قد سيطر عليها هاجس الافتتان بالنسق العلمي في حد ذاته، واعتبار تاريخه مسألة ثانوية، وتوطد هذا بفعل هيلمان الوضعية المنطقية على أجواء فلسفة العلم، وحتى منتصف القرن العشرين، وليس فينا من ينكر دور الوضعية المنطقية العظيم في توطيد أسس النظرة الفلسفية العلمية، وتعبيد الطرق الاحترافية لفلسفة العلم، بخلاف الأفضال الجليلة في مجال المنطق الرياضي. لكن الوضعية كانت فلسفة علمية تجريبية متطرفة، قصرت فلسفة العلم - بل والفلسفة بأسرها - على محض تحليلات منطقية للقضايا العلمية، مجردين الفلسفة من آفاقها الرحيبة وأبعادها المترامية، وشنوا حملتهم الشعواء على ربيبة الفلسفة المدللة - الميتافيزيقا. فقد نزعت الوضعية إلى تجريبية مطلقة لا ترتبط بسواها، ونسق علمي فوق هامات كل الأبنية الحضارية الأخرى، بل وعلى أشلائها سيما أشلاء الميتافيزيقا، وأمعنت في تنزيه العلم من توجهات التفسيرات الاجتماعية والتاريخية، فأنكرت الدور الذي يلعبه تاريخ العلم في تمكيننا من فهم ظاهرة العلم فهما أعمق وأشمل، وأكدت أن المعايير المنطقية، وليست التاريخية هي التي تحدد فلسفة العلم. هكذا جعلت الوضعية المنطقية من فلسفة العلم فلسفة لا تاريخية، تولي ظهرها لتاريخ العلم اكتفاء بالمعطى الراهن منه، ورأوا أن التجربة قادرة على تفسير كل شيء حتى أنها بمثابة المعطى النهائي والبديهي، وحين ترتفع التجريبية إلى مستوى بديهيات المنطق، فإنها تكاد تلامس حدود المطلق الذي يعلو على الزمان والمكان ودع عنك التاريخ. كانت الوضعية المنطقية فلسفة علمية متعصبة متطرفة، مارست نوعا من الإرهاب الفكري في أجواء فلسفة العلم، فمن لا يكتفي بتحليلاتهم المنطقية هو المتخلف الغارق في سدم الأوهام المعيارية، أو السادر في الشطحات الميتافيزيقية.
ولئن كان كارل بوبر
K. Popper (1902-1994) أهم فلاسفة العلم في النصف الثاني من القرن العشرين، فإنه هو الذي حمل لواء العصيان والنقد الحاد للوضعية المنطقية، مؤكدا أن فلسفة العلم ليست محض تحليلات منطقية، بل هي فلسفة الفعالية الحية والهم المعرفي للإنسان، والميتافيزيقا أفقها الرحيب الذي يلهم بالفروض الخصيبة العلم أكثر حيوية وإنسانية من أي منشط آخر، قضاياه قابلة دوما للتكذيب والتعديل والتطوير، يلعب الخيال الخلاق والعبقرية المبدعة دورا أساسيا في رسم قصة العلم المثيرة، التي علمت الإنسان المعنى الحقيقي للتقدم، والتقدم العلمي لا تفسره إلا الثورة، بمعنى التغير الجذري لبدء دورة معرفية جديدة.
والتقط توماس كون
T. Khun (1922-1996) أيقونة الثورة من كارل بوبر، فأقام تفسيره لتاريخ العلم وفلسفته على أساس مفهوم الثورة، التي هي انتقال من براديم
أو نموذج قياسي إرشادي إلى آخر ... وذلك في كتابه الشهير «بنية الثورات العلمية»، ويحمل هذا الكتاب إعلانا صريحا للربط الوثيق بين فلسفة العلم وتاريخه.
ثم تكفل بتوطيد هذا الربط أخلص تلاميذ بوبر: الفيلسوف المجري إمري لاكاتوش
I. Lakatos (1922-1974)، فقد واصل طريق الربط الوثيق بين فلسفة العلم وتاريخه، وبواسطة تعديل قول لإمانويل كانط، صاغ لاكاتوش المبدأ النافذ «فلسفة العلم بدون تاريخه جوفاء، وتاريخ العلم بدون فلسفته أعمى»، ويأتي بول فيير أبند
(1923-1995) ليبرز أهمية النظريات القابعة في تاريخ العلم وقدرتها على إخصاب الواقع العلمي الراهن، ويتكرس لتأكيد التعددية المنهجية، وتأكيد النسباوية بمعنى عدم قابلية النظريات العلمية المتتالية للمقارنة والخضوع لنفس المعايير والحكم عليها بنفس المقاييس. كل نظرية لها مكانها في تاريخ العلم، والحكم عليها بالنسبة لظروفها وتحدياتها.
هكذا نجد كارل بوبر، وتوماس كون، وإمري لاكاتوش، وبول فيير آبند فريق عمل متكاملا، يعرف باسم: الرباعي الأبستمولوجي، شكل معالم فلسفة العلم في المرحلة التالية على الوضعية المنطقية؛ أي في العقود الثلاثة الأخيرة من السنين، وقد أصبحت فلسفة العلم فلسفة إنسانية حية خفاقة، وليست مجرد تحليلات منطقية، لا تستغني طبعا عن رصانة المنطق، لكن تتجاوزه لتصبح فلسفة أبستمولوجية «معرفية» لا تنفصل البتة عن تاريخ العلم.
فتاريخ العلم - وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات - هو التاريخ الحقيقي للإنسان، وصلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد دوما، بل إن فلسفة العلم الآن تسير إلى أبعد مما أنجزه هذا الرباعي العظيم في التأكيد على أهمية تاريخ العلم. فقد تعاظم شأن العلم وتشابكت علاقاته، وأصبح أكثر شمولية للموقف الإنساني أكثر من أي منشط آخر ... ولا يتكشف كل هذا إلا في ضوء تطوره التاريخي عبر تفاعله مع البنيات الحضارية والاجتماعية والمعرفية. •••
ولئن تعلمنا من فلسفة العلم أهمية تاريخ العلوم على العموم، فباق أن نتفق على أهمية تاريخ العلوم عند العرب على الخصوص. ليس فقط من أجل العوامل الذاتية القومية التي تملي علينا العمل على تجذير الظاهرة العلمية وتوطينها في تربتنا، بل أيضا من أجل العوامل الموضوعية الأعم، والتي تهم المعنيين بأصول ظاهرة العلم الحديث شرقا وغربا. تاريخ العلوم عند العرب يشغل كل الفضاء الحضاري الممتد منذ أفول عهد العلم البطلمي السكندري الذي توهج على شواطئ مصر، وحتى بزوغ الجمهوريات الإيطالية في عصر النهضة، وبغض النظر عن الطول الزمني لهذا الفضاء الذي تشغله العلوم عند العرب، فإن أهميتها الخاصة تأتي من أنها المرحلة المفضية تاريخيا ومنطقيا إلى مرحلة العلم الغربي الحديث.
وتزداد الأهمية الموضوعية والمنهجية لدراسة تاريخ العلوم عند العرب؛ لأنه حظي بنصيب الأسد من التشويه الأيديولوجي لتاريخ العلم، وبفعل عوامل لا موضوعية ولا منهجية البتة سادت ردحا من الزمن خرافة مغرضة تؤكد أن العلم ظاهرة غربية بدأت من الصفر المطلق مع الإغريق، وعبر فجوة باهتة مظلمة - هي العصور الوسطى - انتقل إلى أحفادهم وورثتهم الشرعيين في مراكز العلم الحديث في أوروبا.
لقد كان الإغريق أول قوم في أوروبا يخرجون من الوضع القبلي البدائي، ويصنعون مدنية وثقافة متنامية قبل الميلاد بستة قرون، إنهم بداية الحضارة الأوروبية، التي تطورت عبر التاريخ حتى بلغت مرحلة المد الاستعماري. فلم يتوان مفكرون غربيون في تسويغه، حتى شكلوا فيلقا في الجيوش الاستعمارية، بزعم أن الغرب هو صانع الحضارة ابتداء وأبدا. فيغدو السؤدد الحضاري والسيطرة على العالمين نصيب الغرب المشروع ومكانه الطبيعي، وكان السبيل لهذا هو الإسراف في تمجيد ما أسموه «المعجزة» الإغريقية، وإهدار ميراث الحضارات الشرقية القديمة الأسبق منها، والتي أصبحت مستعمرة.
وبينما الحضارة اختراع مصري، أنجزه الفراعنة - قبل الإغريق بألفي عام - ليكون الفجر الناصع ونقطة البدء الحقيقية، راحوا يزعمون أن هذا قد انزوى، والإغريق هم بدء الحضارة الإنسانية بجملتها، وليس الأوروبية فقط. فالعلم بدأ مع الإغريق كما بدأت الفلسفة مع طاليس، وبدأت الرياضيات مع فيثاغورث، والميثولوجيا - الأساطير - مع هوميروس، والمسرح مع يوربيديس وإسخيلوس، وبدأت الديمقراطية في أثينا ... إلخ ... إلخ. فيبدو الغرب هو الفاعل الوحيد لكل فعل حضاري ، المالك الوحيد لكل غنيمة حضارية، صاحب الحق في تصريف شئون الحضارة البشرية وفقا لمصالحه، إذن الاستعمار والهيمنة نصيب الغرب المشروع.
ونعود إلى العلم بمفهومه الحديث، لنجد العلوم التجريبية جذعه وجسده وإنجازه الأعظم، وفي هذه العكس تماما هو الصحيح. فقد بلغت مدا مبهرا في الحضارات الشرقية القديمة، انحسر مع الإغريق. لقد تمركزت إنجازاتهم في العقل النظري والعلوم الاستنباطية؛ أي في المنطق والرياضيات؛ لأنهم دأبوا على تمجيد النظر وتحقير العمل، حتى جاهر أرسطو بأن العبيد مجرد آلات حية لخدمة السادة الأحرار المتفرغين لممارسة فضيلتي التأمل والصداقة، ثم انطفأت الجذوة التي توهجت للعلم والتقانة في الإسكندرية، واستمر أثر أرسطو متكاتفا مع كهنوت رجال الكنيسة، كسد أمام العلم التجريبي طوال العصور الوسطى، يئن ويستجير منه الأوروبيون لا سواهم. حتى تحرروا في القرن السادس عشر من هيمنة أرسطو، وبدءوا انطلاقة العلم الحديث.
هذه المرة الإهدار من نصيب دور الحضارة العربية الإسلامية التي احتلت قصب السبق في العصور الوسطى. لقد انفتحت على كل الحضارات الأسبق منها، وشكلت أمة تضم قوميات ومللا شتى ساهموا جميعا في إنجازاتها العلمية الهامة، فكان العرب - كما يقول مؤرخ العلم كروثر - هم المؤسسون لمفهوم عالمية المعرفة، وهي إحدى السمات البالغة الأهمية للعلم الحديث.
ولئن كان الإغريق قاموا بدور جوهري في بلورة مثل العقلانية والعلم، فإن السؤال هو: لماذا كانت هذه المرحلة المتألقة في أيونيا، وليس في أي مكان آخر من أوروبا؟ والإجابة في الموقع الجغرافي لبلاد اليونان، قربها وتوسطها وسهولة اتصالها بمواطن الحضارات الشرقية الأسبق منها. فكانت تمثلا واستيعابا لميراثها، ثم تطورا طبيعيا له؛ لأن الظروف الحضارية الإغريقية كانت موائمة لهذا، ثم صنع الإسلام ظروفا حضارية مواتية لنهضة العلم في مرحلته التالية التي أفضت إلى مرحلة العلم الحديث بجلال شموخها ورونق نسقها، ولئن كان مبدأ أرنولد توينبي
A. Toynbee (1889-1975) في دراسة التاريخ هو أنه لا توجد أمة في العالم يتأتى دراسة تاريخها بمعزل عن تواريخ بقية الأمم، فإنه لا يمكن دراسة مرحلة من تاريخ العلم، بمعزل عن دراسة المراحل الأخرى، والتفهم المنهجي لظاهرة العلم يقتضي أن نعطي كل مرحلة حقها ؛ لأن العلم أنبل مشروع ينجزه الإنسان طرا، إنه أعظم شأنا وأجل خطرا من أن تستأثر بإنجازه من ألفه إلى يائه حضارة معينة، أو مرحلة واحدة من مراحل التاريخ.
ولأنه لا يصح إلا الصحيح فقد حل الوعي التاريخي بفلسفة العلم - بعد طول غياب - وانحسرت - إلى حد ما - دعاوي التشويه الأيديولوجي لتاريخ العلم، وتنامى الاهتمام الأكاديمي به في العالم أجمع، وتجري الآن محاولات منهجية دءوبة لتتبع كل مراحله وصلت إلى الأصول الأنثربولوجية للعلم - كما أشرنا - مع اهتمام خاص بتاريخ العلوم عند العرب، للعوامل المذكورة فيما سبق. •••
في هذا الإطار تجتمع البحوث الأربعة التي تشكل متن الكتاب على الرغم من أنها أجريت في أزمنة متفاوتة. المبحث الأول: عن أديلارد الباثي ومدارس الرياضيات في قرطبة، يحاول أن يلقي ضوءا على معبر من معابر انتقال العلم العربي إلى العلم الحديث في أوروبا. لم يوضع في المبتدأ كمصادرة على المطلوب، لكن لأن الرياضيات لها منزلتها المنطقية المعروفة التي تجعلها مسبقة وفوق كل المباحث الإخبارية، فضلا عن أن البحث يحوي بين طياته خطوطا عامة لمنهجية تأريخ العلوم من منظور مستقبلي، ولأن تاريخ العلم يجري عبر تفاعله مع البنيات الحضارية والمعرفية كما ذكرنا، كان البحث التالي عن الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في تراثنا، على اعتبار أن هذا هو القاعدة المعرفية التي انطلقت منها العلوم عند العرب. حاول البحث أن يلقي ضوءا على عوامل تدفقها في العصر الوسيط، وأيضا لماذا انحسرت وتوقفت ولم تواصل النماء والسيرورة في العصر الحديث؟ وكان لا بد من لقاء حي مع علمائنا القدامى، وتخيرنا اثنين: جابر والبيروني، لا جدال في تصدرهما العلم في عصرهما، وكلاهما تمثيل للطابع العالمي للعلم وحوار الحضارات وتفاعلها في رسم فصوله، جابر بن حيان في القرن الثاني الهجري بعقليته التي تداخلت فيها العناصر الإغريقية مع السكندرية والغنوصية والهرمسية والحرانية والإسلامية ...
وفي هذا الإطار كان ما أسداه للكيمياء وللمباحث الإمبيريقية، وأيضا كانت الهند رافدا دافقا غذت عقلية البيروني العلمية المكينة وليس اليونان فقط، لكن بقدر ما كانت عقلية جابر مشربكة بعناصر لا علمية، كانت عقلية العلم الثاني البيروني علمية على الأصالة، بحيث إن الرحلة بينهما تمثيلا للطابع التقدمي للعلم
1
منذ البدايات الغير هينة للعلم العربي مع جابر وحتى البيروني الذي أتى في قمة العصر الذهبي للحضارة الإسلامية «القرن الرابع الهجري» ليمثل أعلى مد للعقلية العلمية بلغته الحضارة الإسلامية، بل إذا قارناه بأبي الفلك الحديث يوهانس كبلر لبدا البيروني أكثر علمية وعقلانية ورصانة منطقية، بصرف النظر عن المحتوى المعرفي لنظريات كليهما، والتي لا بد وأن تكون في صالح كبلر طبعا. لعل المقارنة الشهيرة بين كبلر وجاليليو، من حيث إن الأول مدفوع بنزعات الصوفية وعبادة الشمس وما إليه، بينما الثاني علمي وعقلاني على الإصالة، سوف تطرح بين جابر والبيروني. لقد بدا لنا البيروني ظاهرة فريدة في علم العصور الوسطى، وأن قول إدوارد ساخاو بأنه أعظم عقلية عرفها التاريخ لم يكن عشوائيا، فاهتممنا به اهتماما خاصا لنرجو اسمه الجليل مسك الختام لهذا العمل المتواضع، ونسأل الله أن نتمكن من استئنافه بأبحاث تالية تتناول زوايا أخرى من هذا العالم الثري الزاخر - تاريخ العلوم عند العرب، وكيف يعيننا في تفهم ظاهرة العلم الحديث.
وبالله قصد السبيل.
المبحث الأول
أديلارد الباثي ومدارس الرياضيات في قرطبة1
انتقال الرياضيات من بغداد إلى العلم الحديث
أعرق المدن الثقافية آنذاك بغداد وقرطبة.
J. G. Crowther ...
لعل أهم العوامل التي أدت إلى تعملق العلم الحديث، وتميزه عن العلم القديم، إنما هي تسلحه باللغة الرياضية، وكانت إنجلترا على الخصوص - موطن أديلارد الباثي - هي التي شهدت ذروة الفيزياء الكلاسيكية الرياضية، وذلك بنظرية نيوتن التي بلغ العلم معها غاية النضج المهيأ للنماء والتوالد.
وبهذا يتضح لنا دور الرائد المثابر أديلارد الباثي في شق رافد قوي ساهم في تدفق نهر العلم الحديث، وذلك حين تكفل بنقل الرياضيات العربية من مركز توهجها في بغداد إلى اللغة اللاتينية، معتمدا في هذا على التراث الأندلسي والنصوص الأندلسية، خصوصا مكنونات مكتبة قرطبة.
وسوف نرى أن جهود أديلارد الباثي وخطورة دوره، يعنيان أن قرطبة ومدارس الرياضيات فيها من العوامل التي لا يمكن فهم تاريخ العلوم الرياضية ونشأة العلم الحديث بدونها. •••
فقد كانت قرطبة هي المركز المتألق للحضارة الأندلسية، وللعلم الأندلسي على العموم والرياضيات على الخصوص. فاكتسبت شهرة عالمية، وأصبحت من أهم مراكز الدرس في عصرها، واقترن اسمها بالعلم والعلماء، حتى قيل فيها:
بأربع فاقت الأمصار قرطبة
منهن قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان، والزهراء ثالثة
والعلم أعظم شيء وهو رابعها
2
وبطبيعة الحال ثمة عدة عوامل تهيأت لقرطبة وأدت لهذا، يجملها العاملان الجغرافي والتاريخي. العامل الجغرافي: هو وقوعها على نهر الوادي الكبير الخصيب والدافئ وسهولة الانتقال منه إلى بقية مراكز الحضارة الأندلسية في جنوب أيبريا أو إسبانيا، وتكاد قرطبة أن تكون على رأس مثلث، طرفاه مركزان آخران للحضارة الأندلسية توسطتهما، وكانت على مقربة من كليهما، ألا وهما غرناطة وأشبيلية، ولكن إذا كانت أشبيلية تميزت بقصورها وعمائرها، فإن قرطبة تميزت بمدارسها وعلمائها.
على أن دور قرطبة المتميز في الحضارة وفي العلم - وهما عادة لا ينفصلان - تهيأ لها بفعل تاريخها أكثر مما تهيأ بفعل جغرافيتها. فقد كانت قرطبة مركز الدولة الأموية وحاضرتها، وبعد أن اعتلى «الأمير عبد الرحمن بن محمد» الإمارة في قرطبة استطاع أن يضوي الممالك تحت لوائها، وبمجيء عام 330ه كانت قرطبة مركز المجد الإسلامي في إسبانيا، واستمر هذا حتى عام (442ه/1031م) وهو عام سقوط قرطبة وانفراط سلك الخلافة الأموية، وقيام الدويلات والممالك التي كانت بداية النهاية للحضارة الأندلسية، ولكن حتى بعد أن سقطت قرطبة، لم يمنع سقوطها من أن يستمر ازدهار العلوم فيها؛ لأنه كان نتاج فعالية عميقة ومكثفة.
فمنذ أن استقرت فيها الخلافة الأموية، إلا وعمل أمراؤها على اتخاذ بلاط تسوده الأبهة والفخامة، ونشط استقدام الشعراء والفلاسفة والعلماء من المشرق الإسلامي، وولعوا باقتناء الكتب، وجدوا كي تصل قرطبة إلى مستوى يضاهي ما وصلت إليه بغداد ودمشق والقاهرة.
3
فأصبحت في قرطبة واحدة من أكبر مكتبات العالم القديم، ضمت مائتي ألف مجلد، وقيل أربعمائة ألف، وكانت فهارسها تستغرق أربعا وأربعين كراسة، كل منها خمسون ورقة، ليس فيها إلا عناوين الكتب، بينما كانت أكبر مكتبة في أوروبا آنذاك - وهي مكتبة كنيسة كنتربري - لا تضم أكثر من خمسة آلاف كتاب. أما غيرها من المكتبات الكبيرة فكانت لا تحوي في العادة أكثر من مائة مجلد، مع استثناء مكتبة كلوني التي ضمت في القرن الثاني عشر - قرن أديلارد الباثي - خمسمائة وسبعين كتابا.
4
ويقول ابن سعيد المغربي في كتابه «المغرب في حلي المغرب»:
إن الأمير عبد الرحمن الأوسط وابنه الحكم المستنصر جدا وأنفقا في إرسال الرسل للبحث عن الكتب في المشرق، وجمع ابنه ما لم يجمعه أحد من الأمراء والملوك، وأوجد في قرطبة أكبر عدد من الكتبة والنساخين والمجلدين والمزخرفين، استقدم بعضهم من صقلية ومن بغداد، على الإجمال، كان نقل واستجلاب التراث المشرقي الخصيب يسير على قدم وساق، فتزدهر قرطبة.
وقد كان للأمير القرطبي الرابع «عبد الرحمن الثاني» أكبر النصيب في إنماء الازدهار القرطبي، إذا برز كأكبر الحماة للعلماء وصديقا مخلصا للأدب والفنون، ويهمنا الآن شغفه البالغ بكل ما يتصل بعلمي الرياضيات والفلك.
ولعل أهم النواتج التي تمخض عنها كل هذا هو انتقال الرياضيات العربية من عاصمتها بغداد إلى قرطبة، لتصبح قرطبة بدورها من أبرز مراكز الدرس الرياضي فى عصرها. وإذا كان رائد الرياضيات الأندلسية هو أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريط المعروف بمسلمة المجريطي (وقيل إن المجريطي = المدريدي) (950-1007م) والذي يلقب بإقليدس الأندلس، فإن المجريطي أنجب تلاميذ كثيرين أنشئوا المدارس في قرطبة. من أهمهم الكرماني وهو (أبو الحكم عمرو بن عبد الرحمن بن احمد بن علي الكرماني)، قيل عنه إنه أعلم علماء زمانه بالهندسة، وأيضا ابن الصفار، وهو أبو القاسم أحمد بن عبد الله بن عمر الشهير بابن الصفار، وكان متحققا بعلم العدد والهندسة والنجوم وله زيج مختصر وكتاب في (العمل بالأسطرلاب) ويقول عنه صاعد الأندلسي: إنه موجز حسن العبارة قريب المأخذ، وله تلاميذ كثيرون اشتهروا بالفضل والعلم. وكذلك كان كل عالم رياضة مبرز في قرطبة له تلاميذ، حتى اشتهرت قرطبة بمدارسها الرياضية وأخرجت جحافل من علماء الرياضة العربية. نذكر منهم في القرن العاشر الميلادي: ابن السمينة البصير بالحساب، وعبد الرحمن بن إسماعيل بن زيد الذي اشتهر في الحساب والمنطق، وابن شهر، وابن البرغوث الذي يعد من أشهر تلاميذ ابن الصفار، ومنهم أيضا محمد بن خيرة العطار أبرز معلمي الهندسة والعدد بقرطبة آنذاك. هذا فضلا عن التالين في القرن الحادي عشر من أمثال التجيبي المعروف بالقويدس، وابن حي
5 ... ولن ننتهي من حصرهم؛ خصوصا وأنها أنجبت أضعافا مضاعفة في القرن التالي - القرن الثاني عشر - وهو قرن أديلارد الباثي
Adelard of Bath . •••
وها هنا يتبدى دور أديلارد الباثي الذي استقطب هذا الزخم الصادر عن قرطبة، وهو ليس راهبا كما يظن، ويعد من أهم الشخصيات الرياضية في أوروبا إبان القرن الثاني عشر؛ وذلك لأنه في طليعة المترجمين الذين تكفلوا بنقل الرياضيات العربية إلى اللاتينية.
لم يكن أديلارد مترجما فحسب، بل كان أيضا عالما وفيلسوفا. جهوده المبكرة في الحساب ظهرت في عمل عنوانه
Regula abaei
ليس له قيمة كبيرة؛ لأنه تكرار لجهود بؤثيوس
Boethius (480-524م) وجيلبرت. على العموم انكب بعد هذا على الرياضيات العربية ليبدأ في اتخاذ دوره على مسرح الفكر
6
وتاريخ العرفان، والذي يتركز في نقله إياها إلى اللغة اللاتينية.
فقد كان أديلارد صاحب أول ترجمة متكاملة في تاريخ العلم الأوروبي لصرح الرياضيات القديمة الأعظم: أصول الهندسة لإقليدس. كان بؤثيوس قد سبق أن ترجم أشتاتا منه، أما أديلارد فقد ثابر حتى طرح بمفرده ترجمة متكاملة لأجزائه الخمسة عشر، وكما هي مطروحة في الأصل العربي، على الرغم من أن الجزءين الرابع عشر والخامس عشر في هذا الأصل ليست من وضع إقليدس نفسه، بل شروح وإضافات لاحقة.
وكانت هذه الترجمة العربية قد بدأت حين أمر بذلك جعفر البرمكي، إبان العصر الذهبي للعلم والحضارة الإسلامية الذي صنعته بغداد، وكان «الأصول» أول ما ترجم من كتب الإغريق، وقد ترجم من اليونانية إلى السريانية في مدارس الإسكندرية، ولأول مرة ترجم الحجاج بن يوسف بعض كتبها عن السريانية إلى العربية في بدايات القرن التاسع الميلادي من أجل الخليفة هارون الرشيد، ثم راجع ترجمته من أجل الخليفة المأمون، وبصفة عامة يقترن اسم الحجاج الرائد بالترجمات الأساسية للأصول، والتي اعتمد عليها أديلارد ، ولكن على مدار عهدي هارون الرشيد والمأمون وما تلاهما، عمل على ترجمة أجزاء كتاب الأصول ومراجعة الترجمات وتنقيحها كوكبة من ألمع المترجمين والرياضيين. منهم أشهر المترجمين إسحق بن حنين، وراجع ترجمته ثابت بن قرة الحراني الصابئي (ت 221ه/835م)، وقد أتقن ثابت السريانية واليونانية والعبرية، وكان جيد النقل إلى العربية، حتى عده جورج سارتون من أعظم المترجمين، فضلا عن أنه من أعظم الرياضيين في عصره. كما قام سهل بن رابان الطبري - وهو يهودي من أهل مرو التي كانت إحدى مراكز الثقافة الإغريقية في فارس بعد غزو الإسكندر لها - بترجمة أجزاء أخرى، وقام الحجاج بن يوسف بمراجعة ترجمات سهل، كما راجعها فيما بعد محمد بن جابر بن سنان البتاني عام 929م، كما سبق أن راجع قسطا بن لوقا البعلبكي في عام 912 الترجمة الأصلية التي قام بها الحجاج، وفي نفس هذا الوقت كان سعيد الدمشقي قد ترجم أجزاء أخرى من الأصول
7 ...
بمثل هذه الجهود الجبارة صنعت بغداد صرح أصول الهندسة لإقليدس، وهو هيكل الرياضيات القديمة وعمادها وعمودها وعمدتها، والذي أهداه أديلارد إلى الحضارة الغربية. ليكون فاتحة عهدها بالنهضة الرياضية وبالتالي العلمية، وقد اعتمدت أوروبا على ترجمة أديلارد طوال القرون الأربعة التالية - وهي التي شهدت نشأة العلم الحديث، حتى تم اكتشاف الأصل الإغريقي فيما بعد.
كان أديلارد أيضا شديد الاهتمام بالفلك، ألف كتابا في «الأسطرلاب» أهداه إلى هنري الأصغر - وهو إهداء يفيد علاقاته الوطيدة بالبلاط الملكي - وفي كتاباته إشارات عديدة لها، كما يفيد تأليف هذا العمل بين عامي (1142-1146). بصفة عامة كان أوج نشاط أديلارد بين عامي (1136-1154).
وأيضا ليس لهذا الكتاب قيمة كبيرة، قيمة أديلارد الفلكية تتركز هي الأخرى في ترجمته للأعمال العربية الفلكية. فقد أعطى الدارسين اللاتين أول مثال متكامل للبحث في علم الفلك القديم حين ترجم ملخصات أبي معشر الفلكي. كما ترجم أعمالا فلكية لثابت بن قرة. على أن أهم ما ترجمه هو الجداول الفلكية للخوارزمي، والتي كان مسلمة المجريطي قد راجعها، وبالترجمة العربية قدم أديلارد للاتين الصورة المتكاملة للتقاويم والجداول والأزياج الفلكية، كما كانت مطروحة في القرن العاشر، وهي خلاصة هندية - إغريقية - عربية.
8
وأيضا كان أديلارد عالما طبيعيا، وذا عقلية علمية. كتابه «المباحث الطبيعية»
Quaestiones Naturales
يؤكد ميلا قويا لمناقشة العلية الطبيعية المباشرة، بدلا من تفسير الظواهر الطبيعية بالقوى الفائقة للطبيعة، ويعكس اتجاها تجريبيا واضحا يرى أن العقل غير كاف لحل مشاكل الكون، ولا بد من الملاحظة والقياس، ومن الظواهر التجريبية التي جذبت الاهتمام التجريبي لأديلارد، مسلك الماء المنحبس في إناء مقلوب دون أن يسيل خارج الإناء إلى أن يدخل الهواء من الفتحة السفلية، ومرة أخرى أبحاثه التجريبية وفي العلوم الطبيعية لا تساوي كثيرا، فحتى في بحثه لهذه الظاهرة لم ينج من الأفكار السحرية، أما العناصر ذات القيمة العلمية فهي تشابه مثيلتها في أبحاث هيرو السكندري المشروحة بكتابه
الذي ترجم عن العربية في القرن الثاني عشر.
9
وشبيه بهذا حال إسهاماته القليلة في الطب.
لكن لا نستطيع إنكار أنه تمتع بعقلية ذات مبادئ وأصول علمية متينة، تكشف عنها محاوراته مع ابن أخيه لتلقينه إياها، والتي نشرت؛ حيث نجد أديلارد ينتصر للبحث العلمي والعقلانية، ويحارب السلطة والدوجماطيقية، ويهاجم الاعتماد الكلي على المراجع، ويقول في هذا: «تعلمت عن أستاذي العربي أن أزن كل شيء بميزان العقل، وإذا أردت أن تسمع مني أكثر من ذلك فناقشني بالعقل؛ لأني لست من الرجال الذين يجرون وراء الخيال.» ... «ومن ذا الذي يستطيع إدراك مدى السماء بمجرد النظر؟ ومن ذا الذي يستطيع تمييز الذرات الدقيقة بالعين المجردة؟» ويقول ثورندايك: «إن مثل هذه الأسئلة تعبر عن الحاجة للمنظار المقرب، وتدل على أن الظروف لاختراعه كانت في طريق النضج.» ويقرر أديلارد مبدأ عدم فناء المادة، فيقول: «من المؤكد في نظري أن لا شيء يفنى كلية في هذا العالم الحسي، أو أنه أقل اليوم مما كان عليه يوم أن خلق، وإذا ما ذاب جزء في مادة ما فإنه لا يفنى، وإنما يتحد مع مادة أخرى.»
10
وأخيرا، كان أديلارد فيلسوفا محترفا، ألف كتاب «الهوية والاختلاف»
De eodem et diverso - وهو نفس العنوان الذي اتخذه هيدجر عنوانا لأحد مؤلفاته - يعالج فيه أديلارد مشكلة الكليات التي عادت للظهور؛ أي حقيقية وجود الكيانات التي تدل عليها الأسماء الكلية، وقد انشغلت بها العصور الوسطى انشغالا جما. فتناول أديلارد في بحثها الصلة بين الأفراد من ناحية، والأجناس من ناحية أخرى، وانتهى إلى أن الأجناس والأنواع كليات لا تتأثر بالخصائص الفردية.
11
ومع كل هذا، يظل أديلارد - أولا وقبل كل شيء - مترجما للرياضيات العربية، ولن توليه اهتماما كبيرا إلا الجهات والمصادر والمراجع التي تتعرض لهذا الموضوع.
12
ولكن لنلاحظ أن أديلارد تعلم العربية في صقلية جنوبي إيطاليا، وقام منذ فجر شبابه بأسفار واسعة لطلب العلم. مثبوت منها أن أولها كانت إلى فرنسا؛ حيث درس في طوروز ودرس في ليون، وبعد أن غارد ليون قام برحلة استغرقت سبع سنوات، زار فيها صقلية وسوريا وربما فلسطين. يهمنا الآن أن زيارته لإسبانيا ليست مثبوتة تاريخيا!
ومع هذا لا يمكن تناول أعماله بغير التراث الأندلسي ومقتنيات مكتبة قرطبة، وهذه مصادرة ملزمة للباحثين، حتى مثلت مشكلة لا بد لمؤرخي العلم أن يضعوا حلا لها. ذهب بعضهم أن أديلارد استغل إتقانه للغة العربية وذهب إلى قرطبة - وبالتحديد عام 1120م - متخفيا في شخصية طالب علم مسلم؛ ليستطيع التوغل في دهاليز مدارسها.
13
وذهب البعض الآخر أنه اعتمد على المستعربين
Mos Mozarabes
الذين يعدون من أهم العناصر التي عملت على نقل حضارة الأندلس، وثقافتها إلى أوروبا، والمستعربون هم النصارى واليهود الذين كانوا يمارسون في الأندلس أشغالا عملية وعلمية مختلفة، وكانوا يستعملون العربية في مخاطباتهم ومعاملاتهم، ويتعلمون آدابها وعلومها إلى حد أن البرو القرطبي تحسر على الإفراط في ذلك.
14
ويبدو هذا الاحتمال هو الأرجح، بل ويمكن تحديد أسماء المستعربين الذين حصل أديلارد منهم على النصوص القرطبية، وهما: بطرس ألفونسو
، ويوحنا أكريتوس
J. Ocreatus .
وسواء أكان أي من الاحتمالين هو الصحيح، فإن الذي يهمنا الآن هو أن ننتهي معا إلى أنه لا يمكن فهم دور أديلارد في نقل الرياضيات العربية من مركز توهجها - بغداد - إلى أوروبا والحضارة الغربية، وبالتالي إلى حركة العلم الحديث، بدون المصادرة على الحضارة الأندلسية، ومدرسة قرطبة بالذات.
على أن هذه مصادرة من ماضي العلم، وما زلنا حتى الآن هناك في ماضيه، نريد أن نعود الآن إلى زخم الحضارة في خواتيم القرن العشرين، وما أنجزه العلم طوال ذلك المدى من إنجازات طبقت الخافقين ... نعود إلى الحاضر؛ بل والمستقبل، لنلحق تلك المصادرة من ماضي العلم بمصادرة من حاضر العلم ومستقبله، عسى أن يكون تناولنا لتاريخ العلم مجديا أكثر. •••
فلما كان العلم الحديث هو التمثيل العيني لمقولة التقدم في حياة البشر؛ حيث يكاد يكون المنشط الإنساني الوحيد الذي يمثل - من أية وجهة أو زاوية للنظر - متصلا صاعدا، كل يوم أفضل من أمسه، فإن التفكير العلمي في صلبه تفكير مستقبلي، ومن هذا المنطلق المستقبلي تتأتى البحوث الدءوبة في فلسفة العلم، التي يمكن اعتبارها الوجه الآخر لتاريخ العلم. بعبارة أخرى: نحن نبحث في تاريخ العلم - في ماضيه - من أجل استشراف أفضل لمستقبله، لإمكانياته.
على هذا الأساس المستقبلي لا بد تأكيد أن كل تفكير في فلسفة العلم وتاريخه عقيم غير مجد، ما لم يتم في ضوء ثورة العلم المعاصر التي تفجرت مع مطالع القرن العشرين لتقلب مثاليات العلم وأصوليات منهجه رأسا على عقب، فتفتح أمام العلم إمكانيات جعلت تقدمه يكاد يسير بمتوالية هندسية بعد أن كان يسير بمتوالية عددية، فأمكن اعتبارها أعظم ثورة أنجزها الإنسان، وتحت وطأتها ارتجت وتقوضت دعائم عرش نيوتن، وبعد أن ساد الاعتقاد بأن نيوتن اكتشف حقيقة هذا الكون وانضبطت منظومة التفكير العلمي على هذا الأساس، أدركنا - بفضل هذه الثورة - أن نظرية نيوتن مجرد محاولة جبارة وناجحة في حدودها - فقط حدودها القاصرة دون عالم الذرة والإشعاع - لا سيما بعد أن تفتتت الذرة إلى جسيمات، ثم تفتتت الجسيمات - أخيرا - إلى كواركات
Quark
فانقشع وهم اليقين والضرورة، وأدركنا أن كل نظرية علمية مهما كانت عظيمة هي مجرد محاولة ناجحة، تفتح الطريق أمام محاولة أخرى أنجح وأكفأ، ولن تصل نظرية إلى سدرة المنتهى، ولن تختم مسار البحث العلمي الذي سيظل مفتوحا إلى أبد الآبدين أمام محاولات أنجح وتقدم أعلى.
ولئن كانت هذه الثورة العظمى قد تمت بفضل نظريتي النسبية والكوانتم اللتين هما نظريتا الفيزياء البحتة، فإن الرياضيات المتربعة على عرش النسق العلمي لا تبقى في عليائها بمنجاة عن مد هذه الثورة؛ ليس فقط لأن الحدود تتماوه في منطقة ما بين الفيزياء البحتة والرياضيات، كما تتماوه الحدود بين النار ومجمرها، ولكن أيضا لأن هذه الثورة العظمى قد بوركت بانضمام فيالق الرياضيات البحتة إلى ركابها الثائر. أولا: باستقامة عود - أو بالأحرى نسق - الهندسات اللاإقليدية، وبعد أن كان يظن أن إقليدس قد اكتشف الحقيقة الهندسية للكون، وأن الله تعالى خلقه بموجب الهندسة الإقليدية، أدركنا أن هندسة إقليدس مجرد بناء منطقي بارع، لا سيما بعد أن اتخذ أينشتين من هندسة ريمان هندسة تطبيقية للواقع الفيزيائي. فلحق إقليدس بمصير نيوتن، وثانيا: بإثبات الخاصة التحليلية للقضايا الرياضية. بمعنى أنها جميعا دوال منطقية لها الصورة «أ هي أ»، ولا شأن لها بالإخبار عن الواقع، ولا تحمل فتوى جديدة عنه. فانتهينا إلى أن الرياضيات علم صوري، يعني بصورة التفكير دونا عن مضمونه أو محتواه أو فحواه، الذي هو من شأن العلوم التجريبية.
15
والآن، في تناولنا لأطروحة من أطروحات تاريخ العلم، ما الذي نستفيده على وجه التحديد والتعيين الدقيق من هذه الثورة العلمية العظمى؟ خصوصا وأن دروسها وعبراتها لا أول لها ولا آخر. يهمنا أن الصورة الكلاسيكية التي استمرت حتى نهايات القرن التاسع عشر عن العلم بوصفه بناء مشيدا من حقائق قاطعة اندثرت تماما، وأصبح العلم نسقا من فروض ناجحة. صلب هذه النسقية صميم خصائصها المنطقية تعني التقدم المتوالي والصيرورة المستمرة. العلوم التجريبية تمثيل عيني لهذا.
16
ورب قائل: «إن الرياضيات - بحكم خاصيتها التحليلية - تتمتع بثبات منطقي مطلق فوق حدود الزمان والمكان.» بمعنى أن القضية الرياضية - إن صحت - فهي صادقة دائما وأبدا مهما استجدت خبرات ووقائع جديدة؛ لأنها لا شأن لها أصلا بالواقع والوقائع، وهذا صحيح. القضية الرياضية في حد ذاتها - بخلاف القضية الإخبارية التجريبية - ثابتة، ولكن العلم الرياضي - الذي كان وسيزال يستقطب أحد العقول وأكثرها صلابة ومثابرة - لا يقف في مساره وفي صيرورته ... في تاريخه بمعزل عن مقولة التطور والتقدم، إن لم تكن الرياضيات بحكم طبيعتها الدقيقة الصارمة أكثر من غيرها تجسيدا للتقدم والإنجاز التطوري الممنهج المقنن، فنجد إشكاليات رياضية أعيت أعاظم العقول في الأزمنة الغابرة، وأفردوا لحلها المجلدات الضخمة، أمكن - فيما بعد بحكم التقدم والتطور - حلها بمعادلة أو اثنتين. •••
وأيا كانت الأهداف والمرامي، فلكي تثمر الجهود المبذولة، لا مندوحة عن وضع هذا الطابع التقدمي في الاعتبار، وإذا كنا نهدف - صراحة - إلى إثبات دور الحضارة العربية الإسلامية في خلق قصة العلم المثيرة الرائعة، تفنيدا لخرافة راجت رواجا، ولم ينج منها نفر من أخلص مفكرينا، مؤداها أن العلم على العموم ثم الرياضي والفيزيائي منه على الخصوص نبتة الحضارة الحديثة وصناعة غربية خالصة، فإن ذلك الهدف أو هذا التفنيد يكتسب أهمية قصوى في مرحلتنا الراهنة لسبب ذاتي هو مواجهة الهيمنة الغربية التي تصاعدت أخيرا، وهدف موضوعي هو الفهم السليم لمسار العلم الذي تعاقبت على خلق فصوله الحضارات المختلفة، وجلو حقيقته بوصفه ميراث الإنسانية جمعاء وإمكانية للعقل البشري من حيث هو بشري.
وفي محاولات تحقيق هذا الهدف، وبوضع الطابع التقدمي للعلم في الاعتبار، يتبدى لنا عقم الجهود التي تحاول تحقيقه بالوقوع في لجنة منطوق النظريات، فتستنفد الجهد في البحث عن تشابه ما بين منطوق نظرية حديثة وقول قديم لأحد أسلافنا ... لا بد من تجاوز هذا وإثبات الذات في صلب الحركية والصيرورة وتوالي حلقات قصة العلم وانتقاله من مرحلة لأخرى. هذه الصيرورة لها بعد منطقي خالص هو أصوليات المبادئ المنهجية التي هي القوة المثمرة الولود من وراء كل تغير، ولكن لها بعد آخر متعين، هو البعد التاريخي الذي يجسد مسار هذه الحركية، ويقع في مجاله موضوع هذه الورقة.
إن البعد التاريخي - موضوعنا - لا بد وأن يضع في اعتباره الظروف الحضارية للمرحلة المتعينة، وقبل ثورة وسائل الاتصال المعاصرة لم يكن البعد التاريخي ينفصل عن البعد الجغرافي، في تاريخ العلم وفي تاريخ سواه. بمعنى أن الموقع الجغرافي كان يحدد الدور التاريخي - كما أشرنا بشأن قرطبة - وبالمثل استطاعت بغداد أن تكون عاصمة المجد الإسلامي والعربي ، وأن يتحول الإسلام فيها من عقيدة وشريعة أو حتى نظام دولة إلى مرحلة حضارية خفاقة، بسبب موقعها الفريد على نهر دجلة. يهمنا الآن أن منه إلى شط العرب ثم الخليج العربي نصل إلى الهند التي أهدت البشرية أصول الحساب، وأعظم العطايا طرا رموز الأرقام الهندية والغبارية التي وصلت إلى أوروبا بفضل العرب، أو بفضل ليوناردو فيبوناسي
Fibonnaci
الذي تعلم العربية، فأحدث القفزة الكبرى للعلم الأوروبي بنقل الأعداد الهندية ثم الجبر الإسلامي. لقد استقدم الخليفة المنصور العالم الهندي كنكة، وأمر بترجمة «مقالة الأفلاك» أو «السدهانت» التي وضعها «براهما جويت» وعرفها العرب باسم «السندهند» وعرفوا معها أصول الرياضيات، لتبدأ في بغداد مرحلة هامة من تاريخ الرياضيات، وبفعل عوامل عديدة - بينتها تفصيلا في بحث سابق لي
17 - عوامل بعضها يعود إلى طبيعة حركة العلم آنذاك، وبعضها يعود إلى طبيعة الحضارة الإسلامية وخصوصياتها، وطبيعة العقلية العربية الناهضة المتوثبة آنذاك، شهدت بغداد نهضة عظمى في الرياضيات واهتماما متزايدا بها وإضافات جمة لها، وجحافل من عمالقتها نخص منهم بالذكر: الخوارزمي، ثم نصير الدين الطوسي، وإن كان وضع علم الجبر بعدا واحدا من أبعاد هذه المرحلة، وانتصاب هيكل أصول الهندسة لإقليدس في بغداد - كما سبق أن أوضحنا - هو الآخر من أهم أبعاد هذه المرحلة الدافقة الخلاقة.
وكان من الضروري أن تنتقل تأثيرات الحضارة الإسلامية والميراث العربي إلى أوروبا لتبدأ الحلقة التالية في صيرورة التقدم ... تبدأ مرحلة النهضة، ثم مرحلة حضارية جديدة ... أو حديثة، تتيه على سائر المراحل بنشأة نسق العلم الحديث، الذي تعملق لما تسلح بالرياضيات، وطبيعي أن الرياضيات التي توهجت في بغداد كانت مقدمة ضرورية لهذا، وقد انتقلت إلى أوروبا بفعل عوامل عديدة، لعل أقواها الحملات الصليبية، وعبر مراكز عديدة، منها: صقلية وجنوب إيطاليا. لكن الأندلس كانت حالة فريدة في تاريخ الإسلام «لأنها الحالة الوحيدة التي تمثل قيام حضارة متمايزة هي مزيج من ثقافة الإسلام والثقافة الوطنية التقليدية الأصيلة، وازدهار تلك الحضارات ازدهارا هائلا، بحيث تركت بصماتها على كل التاريخ الإسلامي، بل والعالمي.»
18
فقد قامت الأندلس بالدور الأكبر والباع الأعظم في نقل التراث والعلوم العربية، يهمنا منها الآن نقل الرياضيات العربية. ذلك لسببين متعضونين، وهما مرة أخرى: السبب التاريخي والسبب الجغرافي، ولنتحدث أولا عن السبب التاريخي.
أجل، كان لبغداد - وبغير منازع - النصيب الأكبر من إنجازات الحضارة الإسلامية وإبداعات العقل العربي، وظلت حتى القرن العاشر مركزا لا منافس له. لكن خبا وهجها خلال سيادة الدولة البويهية (945-1055م) التي جعلت العاصمة في فارس، وراحت تشارك بغداد - من ناحية الشرق - القاهرة وشيراز وغزنة، ومن ناحية الغرب قرطبة. على الإجمال خبا وهج الحضارة وجذوة الإبداع في الشرق، قبل أن يخبو في المغرب الإسلامي الذي تتربع قرطبة على عرش العلم فيه، وكادت الأندلس أن تنفرد بالميدان في الرياضيات والمنطق والفلسفة والعلوم والطب، إبان القرن الثاني عشر - قرن ابن رشد وأديلارد الباثي - والذي أنجبت فيه الأندلس أكثر من نصف مناطقة القرن ورياضييه،
19
حتى قيل: «إن القرن الثاني عشر من نصيب إسبانيا الإسلامية.»
20
لقد أصبحت راية بغداد في الأندلس، ومركز العلم فيها قرطبة.
وكان المسلمون قد أخذوا معهم إلى الأندلس الفنون الهندسية الزراعية، وقاموا ببناء مشروعات الري، فعلموا الأوروبيين أصول الهيدروليكا، وكما أوضحنا بالتفصيل جعلوا من قرطبة أهم مركز ثقافي متطور في أوروبا حينذاك، وأهم مراكز الدرس الرياضي، وكما ذكرنا لم ينته مجد قرطبة العلمي حين انتهى مجدها السياسي، وعن طريق قرطبة وجنوب إسبانيا، أخذ المجتمع الإقطاعي الناشئ في أوروبا ينهل من ينابيع العلم الإغريقي والعربي، وكما يؤكد مؤرخ العلم الثقة ج. كروثر، كان ما أخذته أوروبا من هذا المنفذ يفوق بما لا يضاهى كل ما أخذوه عن طريق الحروب الصليبية،
21
فقد استمر هذا المنفذ بقرطبة وجنوب الأندلس في عطائه حاملا خلاصة المد العقلي العربي، حتى بعد أن خبت الحضارة في المشرق، وبفضل هذا التواصل التاريخي والاستمرارية التاريخية كانت مراكز العلم والمدارس الإسلامية في الأندلس - وبالتحديد في قرطبة - أكثر حيوية وفعالية، وأعمق تأثيرا منها في أية مراكز أخرى انتقلت العلوم والرياضيات عن طريقها من بغداد إلى أوروبا.
أما عن العامل الجغرافي، فلا يتمثل فقط أو أساسا في موقع الأندلس بالنسبة للعالم الغربي على حافة أوروبا، وفي الطريق إلى أمريكا، بل أيضا والأهم في موقع الأندلس الفريد - ودونا عن سائر مراكز انتقال العلم العربي إلى أوروبا - بين مواطن حركة العلم الحديث، وبعد أن هجرت هذه الحركة إيطاليا التي احتضنت عبقرية أهل الشمال المتبربرين نسبيا، وكان جاليليو آخر الإيطاليين العظام، وتربعت هذه الحركة في غرب أوروبا لتتألق بصفة خاصة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، ولأن الأندلس تتوسط هذه المواقع، فنجد توالي تأثير سهولة انتقال الرياضيات منها، لا سيما إلى إنجلترا؛ حيث بلغت الفيزياء الرياضية أوج نضجها كمحصلة لاستمرارية تاريخية ساهمت فيها عوامل جغرافية ... يسرت لأديلارد الباثي أن يقوم بالدور الذي عرضناه، مثلما يسرت لأقرانه من أمثال روبرت الشستري
Robert of Chestor
وجيرار الكريموني، أن ينكبوا هم أيضا وآخرون على ترجمة نصوص الرياضيات العربية، فتحدث الانطلاقة للعقل الرياضي الغربي، وبالتالي حركة العلم الحديث. •••
بعبارة موجزة تجمل كل ما سبق ... يمكننا القول: إن خطورة جهود أديلارد الباثي في نقل الرياضيات العربية من بغداد إلى غرب أوروبا وحركة العلم الحديث، تمثيل عيني لقضية محورية مؤداها أن موقع الأندلس التاريخي الفريد في الحضارة العربية وموقعها الجغرافي الفريد في الحضارة الغربية خولا لها ولمركزها العلمي - قرطبة - دورا فريدا في انتقال حركية وتقدم العلوم الرياضية من بغداد إلى الحضارة الأوروبية، وهو دور يستحق أن نكرس له بحوثا دءوبة تغوص في تفصيلات الوقائع والأحداث التاريخية والمدارس والمراكز العلمية، وسيرورة نصوص العلوم الرياضية، شريطة أن نستفيد قبلا من تطورات العلم المعاصر في تحديد الجوهري الهام الحقيق بالاهتمام في دراستنا لتاريخ العلم.
المبحث الثاني
الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في التراث العربي1
علم الطبيعة دائما ذو موقع استراتيجي، موضوعه هو مجمل حلبة عالم العلم التي تصب فيها شتى فروع العلم، فيتربع العلم الفيزيوكيماوي على صدر نسق العلم الحديث، كجسده وجذعه وإنجازه الأعظم بغض النظر عن تقاناته التي شقت أجواز الفضاء، حقيقة لا مجازا.
وفلسفة الطبيعة هي السلف المباشر للعلم الفيزيوكيماوي الحديث، وأي تفهم لأصوله في العصور القديمة والوسيطة، يستدعي تفهما للأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في إطار الحضارة المعنية ومجمل بنيتها المعرفية.
وبالنسبة للتراث العربي، فقد أتى في جملته - ككل وكفروع - كنتيجة لمعلول محدد هو الثورة الثقافية العظمى التي أحدثها نزول الوحي وظهور الإسلام في المجتمع البدوي القبلي.
وقد كان علم الكلام هو أول دائرة معرفية ترسمت حول الوحي إنه نبتة أصيلة نشأ قبل عصر الترجمة - قبل التأثر بالفلسفة اليونانية - كأول محاولة لتجاوز النص الديني وإعمال العقل البشري في تفهمه وإثبات مضامينه. فكان بحق أوسع وأهم المجالات لما أسماه محمد عابد الجابري «العقلانية العربية الإسلامية»، أو أنه - كما رأى الشيخ مصطفى عبد الرازق - الفلسفة الإسلامية الشاملة حتى لعلم أصول الفقه بكل تألقه المنهجي.
ومن ثم فعلى الرغم من أن منظور عصرنا يبدي سلبيات جمة في علم الكلام، تفرضها المهام المنوطة به في إطار الحدود الحضارية والقصورات المعرفية لذلك العصر البعيد، فإنه تبقى إيجابية علم الكلام العظمى في أنه تشكل للعقل العربي الصميم، والحق أنه لم يكن إلا ممارسة للتفكير الفلسفي في القضايا التي أثارها نزول الوحي في المجتمع العربي، اتخذت شكل البحث في العقائد؛ لأنه الشكل الأيديولوجي المتفاعل والمثير للقضايا الفكرية.
2
لقد كان بمثابة الفلسفة الإسلامية الخاصة التي شقت الطريق ومهدته للفلسفة الإسلامية العامة أو الحكمة.
فلئن كان كل من الكلام والفلسفة طريقا مستقلا نسبيا في سياق الحضارة الإسلامية، فإن الحدود بينهما مموهة إلى حد ما. لقد استفاد علم الكلام كثيرا في مراحله المتأخرة من أتون التفلسف العقلاني - من المنطق - فكان ينمو ويتطور، ينضج ... ينضج، فنضج حتى احترق - كما يقول الأقدمون
3 - وتنبعث من رماده عنقاء الفلسفة. «ومن القرن السادس الهجري حتى القرن الثامن أصبحت موضوعات علم الكلام هي نفسها موضوعات الفلسفة»
4
ولا شك أن المعتزلة لهم دور خاص في توجيه الفكر الكلامي الإسلامي إلى طريق يؤدي في النهاية إلى التفلسف الذي عاش طور الحضانة تحت جناحيهم - بتعبير حسين مروة - وقد أسهب ابن خلدون - على الرغم من أشعريته - في إيضاح هذه القضية والمجرى الذي شقه المعتزلة بين الكلام والفلسفة.
فلم تكن الفلسفة إلا تطويرا لعلم الكلام، ظهرت بعد أن استوفى نضجه، لتمثل دائرة أو مرحلة فكرية أعلى من مرحلة التمهيد الكلامي، أصبح الفكر والواقع مهيئين لها، وكانت الفلسفة أكثر اتصالا بسيرورة العقل البشري، وفي حل عن التمثيل الأيديولوجي الصريح ... وإن كانت بالطبع لن تتحلل من روابطها به، فتميزت عن الكلام بأنها أولا: انطلقت من المفاهيم والمضمون الفكري؛ لا من القضايا المثارة في المجتمع/النص بصورة مباشرة، وثانيا: لم تتخذ من عقائد الدين مسلمة أو قاعدة مباشرة للبحث.
5 •••
خلاصة ما سبق أن نتوقف عند الأصول الفلسفية لتصور الطبيعية في التراث العربي كما تشكلت على أيدي المتكلمين، ثم نتتبع نمو الأصول على أيدي الفلاسفة؛ لنصل إليها مع أولئك الطبائعيين الذين نتفق على أنهم العلماء العرب القدامى. •••
وعلى خلاف الظن الشائع، احتلت الطبيعيات في علم الكلام مكانا فسيحا في صدر المسرح الفكري، ولئن لم تكن الطبيعة من المشكلات الكبرى أو العناوين التقليدية للمصنفات الكلامية، فإنها منبثة في كل هذا، حتى شهدت مع المتكلمين زخما وثراء.
وكما أشار دي بور، غلب النظر في الطبيعة على المعتزلة الأولين، حتى إن عمرو الجاحظ (+ 255ه) - وهو من رواد النزعة الطبيعية في علم الكلام الاعتزالي، ومن المعالم البارزة في تاريخ الثقافة العربية - لم يفته التأكيد على أن العالم الحق يجب أن يضم إلى دراسة الكلام دراسة العالم الطبيعي، وكان هو نفسه يصف دائما أفاعيل الطبيعة.
6
فالطبيعيات هي العالم، أو كما قال الجويني إمام الحرمين: هي كل موجود سوى الله تعالى
7
وملكوته وملائكته، هي عالم الشهادة. بتعبير معاصر هي الكون الفيزيقي، وبتعبير المتكلمين هي اللطائف.
وثمة أسلوبان لتناول علم الكلام، إما النظر إليه كفرق، وإما النظر إليه كموضوعات.
8
بهذا الأخير يمكن تصنيف الموضوعات إلى ستة هي: «التوحيد، القدر، الإيمان، الوعيد، الإمامة، ثم اللطائف؛ أي الطبيعيات.» الإلهيات (العقليات) تشمل التوحيد والقدر، والسمعيات (النقليات) تشمل الإيمان والوعيد والإمامة. أما اللطائف - أي الطبيعيات - فموضوعها الجسم والحركة والمادة في الزمان والمكان؛ أي العالم الفيزيقي، عالم العلم الطبيعي. وقد كانت الطبيعيات لطائف - كما أوضح عابد الجابري - لأنها «دقيق الكلام» الذي هو مجال العقل وحده، مقابل «جليل الكلام»؛ أي العقائد التي يفزع فيها إلى كتاب الله.
على هذا الأساس انشغل المتكلمون الرواد - كما أشرنا - باللطائف، فكانت بداية اشتباك العقل الإسلامي بالعالم الفيزيقي، وبداية التفكير في الطبيعة، إنه بزوغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني المهيمن، مما يسهم في تفسير زخم الدفع العلمي الذي جعل الحضارة الإسلامية تنفسح للحركة العلمية وتحمل لواءها طوال العصور الوسطى، ولماذا كانت العلوم عند العرب تتدفق في إطار الأيديولوجيا السائدة وتحت رعاية ومباركة السلطة الحاكمة، وليس ضدها بالمواجهة والصراع الدامي معها كما كان الحال بالنسبة للعلم الحديث في أوروبا.
وسوف يفسر لنا أيضا لماذا كان العلم العربي معلولا ومفعولا، وليس علة فاعلة في تشكيل البنية المعرفية الإسلامية، ولماذا استنفد ذلك الدفع ذاته، وبلغت الحركة العلمية الثرية الدافقة طريقا مسدودا، ولم يقدر له التواصل والنماء في العصر الحديث، بل أسلم الحصيلة والراية إلى أوروبا لتقوم بهذا الدور.
فقد انحل العالم الطبيعي على أيدي المتكلمين إلى جواهر وأعراض مأخوذة من المذهب الذري القديم.
9
وأصبحت الجواهر والأعراض هي الأنطولوجيا الكلامية أو أساس تصورهم للطبيعة.
10
فعن طريقهما أثبت المتكلمون هدفهم، وهو أن العالم متغير - لتوالي الأعراض عليه - وبالتالي حادث، أي مخلوق لله.
دليل الحدوث: أي كون العالم الحادث المخلوق دليلا على وجود الله وقدرته وعلم الشاملين وحكمته وحياته. ذلك ما سلم به المتكلمون، بل المسلمون جميعا.
فلم يكن العالم بالنسبة للمتكلمين إلا علامة على وجود الله، على ما وراءه. «إنما سمي العلم علما؛ لأنه أمارة منصوبة على وجود صاحب العلم. فكذلك العالم بجواهره وأعراضه وأجزائه وأبعاضه دلالة دالة على وجود الرب سبحانه وتعالى.»
11
كلمة «عالم» مشتقة أصلا من العلم والعلامة، وفي أصلها اللغوي البعيد من الحس: العلام؛ أي الحناء لما يترك من أثر باللون، والعلامة ما تترك في الشيء مما يعرف به، ومن هذا العلم: لما يعرف به الشيء أو الشخص كعلم الطريق، وعلم الجيش «الراية»، وسمي الجبل علما لذلك، ومنه: علمت الشيء؛ أي عرفت علامته وما يميزه، ونقيضه الجهل، وتكون بعد ذلك المعاني الخاصة والاصطلاحية في «العلم»
12
لم ترد لفظة «العالم» ولا لفظة الطبيعة في القرآن الكريم أبدا، وردت فقط في صيغة الجمع: العالمين - ربما على سبيل التأكيد - ثلاثا وسبعين مرة. هذا غير «العالمين بكسر اللام»، من العالم بالشيء التي وردت ثلاث مرات.
13
وكانت المشكلة المحورية للطبيعيات الكلامية هي العلاقة بين الله وبين العالمين أو العالم أو الطبيعة، والتي اتخذت مبدئيا شكل الإيجاد والخلق من العدم، إحداث المحدث: هذا العالم، وهذا ما يتبلور في دليل الحدوث، وبصرف النظر عن عبقرية اللغة التي تطابق بين العلم والعالم وتجعلهما من نفس المصدر نجد دليل الحدوث هو في جوهره قياس الغائب على الشاهد، وهو شكل من أشكال الاستدلال العلمي الإمبيريقي، إنه ينطلق من المحسوس إلى المعقول، فتمتد له خطوط في صلب التيار العلمي البازغ من ثنايا الفكر الديني، الذي جعل البحث في الطبيعة يغلب على المتكلمين الأوائل. لكن دليل الحدوث ذاته بتوغله في الدوائر المغلقة كان من العوامل التي أدت إلى انفصال علم الكلام عن البحث في الطبيعة بعد انتهاء عصور الازدهار، وإجهاض الفكر العلمي البازغ وإسقاطه من الحساب، وسيادة الفكر الديني وحده.
الدوائر المغلقة لدليل الحدوث تتمثل في أن الطبيعيات ليست إلا سلما للعقائد، خادمة للإلهيات وليس للإنسان، في حين أن الإنسان هو الذي يحيا في الطبيعة، وهو الذي يحتاج لترويضها وتطويعها. الطبيعيات ليست مطلوبة في حد ذاتها للتفهم والتفسير - كإشكالية إبستمولوجية - المطلوب فقط استخدامها كوجود أنطولوجي حدوثه يدلل على وجود الله.
ظل دليل الحدوث دائما إطار الطبيعيات الكلامية ككل وكأجزاء، مما جعل الإلهيات هي النهاية والغاية: مثلما كانت قبلا هي البداية والمنطلق وزخم الدفع، في دائرة مغلقة من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس. •••
وإذا تتبعنا مسار التراث العربي في تطوره إلى الفلسفة أو الحكمة، وجدنا الطبيعة ومباحثها عند الفلاسفة أكثر وضوحا وتميزا منها عند المتكلمين. فقد سلموا جميعا بأنها قسم من أقسام الحكمة الثلاثة: العقليات والطبيعيات والإلهيات.
ثم تفرعت إلى فروعها عند كل منهم. أفردوا لها مصنفات أو رسائل أو فصولا. إنها أصبحت عنوانا للبحث وموضوعا محوريا للحديث.
ولئن ناقش نفر من أهل الاعتزال فكرة خلق القديم، فقد سلم المتكلمون جميعا - من أولهم لآخرهم - بأن العالم حادث. بدأ الفلاسفة بالتسليم بهذه القضية، لكن بوصفها محل نظر ومحتاجة لبرهان «الكندي».
14
وتحت تأثير فلسفة الإغريق الذين عجزوا تماما عن تصور الخلق من العدم، وتأكيد أرسطو أن العالم قديم غير مخلوق، راح فلاسفة الإسلام يتلمسون سبل التعامل مع أطر قضية حدوث العالم. لجئوا إلى الفيض
15
والصدور كبديل «الفارابي وإخوان الصفا وابن سينا»
16
ثم رفض ابن رشد هذا البديل، وأسرف في تبيان أن العلم قديم ومخلوق، في فلسفته الطبيعية الأنضج نسبيا من حيث إنها المركب الشامل في تلك الصيرورة الجدلية: محدثة/فيض/قديمة.
17
في كل هذه التوترات المتتالية، ظلت الطبيعية قابعة دائما في قلب الأنطولوجيا، المتجهة أولا وأخيرا نحو المتجه الإلهي ... نحو الثيولوجيا ... أي أنه لا فرق جوهريا بينها وبين الطبيعيات الكلامية. •••
وأخيرا، بل أولا يبقى أولئك الذين يتحملون المسئولية المباشرة للتراث العلمي العربي، المعروفون باسم الطبائعيين، وكأن ثمة مصادرة على إبقائهم خارج دائرة الفلسفة التي كانت آنذاك تحوي كل الإسهام العقلي ذي الاعتبار.
فضلا عن أن المتكلمين عدوهم زنادقة ملحدين، ولئن كانت أفكارهم الفلسفية غير مترابطة وغير نسقية، ربما لاهتمامهم أكثر بالوقائع التجريبية، وهم أنفسهم نادرا ما واتتهم الجرأة على أن يعتبروا أنفسهم فلاسفة، فإن المسائل الفلسفية فرضت نفسها عليهم، بحيث إن إسهامهم الفلسفي جزء تكميلي لتاريخ العلم وتاريخ الفلسفة.
18
فضلا عن تمركز دورهم في تشكيل الطبيعيات الإسلامية وتأصيلها فلسفيا.
في وقت مبكر - منذ القرن الثاني الهجري - وقع رائدهم التجريبي الشهير جابر بن حيان في إسار إيمانه الطاغي بحيوية الطبيعة وكل شيء فيها، بل رآها عاقلة مريدة، والكواكب قوي حية علوية تمارس تأثيرها. الفرق بينها وبين الله، هو دخول المادة فيها، ولعل إفراط جابر في حيوية الطبيعة والتنجيم - وهو الذي يتصدر باكورة الاهتمام الإسلامي التواق بالطبيعة - هو الذي أدى إلى ثبوتهما المزعج في الطبيعيات الإسلامية، فلا ننسى دور «علوم الأوائل» وما حملته من تيارات غنوصية وهرمسية.
أما في القرن الرابع الهجري، حين بدأ هؤلاء الطبيعيون في التميز كفئة، أو كدائرة من الدوائر التي ارتسمت حول الوحي في هذا القرن، آمن بحيوية الطبيعة والتنجيم الطبيب العالم أبو بكر الرازي، وكان إيمانه بالغ الحماس. لقبه المتكلمون بالملحد الكبير الخارج عن الروح الإسلامية، والحق أنه «تبنى موقف الحرانيين تبنيا كاملا»
19
وهم مدرسة ظهرت في حران، انتهت إلى تجسيم الله، والطبيعة والحياة والبشر، وتغلغلت في التراث الإسلامي. تأثر بها الكندي وإخوان الصفا وابن سينا، وينسب إليها عابد الجابري ما حملته الفلسفة المشرقية من عناصر هرمسية وغنوصية أدت إلى انتقال البيان إلى العرفان.
ويكاد يكون الرازي أكمل تمثيل لتلك الفلسفة الحرانية. أنكر مثلهم المعجزات والنبوة؛ لأن الناس سواسية في إمكان الاتصال بالعالم العلوي، عن طريق تطهير النفس ومفارقة المحسوسات، وقال بقدمائهم الخمسة: الهيولي، والصورة أو النفس، والزمان، والمكان، والحركة. كلها لا متناهية، وكل لا متناه قديم، والخلق من العدم مستحيل. الخلق حدث من اشتياق النفس إلى الهيولي. إن الرازي يسخر نظرية الفيض ذات الأصول المثالية، لكن التطور النسبي لمنجزات العلوم الطبيعية - في عصره عموما، وعلى يديه خصوصا - مكنه من توجيه نظرية الفيض توجيها ماديا أكثر.
بصفة عامة، ابتعد هؤلاء العلماء عن طريق المتكلمين، وتلمسوا طريق الفلاسفة. تولوا عن فيثاغورث والفيض، وساروا مع الأرسطية عموما وبصفة غير ملزمة، وعلى الرغم من أن اهتمامهم كان بالوقائع المادية وما ينجم عنها من آثار، وكانت عنايتهم فقط بدراسة الطبيعة وظواهرها المادية، فإنهم جميعا «جاوزوا الطبيعة والعقل والنفس في أبحاثهم، وارتقوا إلى ذات الله، فجعلوه العلة الأولى أو الصانع الحكيم الذي تتجلى حكمته ويتمثل إحسانه في مخلوقاته.»
20
نفس التوجه الإلهي ونفس الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية.
فيستهل البيروني - مثلا - مبحثا هندسيا خالصا بأنك إذا تحققت من ماهية الهندسة تعرف نسبة الأجناس والكمية ومقدار المزروع والمكيل والموزون، وما بين مركز العالم في أقصى المحسوس منه ... «ثم ترتقي بواسطة التدرب بها من المعالم الطبيعية إلى المعالم الإلهية.»
21
ولعل ابن الهيثم المعاصر للبيروني في ذلك القرن الباذخ العطاء - الرابع الهجري - خير من يمثل موقف العلوم الطبيعية. لنلقاه يرفض طريق المتكلمين، ويبرهن على أن دليل حدوث العالم عندهم فاسد، فالعالم قديم أزلي أبدي، لكنه يخضع للخلق المستمر - تماما كما رأى ابن رشد - ولابن الهيثم «مقالة في إبانة غلط من قضى أن الله لم يزل غير فاعل ثم فعل» وأيضا ينقسم العلم معه انقساما ثلاثيا إلى رياضي وطبيعي وإلهي، وعن فضل علم الهندسة «فإن به وبالمنطق يوصل إلى عمل الأمور الطبيعية التي هي الحكمة، ومبادئها وعللها وأسبابها، وإلى علم الأمور الإلهية، ويوقف بذلك على حكمة الله - تعالى ذكره - في هينة السماء والأرض وما بينهما، فلزم بذلك الباري الإله تعالى، حكيما قادرا خبيرا.»
22 •••
هكذا تحيط الدائرة الثيولوجية الأنطولوجية بالطبيعيات الإسلامية من كل صوب وحدب لتنصب في المتجه الإلهي، حتى انصبت جهود الطبيعيين أنفسهم فيه. لم يعق هذا حملهم للواء التجريبية طوال العصور الوسطى؛ لأن بحوثهم العلمية - كما أشار برتراند رسل - اتصلت بالوقائع الجزئية دون القوانين الكلية، فضلا عن الأنساق العلمية؛
23
أي أنهم كانوا تجريبيين أكثر مما ينبغي.
كانت الطبيعة بؤرة من بؤر اهتمام المتكلمين، وضعها الفلاسفة قبل الإلهيات، ثم ظهر الطبائعيون المتكرسون لها، ولكنها كانت في حال متجهة نحو الألوهية، مما جعل الطبيعيات قابعة في نظرية الوجود، وبعيدة عن نظرية المعرفة ... التي هي مجال التنامي والصيرورة والفعالية الإنسانية؛ لهذا لم يقدر لها تواصلا تاريخيا ... ولهذا أيضا لم يعن الطبائعيون بصياغة أنساق علمية، واقتصرت جهودهم العلمية والإمبيريقية الجادة على صياغة القوانين الجزئية، ولكن - كما هو معروف - كانت هذه الجهود مقدمات ضرورية لنسق العلم الحديث، بحكم التواصل التاريخي لحركية العلم.
وأخيرا، تجمل الإشارة إلى أن المتجه الإلهي - وإن استوجب القطع المعرفي في عصرنا هذا - فإنه صنع الملامح الخاصة للطبيعيات الإسلامية في ذلك العصر الوسيط. فلا هي انساقت مع مادية القبل سقراطيين المتطرفة، ولا مع مادية أرسطو المعدلة إلى آخر المدى، وعلى الرغم من استفادتها من الفيثاغورية والأفلاطونية والأفلوطينية، أيضا لم تنسق معها إلى آخر المدى. فهذه فلسفات مثالية تحرم العالم الطبيعي من الوجود الموضوعي، وهذا ما لا يمكن أن تفعله الفلسفة الإسلامية. قد تحرمه من استقلاله، أما وجوده الموضوعي فكلا؛ لأن العالم الطبيعي فعلا متعين للقدرة الإلهية. مما يوضح أن العرب أسرفوا في استغلال وتسخير التراث اليوناني، لكن كل هذا في إطار تصوراتهم وثوابتهم الحضارية.
وكان التراث العربي الإسلامي تيارا مستقلا في النظر إلى العالم الطبيعي، استوعب ذينك الطرفين: المادية/المثالية، وتجاوزهما إلى مركب جدلي أشمل، لم يكن محض انتقاء بينهما، أو توفيق لهما مع الشريعة. بل كانت خطوة في طريق تطور الفكر الطبيعي، عرفت كيف تقطعها دون أن تخرج عن إطارها المثالي، وتوجهها اللاهوتي الذي فرضته ظروف العصر.
وأخيرا نرجو لهذا العرض المقتضب أن يكون قد أبان عن مواطن القوة التي خلقت التراث العلمي العربي الزاخر، مثلما أبان عن مواطن الضعف التي تبرر لماذا كان عرضة للتوقف والانحسار بفعل عوامل عديدة داخلية وخارجية.
المبحث الثالث
الأبعاد المعرفية1 لكيمياء جابر بن حيان
لعل الكيمياء - أعرق المناشط الإمبيريقية للإنسان - فرضت عليه التعامل الحي مع المادة واستجوابها والإنصات لشهادة الحواس بشأنها، واستقراء متغيراتها، منذ أن كان لزاما عليه في العهود السحيقة تدبير احتياجاته العملية من قبيل الزجاج والفخار والأصباغ وتقطير الخمور والعطور والأشكال البدائية للعقاقير والأدوية ... كانت هذه البدايات الخام حرفا عملية بلا أساس نظري، ثم اقتربت الكيمياء من الإطار النظري والمنظومة المعرفية المهوشة طبعا، وبدأ التأليف فيها حين استبد بالإنسان القديم الحلم الجامح بتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب بغية الثراء السريع، وفي سياق الجهد المشبوب والفاشل لتحقيق هذا الحلم تخلف رصيد هائل من المعارف بشأن طبائع المواد وتحولاتها وعمليات هذا التحويل طبعا مشتت ومبعثر، لكنه قطعا السلف التاريخي للكيمياء الحديثة التي خرجت من أعطاف العلم المعني بتحويل المعادن إلى ذهب - علم الخيمياء أو السيمياء
Alchemy .
2
وسوف نعود مجددا لحلم الذهب، لكن لنلاحظ مبدئيا أنه سيطر على الإنسان سيطرة طاغية أكثر كثيرا من كل ما نتصور، حتى إن إسحاق نيوتن ذاته - أمير الفيزياء الحديثة، وربها بغير منازع، وواحد من أعظم العقول العلمية في تاريخ العلم بأسره، ولعله أعظمها جميعا - ثبت أنه قضى وقتا طويلا في دراسة كل ما كتب في الخيمياء، وأجرى تجارب يحاول بها تحويل المعادن إلى ذهب،
3
وطرحت سيرته موضوعا شائكا للباحثين: كيف نوفق بين نيوتن الفيزيائي الرياضي العبقري ونيوتن الخيميائي المتعثر!
4
إن تاريخ العلم ليس سهلا منبسطا.
من المجدي دائما العود إلى الأصول التاريخية، وخلال عقدي الستينيات والسبعينيات أخذ تاريخ الكيمياء القديمة أو الخيمياء يكتسب أهمية متزايدة،
5
حتى أصبحت لغة الخيمياء مبحثا قائما بذاته في إطار الدراسات المتعلقة بتطور اللغة الكيميائية.
6
ومجرد مصطلح الخيمياء الذي أصبح الكيمياء، من أعرق المصطلحات في تاريخ العلم، يعود إلى فجر الحضارة - إلى الفراعنة، إلى أرض مصر - وكما قال بلوتارك: سواد تربتها يشبه سواد إنسان العين، فأسماها المصريون كمي
Chemi Kemt ؛ أي التربة السوداء، ولما عرف الإغريق ذلك العلم أسموه باسم البلد البعيد الذي أتى منه؛ أي خيميا أو كيميا،
7
وكان أول استعمال لهذا المصطلح في مرسوم للإمبراطور دقلديانونس عام 296م يأمر فيه بحرق الكتب المصرية؛ أي الخيمية أو الكيمية، كتب العلم الذي يحيل المعادن ذهبا فيفتن الألباب ويفتح الأبواب للطمع وللدجل. هذا بعد أن أصبحت الكيمياء الفن المصري والفن المقدس المنسوب إلى توت رب الحكمة، وكما هو معروف عبر العناصر الغنوصية أصبح توت هو الإله هرمس المثلث العظمات، وذلك في مدينة الإسكندرية في العصر البطلمي الذي شهد توهج الكيمياء، وشهدت البشرية فيه أول كتابات في هذا الفن المصري المقدس، بخلاف برديات ليدن التي عثر عليها في أحد قبور طيبة. إن الكيمياء كاسم وكمسمى اختراع مصري خالص.
8
وتكاد تتفق الدراسات الحديثة على رد مصطلح خيمياء وكيمياء إلى هذا الأصل الفرعوني كيمي (التربة السوداء) أرض مصر الخصيبة، وليس التفسيرات الأخرى للمصطلح، تجافي إلى الكلمة اليونانية
Chyma
التي تعني سبك وصهر المعادن، أو ما ذكره حاجي خليفة في «كشف الظنون» عن الصفدي في شرحه للامية العجم من أن اللفظ مشتق من اللفظ العبراني «كيم إيه» أي من عند الله، أو تفسير أبي عبد الله يوسف الخوارزمي في «مفاتيح العلوم»، وهو أن لفظ الكيمياء عربي أصيل مشتق من الفعل كمى يكمي، ويقال كمى الشهادة؛ أي أخفاها وسترها، نظرا لأن هذا العلم كان محاطا بالسرية والكتمان، على أن العرب أطلقوا على هذا العلم أسماء أخرى بخلاف الخيمياء والكيمياء، منها: «علم الصنعة، صنعة الإكسير، الحكمة، علم الحجر، علم التدبير، علم الميزان»، بعض هذه الأسماء راجع إلى طبيعة الموضوع، أو إلى منهج البحث، أو إلى الغرض المستهدف.
9
بيد أن عبد الرحمن بن خلدون - العلم البارز في تاريخ الحضارة الإسلامية، وفي التأريخ لها - أسمى الكيمياء في مقدمته الشهيرة «علم جابر». •••
إذن فجابر بن حيان الأزدي الطوسي في القرن الثاني الهجري هو الإمام الأكبر والعلم الذي خرجت من رحابه كل كيمياء العرب، وكل كيمياء العصور الوسطى، تحمل كيمياؤه تعثر البداية ووعورة شقها للطريق، وفي الآن نفسه زخم التأثيرات المحورية والامتدادات المستقبلية، وفي خضم هذا وذاك نحاول استكشاف بعض من الأبعاد المعرفية التي شكل تلاقيها وتقاطعها هيكل كيمياء جابر.
وليس الأمر يسيرا؛ لأن الأبعاد متقابلة، بقدر ما كانت شخصية جابر نفسه محلا لأقوال متضاربة حتى أنكر بعض مؤرخي الإسلام وجوده، فضلا عن نسبة مصنفاته الكثيرة إليه،
10
وهذا ما رفضه بشدة ابن النديم في الفهرست، قائلا: «إنه من غير المعقول ولا المفيد أن يتعب رجل فاضل قريحته وعقله ويده وجسمه ويخط كتابا ينسبه إلى غيره.» ولئن حدث هذا الإنكار في سياقنا الثقافي، فليس غريبا إذن موقف العالم الفرنسي برتيلو
M. Berthelot (1827-1907) في كتابه «الكيمياء في العصور الوسطى»
La Chimie au moyen age
الصادر عام 1893 في ثلاثة مجلدات؛ إذ ينسب إلى جابر بن حيان كل ابتكارات العرب الكيميائية، ويعتبر كل الكيميائيين من بعده إما ناقلين عنه أو معلقين عليه.
يصدر برتيلو حكمه هذا على الرغم من تحامله على العلم العربي، والذي يصل به إلى درجة تجافي النزاهة العلمية، بل وعلى الرغم من تحامله على جابر نفسه، حتى إنه لا ينسب إليه إلا الغث التافه من مؤلفاته، ويزعم أن الأجزاء الثمينة من وضع عالم لاتيني مجهول، أودع بحوثه كتابا أسماه «المجموعة الكاملة»، ويعد من أفضل إنجازات العصور الوسطى في الكيمياء، وأنه نسبها إلى جابر حتى تتيمن بشهرته الواسعة، فيكون نصيبها الذيوع والانتشار، وهذا نفس ما زعم به مؤرخ الكيمياء بارتنجتون
11
الرد على هذا نفس رد ابن النديم المذكور.
على العموم، فإنه في عام 1923 وفي مقال بمجلة إيزيس الشهيرة بعنوان «فحص نقدي لأعمال برتيلو في الكيمياء العربية»، تكفل العلامة الإنجليزي هولميارد، أستاذ الكيمياء بجامعة كلفتون والمتضلع في اللغة العربية بتبيان خطأ برتيلو وأشياعه بحجج علمية دقيقة ومسهبة، مثبتا أن كتاب «المجموعة الكاملة» منقول عن كتاب لجابر اسمه «الخالص»، وأن جابرا يستحق - عن جدارة - لقب مؤسس علم الكيمياء؛ لأنه كان يفضل العمل في المعمل، عازفا عن التأمل العقيم، وأن رؤاه جلية وأبحاثه منضبطة، جعلت الكيمياء الإسلامية ترتفع لكي تكون علما دقيقا، وأن تطبيقاتها هي التي جعلت أوروبا تبدأ الكيمياء على أساس سليم، بحيث إن كل المعنيين بالكيمياء مدينون بالعرفان لأتباع محمد.
12
لقد ظل تدريس الكيمياء في الجامعات الأوروبية، حتى أوائل القرن الخامس عشر مقصورا على تدريس مؤلفات جابر، قرابة خمسمائة عام.
ولأن العبقرية الناصعة ذات الإنجاز العلمي المحسوب تفرض نفسها على الجميع، مهما كانت الميول والأهواء، نجد جابرا في النهاية رجلا حق عليه القول: «شهد له الأعداء قبل الأصدقاء»، فهذا برتيلو نفسه لا سواه يضطر اضطرارا إلى أن يقول قولته: «لجابر بن حيان في علم الكيمياء، ما لأرسطو من قبله في علم المنطق.» فكما أن أرسطو هو مؤسس علم المنطق، فإن جابرا هو مؤسس علم الكيمياء كنقطة تحول في تراث الإنسانية العلمي. •••
إذن يمثل جابر بن حيان منعطفا جذريا في تاريخ علم الكيمياء، وفي الآن نفسه منعطفا جذريا في تاريخ الحضارة الإسلامية من حيث إنه في طليعة فئة الطبائعيين الذين تكرسوا للاهتمام بالطبيعة، وهي الفئة التي نضجت واكتملت لتحمل عبء تاريخ العلوم عند العرب. هذا المنعطف الجذري لئن تأدى إلى طرق وشعاب من بعده، فإنه بالمثل آت عن طرق وشعاب قبله. فلا يدهشنا تداخل الأبعاد المعرفية التي ترسمت معها كيمياء جابر، ما بين شعاب إسلامية وواقعية تجريبية وحرانية وزرادشتية وسكندرية يونانية عقلانية منطقية وهرمسية غنوصية.
ونظرة واحدة إلى تصنيف جابر للعلوم، كما هو معروض في «كتاب الحدود»
13
يوضح كيف تداخلت هذه الأبعاد جميعها وتضاربت، فيبتعد عن التصنيف الأرسطي رغم تأثره به، ويقسم العلوم متأثرا بالمد الإسلامي إلى علوم دين وعلوم دنيا، علم الدين ينقسم إلى شرعي هو علم الظاهر، وعلم الباطن، وعقلي ينقسم إلى علم الحروف وعلم المعاني. علم الحروف ينقسم بدوره إلى طبيعي وروحاني، وعلم المعاني ينقسم إلى العلم الفلسفي والعلم الإلهي. الفلسفي يضم علوم الطبيعة والنجوم والحساب والهندسة، وإذا لاحظنا الأثر الإغريقي هنا، نجد الأثر الهرمسي الغنوصي يتجسد في علم الباطن الروحاني الذي ينقسم إلى علم نوراني وعلم ظلماني. أما علوم الدنيا - وهي ما تهمنا الآن، والتي جعلت جابرا المنعطف الذي يستوقفنا - فتنقسم إلى شريف ووضيع. الشريف: هو علم الصنعة؛ أي الكيمياء بفروعه المختلفة، والوضيع: هو أقسام العلوم أو الصنائع الأخرى الكثيرة الخادمة للكيمياء.
14
إن تشجيرا يوضح هذا التقسيم أو التصنيف للعلوم، يمكنه أن يوضح أيضا مدى تعدد الأبعاد المعرفية عند جابر، ومدى تقابلها وتشابكها. •••
ولنبدأ بالبعد الجوهر والعمدة والعماد، الذي تناط به منزلة جابر في تاريخ الكيمياء؛ أي: المنهج التجريبي، والحق أن هذا البعد متبلور متألق إلى أقصى الحدود، حتى إنه يستعمل مصطلحي الاستقراء والتجربة بمعناهما ومبناهما المنصوص عليه في المنهج العلمي الحديث فيقول: «استقراء النظائر واستشهادها للأمر المطلوب.»
15
ويقول للحث على دراسة كتبه: «لا عمل إلا بعلم قبله يتقدمه، فاعرف ذلك واعمل عليه، وإياك وإهماله، فليس يمكن كل يوم العمل والتجربة لترى الرشد فيما نقوله لك، ولكن اتعب أولا تعبا واحدا واجمع وانظر واعلم ثم اعمل.»
16 «التجربة محك معتمد، لكنها وحدها لا تكفي، إنما تأتي صنعة الكيمياء بالعوامل الثلاثة معا: العلم والعمل والتجربة.»
وكما يشهد المعمل المهيب لجابر الذي عثر عليه بالكوفة في ناحية تسمى بوابة دمشق، كانت التجربة مناطه الذي يعتد به، وليس مجرد صحائف الأقدمين كشأن البحوث الأوروبية المتزامنة معه، فيقول في كتابه «الخواص الكبير»: «إننا نذكر في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه أو قيل لنا أو قرأناه بعد أن امتحناه وجربناه، فما صح أوردناه، وما بطل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضا وقايسناه على أقوال هؤلاء القوم.»
17
إنه إذن لا يشرح إلا ما رآه بعينيه، ما جربه، مهملا ما وصل إليه عن طريق السماع والقراءة، على أن النظرة التمحيصية المقايسة للأقوال المتواترة تجعلنا نتلمس بعدا مأخوذا من علماء الحديث فيما وضعوه من قواعد الجرح والتعديل لنقد صحيح الحديث من باطله، لكن جابرا استخدمه في عالم الكيمياء.
18
يقول جابر: «الجرح لك لازم إن فرطت في طلبه.»
19
ونعود إلى التجريبية، لنجد جابرا يقول قولته الشهيرة: «فمن كان دربا كان عالما حقا، ومن لم يكن دربا لم يكن عالما، وحسبك بالدربة في جميع الصنائع أن الصانع الدرب يحذق، وغير الدرب يعطل.»
20
وما الدربة إلا التجربة كما أثبتت تحليلات الدكتور زكي نجيب محمود في دراسته الرائدة عن جابر.
21
وهذه محصلة لا ريب فيها؛ إذ يقول جابر: «إياك أن تجرب أو تعمل حتى تعلم، ويحق أن تعلم الباب من أوله إلى آخره بجميع تنقيته وعلله، ثم تقصد لتجرب فيكون في التجربة كمال العلم.»
22
إذن وضع عالمنا يده على سر العلم، أدرك أن فهم الطبيعة يقتضي حتما الرجوع إليها واستجوابها عن طريق التجريب، ولم يكن جابر مجربا فحسب، بل مجربا منهجيا؛ أي مدركا لوجوب وضع أصول وقواعد للتجريب كي يمثل منهج استدلال علمي، وأخطر ما في الأمر إيضاح جابر لطبيعة الاستدلال التجريبي وحدوده وقصوراته، وبلا مبالغة - طالما نحذر منها - فإن ما أثاره ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر وهو يفجر مشكلة الاستقراء الشهيرة، التي هي حجر الزاوية في نظرية المنهج التجريبي، سبق أن أثاره جابر مستشرفا الآفاق التي تخلقت في العصور الحديثة!
إذ يستحيل على الاستدلال الاستقرائي حصر كل الحالات التي تمثل الظاهرة، فيكتفي بأمثلة جزئية هي نماذج للظاهرة، وينتقل منها إلى قانون كلي عام يحكم كل الحالات والوقائع المماثلة، فتوقف هيوم متسائلا عن مبرر التعميم والحكم على ما لم نشاهده، من أدرانا أنه مطابق للحالات التي شاهدناها؟ وإذا كانت العلية الكونية هي الأساس، فمن أين أتينا بها؟ ولأنه ليس هناك إجابة منطقية على هذا السؤال، انتهى هيوم إلى أن التعميم الاستقرائي عادة سيكولوجية، فالنفس الإنسانية مفطورة على عادة، هي توقع حدوث ما لاحظته، سيما إذا تكرر كثيرا، إذن فالاستدلال التجريبي أو الاستقرائي ليس البتة ذا أي رسوخ منطقي، وهذه الثورة الهيومية أدت إلى توترات ومد وجذر جم، وفي النهاية نجد محصلتين تسلم بهما فلسفة العلم تسليما: الأولى: هي أن كل معرفة تجريبية احتمالية يستحيل أن تكون يقينية، والثانية: أن الاستقراء والاستنباط أو العقل والتجريب، أو اليد والدماغ أو الفرض والملاحظة، يتآزران معا في نظرية المنهج العلمي.
وكل هذه الخطوط مترسمة في نصوص جابر، لا سيما «كتاب التصريف» كما سنرى. •••
بادئ ذي بدء، نجد بعدا كلاميا جذريا، وهو قياس الغائب على الشاهد - الذي أوضحناه في المبحث السابق - ترتكز عليه نظرية جابر المنهجية التجريبية، إنه يوضح بمزيد من النسقية كيف نستدل من الشاهد على الغائب، بطريقة تجعلنا نفهم من الوقائع المتاحة أمامنا القانون العام الذي يحكمها جميعا. إنها وظيفة العلم وصلب منهجه، وينطبق عليه ما أوضحه جابر من سبل ثلاثة للاستدلال؛ إذ يقول: «إن هذا التعلق يكون من الشاهد بالغائب على ثلاثة أوجه: وهي المجانسة ومجرى العادة والآثار، وأنا ممثل كل واحد من هذه الوجوه، وقائل فيه بحسب ما أراه كافيا.»
23
بيد أن ما قاله جابر بشأن الوجه الثالث - الآثار - مفقود تماما. لكن الاستدلالين الأولين ماثلان ومشبعان.
أما المجانسة فهي الاستدلال من الأنموذج، وهي صحيحة لكنها احتمالية «غير اضطرارية ولا ثابتة في كل حال».
24
وهذا تميز علمي لجابر؛ لأن المتكلمين عدوها يقينية، ولكن علماء الفقه - قبل جابر - رأوها ظنية.
25
إذن ربما استفاد جابر من بعد فقهي ولا ضير؛ فعلم أصول الفقه كنز مذخور لعلم مناهج البحث، وجابر في كل حال يؤكد أن أي استدلال تجريبي احتمالي - ظني بتعبيره - طالما يستند على حالات محددة ويستحيل أن يحصر آثار الظاهرة، يقول: «إن الإحاطة بآثار الموجودات بعضها في بعض وكليات ما فيها أمر غير ممكن لأحد من الناس.»
26
وبسبب هذه الطبيعة الاحتمالية أو الظنية، يحذر جابر من الأخذ بأية نظرية إلا مع الدليل القاطع، إن كان هو نفسه يأخذ بكثير من النظريات بغير أي دليل!
أما تعلق أو استدلال مجرى العادة فهو ما أشرنا إليه من استقراء النظائر واستشهادها للأمر المطلوب، ويتفاوت ضعفا وقوة - كما يوضح جابر - تبعا لقلة النظائر وكثرتها، فأضعفها ما يعتمد على حالة واحدة، وأقواها ما شوهد في كل الحالات، وهنا يرفض جابر موقف المتكلمين وسواهم ممن يعتبرونها يقينية، مؤكدا أن الاستدلال التجريبي في كل حال ظني أو احتمالي، وكل نظرية تحتمل التصديق والتكذيب - حتى نظرياته هو - وإذا تذكرنا العادة السيكولوجية التي جعلها هيوم تبريرا للاستدلال الاستقرائي، وجدنا جابرا يبرر استدلال مجرى العادة «لما في النفس من الظن والحسبان، بأن الأمور ينبغي أن تجري على نظام ومشابهة ومماثلة»!
27
يقول جابر: «الموجودات كلها إما أن تدرك بالحس، وإما أن توجد بالعقل.»
28
وفضلا عن عبقرية التعبير في اللفظة «توجد» التي تستدعي تأكيد المنهج العلمي المعاصر على أن العقل يخلق الفرض العلمي خلقا ويبدعه إبداعا، فإننا نجد ما يؤكده ذلك المنهج من تآزر بين الجانبين - الحس والعقل، أو اليد والدماغ، أو الملاحظة والفرض ... - في قوله النافذ الذي يكاد يحمل أوجز صياغة للب المنهج العلمي: «والله قد عملته بيدي وبعقلي من قبل، وبحثت عنه حتى صح، وامتحنته فما كذب.»
29
فها هنا تآزر اليد والعقل، والبحث عن الفرض ثم تعريضه للاختبار التجريبي، أو بتعبير كارل بوبر محاولات تكذيبه، ثم قبول الفرض لاجتيازه الاختبار ومحاولات التكذيب.
ومع كل هذه البلورات المنهجية التجريبية، لا ينبغي أن نشتط كثيرا ونتصور منهجية جابر صورة طبق الأصل من نظريات فلاسفة العلم المعاصرين، فثمة أبعاد كثيرة تتداخل، ربما لا ينبغي أن نتوقف كثيرا بإزاء أبعاد أقل ما يقال عنها إنها خرافية خزعبلية، لحقت بالحس والإدراك الحسي من قبيل أفاع بوادي الخزلج، إذا «رآها » الناس ماتوا، وكذلك جميع الحيوان، وجبهة الأرنب البحري إذا «لمست» لحم الإنسان فتقته ... ومثل هذا في السمع والشم والمسامتة
30 ... وصفحات جابر تعج بأمثال هذه الترهات التي لا تنطلي حتى في قصص الأطفال. لكن ينبغي الإشارة إلى بعد ميتافيزيقي راجع لطبيعة العصر، يجعل «العلم» عند جابر هو «العقل»، والمعرفة العقلية مقدمة دائما على المعرفة الحسية.
ومع هذا وذاك لا نملك إلا تقدير تلك الصياغة الجميلة حقا للاستدلال التجريبي منهاجا وتطبيقا. •••
والجدير أيضا بالتقدير تلمس جابر لأهمية التكميم في العلم، والتكميم سر تقدم الكيمياء الحديثة، وآية دقتها وانضباطها، الكمية عنده هي «الحاصرة المشتملة على قولنا الأعداد مثل عدد مساو لعدد، أو عدد مخالف لعدد، وسائر الأرطال والأعداد والأقدار من الأوزان والمكاييل وما شاكل ذلك.»
31
فضلا عن القياس الذي هو علاقة بين وزنين أو طولين، وقد اشتهر عن جابر استخدامه للميزان في تجاربه واهتمام طاغ بالموازيين، وقد جعلها عنوانا لأهم كتبه، مرة أخرى - وليست أخيرة - جاءت الموازين معه مسربلة بالعديد الجم من الأبعاد الميتافيزيقية واللاهوتية تضع فراسخ بينه وبين الموازيين الدقيقة للكيمياء الحديثة، فأين نذهب بعشرة قرون من الزمان تفصلهما، وأين نذهب بالمؤثرات والأبعاد العديدة التي تطاحنت في ذهنه، كفاه فخرا التفاته للميزان في خضم كل هذا، وبسبب تحكيمه إياه في تجاربه واتخاذه أساسا للبحث، اعتبره بول كراوس، من أعظم رواد العلوم التجريبية إجمالا وليس الكيمياء فحسب.
على أية حال قدم جابر المعاني الآتية للميزان، التي تعكس بدورها أبعادا شتى: (1)
الميزان النوعي. (2)
ميزان الكيميائيين، وهو وزن مقدار الأجساد الداخلة في خلط أو مزيج.
وهذان المفهومان أقرب نسبيا إلى المعنى المعاصر للتكميم العلمي. (3)
ميزان الحروف الدالة على الطبائع الأربع. (4)
الميزان كمبدأ ميتافيزيقي يرمز إلى التوحيد الإسلامي يعادي الثنائية المانوية. (5)
الميزان كتأويل ما ورد من ذكر الميزان يوم الحساب.
ويسهل ملاحظة كيف أن معالجة جابر لمفهوم الميزان تحمل معها توفيقا بين المذاهب والأبعاد المتباينة، وهذا التوفيق سمة، تسم أبحاث جابر بصفة عامة؛ لأنه هو شخصيا يتسم أو يتميز بمعرفة شاملة بتصانيف القدماء، لا يدانيها عالم آخر في عصره، جعلها تعتمل جميعها في ذهنه. •••
ولكن ما هو ذلك الميزان الثالث؟ ميزان الحروف الدالة على الطبائع؟
هيرومنيوطيقية القراءة ؛ أي التعامل مع النص في إطار الأفق المعرفي للقارئ جعلت أستاذ الجيل زكي نجيب محمود، يبحث عن معالم الوضعية المنطقية في نصوص جابر، فيبدو وقد تراءت له ما أدركته الفلسفة التحليلية في القرن العشرين من أهمية التحديد الدقيق للألفاظ والمصطلحات العلمية، وضرورة تحليلها إلى أبسط العناصر الممكنة، لقد اتخذ أستاذ الجيل من قول جابر: «تركيب الكلام يلزم أن يكون مساويا لكل ما في العالم من نبات وحيوان وحجر.» مبررا لجعل جابر رائدا سبق رسل وفتجنشتين في الذرية المنطقية والنظرية التصويرية للغة.
32
لعل هذا التأويل الوضعي التحليلي لجابر يحمل تخريجا أو تحميلا زائدا يصعب قبوله، لكنه على أية حال لا يفتقر للمبررات.
ذلك أن جابرا آمن إيمانا راسخا بقوة الألفاظ وجدوى البحث في دلالتها، حتى رأى أن كتابه «الحدود» الذي يعنى فيه بتعريف الألفاظ والمصطلحات، هو أهم كتبه؛ لأنه بمثابة معجم وجب أن يداوم الباحث على الرجوع إليه - إن كان يفضل دائما الرجوع إلى كتبه جميعا ككل متكامل.
وكان الحد العلمي عند جابر هو القول الوجيز الدال على كنه المحدود دلالة حاصرة، ولم يزد جابر في تعريفه للحدود شيئا عما قاله أرسطو من تعريف بالجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام، وفي هذا نجد بعدا منطقيا خالصا شديد الوضوح، وأيضا شديد الدلالة على منحى عقلية جابر العلمية؛ إذ يحمد لجابر كثيرا اهتمامه بمسألة الحدود ودقة المصطلح. إن هذا البعد الإيجابي من العوامل التي تبرر منزلة جابر في تاريخ العلم.
ولا بد من الإشارة إلى العمل الجاد للدكتور عبد الأمير الأعسم «المصطلح الفلسفي عند العرب»؛ حيث ينحو باللائمة على بدء الباحثين توثيق المصطلح العربي بكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي وأمثاله من مصادر متأخرة، الصحيح عند الأعسم هو توثيق المصطلحات بالعود إلى جابر بن حيان والكندي والفارابي وابن سينا.
33
فلكل من هؤلاء نص أسس المصطلح عند العرب، وواضح أن جابرا هو الرائد الأول زمانيا يتصدرهم جميعا؛ لأن كتابه «الحدود» هو لغة اصطلاحية ازدهرت وقامت بدور كبير في نشأة المصطلحات الفلسفية عن العرب، وقد أردف الأعسم دعواه بالتحقيق الجيد للنصوص المشار إليها، ومنها بالطبع كتاب الحدود. (راجع الهامش رقم 14).
والأعسم بذلك يريد «أن يلغي الاعتقاد السائد في اضمحلال الدور الفلسفي لجابر في نشأة المصطلح الفلسفي لغلبة الاتجاه العلمي على مؤلفاته التي وصلتنا.»
34
وإذ نعود نحن إلى علم الكيمياء، وموضوعها الكائن في الوجود أو الأنطولوجيا، نجد مصداق قول الأعسم، في معاناتنا من غلبة بعد فلسفي خالص إلى درجة تنال كثيرا من علمية هذا العلم. فقد سار جابر في اتجاه يتبناه فلاسفة قبله وبعده، مؤداه الاستدلال على خصائص العالم من خصائص اللغة، على أساس أن اللغة تطابق طبائع الأشياء أو - كما ذكرنا - تركيب الكلام يلزم أن يكون مساويا لكل ما في العالم.
وطالما أن اللغة - في نظر جابر - مسايرة لطبائع الأشياء، وجب أن يكون لكل حرف ما يقابله من هذه الطبائع، وقد صنف جابر الحروف تصنيفا معينا حسب ترتيبها (أبجد هوز حطي كلمن صحفت قرشت ...) بحيث يدل كل حرف على طبيعة معينة، فتفهم طبيعة الشيء من مجرد حروف اسمه! إذ يدل على الحرارة: «أ ه ط م ق»، وعلى البرودة: «و ي» ... إلخ.
وفي كتابه «التصريف» تفاصيل هذا التساوق بين الحروف والطبائع، وتفاصيل استنباطه بعد أن نجرد اسم المادة من الحروف الزائدة فيه.
35
إنه يستفيد من تصريف النحويين ليخرج منه إلى تصريف الكيماويين، وذلك هو ميزان الحروف الدالة على الطبائع.
وهذا التمازج الوجودي - لا بقوة اللغة بل بقوة الحرف - ربما وجد عونا يقويه في بعد إسلامي خالص هو لغوية الحدث القرآني، ومن ثم تمحور الحضارة العربية حول علوم اللغة وإبداعها في هذا إبداعا لا مثيل له في تاريخ البشرية.
غير أن جابرا اشتط في هذا كثيرا، حتى تجاوز روح الإسلام وروح العلم على السواء، فكما رأينا؛ انتهى به الأمر إلى الإيمان بقوة ودلالة الحرف في حد ذاته، وأنه مفتاح طبيعة الشيء، أو طبائع الأشياء الأربعة، ناسيا أن اللغة بأسرها مسألة اصطلاحية اتفق عليها قوم من البشر.
وها هنا يتجلى بعد مشرقي غنوصي لا عقلاني ولا إسلامي على السواء ، ألا وهو علم الطلسم، الذي اهتم به جابر كثيرا، واعتبره واحدا من علوم سبعة هي كل العلوم - أو بالأحرى كل العلوم الكونية - وهي: «علم الطب وعلم الصنعة (الكيمياء)، وعلم الخواص، وعلم الطلسمات، وعلم استخدام الكواكب العلوية، وعلم الطبيعة كله: وهو علم الميزان، وعلم الصور وهو علم تكوين الكائنات»، وينعت الطلسمات دونا عنها جميعا بأنها: «العلم الأكبر العظيم الباطل في زماننا هذا أهله والمتكلمون فيه.»
36
أي لم يعد أحد يفهم فيه، ولكن حين يشرع ابن حيان في تقسيم كل علم من هذه العلوم إلى فروعه ويتحدث عن أصوله، يبدو كيف أحاط هذا الرجل علما بكل البنية المعرفة المطروحة في عصره، وكيف غطت تصانيفه كل مجالات العرفان المطروحة آنذاك. حتى قيل عنه: إنه أعلم علماء العصور الوسطى طرا.
من أعمال جابر الهامة كتابه «الأحجار على رأس بليناس» الذي هو أبلونيوس السكندري، وينسب إليه قوله: «إن للطلسمات موازين مختلفة على قدر خلقها أيضا.»
37
ثم ينساق جابر في شرح هذه الموازين الطلسمية في شطط أعجب من العجب، والطلسم هو البعد المؤدي إلى ميزان الحروف الدالة على الطبائع الأربع، ويخبرنا جابر كبرهان على فاعلية علم «الطلسم» أن نعكس اسمه فيصبح «مسلط»، وهذا يدل على قدرته العظيمة في التأثير على الأشياء والكائنات بأساليبه الملغزة التي تتلخص في البحث عن تقابلات الأشياء وتوافقاتها، ليصل علم الطلسم إلى إمكانية تحويل المخلوقات الحية وليس فقط المعادن إلى بعضها البعض، بل ويشرح جابر بعضا من كيفية أو كيفيات هذا التحويل، وأيضا تركيب البشر. كأن نضيف وجه جارية إلى جسم رجل أو عقل شيخ إلى رأس طفل! وتفاصيل العمليات والتجارب المؤدية إلى هذا في كتاب جابر «التجميع»، ودع عنك الآن الروح العلمية، فكيف يقول بهذه الترهات «التجريبية» رجل يدين بالعقيدة الإسلامية التي تحمل كل إنسان - كروح وبدن - المسئولية الكاملة. إن هذه التوصيفات التي يستفيض فيها جابر شارحا ومفسرا ومتجولا بين مذاهب شتى وأساليب تجريبية مختلفة لصنع وتركيب وإعادة تجميع البني آدميين والمخلوقات تبرر الزعم ببعد هندي في تفكيره، هو عقيدة التناسخ ، ولئن كانت تخالف صحيح العقيدة الإسلامية، فقد قيل: إن نفرا من غلاة الشيعة أخذوا بها.
إن علم الطلسم أو ميزان الحروف الدالة على الطبائع الأربع هي منطلق كل هذه الترهات. •••
لكن فكرة الطبائع الأربع التي نشأت عنها جميع الكائنات هي محور كيمياء جابر وعمودها وعمادها، وهي هكذا بالنسبة للكيمياء القديمة بأسرها؛ لذلك كان جابر عميدها، وإذا أخذنا في الاعتبار أن كل مرحلة من مراحل العلم خطوة مؤدية إلى لاحقتها، وجدنا مؤرخي الكيمياء يعتبرون فكرة الطبائع أو العناصر الأربعة هي منطلق علم الكيمياء؛ لأنها نقطة البدء التي تطورت إلى العناصر والمركبات، هذه المواد الأولية التي تتكون منها كل المواد الأخرى.
38
عادة ما تعتبر هذه الفكرة إغريقية، تعود إلى أرسطو الذي أخذها عن الفيلسوف الطبيعي القبل سقراطي أنبادوقليس. لكن الدراسات المحدثة، خصوصا مع العالم الفلكي الأثري «أنتونيادي» أثبتت أن فكرة الطبائع الأربعة ذات أصل مصري، وأخذها الإغريق عن الفراعنة.
39
ثم أخذها بيقين طاغ جابر بن حيان، وكان يسميها أوائل الأمهات البسائط، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، الحرارة والبرودة طبيعتان فاعلتان. أما الرطوبة واليبوسة فطبيعتان منفعلتان، ومن تفاعلهما أزواجا تكونت عناصر أربعة أولية. فانفعال اليبوسة بالحرارة يكون النار، والرطوبة بالحرارة يكون الهواء - أو البخار - واليبوسة بالبرودة يكون التراب - أو الأرض - والرطوبة بالبرودة يكون الماء، وكل جسم لا يعدو أن يكون تجمعا وافتراقا لهذه المواد الأولية الأربع: النار والهواء والتراب والماء، وبنسب متفاوتة، ومن ثم يكون اتصافها بطبائع معينة راجعا إلى غلبة العنصر السائد، لكن العناصر الأربعة، أو الطبائع الأربع مضمرة في كل جسم. مثلا: الحديد ظاهره حار يابس، لكن باطنه بارد رطب، والزئبق ظاهره رطب بارد، لكن باطنه حار ويابس ... وهكذا.
معنى كل هذا أن الأشياء جميعها تشترك في أصل واحد؛ لذلك جاز تحويل بعضها إلى بعض، وهذا هو عمل الطبيعة؛ إذ تحول الأشياء إلى بعضها، على أن الطبيعة بتلقائيتها تستغرق في هذا التحويل آلاف السنين، أما الكيميائي فعن طريق الصنعة (العلم أو الكيمياء)، والتدبير (التقانة أو التكنولوجيا) ... أي بتعمده المتدبر وتجاربه يستطيع إنجاز هذا التحويل في زمن وجيز. على هذا كانت كل كيمياء جابر بن حيان، وكل خيمياء أو كيمياء العصور الوسطى - كما صدرنا الحديث - تدور حول محور أساسي هو محاولة تحويل العناصر إلى بعضها، وبالتحديد تحويل المعادن الخسيسة الرخصة كالنحاس ... والحديد إلى ذهب، وبتحديد أكثر: اكتشاف حجر الفلاسفة الذي يستطيع هذا التحويل إلى ذهب.
ثمة ظواهر عديدة غرت القدامى بإمكانية هذا التحويل، منها أنه بغمس الحديد في كبريتات النحاس يحل الحديد محل النحاس فتنفرد الكبريتات بلونها الأحمر ويترسب النحاس على سطح الحديد، فيتغير لونه ومظهره، أيضا بتسخين كبريتات الرصاص تتصاعد رائحة كبريتية، وتتخلف مادة إذا سخنت في بوتقة مصنوعة من رماد العظام، تظهر كرة صغيرة من الفضة؛ وذلك أن خام كبريتيد الرصاص يحتوي على نسبة ضئيلة من الفضة، وبتسخينه في الهواء يتحول إلى مادتين: غاز ثاني أكسيد الكبريت ذي الرائحة الكبريتية، وأكسيد الرصاص، وبتسخين أكسيد الرصاص في البوتقة يتطاير جزء، ويمتص رماد العظام - لأنه فوسفات كالسيوم - الجزء الباقي، ولا يبقى إلا الفضة.
40
وبالطبع لم يدرك الخيميائيون مثل هذا التفسير العلمي، فقط شاهدوا التغير البادي على السطح، فآمنوا بغايتهم، وبصرف النظر عن طوفان الدجل والشعوذة الذي اقتحم هذا الميدان، فقد برر الخيميائيون - المخلصون - عملهم بالتهاويم الخرافية، أو بالدعاوى الفلسفية، وبالنسبة لجابر كانت حجته إغريقية خالصة، هي نظرية أرسطو في الوجود بالقوة والوجود بالفعل، فكان الذهب عند جابر ذهبا بالفعل، والفضة والمعادن ذهبا بالقوة ومهمة الكيميائي إخراج القوة إلى الفعل، فتصدر كتابه «إخراج ما في القوة إلى الفعل» مجموعة رسائله التي اختارها وصححها ونشرها بول كراوس (والمذكورة في هوامش الدراسة).
ولكن هل فكرة تحويل المعادن إلى ذهب ذاتها إغريقية، كما تذهب معظم المصادر.
41
لقد كانت الملمح الرئيسي لكيمياء الإسكندرية التي يمتزج فيها التراث المصري بالتراث الإغريقي، ولكن جوهرها الفلسفي مصري خالص هو «الكل في واحد» ويرمز لهذا المبدأ المصري الشهير بالحية التي تلدغ ذيلها فتلتف حول نفسها على هيئة دائرة، ويعود إلى الفيلسوف المصري كيمي وقوله: «الواحد هو الكل، ومن خلاله أتى الكل .» إنه قول أو مبدأ يعبر عن الوحدة النهائية للمادة، وكان من أعظم مبادئ الخيمياء الهادية المرشدة، والآن فقط - بعد تكشف جسيمات الذرة - يبدو على قدر كبير من الصواب.
42
ولكي لا تذهب بنا السخرية من أحلام القدامى كل مذهب، يمكن أن نستطرد قليلا إلى العلم الحديث. ذلك أن العالم الأمريكي دمبستر قد تمكن منذ عشرات السنين من تحويل الزئبق إلى ذهب بواسطة بعض التعاملات النووية، والتي تتلخص في إطلاق بروتونات ذات طاقة كبيرة لطرد بروتون من نواة الزئبق بشحنته «80» منتجا الذهب بشحنة نواة «79».
43
حقا إن هذا لا يحقق أمل جابر وسائر الخيميائيين في الثراء السريع؛ لأن الناتج كميات ضئيلة والتكاليف باهظة جدا، أضعاف مضاعفة لتكاليف استخراج الذهب الطبيعي. إلا أن له قيمة علمية نظرية، وهي الآن لتوضح لنا أن الطموحات العقلية للسلف - مهما كانت جامحة أو عاجزة - فإنها تلهم الخلف وتفتح آفاقا رحيبة للممكنات، وتهيئ الطريق لتحقيقها ... لننتهي في النهاية إلى تواتر حلقات تاريخ العلم وأهميتها جميعا بغثها وسمينها. •••
وبالعود إلى جابر نتوقف قليلا بإزاء أن الطبائع أربع والعناصر أربعة، بل وضع جابر تقسيمات رباعية متناظرة للكون بأسره، ففصول السنة أربعة، الصيف يناظر النار والشتاء يناظر الماء والربيع الهواء والخريف الأرض، وفي بدن الإنسان أخلاط أربعة، الصفراء تقابل النار وزمانها الصيف، والدم يناظر الهواء وزمانه الربيع، والبلغم يناظر الماء وزمانه الشتاء، ثم تناظر السوداء الأرض، زمانها الخريف، والأعضاء الرئيسية أربعة: الدماغ والقلب والكبد والأنثيان. تقابل الأخلاط الأربع بأزمنتها الأربعة، وهكذا ...
فلماذا هيمن الرقم «4» على ذهن ابن حيان؟ الإجابة فيما تناثر كثيرا في السياق السابق؛ أي الأصل السكندري للكيمياء العربية والذي سيطرت عليه فكرة فيثاغورية صوفية مؤداها تقديس الرقم «4» الرقم الكامل المعجز بسبب خواصه الرياضية الفريدة.
لقد استأثرت كيمياء الإسكندرية بنصيب كبير من الأبعاد المعرفية لكيمياء جابر بن حيان، لكن هذه الأخيرة لم تكن أبدا نسخة منها أو مجرد تراكم كمي لها، بل تطويرا وإضافة حقيقية ومرحلة جديدة في تاريخ علم الكيمياء.
وبخلاف الذهب كبعد محوري وعامل موجه، سارت أبحاث جابر الكيميائية في مسارات أخرى إضافية واقعية وعملية وعلمية، ومشهودة كإنجازات باقية ومتتابعة نذكر منها الخبرة بالعمليات الكيمياء الأساسية كالإذابة والتبلور والتقطير والتكلس والاختزال، وتوصيفه لأساليب إجرائها بمناهج عملية واضحة وبسيطة، وأيضا أساليب تحضير طائفة من المواد الكيميائية توصل إليها، منها أبيض الرصاص (كربونات الرصاص القاعدية)، والزنجفر (كبريتيد الزئبق) وحامض النيتريك. أما عن التطبيقات أو التقانة: فقد كشف عن أن مركبات النحاس تكسب اللهب لونا أزرق، واستنبط طرقا لتحضير الفولاذ وتنقية المعدن وصبغ الجلود والشعر، وتحضير مداد مضيء من المرقشيا الذهبية (بيريت الحديد أو كبريتيد النحاس) ليستخدم بدلا من الذهب الغالي في كتابة القرآن الكريم والمخطوطات الثمينة، وأيضا نوع من الطلاء يقي الثياب من البلل، ويمنع عن الحديد الصدأ، وتوصل إلى أن الشب يساعد على تثبيت الألوان في الصباغة، ويقال أيضا: إنه تمكن من صنع ورق غير قابل للاحتراق من أجل كتاب عزيز عليه، هو كتاب الضيم لإمامه جعفر الصادق
44
لذلك يسجل «هولميارد» لجابر وتابعيه العرب أنهم خلصوا الكيمياء السكندرية من غموض وترهات صبيانية سادتها، ووجهوا الكيمياء وجهة واقعية، وأقاموها نظاما علميا عماده الوقائع التي تدعمها التجربة،
45
فذلكم هو حكم ناموس التطور العلمي، الذي حكم أيضا بأن مدرسة الإسكندرية كانت خطوة سابقة وفاعلة للكيمياء العربية، فأول كتب معروفة في الكيمياء هي المكتوبة آنذاك في مصر باللغة الإغريقية.
ففي إسكندرية مصر البطلمية كانت أهم المراحل الأسبق للكيمياء. أدرك بطليموس الأول (323-285ق.م) وولده فيلادلفاس، بطليموس الثاني أهمية الكيمياء وكما هو معروف أقيم المتحف أو معهد الميوزيوم في الإسكندرية واستدعي لإدارته استراتو - معلم فيلادلفاس وعميد اللوقيون أو الليسيه - مدرسة أرسطو، فجاء من أثينا حاملا معه كتب أستاذه وأمهات التراث الإغريقي، في هذا المعهد خصصت للكيمياء أو بالأحرى الخيمياء قاعات للمحاضرات والتجارب، وإن كانت في الدور الأرضي؛ لأنها علم غير مبجل لغوصه في الماديات واستهدافه الثراء.
46
ويجدر بنا ملاحظة أن الكيمياء ظلت محاطة بالشبهات حتى القرن السابع عشر، ولاحظ واحد من أهم علمائها ومؤرخيها في تلك المرحلة شيوع الرأي بأن «الكيميائيين لا بد من إلقائهم في الأفران! لأنهم يعملون بمواد خبيثة الرائحة، وملابسهم عموما مغطاة بحرائق وأدران، وتجاربهم مصدر لعديد من الشكاوى العامة.»
47
ولكن شهدت الإسكندرية حفظ التراث الإغريقي النظري وتلقيحه بالتراث المصري العملي، فكانت النتيجة في القرنين السابقين على ميلاد المسيح، واحدة من أهم مراحل العلم القديم وأكثرها توهجا وتألقا، في الرياضيات وفي الطب والكيمياء والفيزياء، والتقانة (التكنولوجيا) ... وبعد أن خبت جذوة الإبداع العلمي في الإسكندرية انكب الرهبان على ترجمة النصوص الإغريقية إلى السريانية ... لكن انتشرت العناصر الغنوصية الهرمسية، وكانت الإسكندرية مرتعا للا عقلانيات شتى - وقفنا على أبعاد منها - اقتحمت كيمياء جابر التجريبية العتيدة، ففي النهاية تسلم العرب حين سادوا الأرضين كل هذا الميراث،
48
ليستوعبوه ويتجاوزوه، لتكون ملحمتهم العلمية التي نعرض الآن للمشهد الأساسي من فصلها الكيميائي. •••
لم تكن الكيمياء بالنسبة للعرب كالشعر، بل هي كالفلسفة والرياضة، بمعنى أن الثورة الثقافية العظمى التي أحدثها الإسلام ونزول الوحي في المجتمع القبلي، ومتوالياته الحضارية، لم تطورها كما طورت الشعر أو القيم أو النظم الحاكمة، بل أوجدتها إيجادا. أجل! لم يعرف العرب في جاهليتهم الكيمياء البتة، ثم عرفوها في نهضتهم المنطلقة بعد الفتوحات الإسلامية، على وجه التحديد فتح مصر.
وحين عرف العرب الكيمياء، كان أول علم من أعلامها هو خالد بن يزيد بن معاوية (حوالي 625-704م) الملقب بحكيم بني أمية لعشقه العلم والعرفان، تاركا عرش الخلافة، لقد تعلم على يد راهب يدعى ماريانس الرومي جعله يتعلق بعلوم الكيمياء والطب والنجوم، ويستحضر جماعة من فلاسفة مصر الذين أتقنوا العربية وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة - أي الكيمياء - من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي، وكانت هذه - كما يجمع الثقات كابن النديم - أول ترجمة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.
كان خالد فاضلا في نفسه محبا للعلم، اشتغل بالصنعة (الكيمياء) وأجرى تجارب، وأول من كتب فيها من العرب، ومن مصنفاته الكيميائية كتاب الحرارات وكتاب الصحيفة الكبير والصحيفة الصغير، ووصيته إلى ابنه في علم الصنعة، والفردوس وهو ديوان شعر في الكيمياء، يقول فيه عنها:
49
هي الصنعة المضروب من دون نيلها
من الرمز أسوار تشيب النواصيا
ولكنها أدنى إذا كان عالما
إلى المرء من حبل الوريد تدانيا
ليس لأبحاث خالد الكيميائية قيمة معرفية أو إضافة علمية، لكن لشخصيته دورا حضاريا كبيرا في الكيمياء عربيا وعالميا، الأولى: لأنه فتح البوابة أمام العرب في هذا العلم، وفي الترجمات التي قامت بالدور المعرفي الخطير في العلم العربي، وعالميا لأنه رفع قدر الكيمياء بأن اشتغل بها أمير، بعد أن كانت قاصرة على الصناع الباحثين عن الكسب أو راغبي الذهب الباحثين عن الثراء السريع، فضلا عن المشعوذين والدجالين.
ولكن هل تأثر به جابر بن حيان، إذا تذكرنا أستاذ خالد - وهو ماريانس - وجدنا جابرا يقول في «كتاب الراهب»، عن هذا الراهب الذي أخذ عنه علم الصنعة، فأسمى الكتاب باسمه:
كنت مشتاقا إلى رؤيته، وذلك أنه بلغني عنه أنه أخذ العلم عن مريانس الذي كان خالد بن اليزيد أنفذ في طلبه ووضع عليه العيون والأرصاد حتى أخذه من طريق بيت المقدس، وكان يهدي في كل سنة ذهبا كثيرا، وإنما لما مات خلفه هذا الراهب.
50
واضح من النص أن ثمة فجوة زمانية بين خالد وجابر، فكان تأثره الحي والعميق بالعلم الثاني من أعلام الكيمياء العربية الإمام الشيعي الاثني عشري أبي عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، كان جعفر عالما، له باع في الصنعة،
51
وتتلمذ جابر عليه، ثم غطت إنجازاته وشهرته تماما على جعفر وخالد.
لكن الولاء الشيعي لجعفر الصادق كان يغمر نفس جابر، فيوجه معظم كتاباته إلى الإمام جعفر الصادق مخاطبا إياه بلقب: «سيدي»، ويقر أنه تلقى العلم عن سيده جعفر، وتنسب إليه أفكار شيعية متطرفة مقترنة بنزعات سياسية ثورية، منها التبشير بقرب ظهور إمام معصوم من ذرية علي، فضلا عن الزعم بوجود صلة بين جابر والقرامطة. لقد لاحظنا فيما سبق مثول البعد الشيعي في تصور جابر للعلم، وهو في الواقع مثول كثيف. فمثلا: مصدر العلم عنده وحي يوحي للنبي ثم يتوارثه خلفاؤه المعصومون فيقول جابر عن كتبه: «تأخذ منها علم النبي وعلي وسيدي وما بينهم من الأولاد منقولا نقلا مما كان وهو كائن وما يكون من بعد إلى أن تقوم الساعة.»
52
هكذا العلم عنده مطلق لدني موحى به، فيؤكد دائما أنه لا علم إلا علم النبي وما عليه إلا التأليف، لعل إطار الشيعة وعلاقتهم بالأئمة وراء اهتمام جابر العذب الجميل بطبيعة العلاقة بين الأستاذ والتلميذ.
وكان يحلو لجابر الإقامة في الكوفة - موطن الشيعة - لطيب هوائها واهتمام أهلها بالعلم، وقد أوضح المستشرق ماسينون أن أول من أطلع على النصوص الهرمسية هم غلاة الشيعة في الكوفة، وأبان العلامة فيستوجير أن الكيمياء في هذه النصوص الهرمسية لا تختلف عن كيمياء إستانس الزرادشتي، كلاهما يعتمد على الاعتقاد في قوى خفية وفي تأثير النجوم، ويستعمل نفس الأساليب التطبيقية، لا خلاف كبير بين أساليب هرمس وأساليب أبولونيوس السكندري، أو بليناس بتعبير جابر
53
الذي رأينا كل هذه الأبعاد تعتمل في كيميائه، ونعتقد أن لقب الصوفي الذي يلحق باسم جابر دائما حتى على غلاف مخطوطاته راجع إلى عمق تأثره بالهرمسية، ولئن كان هذا بعدا غير إسلامي، فقد تفاعل بما يكفي مع بعد إسلامي خالص هو الشيعية. •••
فقد عاش جابر طويلا في مركزها - الكوفة - حيث كان معمله المهيب كما ذكرنا، لكنه لا ينتسب إليها. إنه عربي ينحدر من قبيلة أزد على حدود اليمن، وولد حوالي عام 720م إما في حران بالعراق، وإما في طوس بفارس، رواية حران تدعي أنه أصلا صابئي ثم دخل الإسلام وأظهر إيمانا وغيرة عظيمة على دينه الجديد.
لكن رواية ميلاده في طوس هي الأرجح، ولعلها تبرر - من ناحية - صلته الوثيقة بالبرامكة التي تسببت في أزمة بينه وبين الرشيد حين غضب على البرامكة، وفتك بهم عام 188ه/803م. إنها نكبة البرامكة الشهيرة في التاريخ الإسلامي.
كان يحيى البرمكي مفتونا بجارية جميلة له، أصابها مرض عضال حار فيه الأطباء، غير أن جابرا وصف لها دواء شفاها على الفور،
54
دهش يحيى لهذا وأثارت هذه الدهشة في نفسه، وفي نفس ولديه - جعفر والفضل - شغفا بالعلوم الطبيعية، والبرامكة عموما مهتمون بالكيمياء، فظن هارون الرشيد أن جابرا باح لهم بسر حجر الفلاسفة، وأن هذا هو سبب ثرائهم، ففر جابر إلى الكوفة، ظل مختبئا بها حتى ولاية المأمون؛ حيث وافته المنية هناك حوالي عام 813م.
55 •••
وعبقرية جابر المذكورة في العلاج تعرج بنا على بعد جوهري هو علوم الطب، لنجده قد برع فيها، خصوصا وأن الكيمياء دائما ذات صلة وثيقة بعلوم الطب، وإذا كانت الصلة تتمثل في عصرنا هذا في علم العقاقير أو الفرما كولوجي، وفي الكيمياء الحيوية وما شابه هذا، فإنها لم تكن هكذا فقط أيام جابر؛ بل كانت الصلة بين الكيمياء والطب تتمثل أساسا في الإكسير الذي يؤكد جابر أنه وجده.
كانت الكيمياء هي معالجة المعادن الخسيسة لتصبح معدنا نفيسا، والطب هو معالجة الأبدان المريضة لتصبح صحيحة، أساس العمل في الحالتين هو الإكسير؛ لأن الإكسير هو الوسيلة التي يخرج بها العالم شيئا من شيء، كأن يضيف إليه ما ينقصه أو يحذف منه ما زاد عليه، سواء أكان هذا الشيء جسما حيا أو معدنا. أما إكسير الحياة - أمل السيميائيين أو الخيميائيين جميعا - فهو الدواء الشافي من جميع الأمراض، ويقال إن هذه الفكرة تعود إلى أصول صينية.
56
ودعم من أثر البعد الطبي في الكيمياء إيمان جابر بالنزعة الحيوية التي سادت العلم القديم لترى كل شيء حيا حتى أصلب أشكال الجماد. لقد ظلت هذه النظرة الحيوية طاغية مهيمنة حتى كان العلم الحديث ليقترن بالتصور الآلي الميكانيكي للطبيعة وينهي عصر النظرة الحيوية، حتى شهد القرن العشرون انهيار التصور الآلي للطبيعة بدوره تحت وطأة نظرية «الكوانتم» الكمومية والنسبية وسائر علوم الذرة.
المهم أن جابرا كسائر أقرانه من العلماء القدامى آمن بحيوية الطبيعة، بل رآها عاقلة مريدة والكواكب قوى حيوية علوية تمارس تأثيرها، الفرق بينها وبين الله هو دخول المادة فيها، من هنا كان علم التنجيم عند جابر - أو كما أسماه علم استخدام الكواكب العلوية - واحدا من علوم سبعة أساسية هي كل العلوم.
آمن جابر أيضا بأن المعدن كائن حي، ينمو في جوف الأرض عبر آلاف السنين، على إثر تزاوج أو اتحاد عنصرين هما دخان أرضي وبخار مائي، يتكاثفان في جوف الأرض ليكونا أصلي جميع المعادن: الزئبق والكبريت. الفرق بين معدن وآخر يعود إلى اختلاف نسب الكبريت والزئبق فيه، في الذهب يكون بينهما اتزان تام، وفي الفضة يتساويان في الوزن، والنحاس يحتوي على كبريت أكثر، أما القصدير فزئبقه أكثر وهكذا، ويرى المؤرخون أن هذه الفكرة هي التي تطورت إلى مفهوم الاتحاد الكيميائي الحديث، فتعتبر من أهم الأفكار الكيميائية التي طرحت في القرن الثامن.
57
وبطبيعة الحال، اتحاد الزئبق بالكبريت يعطي كبريتيد الزئبق، وهو ليس بمعدن على الإطلاق، فضلا عن أن يكون كل المعادن، وقد عرف جابر كبريتيد الزئبق، وأسماه الزنجفر. إذن فهو لا يقصد بالكبريت والزئبق المقصد العام لهما، بل مبدأ ما ميتافيزيقيا،
58
لعله متصل بما أسماه جابر: الأرواح، أخذا عن زوسيموس السكندري تركيب المعادن من روح وجسد، ينفصلان ليدخلا ثانية في تركيب جديد.
59
ذلك أن الإيمان القديم بحيوية الطبيعة دفع جابرا إلى تقسيم المواد الكيميائية إلى: أرواح وأجساد وأجسام. الأرواح تطير عن النار وعددها ست، وهي: الزئبق والزرنيخ والكبريت والنشادر والكافور والدهن، الأجساد هي المنطرقة، وعددها سبعة وهي: الرصاص الأسرب والرصاص القلعي والحديد والذهب والنحاس والفضة والخارصين، جميعها تمتزج مع أرواحها باعتدال، بمقادير متساوية. أما الأجسام فتختلط في معادنها الأرواح والأجساد على غير مزاج أو اعتدال. الكيميائي يمكنه أن يعطي كل جسم الطبع الذي يناسبه ليعتدل حاله، ثم ليصبح ذهبا. كذلك الطبيب يعطي كل جسم ما يناسبه ليعتدل حاله، وليصبح معافيا. إن التماثل قائم إلى أبعد مدى، بفضل ذلك البعد الحيوي فيطبق جابر تصورات التناسل والحمل والزواج والتعليم على المعدن، وكذلك الموت والحياة، ويرى المواد الغليظة الأرضية ميتة. أما المواد المنيرة فروحانية ... بكل هذا لا يختلف عمل الطبيب كثيرا - في نظر جابر - عن عمل الكيميائي ... فكان أن اجتهد هو في العملين معا.
وحتى في الطب ، يحتفظ جابر بحضور علمي رصين، ليظل ماثلا في ذاكرة السنوات العشر الأواخر من القرن العشرين وما تلاه، فاهتمامه بالطب جعله يخرج دراسة ناضجة عن السموم، الجيد منها والرديء وكيفية إيصالها للأبدان، وأسمائها والسموم المركبة والحوادث العارضة عنها في الأبدان، وكيفية الشفاء منها والأدوية الناجعة في هذا، والأحوال الميئوس من شفائها والسموم القاتلة توا، وقد قسم السموم إلى ثلاثة أنواع: حيوانية ونباتية وحجرية (أي من كيمياء الفلزات).
وجابر على أية حال اشتهر بقدرته العملية البارعة في وصف ترياق السموم، وفي شفاء العديد من الأمراض، وقد وصف أدوية، كما اعتنى بتركيب الحيوانات وتشريحها، ولكنه أولا وقبل كل شيء فاتح بوابة الكيمياء العربية وعالمها الأول - زمانيا وموضوعيا - سار في إثره الأعلام التالون - أبو بكر الرازي، وابن سينا، ومسلمة المجريطي، وأبو المنصور الموفق، والطغرائي، وأبو القاسم العراقي، والجلدكي ... •••
هو عقلية عملاقة إذن. كان قادرا على استقطاب الأبعاد المعرفية في عصره واستيعابها وتجاوزها، والرجال العظماء أخطاؤهم عظيمة، وإذا كنا قد بينا نفاذ بصيرة ابن حيان التجريبية المنهجية، نرجو أن يكون استكشافنا السابق لبعض الأبعاد المعرفية لكيميائه يحمل تفسيرا للخطل في شطحاته التي فاقت كل خيال، فقد رأينا انشغاله بالتنجيم والطلسم وتركيب المخلوقات والبشر.
من هذه الشطحات أيضا وصفه لتجارب بلهاء عديدة، منها على سبيل المثال: تجربة نستخرج بها زنبور النحل من ثور ميت، يفضل أن يكون أحمر اللون! وزعمه بأنه يعرف حيوانا بحريا عجيب الخلقة والطباع - ويسهب في وصفه - قادرا على الإبراء من جميع الأمراض، وكأنه بديل حي لإكسير الحياة.
ولن ينتهي بنا الحديث لو أحصينا شطحات جابر، التي تجعلنا نضرب كفا على كف، كلما تذكرنا أن القائل بها هو القائل بالدربة واستدلال مجرى العادة وكيفية تركيب حامض النتريك وخواص نترات الفضة وكربونات الرصاص ...
لقد كان جابر تمثيلا عينيا لميراث العقل العلمي في القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، وفي الآن نفسه تمثيلا عينيا للدفعة الجبارة التي بدأت بها انطلاقة العلم العربي، ليواصل - فيما بعد - نماءه وتطوره، ويصل إلى النضج وذروة من أوج ذراه مع أبي الريحان البيروني.
المبحث الرابع
المنهج العلمي عند العالم النابغة أبي الريحان البيروني
3 من ذي الحجة 362ه-2 من رجب 440ه
سبتمبر 973م-13 من ديسمبر 1048م
1
أولا: مدخل إلى رحاب أبي الريحان
إن المنهج العلمي
2
بخطوطه وشرائعه ونواميسه ومثله وقيمه، ما هو إلا البلورة المستصفاة والتمثيل العيني للعقلية التي توصف بأنها عقلية علمية، وقد أتى أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي
3
في أوج العصر الذهبي للحضارة الإسلامية ليمثل أعلى مد بلغته العقلية العلمية، فقد كانت عقلية البيروني مصبوبة في أطر المنهجية العلمية ومدموغة بسيماء العلم، ومتمثلة لقيم العلم، ومتكرسة لأهداف العلم ... بالمفهوم الحديث لمصطلح العلم؛ أي المفهوم الإخباري المنهجي المقنن المنصب على العالم الواقعي المتعين. على الإجمال عقلية البيروني عقلية علمية
Scientific
إلى درجة لا نحسب أن بلغها علم آخر من أعلام تاريخ العلوم عند العرب، مما يعد بحصاد جيد إن رمنا استكشاف أبعادها المنهجية.
فقد كان المنطلق الأساسي لهذا المبحث أن البيروني لم يبلغ مكانته التي جعلته الوحيد في الحضارة العربية الذي يلقب بلقب «الأستاذ»، وجعلت المستشرق الألماني العلامة إدوارد ساخاو (راجع هامش 1) بعد أن حقق بعض كتب البيروني يقول عنه عام 1887: إنه أعظم عقلية عرفها التاريخ، كما أكد «أرثر بوب» أنه من أعظم العقول المفكرة وعلى مستوى كل العصور، ونعت جورج سارتون - مؤرخ العلم الثقة - القرن العاشر/الحادي عشر الميلادي باسم «عصر البيروني» ... لم يبلغ البيروني هذا المبلغ، إلا لأن المنهج قد تبجلت أهميته واستبينت معالمه في رحاب البيروني ... وإذا انتهت أطروحتنا إلى هذا، فإن البيروني إذن قد وضع يده على مفتاح العلم. فالمنهج هو دماء حياة العلم والقوة المثمرة الولود إياه. النظريات قد يرسو بها المطاف في متاحف التاريخ. أما المنهج - أسلوب البحث المنضبط حين يتبلور - فإن تطبيقه يؤدي إلى النتائج تلو النتائج فيصحح بعضها بعضا ويفوق سابقها لاحقها، ليذوي هذا السابق، ومع توالي الممارسات المنهجية يصبح هذا اللاحق بدوره سابقا يوما ما، وهكذا دواليك ... يمضي السير قدما في طريق التقدم والتطور المعرفي، بفضل أو على أساس من المنهج - منطلقنا إلى عالم البيروني الخصب الزاخر.
إن البيروني أبرز علماء الحضارة العربية في الرياضيات وفي الفلك
4
الذي عرفه العرب باسم «علم الهيئة» وعدوه فرعا من الرياضيات.
5
وظل الفلك دائما وثيق الاتصال بالرياضيات، وهما مجالات يطلق عليها في قديم العلم وحديثه مصطلح «العلوم الدقيقة المنضبطة» وكان هذا من العوامل التي أكسبت عقلية البيروني منهجية مقننة، إنه أكثر أقطاب الحضارة العربية تكرسا للمباحث والعلوم العقلية.
ولئن كان البيهقي والشهرزوري ينعتان البيروني بأنه من أجلاء المهندسين، فإنه ليس رياضيا قحا، كسلفه الخوارزمي أو أبي سعيد السجزي أو سواهما، بل يتقاطع مع قطب الرياضيات والفلك قطب آخر، هو التاريخ والحضارات والأنثربولوجيا، ثم ما يستتبع تقاطعهما من مباحث تجريبية أنجز فيها البيروني، هي الجغرافيا والجيولوجيا والمعادن وأيضا الطب والصيدلة. فلا ننسى الطابع الموسوعي للعالم في العصر الوسيط.
الفلك والرياضيات أولا وقبل كل شيء، والتاريخ والحضارة ثانيا، ثم العلوم الطبيعية التجريبية، تلك هي مقاطعات علم البيروني.
وتعلو مدارج السمة العلمية حين يتبدى كيف كان اهتمام البيروني بالمباحث الإنسانية اهتماما علميا خالصا بذلك المفهوم الحديث الذي اتفقنا عليه لمصطلح العلم الذي يفيد علوما إخبارية وصفية وتفسيرية منصبة على ما هو كائن، وعلى الوجود الواقعي المتعين، وليس على ما ينبغي أن يكون، أو على مستويات أخرى من الوجود، بهذا المفهوم كانت عقلية البيروني - على ثرائها وغزارة إنتاجها - عقلية علمية في صلبها وهيكلها، في مبناها وأهدافها. أما الأبعاد الدينية والفلسفية والأدبية
6
التي هي حاضرة عند البيروني، فكانت هوامش لكي يكتمل التشكيل العلمي للعقلية، وروافد تغذيه وتصقله، لا سيما وأن الإطار الثقافي للعصر يفرضها ويستلزمها لكي يكون العالم عالما بحق، والفلسفة بالذات دورها خطير في تعميق العقلية العلمية وفي كل عصر.
وإذ اكتسب البيروني السمة العلمية إلى هذا الحد، فسبيلنا الآن إلى رحلة في عالمه، لنرى هل كان منهجيا وعقلانيا بنفس القدر؟ وإذا أسفرت محصلة بحثنا عن الإيجاب، يغدو من نافلة القول التساؤل عما إذا كانت العقلانية العلمية المنهجية بضاعة غربية، علينا استيرادها وتدجينها، أو ما إذا كانت فلسفة العلم - من ناحية أخرى - في بحثها لهذه المفاهيم ملتزمة فقط بالمعطى العلمي الراهن، وأصوله التي هي أولا وأخيرا غربية.
ثانيا: معالم شخصية علمية
وإن أبا الريحان البيروني لرجل تحنى الهام إجلالا وتكرمة له، لخصلتين دريتين تحققتا فيه بوصفه عالما. الأولى: هي عشقه النزيه للعلم، فقط من أجل العلم، حتى إنه يرفض عطايا السلاطين التي قد تصل إلى حد حمل فيل من الفضة - حسب واقعة يخبرنا بها ياقوت الحموي - إذا كانت هذه العطية مكافأة على إنجاز علمي توصل إليه، معتذرا بأنه «يخدم العلم للعلم لا للمال»
7
والخصلة الثانية هي مدى هذا العشق النزيه للعلم، حتى إن واحدا من رفاقه في الدرس والبحث - ويدعى الولوالجي - قد عاده وهو على فراش الموت، فما كان من البيروني إلا أن غالب حشرجات المنية، وسأله عن إحدى المسائل الرياضية، فقاطعه الصديق مشفقا: أفي تلك الحالة؟ فرد عليه البيروني بقول لعله من أنفذ ما قيل تبتلا إلى رحاب العلم، ألا وهو: «يا هذا، أن أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة خير من أن أخليها وأنا جاهل بها.»
8
فلما تناقش معه الصديق، واطمأن إلى حسمه لتلك المسألة، انصرف من عنده. غير أن الصراخ سبقه للطريق!
على أن «العلم للعلم» عند البيروني قيمة منهجية خالصة، ولا تعني بحال توجها ميتافيزيقيا مجردا، وكأنه مواصل لمثل الإغريق التي مجدت التأمل العقلي الخالص فقط من أجل المتعة العقلية اللائقة بالسادة، بل تعنى فقط أن قيمة العلم لا تحددها أبدا المنفعة العملية؛ لأن المنفعة العملية عنده لا تحدد قيمة أي شيء، فهو يقول في «تحديد نهايات الأماكن»: «الفضيلة الذاتية للشيء غير المنفعة العارضة لأجله.» وعقلية البيروني ذات المنحنى العلمي الواقعي لا تعي ولا تقبل العلم للعلم أو الفن للفن كدوائر مغلقة. العلم عنده ينصب في رافد الحضارة العربية ويخدم القيم الإسلامية واحتياجات المجتمع الإسلامي، وقيم العلم عند البيروني ودوافعه وبواعثه يمكن أن نجدها في تعاليم القرآن الكريم التي تحث على التأمل في السموات والأرض التي خلقها الله بالحق،
9
وكثيرا ما يستشهد البيروني في مقدمات أبحاثه بالآيات الكريمة الدالة على هذا، ولا شك أن البعد الإيماني من العوامل التي زرعت في شخصية البيروني عشقا للعلم، تجسده الأقصوصتان المذكورتان.
وهذا العشق المتأصل للعلم وراءه نبوغ مبكر، يكاد يكون الشيء الوحيد المثبت عن حداثته،
10
فقد ولد البيروني في خوارزم لأسرة فقيرة مغمورة من أصل فارسي، فلا نعلم شيئا عن نشأته إلا شغفه بالعلم وحرصه على تدوين ما يصل إليه من معلومات منذ اليفاعة وبواكير الصبا.
ومن ثم نجده أتقن علوم اللغة العربية، شأن كل أعلام الحضارة الإسلامية التي تتمركز حول محورها الثابت ألا وهو القرآن المبين. أما لغة البيروني الأم؛ أي اللغة الخوارزمية فهي لهجة من لهجات اللغة التركية مطعمة بمفردات كثيرة فارسية، وهي لغة شعبية أو عامية. لم تكن آنذاك من لغات الكتابة والإنتاج العلمي والثقافة. الثقافة آنذاك اقتصرت على اللغة العربية أولا ثم الفارسية، وقد أجاد البيروني كليهما وبلغ فيهما من البلاغة وسلاسة التعبير مبلغا يعز على الأهلين من العرب والفرس، وإخراجه لعلمه «التفهيم لأوائل صناعة التنجيم» باللغتين العربية والفارسية يبين إلى أي حد تملك ناصيتهما وأجادهما، ويشتهر عنه قوله: «إن الهجو بالعربية أحب إلي من المدح بالفارسية.» فيوجه لطمة قوية للنزعات الشعوبية التي حاولت عبثا الإعلاء من شأن الفرس على العرب. فقد دان البيروني بالولاء العظيم والعميق للعروبة.
وعلى هذه الأسس يمكن أن نتفهم نصا بالغ الأهمية والدلالة، قاله البيروني في مقدمة كتابه «الصيدلة في الطب» واستهله بتأكيد أن كل أمة من الأمم - اليونان والعبرانيين والنصارى والهنود والمغاربة ... - موصوفة بالتقدم في علم أو عمل، ثم يقول أبو الريحان:
ديننا والدولة العربية توءمان، يرفرف على أحدهما القوة الإلهية، وعلى الآخر اليد السماوية، وكم احتشد طوائف من التوابع وخاصة منهم الجيل والديلم، في إلباس الدولة جلاليب العجمة، فلم تنفق لهم في المراد سوق، ما دام الأذان يقرع آذانهم كل يوم خمسا، وتقام الصلوات بالقرآن العربي المبين خلف الأئمة صفا صفا، ويخطب به لهم في الجوامع بالإصلاح كانوا كاليدين والفم، وحبل الإسلام غير منفصم وحصنه غير منثلم ، وإلى لسان العربية نقلت العلوم من أقطار العالم وسرت محاسن اللغة منها في الشرايين والأوردة، وإن كانت كل أمة تستحلي لغتها التي ألفتها واعتادتها واستعملتها في مآربها مع آلافها وأشكالها، وأقيس هذا بنفسي وهي مطبوعة على لغة لو خلد بها علم لاستغرب استغراب البعير على الميزاب، والزرافة في المكراب، ثم منتقلة إلى العربية والفارسية، فأنا في كل واحدة دخيل ولها متكلف، والهجو بالعربية أحب إلي من المدح بالفارسية.
11
التسامح والانفتاح على تراث كل الأمم، وراءه إيمان العالم بوحدة العلم وتكامل الجهود في طريقه، ولم يتعارض هذا مع إيمان معتز بالدين الإسلامي، جعله يرفع من شأن العروبة ولغتها الجميلة التي ترجم إليها أسفارا، ثم تعود موضوعية العلم لتؤكد أن كل اللغات سواسية من الناحية الموضوعية، متفاضلة على أسس ذاتية. فينحو على ذاته ويتذكر لغته الخوارزمية - التي هي غريبة ومغتربة عن العلم - لكنه اقتحم لغتي الثقافة؛ أي العربية والفارسية وللأسباب الدينية والحضارية المذكورة تعلو الأولى على الثانية إلى أبعد الحدود.
ثالثا: حصاد وافر
وفضلا عن الخوارزمية والفارسية والعربية التي عشقها، أتقن البيروني أيضا اللغات السنسكريتية والسريانية والعبرية وألم باليونانية.
12
مما يسر له الرجوع إلى المراجع العلمية المنجزة في تلك الحضارات العريقة، متفاديا أخطاء المترجمين غير الملمين بدقائق العلم المتخصصة، وكان هذا من العوامل التي أعطته خلفية علمية مكينة يسرت له الانطلاق بعبقريته.
من هذه العوامل أيضا أنه تراسل مع معاصره الشيخ الرئيس ابن سينا، وتفاعل - بعنف - مع عقليته الموسوعية الثرة، فقد وجدت للشيخ الرئيس أجوبة مسائل سأله عنها أبو الريحان البيروني، وهي تحتوي على أمور مفيدة في الحكمة.
13
لكن النقاش بينهما كان حاد اللهجة حتى عزف ابن سينا عن مواصلته،
14
لكن لا ينفي هذا أن البيروني عرف للفلسفة حق قدرها وعدها من أهم ظواهر المدنية، وأولاها حظا من عنايته، وله فيها إسهام، ولا يحتل البيروني موقعا في تاريخ الفلسفة ولم يعرف كفيلسوف؛ أولا: لأن عقليته أساسا - كما اتفقنا - علمية وموقعه الحق في تاريخ العلم، وثانيا: لأن إسهاماته الفلسفية مفقودة تماما، وأهمها «كتاب في التوسط بين أرسطو طاليس وجالينوس في المحرك الأول» و«رياضة الفكر والعقل»، وعثر أخيرا في إسطنبول على عمل هام له في الفلسفة بعنوان «الشامل في الموجودات المحسوسة والمعقولة»، ولكن لم تثبت بعد نسبته إلى البيروني بصورة قاطعة.
15
ليست كتبه في الفلسفة فقط هي المفقودة، مفقود أيضا بعض من أهم أعماله في عقر داره - أي في الفلك والرياضيات والطبيعيات - من قبيل «البحث عن الآثار العلوية» ومقالة «في صفة أسباب السخونة الموجودة في العالم واختلاف فصول السنة»،
16
وغير هذا كثير مفقود تماما، فقد وضع الرجل ما لا يحصى من الرسائل العلمية القصيرة.
17
وحين وضع البيروني فهرست لأعمال أبي بكر محمد بن زكريا الرازي (+313ه/925م)
18
ذكر معها قائمة من أعماله هو نفسه بلغت مائة وثلاثة عشر عملا، بالإضافة إلى خمسة وعشرين عملا كتبها علي بن العراق، وأبو سهل عيسى بن يحيى المسيحي، وأبو علي الحسن بن علي الجيلي تحت إشرافه، ثم ذكر حاجي خليفة في «كشف الظنون» خمسة عشر عملا آخر للبيروني، لم يذكرها حين ذكر أعماله في فهرست الرازي؛ لأنه أنجزها فيما بعد - أي في الأربعة عشر عاما السابقة على وفاته - وكذلك تم العثور على سبعة مخطوطات أخرى لم تذكرها أي من هذه المصادر، بخلاف أعمال نسبها آخرون أو نسبوا مضمونها للبيروني.
والخلاصة أن أعمال البيروني تبلغ حوالي مئة وثمانين عملا.
19
ويزداد الإعجاب بأبي الريحان حين نجده قد ترك هذا الإنتاج الغزير في حين أنه عاش في عصر اضطراب سياسي شديد، بل واشتغل فيه بالسياسة؛ إذ عمل مستشارا لخوارزم شاه مما جعل حياته بدورها شديدة الاضطراب، فتعرض للأسر والسجن والنفي، وكان على وشك أن يعدم لولا أن شفعت له مؤلفاته، وذلك عندما استولى السلطان الغزنوي محمود بن سبستكين عام (407ه/1017م) على خوارزم التي قضى فيها البيروني نحبه بعد ذلك عام 440ه، وهي تقع الآن على حدود أفغانستان، وكان من العلماء المحتجزين البيروني وأستاذه عبد الصمد الحكيم. قتل محمود الغزنوي عبد الصمد واعتقل البيروني في قلعة غزنة ستة أشهر، ثم أطلق سراحه؛ لأن مؤلفاته جعلته يدرك أنه في حاجة إلى علمه.
20
ومع هذه الأجواء بلغ إنتاجه - كما ذكرنا - نيفا ومائة وسبعين عملا، ولئن ضاع بعضها فليس يصعب تقصي أبعاد المنهج العلمي عند البيروني، ولا يحتاج الأمر إلى إسقاطات أو تعسفيات متربصة دائما بمبحث تاريخ العلوم عند العرب، فما زالت البقية الباقية من الأعمال المحققة والمثبتة للبيروني من الكتب الكبرى أو الرسائل المجمعة (راجع هوامش هذه الدراسة) تمثل رصيدا هائلا للباحثين.
هذا بخلاف ما ينتظر الإثبات والتحقيق من مخطوطات أخرى للبيروني متناثرة في المكتبات الأوروبية، وفي المكتبات الآسيوية التي تتمسك بانتساب البيروني إليها.
فقد ولد في مدينة كاث بخوارزم التابعة الآن لجمهورية أوزبكستان التي أقامت - حين كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي حتى انهياره - في عاصمتها طشقند جامعة أطلقت عليها اسم جامعة البيروني تخليدا لذكراه، كما أطلقت على مدينة كاث اسم مدينة البيروني، وتقع على شاطئ نهر آمو داريا - وهو نهر جيجون القديم - وتبعد حوالي مائتي كيلو متر جنوبي بحيرة آرال.
21
ولكن مسقط الرأس ليس هو دائما دامغ الهوية. فقد عاش البيروني في رحاب الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، وصدق إيمانه بدينها، ودان - كما رأينا - بالولاء العميق لها، وانتمى لزمرة أعلامها، وساهم في مدها العلمي، أخذ منه وأعطاه، وكتب بلسانها وآثره على سواه.
رابعا: منهجية التواصل العلمي
وعلى الرغم من عشق البيروني للغة العربية جاءت كتاباته بعيدة عن الزخرف اللفظي والتنميق بغير داع، ومكسوة مع هذا بمسحة جمالية عذبة، والأهم أنها أنموذج لمنهجية التفكير وتسلسل الأفكار، متحرية الضبط عن طريق استعمال مصطلحات دقيقة أو على الأقل محددة. إنها على الإجمال كتابة علمية لأقصى حد يمكن أن يسمح به العصر الوسيط، خصوصا وأن عالمنا كان يكتب دائما واضعا نصب عينيه أنه عالم متبحر، لا يكتب للدهماء، ولكن لصفوة العلماء، فيتعمد البعد عن الأمثلة التي توضح بقدر ما تبسط وتسطح، يقول البيروني: «إني أخلي تصانيفي من المثالات، ليجتهد الناظر فيها ما أودعته فيها، من كان له دراية واجتهاد وهو محب للعلم، ومن كان من الناس على غير هذه الصفة فلست أبالي فهم أم لم يفهم.»
22
هكذا لم تكن كتابات البيروني سهلة يسيرة المنال، فلم يعرفه العالم الغربي،
23
ولم تنتقل نصوصه إلى أوروبا في عصر انتقال العلم العربي إليها فيما قبل عصر النهضة. عرفه الأوروبيون فقط مع نمو حركة الاستشراق في القرن التاسع عشر، واهتموا به مع تنامي الاهتمام بتاريخ العلوم في القرن العشرين، ويرجع مارتن بلسنر هذا إلى تخوف المترجمين في العصور الوسطى وعصر النهضة من «صعوبة لغة البيروني ومناهجه الدقيقة لمعالجة الموضوعات الواردة في مؤلفاته»
24
ولكن لئن لم تنتقل نصوص البيروني إلى أوروبا آنذاك، فليس يعني هذا أنه ليس له أي دور في التمهيد للنهضة الأوروبية ولحركة العلم الحديث. فلا شك أن للبيروني دورا في هذا، لكن بأسلوب غير مباشر عن طريق التلاميذ
25
والتالين له من أعلام الحضارة العربية، خصوصا في مجال الفلك والرياضيات، الذين ملأت مؤلفاتهم مراكز انتقال العلم العربي إلى أوروبا من قبيل صقلية وأشبيلية وقرطبة.
26
دأب البيروني على جمع «ما للقدماء والمحدثين»
27
من رؤى ونظريات في القضية المطروحة للبحث، خصوصا حين يطرح برهانه الهندسي لا بد وأن يسبقه بالبراهين التي طرحت قبله، ولا يخلو الأمر من مقارنة موضوعية، وكان مولعا بالجدل ونقد العلماء السابقين عليه والمعاصرين له وتبيان أخطائهم وتصحيحها. فهكذا فعل مع الكندي وثابت بن قرة وإبراهيم بن سنان وأبي الحسن البصري، وبطليموس وأرشيمدس وإرازموس ... وغيرهم، كما كان ينقد ويصحح نظريات أصحابها غير معروفين. وديدنه في هذا ألا يعمد أصلا لدراسة موضوع إلا بعد أن يحيط بكل ما كتب عنه، ويقيمه وينقده، ورائده عدم التسليم بأية قضية مهما كانت مشهورة إلا بعد امتحانها وإثبات أنها جديرة بالتسليم، ثم لا يتوانى عن تقدير آراء الغير، وتحري الأمانة في إثبات الفضل لذويه، قائلا أنه تعلم من أساتذته إعمال الرأي والبعد عن التعصب وطلاقة الفكر ليمزج بينها وبين ما أخذه عن أبي نصر - أي الفارابي - «فتكون يقظة العقل ووثبة الذهن وسلامة المنهج».
وبخلاف المعلم الثاني - الفارابي - تأثر البيروني بجالينوس العرب أبي بكر الرازي الذي وضع فهرست لأعماله، حتى وإن كان هذا «محض استجابة لطلب صديق»،
28
فقد مال البيروني لكثير من آراء الرازي الطبيعية المخالفة للمشائية الأرسطية السائدة في الثقافة الإسلامية، ولعل الرازي هو الذي ألقى في روع البيروني قيمة تاريخ الشعوب وعقائدهم، فقد أكد على أهمية هذه الدراسات، وبصفة خاصة فإن نزعة الرازي العلمية العقلانية التجريبية، وتأكيده لمعقولية الطبيعة واعتبار العقل جوهر الإنسان على الأصالة وأنه الحاكم في الكون ومجعول للمعرفة،
29
وتنبيهه إلى ضرورة التجريب الواعي وتحصيل المعارف السابقة عن الأقدمين، وامتحانها إذا لزم الأمر، وتعديلها إذا حكمت الخبرة والتجربة.
30
كل هذه الخطوط تنعكس بوضوح في منهجية البيروني.
ولكن البيروني ذا الإيمان الصادق العميق كان لا بد وأن يلوم الرازي لما عرف عنه أو نسب إليه من شطحات حرانية وهرمسية، وقوله بالقدماء الخمسة وإنكار النبوة ... وما إليه من أراجيف جعلته يلقب بالملحد الأكبر ... هذا ما جعل الباحثين يختلفون بشأن موقف البيروني من الرازي هل يدينه أم يدين له؟، ونحن نرى أن البيروني على الرغم من كل ما وجهه للرازي من نقد ومن تبكيت، فإنه قد أدان فقط شطحاته، ونميل إلى رأي ريتشارد والزر الذي أكد أن البيروني حمل للرازي - كعالم وكفيلسوف - تقديرا فريدا
31
إنه متواصل معه، سائر في طريقه العلمي والمنهجي.
خامسا: منهاج علمي للدرس والتحصيل
هكذا نلاحظ أن البيروني تأثر بالفارابي وبالرازي وابن سينا الذي يصغره في السن وفي العبقرية العلمية، كما أكد دي بور (راجع الهامش 24) ... تأثر أيضا بالكندي والمسعودي والفلكي الهندي فاراهميرا وسواهم ممن سبقوه ...
أما إذا يممنا الأبصار شطر المستقبل، فلن تدهشنا نقاط التقاء بين البيروني وبين كارل بوبر
K. Popper (1902-1994) شيخ فلاسفة المنهج في القرن العشرين والذي خرجت من أعطافه كل خطوط فلسفة العلم الراهنة، وكانت أهم منطلقات فلسفة بوبر أن الملاحظة تالية على الفرض العلمي، أما البدء بالملاحظة فلا يفضي إلى شيء، وهذه قضية مأخوذ بها الآن. لكن كان لا بد وأن يجيب بوبر على السؤال: ما هي نقطة البدء إذن - أو ما هي المرحلة الأولى - للبحث العلمي ؟
واجتهد بوبر في تأكيد أن البداية المثمرة للبحث العلمي إنما هي بصياغة المشكلة المطروحة للبحث وتحديدها
32
وفي فاتحة كتاب «الآثار الباقية عن القرون الخالية» يقول البيروني:
سألني أحد الأدباء عن التواريخ التي تستعملها الأمم والاختلاف الواقع في الأصول التي هي مبادئها، والفروع التي هي شهورها وسنوها، والأسباب الداعية إلى أهلها إلى ذلك، وعن الأعياد المشهورة والأيام المذكورة للأوقات والأعمال، وغيرها مما يعمل عليه بعض الأمم دون بعض.
33
تلك هي المشكلة المطروحة للبحث، وبعد صياغتها بوضوح يطرح البيروني أسلوب تناولها أو منهاج بحثها عبر خطوط ثلاثة - أكدها بوبر وسواه من فلاسفة المنهج العلمي - وهي التعقيل والتجريب، ثم الحصيلة المعرفية التي تكفل تواصل الجهود والطابع الجمعي التراكمي للبحث العلمي. فبين البيروني: «أن الاستدلال بالمعقولات والقياس بما يشاهد من المحسوسات»
34 - وذلك أمر ضروري - لا يغني عن الاطلاع على كتب السابقين، وأصحاب الآراء وأهل الملل والنحل المستعملين لذلك و«تصيير ما هم فيه أسا يبنى عليه»
35
ونلاحظ أنه بالنسبة للمشكلة المطروحة للبحث فإن «ما هم فيه» رصيد معرفي سابق، ومن ناحية أخرى معطيات تجريبية عن موضوع البحث.
ثم يستأنف البيروني حديثه، ملما بقيم البحث المنهجي ونواميسه فيقول بشأن مسار البحث العلمي المقبل: «ثم قياس أقاويلهم وآرائهم في إثبات ذلك بعضها ببعض، بعد تنزيه النفس عن العوارض المردئة لأكثر الخلق والأسباب المعمية لصاحبها عن الحق، وهي كالعادة المألوفة والتعصب والتظافر واتباع الهوى والتغالب بالرئاسة، وأشباه ذلك.»
36
وبغير هذا الطريق لا يتأتى لنا نيل المطلوب ولو بعد العناء الشديد والجهد الجهيد بتعبيره، ثم يسرف في إيضاح الصعوبات التي تكبدها وهو يتحرى هذه القواعد المنهجية والجهود المضنية التي بذلها لتمحيص الأخبار المتضاربة ونفي الزائف منها.
فمن أجمل ما في البيروني أنه لم يقع في الهاوية التي وقع فيها ديكارت أو ابن خلدون مثلا، أولئك الذين تأتي مناهجهم في واد وأبحاثهم ذاتها في واد آخر. بل جاءت أبحاث البيروني خير تطبيق لمناهجه، فارتد هذا في قيمتها التي ساهمت في دفع حركة العلم إبان عصرها.
وقد وضع البيروني كتابه المذكور «الآثار الباقية عن القرون الخالية» في عام (390-391ه)، وهو في السابعة والعشرين من عمره ليحمل حماسة الشباب ورصانة العقلية المنهجية في آن واحد، وانصب موضوعه - كما أشرنا - على دراسة التقاويم عند الأمم القديمة، مركزا على قوانين بطليموس ومواصلا مساره، وكما أوضح مارتن بلسنر وهذا الكتاب أول عمل في الفكر العالمي يتضمن دراسة وصفية لحقب مختلفة من التقويم،
37
ولكن تطرق البيروني إلى الأعياد الدينية والأيام المشهورة، مما جعل الكتاب يحمل - بخلاف مضمونه الفلكي الهندسي - كنزا مذخورا في تاريخ وحضارات الشعوب الشرقية وأديانها ومأثوراتها، وكان هذا معهودا دائما من عالمنا.
وإذا كنا باحثين عن المنهج كتمثيل للعقلية العلمية فسوف يتقدم كتاب «الجماهر معرفة الجواهر» على سائر أعمال البيروني؛ لأنه تجسيد لمدى السير قدما نحو اكتساب السمة العلمية، بالتالي المنهجية التي طبعت عقلية البيروني.
ليس هذا الكتاب فتحا جديدا في ميادين البحث؛ لأن التأليف في الجواهر أمر شائع في الحضارة الإسلامية والحضارات القديمة إجمالا، وثمة أعمال سبقت البيروني أهمها: «في الجواهر والأشباه» للكندي، ومقال لنصر بن يعقوب الدينوري، وأخرى مفقودة لأبي بكر الرازي، وباستثناءات قليلة نجد أن أغلب الأعمال الجمة في هذا تهتم أساسا بالقوى السحرية التي تنسب للأحجار الكريمة، فتكون مجالا تتكاثر فيه الأساطير الخرافية بشأن قدرات الجواهر وفعالياتها التي تستمد منها القيمة العالية والثمن الغالي؛ لذلك يحمد اتجاه البيروني العلمي، وهو يبحث في الجواهر كمحض موجودات فيزيقية، ويتجاهل تماما أية قوى سحرية لها، ويكرس جهوده لتوصيف عقلاني لأسمائها وأنواعها وأوزانها وقيمتها التجارية وأماكن توافرها ...
بادئ ذي بدء يجري البيروني على ديدنه المنهجي، ويبدأ بصياغة المشكلة المطروحة للبحث بوضوح، فيقول: «نريد الآن أن نخوض في تعديد الجواهر والأعلاق النفيسة المذخورة في الخزائن، ونفرد لها مقالة، تتلوها ثانية في أثمان المثمنات وما يجانسها من الفلزات، فكلاهما رضيعا لبان في بطن الأم، وفرسا رهان في الزينة والنفع.»
38
وبهذا التساوق التام بين الجواهر والفلزات لن تزيد عن كونها جوامد/موجودات جيولوجية تخلقت في القشرة الأرضية - بطن الأم - ثم كان فيها منافع للإنسان.
فينقسم متن الكتاب - بعد تمهيد ذي طابع أدبي - إلى مقالتين: الأولى: في الجواهر، والثانية: في الفلزات.
39
في الجواهر بحث البيروني الياقوت وأشباه اليواقيت منها اللعل والبيجاذي والماس، والسنباذج الذي يعاون الماس في الصلابة والحك والجلاء.
40
واللؤلؤ والمرجان، والزمرد وأصنافه ، والفيروز، والعقيق، والجزع، البلور والبسد، اللازورد، الجمست، الدهنج، اليشم ...
وينتهي إلى ذكر الكهربا والمغناطيس ... وأنواع أخرى من الأحجار نصف الكريمة حتى يتطرق إلى الأنواع الجيدة من الخرز ويختتم الحديث بالبرد والزجاج والمينا.
أما عن الفلزات فقد استهلها بالزئبق،
41
ثم الذهب والفضة والحديد والأسرب ... وتحدث عن المركبات أو «الشبه المعمولات والممزوجات بالصنعة»
42
والشبه نحاس أصفر بإطعام التوتيا المدبر بالحلاوات وغيرها حتى أشبه بالذهب، ويستفيض في ذكر أساليب تجريبية دقيقة،
43
وينهي الفلزات بالأسفيروري والبتروي والطاليقون
44 ... وبالكتاب ملحق لتبيان مناجم الجواهر والفلزات ... وهكذا في مجال خصيب للخرافة، نجد بحثا مهما كانت درجة قصوره المعلوماتي أو ضآلة رصيده المعرفي بحكم زمانه، فإنه لا يوسم إلا بالسمة العقلانية العلمية كمنهاجية تحتذى.
ومما يؤكدها أكثر، أن العنوان الوحيد اللامعقول في الكتاب هو «الحجر الجالب للمطر».
45
ذكره أبو بكر محمد بن زكريا الرازي في كتابه «الخواص» وهو حجر بأرض الترك، من شأن تحريكه أن ينزل المطر الدافق، وينقل البيروني تفاصيل ذلك عن ابن زكريا الرازي، معقبا بقوله: «وليس ابن زكريا يختص بهذه الحكاية، إنما هي كالشيء الذي لا يختلف فيه.»
46
ولكن العقلانية العلمية التجريبية المتمكنة من عقل البيروني تجعله ما يذكر هذا إلا ليستنكره أشد الاستنكار، ويدحضه بسلاح المنهج العلمي: العقل والتجريب. فيقول: «إن أحد الأتراك حمل إليه شيئا من هذا الحجر، ظن أني أتبجج بها أو أقبلها ولا أناقش فيها، فقلت له: «جئني بها مطر في غير أوانه أو في أوقات مختلفة بإرادتي، وإن كان في أوانه حتى آخذه منك وأوصلك إلى ما تؤمله مني وأزيد.» ففعل ما حكيت من غمس الأحجار في الماء ورمى نقيعها إلى السماء مع همهمة وصياح، ولم ينفذ له من المطر ولا قطر سوى الماء المرمي لما نزل، وأعجب من ذلك أن الحديث به يستفيض في طباع الخاصة فضلا عن العامة، منطبع يلاحون فيه من غير تحقق.»
47
هكذا يندهش البيروني من قبول الخاصة قبل العامة لقضية يرفضها المنطق وتدحضها التجربة، ولا غرو أن يخرج من هذا بقصر تفسير الظاهرة الطبيعية على العوامل الطبيعية. «فقلت لهم: النظر في هذا (أي في أسباب سقوط الأمطار) من أوضاع الجبال ومهاب الرياح وممار السحاب من عند البحار.»
48
إنها الخطوط الأولية التي تمثل صلب المنهج العلمي: الرفض المبدئي لما يناقض العقل، البحث عن التحقق، والتفكير المنطقي ثم الاحتكام إلى التجربة لدحض الرأي الفاسد، وأخيرا تفسير الظاهرة الطبيعية فقط بالعوامل الطبيعية، لقد تلاقت هذه الخطوط في مجال أثير للخرافة.
سادسا: والمنهج التجريبي يتقدم
غني عن الذكر إذن أن البيروني جعل التجريب من عمد البحث العلمي، ومارسه متحريا الضبط عن طريق الآلات الدقيقة قدر المستطاع آنذاك، فلو لم يفعل لما أصبح عالما طبيعيا مذكورا، فاهتم بتحري المشاهدة والاستقراء والرصد والتتبع، ورأى «أن العلم اليقيني لا يحصل إلا من إحساسات يؤلف بينها العقل علي نمط منطقي.»
49
وكثيرا ما يقول: «لم تسكن نفسي إلى غير المشاهدة.»
50
ويأنف ممن يخوضون في هذه المجالات بغير تجريب، فيرفض رأيا في الفلزات قائلا باستنكار: «إنه كلام من ليس له بصر بمزاولة الفلزات وصنعة الأشخاص العظام.»
51
فلا قائله زاول - أي مارس وجرب - ولا هو ذو علم بتجارب الرواد العظماء في مجال الفلزات، بالمثل اختتم كتابه عن الأسطرلاب، بقول يكرره، وهو إلى التجربة يلتجأ في مثل هذه الأشياء، وعلى الامتحان فيها يعول، ما التوفيق إلا من الله العزيز الحكيم.
ولئن كانت التجريبية كمنهاج علمي هي الالتجاء المنظم لخبرة الحواس، خصوصا البصر والسمع، في إطار التآزر والتفاعل بين العقل والحواس، فليس جزافا أن يستهل البيروني كتابه العلمي الأصيل (الجماهر ...) بأن الله أنعم على مخلوقاته بالحواس التي تنقل معطيات العالم الخارجي - عبر الهواء بتعبيره - ولكن نوع الإنسان قد فضل على الحيوان بأن زيد على الحواس بما شرف من قوة العقل، ثم يقول البيروني: «أفرد من حواسه اثنتان هما السمع والبصر، فجعلتا مراقي من المحسوسات إلى المعقولات.»
52
وبإدراك نافذ لفعاليات العقل المنهجية يستأنف البيروني قائلا: «إن كان الإنسان تصرف فيها بأفكاره واستنباطاته حتى بلغ بمحسوساتها إلى أقصى غاياتها.»
53
إننا إذن بإزاء الإرهاص التاريخي للصياغة المعاصرة للمنهج التجريبي العلمي فيما يعرف بالمنهج الفرضي الاستنباطي الذي يقوم على وضع الفرض العلمي، ثم استنباط القضايا الجزئية منه لمواجهتها بوقائع التجريب؛ أي لاختبار الفرض إمبيريقيا، حوار الفرض والإمبيريقيات هما صلب المنهج العلمي التجريبي.
وتتبدى أمامنا إمبيريقية البيروني، وهو يحدد الثقل النوعي - أي الكثافة - لثمانية عشر عنصرا ومركبا، بعضها من الأحجار الكريمة، وقد أورد ألدو ميلي
Aldo Mielle
في كتابه الشهير - المترجم إلى العربية - «العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي» قائمة وضعها
E. Wiedemann
تقارن قيم الكثافة التي وصل إليها البيروني بالتقديرات الحديثة، لتوضح كيف كانت الفوارق طفيفة للغاية،
54
أجرى البيروني تجاربه تبعا لقاعدة «أرخميدس»، بتعبيره، واصطنع وعاء مخروطيا مصبه متجه إلى أسفل في اتجاه قنينة لتجمع الماء الساقط من الوعاء المخروطي، ثم يزن البيروني الجسم بعناية، ويضعه في الوعاء، ثم يزن الماء الذي أزاحه الجسم وتساقط في القنينة، وبالعلاقة بين الوزنين يخرج بالثقل النوعي أو الكثافة المطلوبة، وهذه الفكرة على بساطتها يراها كاجوري في كتابه «تاريخ علم الطبيعة» من خطى التقدم في التجريب المعملي.
55
وفي هذا الصدد نذكر أيضا محاولات البيروني الإمبريقية لوضع توصيفات وتفسيرات علمية لكيفية صعود مياه النافورات والفورات والعيون إلى أعلى، وبحث أثر الخلاء والظواهر التي تتعلق بحركة السوائل وتوازنها مهيبا بمن: «يزاولون العلوم الطبيعية» أن يأخذوا «بالأسباب الطبيعية».
56
أما عن الفرض العلمي فلنذكر كيف أكد بوبر أنه ليس ثمة طريق ملكي مضمون للنجاح والإنجاز في العلم؛ لأن الفرض العلمي إبداع يأتي من إلهام العبقرية العلمية، حين يقدح العالم زنادها مستعينا بالحصيلة المعرفية السابقة، إن الفرض وحي وإلهام خطر برأس العالم، سوف يختبر تجريبيا ليقبل أو يرفض، لكن الطريق إلى الفرض ليس له قواعد ميثودولوجية ربما يفهمه علم نفس الإبداع، لا المنطق.
57
هذه القاعدة الميثودولوجية/السيكولوجية المقرة بضرورة عنصر الإلهام الذي لا نعرف له سبيلا منطقيا محددا، سبق أن تراءت ظلالها للبيروني منذ عشرة قرون، وحاول التعبير عنها.
لكن تعبير البيروني جاء مشبعا بعبق الإيمان الذي استقاه من نشأته تحت ظلال الحضارة الإسلامية؛ إذ يقول: «إن النجاح والتوفيق موهبة من عند الله .» وأردف مؤكدا على ضرورة الرجوع إلى المراجع العلمية السابقة، حتى إن تطلب هذا إتقان اللغات الأخرى، تماما كما أكد بوبر على ضرورة الإلمام بالحصيلة المعرفية السابقة، وضرورة أن يستفيد الباحث من جهود سابقيه، كي يمثل إضافة حقيقية بدلا من أن يهدر جهوده في محاولة شق طريق كان قد قطع، فالسمة الأساسية للبحث العلمي أنه نشاط جمعي متصل.
كما كان البيروني يدعو إلى ضرورة المواظبة على ممارسة البحث العلمي بغير كلل ولا ملل، لكي نصل إلى ما يمكن أن نسميه - بالتعبير المعاصر - العمل على رفع احتمالية النظرية، ويؤكد البيروني على هذا بحثه العلماء على التشكك في نتائجهم المرة تلو المرة، حتى يرفعونها إلى أعلى درجة ممكنة من الدقة واليقين.
سابعا: المنهج العلمي في التأريخ
وهذا النابغة الذي جعلته روحه العلمية الأصيلة ميثودولوجيا ذا اعتبار، قد تنبه إلى أن علم التاريخ ذو طبيعة مختلفة عن طبيعة العلوم التجريبية؛ لذا فالمنهج السالف لا يصلح له.
ومن ثم انشغل البيروني بمشكلة المنهج الخاص بعلم التاريخ، فتصدر الطليعة من المفكرين المنهجيين المعنيين بعلمنة هذا المبحث، أو من مؤسسي علم التاريخ. لقد ظل التاريخ أمدا طويلا فنا لا علما، أقاصيص وحكايات شيقة، معقولة أو لا معقولة، واقعية أو يمتزج بها الخيال، على الإجمال تنتسب إلى فنون الأدب أكثر مما تنتمي للدراسات المنهجية أو المباحث العلمية، وكدأب الباحثين الأوروبيين في الزعم بأن الغرب هو فاعل كل فعل حضاري، ورائد كل إنجاز عقلاني، راحوا يدعون أن علمنة التاريخ - خصوصا من حيث المنظور النقدي الساعي إلى تمحيص الحقائق - تمت فقط على أيديهم،
58
وبالتحديد في القرن التاسع عشر مع رانكة
Ranke (1795-1886) الذي ظل أستاذا للتاريخ بجامعة برلين خمسين عاما. ففي كتابه «التاريخ الألماني في عصر الإصلاح» الذي أنجزه فيما بين عامي (1839-1847)
59
تبلورت منهاجية التعامل النقدي مع الرواية التاريخية الذي بلغ حد الهجوم عليها، بمعنى تمحيصها بدقة ليسفر البحث التاريخي عن معرفة كنهها الحقيقي، وكيف كانت بالفعل
Wie es eigentlich gewesen .
60
ولكن قبل رانكة بثمانية قرون، عالج البيروني منهاج التأريخ من جانبين الأول سلبي والثاني إيجابي - كما أوضح الباحث د. عادل محيي شهاب.
61
الجانب السلبي من المنهج التاريخي عند البيروني يحمل خطوط نظرية رانكة المذكورة، فهو منهج نقدي ساع إلى تطهير الروايات التاريخية من الأساطير والخرافات التي تلحق بها، وذلك بأن نرفضها لزيفها الظاهر، ونرفض الروايات غير الصحيحة، كي نستبدل بها الصحيح، وبسبب من شريعة التحكيم النقدي العقلاني هذه رفض البيروني تماما - على خلاف جمهرة مؤرخي الإسلام - أي حديث عن بدء الخلق والقرون المبكرة؛ لاختلاط هذه الأحاديث بالخزعبلات. فهو يرفض أصلا التسليم بأي خبر إلا بعد التأكد من صحته عن طريق المشاهدة أو العيان، أو التثبت من الصدق التاريخي - أي من مطابقة الخبر للوقائع - وهذا يتم بالاعتماد على العقل وحده، أو التسلح بمنهج المقارنة بين الأخبار لإثبات الأصلح
62
ولهذه المنهجية النقدية المحكمة أجمع الباحثون على أن البيروني ناقد تاريخي ممتاز.
أما الجانب الثاني من المنهج التاريخي - الجانب الإيجابي - فهو يضع أسس البحث التاريخي من حيث تحديد المواصفات التي يجب أن تتوافر في المؤرخ، وفضلا عن استيفاء الحاسة النقدية، نجد هذه المواصفات هي: الثقافة الشاملة والأمانة والنزاهة وعدم التحيز، والصبر والجلد والشجاعة، فلا يخاف في قولة الحق لومة لائم، ثم الموضوعية، وهي أهم الصفات قاطبة؛ لأن الوقوع في براثن الذاتية من تعصب وميل وهوى ومصالح شخصية هي أخطر آفات البحث العلمي عامة والتاريخي خاصة.
63
رائع هو البيروني، حين يحذر تحذيرا شديد اللهجة من التعصب، وعرقلته لأصوليات البحث العلمي والعقلاني، لا سيما في المباحث الإنسانية فيقول: «إن العصبية تعمي الأعين البواصر وتصم الآذان السوامع، وتدعو إلى ارتكاب ما لا تسامح باعتقاده العقول.»
64
وكانت عقلية البيروني نفسه - كما رأينا - أقوى تمثيل للبعد عن التعصب كقيمة منهجية وشريعة علمية، فانفتح على تراث الحضارات الأخرى واستطاع أن يقوم «بتركيب عظيم لعلوم الحضارات السابقة على الإسلام وتطويرها في خطوط الروح الإسلامية.»
65
وكان هذا من العوامل التي جعلت إنتاجه العلمي مؤشرا شديد الدلالة على تقدم وسيرورة البحث العلمي في عصره.
وما ذكرناه آنفا من تأكيد البيروني على ضرورة الرجوع للمراجع والتسلح بالمعرفة يبرز ها هنا مجددا؛ إذ نراه يهيب بالمؤرخين أن يتقنوا العلوم المساعدة للبحث التاريخي، وهي اللغة والأدب ثم حساب التقاويم الذي برع فيه البيروني والجغرافيا والجيولوجيا، مع الإلمام بالمنطق والفلسفة والقانون أو الشريعة والشرائع، ويبدو البيروني في دعوته هذه متأثرا بموسوعية عصره.
كما تناول أبو الريحان مشكلة منهجية معينة خاصة بالبحث التاريخي، هي مشكلة جمع المادة التاريخية وما يكتنفها من صعاب وما تحتاجه من جهد جهيد، وعمل على إيضاح معايير صحتها وسبل الاستدلال السليم منها والتثبت من خلوها من التناقض، وفي هذا يؤكد تأكيدا مكثفا - مرة أخرى - على ضرورة الالتزام التام بالموضوعية في تدوين التاريخ.
66
بهذه الأسس المنهجية تمت علمنة التاريخ، وتأكدت في مقدمة ابن خلدون بعد هذا بثلاثة قرون، فأصبح التاريخ علما - قبل رانكة وهورنشيو وسواهما - لكنه علم نقد وتحقيق، وليس علم تجريب.
إذن الوعي المنهجي الناضج عند البيروني يتبين تنوع مناهج المعرفة تبعا لاختلاف المجالات، ويردف هذا بالجهود الرصينة حول المنهج الخاص بكل مبحث، فضلا عن تطبيقه المتدفق لهذه المناهج المضمرة في أبحاثه، وقبل أن ننتقل لتطبيقات مناهجه التاريخية نتوقف مليا عند وعي البيروني الباكر بتعدد المناهج لنقارن هذا بتطور المباحث التاريخية في القرن التاسع عشر على خطوط مستقاة من تطور العلوم الطبيعية، واصل هذا الاتجاه نماءه حتى بلغ طريقا مسدودا، انعكس في التخلف النسبي للعلوم الإنسانية بسبب إغفال الفوارق بين الظاهرة الإنسانية التاريخية والظاهرة الطبيعية، وهنا تبرز الأمة الألمانية مجددا مع مدرسة فيلهلم فندلباند
W. Windelband (1848-1915) وهنريش ريخرت
H. Richert (1863-1936) اللذين تأثرا بصياغة دلتاي (1838-1911) للإشكالية.
67
وبفضل هذه المدرسة كف التاريخ عن محاكاة الفيزياء، وانفصل البحث التاريخي عن البحث الطبيعي، وتعد محاضرة ريخرت الشهيرة عام 1894 علم الحضارة وعلم الطبيعة
Kulturwissenschaft und Naturwissenschaft
68
من المعالم البارزة في هذا المنحى للدراسات التاريخية.
ثامنا: منهاج وتطبيق
نعود إلى البيروني والأسس المنهجية التي أرساها لعلم التاريخ ... الحاسة النقدية ... القدرة على الرؤية الشمولية، الاحتكام المتكرر للتعقيل والعقلانية ... هذه الأسس والأبعاد المنهجية انعكست متجلية في تأريخات البيروني ومباحثه الحضارية، فتجاوز مجال التاريخ وكان أيضا في طليعة الأنثربولوجيين ودارسي الحضارات ومؤسسي علم الأديان المقارن.
هذا العلم الأخير تضيق به ذرعا، بل توصد في وجهه أبواب البيئات الحضارية المغلقة والمتزمتة؛ لأنه قد يفتح بابا لأنسنة التجربة الدينية، وبالتالي التجديف والهرطقة. هذا على الرغم من الرؤى الكشفية العميقة التي يتيحها هذا المبحث بشأن تطور الوعي وأصول التجربة الدينية، إن التزم الحدود العلمية والموضوعية، ومما يعطي مؤشرا بالغ الدلالة على مدى تفتح وازدهار وتسامح البيئة الحضارية الإسلامية هي أنها أفسحت المجال لعلم الأديان المقارن. فقد أشار ابن المسعودي إلى شغف أبي بكر الرازي بطبائع البشر في ماضيهم وحاضرهم والتحري عن معتقداتهم ومذاهبهم،
69
لنتذكر إصرارنا على تأثر البيروني به، ثمة أيضا ابن حزم الأندلسي وكتاب عبد الكريم الشهرستاني. «الملل والنحل» ذائع الصيت.
ولكن كتاب البيروني «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»
70
ذو مكانة فريدة تجعل البيروني بحق مؤسس علم الأديان المقارن، حتى يندهش «إدوارد ساخاو» من كل تلك الموضوعية التي يتحلى بها عالم مسلم وهو يبحث في العقائد الوثنية وتاريخها، خصوصا وأن هذا الكتاب يسبق كتاب الشهرستاني، ثم إنه لا يقتصر على الملل والنحل، فهو دراسة منهجية فذة بقدر ما هي شاملة.
أشرنا فيما سبق لقدرة البيروني على تأليف عظيم بين تراث الحضارات المختلفة العبرانيين والنصارى، المسلمين، اليونان والمغاربة، الفرس والهنود ... ولأن البيروني ممثل لمسار التقدم العلمي في عصره، فليست قصة العلم إذن خطا مستقيما من اليونان إلى غرب أوروبا، بل هي ميراث أمم شتى. طبعا كان البيروني عميق الاستيعاب لتراث الإغريق، ولكن ما يؤكد عالمية العلم أن الهند التي كانت فاتحة اتصال العرب بالرياضيات والفلك منذ القرن الثاني الهجري، كانت أيضا الرافد الدافق الذي ساهم بقوة في تشكيل عقلية البيروني، فقد مكث فيها سنينا طويلة مصاحبا للسلطان مسعود الغزنوي، وكان على خلاف أبيه محمود الغزنوي الذي أسر العلماء، ومن بينهم البيروني - كما ذكرنا - ولما توفي محمود وتولى ابنه مسعود دعم حكم الإسلام للهند، ودأب مسعود على تكريم وتقريب العلماء عموما، والبيروني خصوصا، فاصطحبه ثلاث عشرة مرة في فتوحاته السبعة عشر للهند. فعمل البيروني طوال هذا على نقل علوم الإسلام والإغريق للهند، وإتقان لغة الهنود السنسكريتية واستيعاب العلوم الهندية ونقل صورة علمية دقيقة عن الهند للمسلمين، في مؤلفات متعددة.
درة حصائل هذا كتابه المذكور «تحقيق ما للهند من مقولة» فقد تعمق في وصف الهند، ليس فقط أرضها ومناخها ومعالمها الجغرافية، بل شمل بالدراسة عادات الهنود وأديانهم - خصوصا عقيدة التناسخ - وشرائعهم وأساطيرهم، ونظام الطبقات الاجتماعية وأزياءهم وأخلاقهم وأنشطتهم الاقتصادية، أنواع الخط وطرق الكتابة والنحو والشعر، الأدب والفنون والحساب والعلوم، ثم علم الفلك عند الهنود والزيج والتقاويم والتنجيم ... فيشبه أحمد أمين هذا بجهود جمعية العلماء الفرنسيين الذين صاحبوا حملة نابليون وأخرجوا موسوعة وصف مصر، على أن البيروني - بتعبير أحمد أمين - كان جمعية وحده. أما مؤرخ العلم المتميز ج. برنال فيشير إلى أن منهج البيروني الاستقصائي في هذه الدراسة لم يبار إلا في القرن التاسع عشر.
71
وحتى الآن ما زال هذا الكتاب خير المراجع بشأن الهند القديمة.
وبخلاف هذا، ثمة مترجمات أيضا عن السنسكريتية قام بها. يقول البيروني: «نقلت إلى العرب كتابين؛ أحدهما في المبادئ وصفة الموجودات واسمه «سنك»، والآخر في تخليص النفس من رباط البدن ويعرف ب «باتانجل»، وفيها أكثر الأصول التي عليها مدار اعتقادهم، به فروع شرائعهم.»
72
الأول مفقود، لكن الثاني «باتانجل» - الذي حققه المستشرق ريتر - يحمل خلاصة مذهب اليوجا وفلسفة الهند الصوفية.
ومن ناحية أخرى نقل البيروني إلى اللغة السنسكريتية أعمالا أهمها المجسطي لبطليموس، وإن كانت هذه الترجمة المثبتة في عداد أعماله المفقودة.
73
هكذا كان البيروني بؤرة استقطاب لخطوط العلم المختلفة يأخذ ويعطي في أكثر من اتجاه تأكيدا لعالمية العلم.
ومثلما تكاملت دراسة البيروني العلمية للتاريخ والحضارة منهجيا بالجانب السلبي والجانب الإيجابي، فإنها تكاملت أيضا موضوعيا، وذلك لعنايته بالعلوم التجريبية المساعدة، فليس ينفصل عن التاريخ اهتمام البيروني بالجغرافيا وطرق رسم الخرائط وتحديد المسافات بين البلدان، ودفعه هذا إلى الاهتمام بالجيولوجيا والتكوين الطبقي للصخور والأنهار، وذلك في كتابه «تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن»، ورسالتيه «تصحيح خطوط الطول والعرض لساكن المعمور من الأرض» و «أطوال البلاد وعرضها»، حيث نجد نظريات رائدة عن حدوث التطورات الأرضية البطيئة، وما ينتج عنها من انتقال للعمران من موضع إلى آخر. تكلم أيضا عن الثورات الجيولوجية التي كانت تنتاب القشرة الأرضية وما كانت تحدثه فيها من التواءات وارتفاعات وانخفاضات، مما أدى إلى تكون سلاسل من الجبال، ومساحات المياه التي تنحسر وتتحول إلى يابسة «فهذه بادية العرب كانت بحرا، فانكبس حتى إن أثر ذلك ظاهر عند حفر الآبار والحياض.» ويجمل بنا الآن أن نعود مجددا إلى المنهج التجريبي، فمن هذه الإشارة البسيطة للبيروني يتضح كيف تآزر الفرض العقلي والاستنباط مع المشاهدة الحسية.
74
في هذه الدوائر المتداخلة نذكر أيضا آخر أعمال البيروني، الذي كتبه في أخريات العقد الثامن من عمره، فجاء مشبعا بخبرة السنين، وهو متعلق بشكل ما بالإنسان في مبحث إخباري قد يعوز المنهج التجريبي، لكنه شمل أيضا جهدا تأريخيا «تاريخ علم العقاقير» - الفار ماكولوجي - إنه كتاب البيروني «الصيدنة» أو «الصيدلة في الطب».
75
وقيل إن الصيدلة أفضل من الصيدنة؛ لأن الصيدلي باللام هو مزاول الأدوية، أما الصيدني بالنون فهو مزاول العطور، والصيدلي عند البيروني - كما يقول في مقدمة الكتاب - هو المحترف جمع الأدوية على أحمد صورها، واختيار الأجود من أنواعها مفردة ومركبة على أفضل التراكيب التي خلدها مبرزو أهل الطب.
76
وهكذا استقصى البيروني في هذا الكتاب - كما يقول ابن أبي أصيبعة - معرفة ماهيات الأدوية ومعرفة أسمائها واختلاف آراء المتقدمين، وما تكلم كل واحد من الأطباء وغيرهم فيه، وقد رتبه على حروف المعجم.
77
لقد استقصى البيروني في هذا الكتاب «تراث العرب» بالمفهوم الحضاري الشامل للعلم العربي المستوعب لكل الدوائر الحضارية التي دخلت في الإسلام، وهو مفهوم يصدق عليه البيروني قبل سواه - كما رأينا في دفاعه عن العروبة - وتراث العرب ذو شأن في تاريخ علم العقاقير.
78
فمن ناحية ثمة البيئة الطبيعية للمنطقة التي تجعلها غنية بالأعشاب الطبيعية الطبية، ومن الناحية الأخرى - والأهم - ثمة النهضة الثقافية العظيمة والتطور الاجتماعي والعلمي مما جعل العرب وخصوصا الرازي بكتابه «الحاوي» يبدعون كثيرا من تراكيب الأدوية
79
ها هنا يبدو مجددا تأثر البيروني به، وقبيل أوبتنا إلى البيروني نذكر ما تجمع عليه مراجع تاريخ العقاقير وعلوم الأدوية من أن الصيدلية كمؤسسة قائمة بذاتها ظهرت لأول مرة في بغداد.
80
وبقيت الإشارة إلى أن البيروني في هذا الكتاب اعتبر الصيدلة صناعة منفصلة عن صناعة الطب. إنها آلته، وانفصالها عنه كانفصال المنطق - آلة الفلسفة - عنها، وانفصال العروض - آلة الشعر - عنه.
81
إنها المنهجية المتمكنة من عقلية البيروني.
تاسعا: إنها الرياضيات والهيئة
والآن لا ينبغي أن تدهشنا كل هذه المنهجية المتجذرة في حنايا إنتاج البيروني فالأمر ببساطة - كما قال ساخاو - أنه درس كل تلك المواضيع بعقل دربته الرياضيات التي تظل دائما - في كل عصر ومصر - أرقى أشكال التفكير المنطقي الممنهج.
إن البيروني - كما صدرنا الحديث، أولا وقبل كل شيء - عالم رياضيات وفلك وها هنا مجمر عبقريته الحقيقية، وبخلاف دراساته التاريخية والحضارية التي تهم المعنيين بالمباحث الإنسانية، عادة ما يذكر البيروني في تاريخ العلم بوصفه عالما رياضيا، ويكاد يتفق مؤرخو الرياضيات على أنه «ألمع العقول الرياضية التي تصادفنا في مفتتح القرن الحادي عشر، فضلا عن أن تاريخ الرياضيات يدين للبيروني، بأفضل موجز للرياضيات الهندية ظفر به ذلك العصر.»
82
ودور الرياضيات الهندية في إهداء البشرية رموز الأرقام أجل من أن يذكر أو ينسى.
ولئن بلغت أعمال البيروني في الرياضيات نحو أربعة وعشرين عملا، فإنه ترجم أيضا كتابين من تأليف الفلكي الهندي «فاراهميرا» الذي عاش في القرن السادس الميلادي، ويمكن اعتباره أهم الفلكيين في هذا القرن، وتحتوي ترجمة البيروني على ملخص بارع لحساب المثلثات الهندي المبكر وجدول لجيوب الزاوية يبدو أنه مأخوذ من جدول بطليموس لأوتار الدائرة.
83
وهاهنا يبدو مجددا تلاقي الشرق والغرب تأكيدا لعالمية العلم. تفنيدا لخرافة المصدر الإغريقي الواحد والوحيد. أما عن الأرقام الهندية - أساس الأرقام العربية - التي أصبحت - فيما بعد - عالمية ففي رسالة البيروني «تذكرة في الحساب والعد بأرقام السند والهند» شرح واف لها ولأصولها. أما في رسالته «راشيكات الهند» فيبحث في أن النسبة فيما بين المقادير المتجانسة وهي صورة من صور الإضافات تحصل لها من جهة الكمية، فيعرف بهما أحدهما من الآخر إن كان غير معلوم.
84
إن النسبة والتناسب وحساب المتناهي إجمالا اكتملت على يدي البيروني كمحصلة لمزاوجته المثمرة بين التراث الهندي والتراث الإغريقي بالإضافة إلى عبقريته.
أما أهم أعماله في الهندسة فهي «استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها» ورد في رسائل البيروني (المذكورة في الهامش السابق 84). كما حققه ساوتر عام 1910م، ثم أخرج عالم الرياضيات د. أحمد سعيد الدمرداش تحقيقا مثبتا وجيدا له عام 1965م، ويتلخص هذا العمل في شروح وإثباتات بطرق مختلفة لأربع نظريات، ناتجة عن خواص الخط المنحني؛ أي المنكسر داخل الدائرة؛ أي على قوس منها، ويبحث البيروني - كما يقول: «في انقسام الخط المنحني في كل قوس بالعمود النازل عليه من منتصفها.»
85
ثم يتعرض بعد هذا لعدة مسائل رياضية وفلكية من قبيل برهان مساحة المثلث بدلالة أضلاعه، وبرهان مساحة الشكل الرباعي المرسوم داخل الدائرة، ثم سرد بعض الدعاوي الفلكية مبرهنا عليها باستغلال النظريات الأربع المذكورة، ثم تعرض لتقدير أطوال أوتار الدائرة
86 ...
لقد أنجز البيروني الكثير من البراهين الرياضية، وبفضلها استقام جذع أبحاثه الفلكية والجيوفيزيقية، ليزداد اقترابا من المنهج العلمي الحديث الذي دأب على خطب ود الرياضيات، ومن أشهر إنجازاته في هذا الصدد «قاعدة البيروني» وهي معادلة رياضية تستخدم في حساب نصف قطر الدائرة من التعرف على محيطها، وبواسطتها توصل البيروني إلى قياس محيط الأرض عن طريق قياس درجة انحراف الأفق عند جبل قائم، ونلاحظ أن البيروني أخذ باستدارة الأرض التي كانت مثبتة في تعاليم الفلكي الهندي فاراهميرا، وتبعه فيها معظم الفلكيين الهنود وفلكيي عصر النهضة
87
على أية حال ما زالت طريقة حساب نصف قطر الأرض تسمى إلى الآن «بقاعدة البيروني»، ويعتبر المستشرق الإيطالي كارلو ألفونسو نللينو في كتابه «علم الفلك وتاريخه عند العرب» قاعدة البيروني من أهم إنجازات العلم العربي.
وفي هذا الإطار المتماوه بين الرياضيات والفلك، نذكر أن مبحث الضوء والبصريات - أو علم المناظر - حظي برصيد وافر من العلماء العرب، وكما يقول «برنال»: «لو لم يضف العرب غير ما أضافوه في مجال البصريات لكانت الخطوة التي خطوها بالعلم حاسمة لا شبهة فيها.»
88
وليست الجهود حكرا على قطب المناظر الأكبر الحسن بن الهيثم، هنالك رجالات آخرون أسهموا في هذا المبحث المنهجي حقا، منهم عالمنا البيروني الذي عرج على الضوء وانكساراته ومشاكل علم البصريات أو كيفية الحال في «المخروط الكائن بين البصر والمبصر» في رسالته «إفراد المقال في أمر الظلال»،
89
وحاول الخروج بنظريات علمية كانت دقيقة في الحدود التي يسمح بها عصره ومجديه في الاستدلال على أوقات النهار من الظل، وإثبات أنواع الظلال في الأسطرلاب وفي نقل أنواع الظلال بعضها إلى بعض، ويتصل بهذا رسالته الهامة «الاستيعاب للوجوه الممكنة في صناعة الأسطرلاب».
وما دمنا قد اتفقنا على أن العلم عند البيروني يصب في نهر الحضارة الإسلامية من أجل قيمها وأهدافها، نتفهم لماذا تتبدى منهجية البيروني بوجه خاص في حساب المثلثات. فقد اهتم به الإسلاميون؛ لأنه ضروري لحساب مواقيت الصلاة، كما أنه أساس علم الفلك الذي هو اهتمام البيروني الرئيسي، فقد عني بالأرصاد الفلكية على اختلاف أنواعها، والتي تعتمد على معرفة الجهات الأصلية الأربع، وذلك - كما أشرنا - من أجل تحديد أوقات وتعيين اتجاهات أماكن العبادة، ووضع جداول للتقاويم وحساب أوائل السنين والشهور.
ومن مؤلفات البيروني نجد «الأزمنة والأوقات» و«تحقيق منازل القمر» بخلاف أبحاث أخرى للبيروني في هذا الصدد مودعة في كتاب باسم الرسائل المتفرقة في الهيئة، قامت بطبعه دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند سنة (1368ه/1948م) ويشتمل الكتاب على إحدى عشرة رسالة هي: «استخراج تاريخ اليهود» للخوارزمي، «تخطيط الساعات» للنيريزي، «استخراج تاريخ اليهود» للقايني، «استخراج الساعات» للقايني، «إقامة البرهان على الدائرة» للبوزجاني، «مساحة الجسم المكافئ» لويجن القوهي، «كيفية تسطيح الكرة لأحمد الصاغاني»، «أشكال الدائرة» لنصر بن عبد الله، «المقادير المشتركة» للبغدادي، «شكل القطاع» لأحمد السجزي، «الأبعاد والأجرام» للبيروني.
90
لكن «القانون المسعودي في الهيئة والنجوم» هو أهم أعمال البيروني قاطبة، أخرجه عام 421ه وأسماه نسبة إلى السلطان مسعود الغزنوي الذي حاول أن يكافئه بحمل فيل من الفضة - كما ذكرنا - فرفض. يدور موضوعه حول هيئة السماء وشكل الأرض ومكانها من الكون، وحجمها بالنسبة إليه، وأنواع حركات الأجرام السماوية.
يقع هذا الكتاب في ثلاثة مجلدات تتكون من ثلاثة وأربعين بابا في إحدى عشرة مقالة، تعالج - باستفاضة - مختلف النظريات الفلكية والرياضية المطروحة في ذلك الوقت، وتنقدها وتنقحها وتضيف إليها، ولكن نظرا لأسلوب البيروني الموسوعي الشامل نجد الكتاب يتطرق إلى كل الموضوعات التي تمس الفلك من قريب مثل حساب المثلثات وتعيين أطوال البلاد وعرضها، أو من بعيد مثل المناسبات الدينية عند مختلف الشعوب والديانات. فكان هذا الكتاب الرائد شاهدا إضافيا على سعة إلمام البيروني بمباحث الحضارات والأديان المقارنة.
لقد احتوى هذا الكتاب على إنجازات علمية قيمة ولفتات ثاقبة منها: التفاته إلى فرض الجاذبية، موضحا أنه لم يشعر بقوة هذا الجذب إنسان. يقول البيروني: «ثم إن الأقاويل في سبب هذا الاضطرار كثيرة، منها جذب السماء الأرض من كل النواحي بالسواء، وذلك يبطل بالجزء، وفيها المنفصل عنها، فإن ما يلحقه من الجذب من جهة الأرض أفتر، ويجب أن تستلبه السماء إلى نفسها من غير تلك الجهة، حتى يطير إليها.»
91
وفي مقالة «الميزان» نجد تحقيقاته التي تتعلق بالجاذبية النوعية.
عاشرا: مراجعات ختامية
إلى كل هذا الحد شق البيروني أجواز العلم بجناحي المنهجية المكين، ولكن مهما علت تحليقاته فلن يستطيع الانفصال البائن عن كل متواضعات عصره المرفوضة الآن، أو التي تبدو لنا محض خرافة. منها مثلا: انشغال البيروني بعلم التنجيم؛ أي الاستدلال على وقائع الحياة وأحداثها والتنبؤ بها (قراءة الطالع) بناء على حركات النجوم، ولا يزال هذا ماثلا في جرائدنا اليومية وحياتنا المعاصرة!
فقد تكسب البيروني عيشه من عمله كمنجم، عرف بأنه إمام وقته في علم النجوم، فضلا عن مؤلفاته في هذا، وأهمها: «التفهيم لأوائل صناعة التنجيم» الذي بلغ اعتزازه به أن كتبه باللغتين العربية والفارسية، وأيضا «جوامع الموجود لخواطر الهنود في حساب التنجيم» والمقالة الأخيرة من «القانون المسعودي» ولعل هذه المؤلفات هي التي شفعت له عند السلطان محمود الغزنوي لاحتياج الحكام القدامى دائما للمنجمين ليستهدوا بنبؤاتهم في اتخاذ القرارات .
وأي إنكار لهذا إهدار لتاريخية الظاهرة العلمية، وللتعامل الموضوعي معها، فقد فرض التنجيم نفسه على العقل البشري ردحا طويلا من الزمن بسبب من سيادة النظرة الحيوية للطبيعة؛ أي اعتبارها كائنا حيا، والنجوم أعلى جزء تماثل الرأس الحاكم المدبر، فضلا عن اقترابها من الله تعالى؛ لهذا آمنوا بتدخلها في تسيير الأمور على الحياة الأرضية، وكما أشرنا في المبحث الثاني «تصور الطبيعة» فرض هذا نفسه على أقطاب الحضارة الإسلامية أيضا، ولم ينج منه نفر من أشدهم عقلانية كابن رشد مثلا. رفضه فقط الأشاعرة لأسباب كلامية.
وحتى بعد أن بدأ التصور الآلي الميكانيكي للطبيعة - المقترن بالعلم الحديث - يحل محل التصور الحيوي، ظل علماء الفلك منجمين، يقربهم الملوك وينفقون على أبحاثهم من أجل التنجيم، فقد كان هذا هو حال تيخوبراهه
T. Barhe (1536-1601) وكبلر
J. Kepler (1571-1630) واستمر هذا الوضع حتى القرن الثامن عشر.
لذلك لا يمكن تقبل حماس نفر من أساتذة علم الفلك عندنا الذين يندفعون مؤكدين تبرئة البيروني من الانشغال بالتنجيم اعتمادا على فقرة بالقانون المسعودي يقول فيها عن علم الفلك إنه صناعة «على استغنائها بذاتها لنفاسة قدرها في نفسها، لا تكاد تميل إليها القلوب التي لا تتصور كيفية اللذة إلا في مقدمات الآلام الجسمانية، ولا النفع إلا في الأمور الدنياوية، وإذا لم ترغب فيها رغبت عنها وعافتها، فعادتها ولهذا السبب رجز القدماء أكوان العالم بقضاياها، وطرقوا إلى تقديم المعرفة بها من تأثيراتها طرقا، أشبهت شيئا من الإقناع، وفننوا عليها صناعة الأحكام؛ أي: التنجيم.»
92
وقصارى ما تعنيه هذه الفقرة أن علم الفلك في حد ذاته جدير بالتقدير بصرف النظر عن التنجيم، وهذا أقصى ما ننتظره من عالم أتى في عصر البيروني، ونذكر في هذا الصدد كبلر الذي مارس التنجيم وهو يؤسس علم الفلك الحديث ويفجر ثورته الأهليلجية التي أنهت العقيدة القاطعة بدوران الأجرام السماوية في دوائر كاملة، وراح يضيق بالتنجيم شيئا فشيئا حتى انتهى إلى أنه الابنة السفاح لعلم الفلك، والتي مع هذا تكفل لأمها إقامة الأود وضمان الحياة.
93
إذن لا نملك أن نلوم البيروني كثيرا على انشغاله بالتنجيم، فضلا عن أن نندفع لنبرئه أصلا من هذا، فهذا إهدار لتاريخية الوضع المعرفي.
بخلاف التنجيم، ثمة أيضا رفض البيروني دوران الأرض واستنكاره قولا يرى أن «الأرض متحركة حركة الرحى حول محورها.»
94
ذلك أن البيروني قد رأى سكون الأرض ودوران السموات حولها، لكنه ذكر في القانون المسعودي أن ثمة رأيا يقول بدوران الأرض حول محورها، وأنه قابل واحدا من علماء الهيئة القائلين بدوران الأرض - لم يذكر البيروني اسمه - مستندا على أن الجسم لا يسقط على الأرض عموديا بل بزوايا أقل أو أكثر قليلا من 90° مما يعني أن الأرض تحركت أثناء السقوط، لكن البيروني رفض هذا الرأي وحاول تفنيد أدلة ذلك العالم، فيقول البيروني: «أما أنا فقد شاهدت أحد من مال إلى نصرة هذا الرأي من المبرزين في علم الهيئة، لم يلتزم نزول الثقيل إلى الأرض على القطر عمودا على وجهها، بل محرفا على زوايا مختلفة.»
95
لقد رفض البيروني حركة الأرض، على الرغم من أخذه باستدارتها، وربما لا يمانع في كرويتها، لكنه رفض تماما كروية السماء، واعتبر الأرض في مركز الكون أو قريبة منه، تبعا لنظرية بطليموس التي عمل بها هو وكل معاصريه.
إلا أننا لا نملك أن نحاسب البيروني على كل صغيرة وكبيرة، أو نلومه من منظور عصرنا على مثل تلك الأغاليط، نظرا لطبيعة العصر الذي جاء فيه وحدوده المتاحة وقصوراته المعرفية من منظور عصرنا، وليس ثمة أية عبقرية مهما كانت فذة تستطيع الانفصال المطلق عن العصر الذي أنجبها والبيئة المعرفية التي نشأت فيها، حسبه ما أسداه من جهود دفعت مسيرة العلم في تلك الحدود وذلك العصر.
وأخيرا تجدر الإشارة إلى أن البيروني على الرغم من إقراره بتنوع مناهج المعرفة، بل وبالاختلاف بين المعرفة الإنسانية النامية وبين العقائد الدينية المطلقة، فإنه مع هذا انشغل في بعض أبحاثه بالمشكلة التي تشغل نفرا من رجال الدين ومن الإعلاميين الآن ... فقد كان البيروني حريصا جدا على التقريب بين علم الفلك بالذات وبين إشارات القرآن الكريم، في مقابل الحسن بن الهيثم الذي رفض تماما أي محاولات للتوفيق بين العلم والدين، موضحا أن المعرفة الإنسانية مختلفة ومعيارها مختلف هو الصحة والإفادة، على أن البيروني في سائر تقريباته بين الفلك والقرآن، لم يتجاوز أبدا حدود العقل والمنطق، وآية ذلك رفضه البات لشطحات الصوفية في هذا الصدد، قائلا ببساطة: «إن كلامهم غير مفهوم عندهم، فضلا عن عند غيرهم وخاصة كلام الحسين بن الحلاج.»
96
وذلك على الرغم من سعة علمه بالتصوف ودراساته المقارنة بين التصوف الإسلامي والتصوف في الهند.
لقد ظل العقل دائما في عالم البيروني مناطا يعتد به أيما اعتداد، ويحتكم إليه، فلا يتردد هنيهة - في تأريخاته ومباحثه - في رفض «كل ما يستفز - من استماعه - القلوب وتمجه الآذان ولا تقبله العقول.»
97
وكثيرا ما ينتهي إلى أن هذه الرواية - أيا كان قدر قائلها - «غير صحيحة؛ لأن الامتحان يشهد عليها.»
98
أي أن الاختبار التجريبي أو التمحيص المنطقي لا يؤيدانها، لا يقفان في صفها.
ولا غرو أن ترتد هذه العقلانية في منهجية مكينة، فكان البيروني بدوره تمثيلا عينيا رائعا لتألق العقل العربي والعلم العربي والحضارة العربية في قمة عصرها الذهبي، القرن الرابع-الخامس الهجري، أو العاشر/الحادي عشر الميلادي ... أو - بتعبير سارتون - عصر البيروني.
Bog aan la aqoon