المقدمة
1 - البصرة القديمة
2 - البصرة الحديثة
المأخذ
المقدمة
1 - البصرة القديمة
2 - البصرة الحديثة
المأخذ
مختصر تاريخ البصرة
مختصر تاريخ البصرة
تأليف
علي ظريف الأعظمي
المقدمة
لما كان الإقبال على المباحث التاريخية يزداد يوما فيوما في قطرنا المحبوب، وكانت رغبة النشء الجديد كثيرة في الأسفار التاريخية والمصنفات العلمية، وكانت مدينة البصرة من المدن الإسلامية الكبرى التي لها شأن عظيم في تاريخ العرب؛ أهديت هذا المختصر إلى صاحب المكتبة العربية السيد نعمان الأعظمي؛ لما له من الولوع في خدمة العلوم والآداب، على أن ينشره خدمة لهذا العلم الجليل، وتسهيلا للقراء جعلته فصلين؛ يتضمن الأول منهما ذكر ما تمكنت من جمعه من تاريخ البصرة القديمة منذ تأسيسها إلى حين خرابها، وما حدث فيها من الانقلابات السياسية والوقائع الحربية والتغييرات الإدارية وغيرها. ويبحث الثاني عن تاريخ البصرة الحديثة - الحالية - منذ عمرت حتى انقراض الدولة العثمانية.
ولما كنت معترفا بقلة بضاعتي أرجو ممن يجد لي هفوة أو زلة أن يرشدني إلى الصواب لأصلح موضع الخطأ في طبعة أخرى. كما أني أرجو من القراء أن يعذروني عن ذكر الحوادث التي حدثت بعد أفول هلال دولة الأتراك لما أخشاه من الوقوع في شرك يصعب علي التخلص منه.
الفصل الأول
البصرة القديمة
(1) تمهيد
كان في عهد الدولة الساسانية الفارسية (226-651م)
1
في جنوبي العراق بين دجلة وكارون إمارة فارسية تسمى إمارة ميشان،
2
كان مركزها بلدة ميشان على الخليج الفارسي بأسفل موضع البصرة، وكانت هذه الإمارة تضم بلدة ميشان ومدينة الأبلة وعدة حصون ومواضع، كان لبعضها أسماء فارسية، ولبعضها أسماء عربية، منها المسلحة التي سماها العرب بعد خرابها الخريبة،
3
ومنها الثني والحفير والمضيح وغيره،
4
وكانت تلك الإمارة أو ذلك الثغر أعظم ثغور الفرس وأشدها شوكة في ذلك العهد، وكان عليها في عهد الملك أردشير الثالث بن شيرويه
5
قائد فارسي اسمه هرمز، وهو ممن تم شرفهم عند الفرس في ذلك العصر.
وفي الوقت الذي كانت المملكة الفارسية قد تزعزعت أركانها من توالي الفتن الداخلية المستعرة نيرانها في كل جهة من جهاتها في الوقت الذي كان القائد العربي المثنى بن حارثة الشيباني يغير فيه بجموعة على ناحية الحيرة في أيام الخليفة الأول أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة كان قطبة بن قتادة السدوسي يغير بجموعة على ناحية إمارة ميشان أو ناحية المنطقة التي بها لواء البصرة اليوم.
6
وكان الخليفة الأول
7
قد علم بالاضطرابات المتوالية التي كانت في مملكة الفرس، وكان يفكر في فتح بلادهم ومستعمراتهم، ولكنه كان مشغولا حينذاك بقتال المرتدين، فلما فرغ من حرب المرتدين، ودانت له جزيرة العرب؛ عزم على فتح العراق، وكتب في أواخر سنة 11ه الموافقة لسنة 632م إلى القائد الكبير خالد بن الوليد - وهو يومئذ باليمامة - يأمره أن يسير بجيشه إلى العراق؛ لنشر الدعوة والفتح، وأن يبدأ بثغر الهند، وهو الأبلة،
8
وأن يستنفر من قاتل أهل الردة، وأن لا يستعين بمرتد، وكتب بمثل ذلك إلى عياض بن غنم، ولكنه أمره أن يبدأ بالمضيح ويدخل العراق من أعلاه، ويسير حتى يلتقي بخالد، وكتب إلى المثنى وأصحابه - حرملة ومعذور وسلمى - يأمرهم أن يلحقوا بخالد بالأبلة، وكانوا يومئذ يغيرون على ناحية الحيرة، فسار خالد بمن معه في أوائل محرم سنة 12ه، وسار عياض بمن معه أيضا في الوقت نفسه، ثم كتب كل منهما وهما في الطريق يستمدان الخليفة، فأمد خالدا بالقعقاع بن عمرو التميمي، وأمد عياضا بعبد بن غوث الحميري. ثم التقى خالد وعياض بأرض العراق في الجهة الجنوبية منه، وكان مجموع من معهما عشرة آلاف مقاتل، ثم انضم إليهما المثنى وأصحابه، وكانوا ثمانية آلاف مقاتل، فبلغ الجيش الإسلامي ثمانية عشر ألف مقاتل.
ولما تكامل الجيش العربي جعله خالد ثلاث فرق؛ الأولى: وهي المقدمة جعل عليها المثنى بن حارثة، والثانية: جعل عليها عدي بن حاتم، والثالثة: قادها بنفسه، وسير الأولى ثم الثانية ووعدهما الحفير، ولم يحملهم على طريق واحد، ثم سار هو في طريق آخر وقرر مصادمة الفرس في الحفير. (2) وقعة الحفير
بعد أن عبأ خالد جيوشه وسيرها إلى الحفير سمع القائد هرمز أمير ميشان بقدومهم، فكتب إلى كسرى بالخبر، وطلب منه النجدة، وسار بمن معه إلى الكواظم،
9
ثم سمع أن المسلمين تواعدوا الحفير فسبقهم إليه ونزل به، فسمع خالد بهم فنزل بقربهم، وكتب إلى هرمز يقول:
أما بعد، فأسلم تسلم، أو اعقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر الجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.
فاختار هرمز الحرب، وبعث بكتاب خالد إلى كسرى، وجمع جموعه، وتهيأ للحرب، وعبأ كل من خالد وهرمز جيشه، ثم التحم القتال بين الفريقين، فانجلت المعركة عن انهزام الفرس وقتل قائدهم هرمز، وغنم المسلمون أموالهم، وذلك في محرم سنة 12ه، وهذه أول وقعة حدثت في العراق بين المسلمين والفرس، وتسمى وقعة الحفير وذات السلاسل (لأن الفرس اقترنوا بالسلاسل لئلا يفر منهم أحد).
10 (3) وقعة الثني
لما انتهى خالد من وقعة الحفير أرسل المثنى بن حارثة في آثار الفرس المنهزمين، وسار هو بمن معه حتى نزل موضع الجسر الأعظم عند موقع البصرة.
وكان ملك الفرس لما وصله كتاب هرمز يخبره بقدوم الجيش الإسلامي ويطلب منه النجدة، قد أمد هرمزا بجيش تحت قيادة قارن بن قريانس، فلما وصل المذار
11
لقيهم المنهزمون، فاجتمعوا وتوقفوا قليلا ثم ساروا فنزلوا الثني، فسمع بمجيئهم خالد فتهيأ لملاقاتهم، وسار إليهم، فاقتتل الفريقان، وكانت معركة هائلة قتل فيها عدد كبير من الفرس فيهم قائدهم قارن وهو ممن تم شرفه عند الفرس كهرمز، وكانت الغنائم في هذه الوقعة كثيرة، وسبى المسلمون فيها عيالات المقاتلة
12
وسميت: وقعة الثني، وقد حدثت في أوائل صفر سنة 12ه. (4) مسير خالد إلى الشمال
بعد أن فرغ خالد من وقعة الثني أمر على قسم من جيشه سعيد بن النعمان، وسيره إلى الحفير، وأمره بالنزول هناك، وأقام هو في قسم من جيشه في الثني يترقب أخبار الفرس، ويترصد حركاتهم. ثم ارتأى بعد أيام قليلة أن يسير نحو شمالي البصرة مما يلي الفرات للتوغل في البلاد العراقية، فجمع جيوشه، وسار بهم بعد أن ترك حامية في موضع البصرة أو مما يلي تلك المنطقة لإشغال من هناك من الفرس،
13
والظاهر أنه أمر على تلك الحامية قطبة بن قتادة؛ لأن قطبة كتب بعد موت أبي بكر إلى عمر بن الخطاب يعلمه مكانه، ويقول له: لو كان معه عدد كاف لظفر بمن كان قبله من الفرس فنفاهم عن بلادهم. فكتب إليه عمر يأمره بالمقام والحذر، ووجه إليه شريح بن عامر أحد بني سعد بن بكر، فلما وصل شريح ترك قطبة في موضعه، ومضى إلى الأهواز لغزو الفرس فقتلوه، وظل قطبة يغير على تلك الجهات إلى أن أرسل عمر سعد بن أبي وقاص قائدا عاما على الجيش الإسلامي، فأرسل سعد بعد وقعة القادسية الشهيرة التي مزقت الفرس في محرم سنة 14ه عتبة بن غزوان المازني إلى جهة موضع البصرة بأمر الخليفة الثاني عمر،
14
فلما وصل عتبة بمن معه نزل حيال الجسر الصغير، فبلغ صاحب الفرات قدومه، فأقبل لقتاله بجموعه. فتزاحف الفريقان وحدثت بينهما معركة عنيفة انجلت عن انكسار الفرس، ووقوع قائدهم أسيرا بيد عتبة. (5) فتح الأبلة
بعد أن هزم عتبة حامية الفرس مرارا في تلك الجهات، واستولى على عدة حصون أو مخافر كانت تقيم فيها جنود فارسية لمنع غارات العرب منها المسلحة التي سموها بعد خرابها الخريبة؛ اجتمع أهل الأبلة وخرجوا لقتاله، فقاتلهم فانتصر عليهم وهزمهم حتى دخلوا المدينة في رعب شديد، ثم رجع إلى معسكره وترك في قلوب من في الأبلة خوفا اضطرهم إلى إخلاء المدينة، فحملوا ما خف وعبروا الماء، فبلغ ذلك عتبة فأسرع إليها ودخلها، وغنم المسلمون أموالا وسلاحا وسبيا، وذلك في رجب سنة 14ه. (6) تأسيس البصرة القديمة
على إثر فتح الأبلة نزل عتبة بجيشه على طرف البر إلى جانب مسلحة الفرس التي خربت في تلك الأثناء فسموها الخريبة، واتخذ المكان معسكرا؛ لأنه لا يحول الماء بينه وبين مكة؛ إذ كان من ذلك الموضع على الضفة الغربية للفرات إلى مكة رمال وجبال وسهول لا يفصل بينهما نهر، ثم كتب إلى الخليفة الثاني في موسم الشتاء يستأذنه بالبناء فأذن له، فبنى مسجدا ودارا للإمارة من القصب في الرحبة التي سميت رحبة بني هاشم، وذلك في سنة 14ه/636م فبنى الناس بيوتهم من القصب، وقد بنيت على بعد أربعة فراسخ من مدينة الأبلة قرب الخليج الفارسي في منتهى العراق عند موقع الزبير.
وعلى إثر ذلك اجتمع أهل ميشان، وخرجوا لقتال المسلمين، فخرج إليهم عتبة فهزمهم، وأخذ مرزبان ميشان أسيرا.
وبعد قليل استعمل عتبة على جيشه مجاشع بن مسعود، وسيره إلى الفرات، واستخلف على المدينة المغيرة بن شعبة إلى أن يعود مجاشع فإذا قدم فهو الأمير، وسار عتبة إلى يثرب عاصمة المسلمين لملاقاة الخليفة عمر بن الخطاب. فانتصر مجاشع بن مسعود على أهل الفرات. أما المغيرة بن شعبة فإنه بلغه أن الفرس القريبين منه اجتمعوا لقتاله، فخرج إليهم بمن معه فلقيهم بالمرغاب، وانتصر عليهم، وكتب بذلك إلى الخليفة. فلما وصل كتابه إلى الخليفة قال لعتبة: «من استعملت على البصرة؟» فقال: «مجاشع بن مسعود»، قال: «أتستعمل رجلا من أهل الوبر على أهل المدر؟» وأخبره بما كان من أمر المغيرة، وأمره بالرجوع إلى عمله، وأوصاه بوصايا هامة، فمات عتبة في الطريق في سنة 14ه.
ولما بلغ الخليفة الثاني موت عتبة ولى على البصرة المغيرة بن شعبة، وذلك في سنة 14ه، ثم عزله في سنة 16ه وولى عليها أبا موسى الأشعري.
15
وفي هذه السنة - سنة 16ه - حدث حريق بالبصرة فخافوا الحريق مرة أخرى فاستأذنوا الخليفة في البناء باللبن، فأذن لهم وكتب إليهم يقول: «افعلوا، ولا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة»، فخططوا المناهج والشوارع، وجعلوا المدينة خططا بحسب القبائل لكل قبيلة خط، وجعلوا عرض شارعها الأعظم ستين ذراعا وعرض ما سواه عشرين ذراعا، وجعلوا عرض كل زقاق سبعة أذرع، ووسط كل خط رحبة فسيحة لمرابط خيولهم، وتلاصقوا بالمنازل، وأول شيء بني فيها مسجدها ووضعوه في الوسط بحيث تتفرع الشوارع منه،
16
ولما أذن عمر ببنائها باللبن ساق إليها جماعات كبيرة من أشراف العرب من أهل البادية، وأسكنهم فيها، وكان على تنزيلها أبو الحرباء عاصم بن دلف.
17 (7) البصرة في عهد الخلفاء الراشدين
لما تم فتح العراق بعد سقوط المدائن عاصمة الفرس على يد القائد الإسلامي سعد بن أبي وقاص في سنة 16ه الموافقة لسنة 637م؛ رتب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب العمال، وقدر رواتبهم، وأقر أبا موسى الأشعري على ولاية البصرة، وجعل له ستمائة درهم في الشهر، ووجه شريح بن الحارث على قضاء البصرة، وأجرى عليه مائة درهم وعشرة أجربة في الشهر.
18
وكتب إلى أبي موسى الأشعري بإبقاء الخراج بالمساحة باعتبار الجريب كما كان في أيام الفرس؛ على الجريب من الحنطة قفيز ودرهم - أو أربعة دراهم - وعلى الشعير درهمين، وعلى الجريب من النخل ثمانية دراهم، ومن الكرم - العنب - عشرة دراهم، ومن القصب ستة دراهم، ومن الرطبة خمسة دراهم، سواء زرعت الأرض أم تركت - والجريب 3600 ذراع مربع، والقفيز عشر الجريب - أما الأراضي التي كانت للدولة الفارسية المنقرضة وهي التي صارت ملكا للدولة الإسلامية؛ فإنه وضع عليها العشر كما وضع المكس على التجارة.
وأبقى الجزية على أهل الذمة كما كانت في عهد الفرس باعتبار درجات الناس ومقدرتهم، واستثنى نصارى العرب منها، وجعل عليهم الزكاة كالمسلمين؛ لأنهم نصروا جيوشه.
وبعد أن كان موضع البصرة معسكرا للجيش الإسلامي تقيم فيه العرب مع نسائهم وأولادهم كما يقيم جيش الاحتلال في هذا العصر؛ صار ذلك الموضع مدينة كبيرة ذات أسواق واسعة وبيوت فخمة، وسميت بهذا الاسم «البصرة» لأنها بنيت على أرض غليظة ذات حجارة رخوة بيضاء - إذ تسمي العرب مثل هذه الأرض البصرة - وأخذت عمارتها تزداد يوما فيوما منذ أيام عمر بن الخطاب.
ولما قتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في أواخر سنة 23ه الموافقة لسنة 644م، وتولى بعده عثمان بن عفان؛ أقر أبا موسى الأشعري على البصرة، ثم عزله في سنة 29ه وولاها عبد الله بن عامر بن كريز - وهو ابن خال عثمان - وكان حدث السن،
19
وفي أيامه في سنة 23ه طعن أهل الكوفة في عثمان، وأنكروا عليه ولاية جماعة من أقربائه لا يصلحون للإمارة، ثم سكنوا، ولكنهم ظلوا ناقمين عليه سرا حتى إذا ما كانت سنة 35ه ثاروا، واتفق معهم أهل البصرة وأهل مصر، وخرج خمسمائة رجل من الكوفة ومثلهم من البصرة ومثلهم من المصريين، واجتمعوا بالمدينة، وطلبوا من عثمان عزل عماله، وكان عثمان قد سار على سيرة الشيخين بادئ بدء، ثم غير سيرته فعزل أكثر الولاة القديرين، وولى أقرباءه؛ لأنه كان كلفا بأهله مستسلما إلى أقربائه من بني أمية حتى نقم عليه أكثر أصحابه ونفروا منه. فكبرت الفتنة فحاصروه في داره، ثم هجموا عليه وقتلوه بعد حوادث طويلة، وذلك في 18 ذي الحجة سنة 35ه الموافقة لسنة 656م.
وبويع بالخلافة الإمام علي في 25 ذي الحجة من السنة المذكورة، فعزل أكثر ولاة عثمان، منهم أمير البصرة عبد الله بن عامر؛ فإنه عزله في أوائل سنة 36ه الموافقة لسنة 656م، وولى مكانه عثمان بن حنيف، فلما وصل البصرة الأمير الجديد ولى على شرطة البصرة حكيم بن جبلة.
وفي أيام إمارة ابن حنيف حدثت وقعة الجمل الشهيرة بالبصرة، وخلاصتها ما يأتي: (7-1) وقعة الجمل
لما قتل عثمان، وصارت الخلافة للإمام علي، استاء كثير من أهل مكة والمدينة وغيرها لقتل عثمان خصوصا بنو أمية، ومن جملتهم عائشة بنت أبي بكر، فإنها لما بلغها الخبر استنكرت قتله استنكارا شديدا، وكانت يومئذ بمكة وقالت: «ما كنت أبالي أن تقع السماء على الأرض، قتل والله مظلوما وأنا طالبة بدمه»، مع أنها كانت من جملة الناقمين عليه حينما غير سيرته واستسلم لأقربائه، فانضمت عائشة إلى من اتهم عليا بقتل عثمان؛ لأن قتلة عثمان التفوا حوله، وكان طلحة والزبير بن العوام ممن طمع بالخلافة بعد قتل عثمان، ولكنهما لما رأيا الأكثرية الساحقة لعلي وافقوا القوم وبايعاه مع الناس وعينا كل منهما إلى ولاية من الولايات الكبرى، بل كان طلحة لا يشك في ولاية اليمن، والزبير لا يشك في ولاية العراق، فلما استبان لهما أن عليا غير موليهما قابلاه فقالا له: «هل تدري علام بايعناك؟» قال: «نعم، على السمع والطاعة، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان»، فقالا: «ولكنا بايعناك على أنا شريكاك في الأمر »، فقال علي: «ولكنكما شريكان في القول والاستقامة والعون على العجز والأولاد»، فانصرفا ثم أظهرا الشكاة؛ فتكلم الزبير في ملأ من قريش فقال: «هذا جزاؤنا من علي؟! قمنا له في أمر عثمان حتى أثبتنا عليه الذنب وسببنا له القتل وهو جالس في بيته، وكفي الأمر، فلما نال ما أراد جعل دوننا غيرنا.» فقال طلحة: «ما اللؤم إلا أنا كنا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا وبايعناه، وأعطيناه ما في أيدينا، ومنعنا ما في يده، فأصبحنا وقد أخطأنا ما رجونا»،
20
فانتهى قولهما إلى علي فدعا عبد الله بن عباس فقال له: «هل بلغك قول هذين الرجلين؟» قال: «نعم، بلغني قولهما»، قال: «فما ترى؟» قال: «أرى أنهما أحبا الولاية، فول البصرة الزبير، وول طلحة الكوفة؛ فإنهما ليسا بأقرب إليك من الوليد وابن عامر من عثمان»، فقال علي: «ويحك، إن العراقيين بها الرجال والأموال، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان، ولو كنت مستعملا أحدا لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام، ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي.»
فلما يئس كل من طلحة والزبير من الولاية مضيا إلى مكة، والتقيا بعائشة، وعظما لها شأن عثمان، وشايعاها على ما تطلبه هي وغيرها من الذين ساءهم قتل عثمان، وقالا لها: «تجملنا هربا من غوغاء الناس، وفارقنا قومنا حيارى لا يعرفون حقا، ولا ينكرون باطلا، ولا يمنعون أنفسهم»، فقالت: «ننهض إلى هذه الغوغاء أو نأتي الشام»، وعزمت على الاقتصاص من علي، وانحازت إلى من قام ضده من ذوي المطامع الذين اتخذوا قتل عثمان ذريعة لنيل مقاصدهم، وصارت تطالب عليا بدم عثمان جهارا، وقوي عزمها بطلحة والزبير.
وكان قد وصلهم خبر رد أهل الشام بيعة علي، وقيام معاوية بالمطالبة بدم عثمان، فعزموا الشخوص إلى البصرة، وشرعوا في تجهيز الجيوش، وانضم إليهم جمهور كبير، فبلغ ذلك عليا فلم يستطع أن يسلم قتلة عثمان؛ لأنهم يعدون بالألوف، وهم الذين عملوا على توليته الخلافة، ولو أنه أمر بالقبض عليهم لم يسلموا حتى تسفك آخر قطرة من دمائهم، فيكون ذلك صدع لوحدة المسلمين؛ فامتنع علي عن تسليمهم. فخرجت عائشة من مكة ومعها طلحة والزبير وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان بن الحكم، وغيرهم من بني أمية الذين أعانوها، ونادى مناديها في الناس يطلب ثأر عثمان، فاجتمع نحو ثلاثة آلاف مقاتل
21
فساروا نحو البصرة.
وبلغ عليا خبرهم وكان متجهزا إلى الشام، فأرسل إليهم ينصحهم فلم يجيبوه، فتجهز لهم، وسار في أثرهم قاصدا البصرة، وانضمت له جموع حتى بلغوا نحو تسعة آلاف مقاتل.
22
أما عائشة فإنها وصلت البصرة، واصطف لها الناس في الطريق، فقالوا لها: «يا أم المؤمنين، ما الذي أخرجك من بيتك؟» وعلت أصواتهم بهذه الكلمة وأكثروا عليها، فقالت: «أيها الناس، والله ما بلغ من ذنب عثمان أن يستحل دمه، ولقد قتل مظلوما، غضبنا لكم من السوط والعصا ولا نغضب لعثمان من القتل؟! وإن من الرأي أن ننظر إلى قتلة عثمان فيقتلون به، ثم يرد هذا الأمر شورى على ما جعله عمر بن الخطاب»، فلما أتمت قولها قال فريق من البصريين: «صدقت»، وقال آخرون: «كذبت»؛ وانقسموا إلى قسمين: قسم اتفق مع المطالبين بدم عثمان وهم الأكثر، وقسم عدهم هؤلاء من الخوارج، ولم يزل الناس يقولون ذلك - صدقت، كذبت - حتى ضرب بعضهم وجوه بعض، ورد على عائشة رجل من عبد القيس فنالوا منه، ونتفوا لحيته، وترامى الناس بالحجارة، واضطربوا وهم مجتمعون في مربد البصرة،
23
فجاء رئيس شرطة البصرة حكيم بن جبلة إلى الأمير عثمان بن حنيف، ودعاه إلى قتال أصحاب عائشة، فأبى عثمان، وكان حكيم عند نزول جيش عائشة في الخريبة قد أشار على عثمان بمنعهم من دخور البصرة فأبى وقال: «ما أدري ما رأي أمير المؤمنين في ذلك»، فدخلوا بدون مانع، وكتب الأمير إلى الإمام علي يخبره بقدومهم، وبما حدث يوم دخولهم البصرة.
ثم أتى عبد الله بن الزبير إلى خزينة الرزق؛ ليأخذ الطعام إلى أصحابه منها، فجاء حكيم في سبعمائة من عبد القيس فقاتله، فقتل حكيم وسبعون رجلا من أصحابه، وذلك في جمادى الآخرة سنة 36ه، ثم ملك أصحاب عائشة بيت مال البصرة، وقتلوا من الوكلاء خمسين رجلا، ويروى أنهم هجموا ليلا على دار الإمارة وقتلوا أربعين رجلا من حرس عثمان بن حنيف، وقبضوا على عثمان وحبسوه، واستولوا على دار الإمارة وبيت المال. ثم أطلقوا عثمان،
24
فسار إلى ملاقاة الإمام علي.
وبعد قليل وصل الإمام علي بجيشه، ونزل في الزاوية من البصرة، وأرسل القعقاع إلى الثائرين ينصحهم، وظل يراسلهم ثلاثة أيام، وكتب إلى طلحة والزبير يدعوهما للتدبر في مصير أمرهما، وكتب إلى عائشة يردها عما عزمت عليه. فكتب إليه الزبير يقول: «إنك سرت مسيرا له ما بعده، ولست راجعا وفي نفسك منه حاجة، فاقض لأمرك»، وكتب إليه طلحة: «إنك لست راضيا دون دخولنا في طاعتك، ولسنا بداخلين فيها أبدا، فاقض ما أنت قاض»، وكتبت إليه عائشة: «جل الأمر عن العتاب، والسلام.»
وأصر طلحة والزبير وعائشة على الحرب، فعبأ الزبير الجيش وتولى قيادته العامة، وجعل طلحة على الفرسان، وعبد الله بن الزبير على المشاة، ومحمد بن طلحة على القلب، ومروان بن الحكم على المقدمة، وعبد الرحمن بن عبادة على الميمنة، وهلال بن وكيع على الميسرة.
وعبأ علي جيشه؛ فجعل على المقدمة عبد الله بن عباس، وعلى المؤخرة هند المرادي، وعلى الفرسان عمار بن ياسر، وعلى المشاة محمد بن أبي بكر، وسلم رايته إلى ابنه محمد بن الحنفية.
فلما تهيأ الفريقان للقتال أمر علي مناديا فنادى في أصحابه: «لا يرمين أحد سهما ولا حجرا، ولا يطعن برمح حتى أعذر إلى القوم فأتخذ عليهم الحجة البالغة.» ثم خرج علي على بغلة النبي الشهباء، ووقف بين الجيشين، فنادى الزبير وطلحة فخرجا إليه، فقال للزبير: «ما الذي حملك على هذا؟» قال: «لأني أراك لست أهلا لهذا الأمر»،
25
فالتفت علي إلى طلحة فقال: «جئت بعرس النبي تقاتل بها، وخبأت عرسك بالبيت، أما بايعتني؟» قال: «بايعناك والسيف على أعناقنا.» ثم قال علي لهما: «استحلفا عائشة بحق الله وبحق رسوله عليها أربع خصال أن تصدق فيها ؛ هل تعلم رجلا في قريش أولى مني برسول الله، وإسلامي قبل كافة الناس، وكفايتي رسول الله كفار العرب بسيفي ورمحي، وعلى براءتي من دم عثمان، وعلى أني لم أستكره أحدا على بيعة، وعلى أني لم أكن أحسن قولا في عثمان منكما»، ثم وجه عتابه نحو الزبير وذكره بأمور كان قد نسيها، فرق له الزبير، أما طلحة فإنه أغلظ له القول في الجواب، ثم انصرفوا إلى مواضعهم.
وأراد علي حقن الدماء فأرسل من ينصح الثائرين ويردعهم، فجرت بين الفريقين مراسلات حتى كاد الصلح أن يتم بها، وشاع بين الجيشين خبر الصلح فاستبشروا بالخير، فلما جن الليل اجتمع الذين اشتركوا في قتل عثمان، وتشاوروا على انتشاب الحرب؛ لأنهم خافوا إن تم الصلح أن يقتلوا بعثمان، فأوقدوا نار الحرب مع الغلس فجفل الناس وتصادموا، وهجم بعضهم على بعض، واستعرت نار الحرب، ونسب كل فريق إلى الفريق الآخر الغدر، وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة فقال: «أدركي، فقد أبى القوم إلا القتال، لعل الله أن يصلح بك»، فركبت على جملها في هودج قد ضربت عليه صفائح الحديد حتى لا تخرقه النبال فتصيبها، وبرزت من البيوت حتى وقفت في وسط جيشها والناس يقتتلون. فقال الزبير لابنه عبد الله: «يا بني، عليك بحربك، أما أنا فراجع إلى بيتي»، فقال عبد الله: «الآن وقد التقت حلقتا البطان، واجتمعت الفئتان؟ والله لا نغسل رءوسنا منها»، فقال الزبير: «يا بني، لا تعد هذا مني جبنا، فوالله ما فارقت أحدا في جاهلية ولا إسلام»، قال: «فما يردك؟» قال: «ما إن علمته كسرك.»
فانصرف الزبير إلى البصرة، ومنها سار قاصدا مكة، فقتله عمرو بن جرموز المجاشعي غدرا
26
بوادي السباع، فتولى القيادة العامة عبد الله بن الزبير، بينما عائشة واقفة إذ فاجأتها الهزيمة، وشرعت جموعها تفر نحو البصرة، فأطافت الخيل بالجمل، وكان البصريون يحمونه، ويقاتلون دونه إكراما للتي عليه. فقالت عائشة لكعب بن سور: «خل عن الجمل، وتقدم بالمصحف فادعهم إليه»، وناولته مصحفا، فاستقبل القوم، فرموه رشقا واحدا فقتلوه، ورموا عائشة في هودجها، فجعلت تنادي: «البقية البقية يا بني»، ويعلو صوتها: «الله الله، اذكروا الله والحساب»، فيأبون إلا إقداما، وبالأخص أهل الكوفة؛ فلما رأى المنهزمون ذلك عادوا ورجعوا في أمر جديد، وصارت عائشة تشجعهم على القتال، وتحضهم على بذل أرواحهم في سبيل نيل الانتصار، فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا، ثم رجعوا فتقاتلوا، وكان طلحة قد قتل،
27
وجعل القوم يتقاتلون على زمام الجمل، هذا يأخذه ليأسر عائشة، والآخر يأخذه ليخلصها؛ حتى ضاع الزمام بين الأيدي، ومات دون الجمل خلق كثير من الفريقين، وأخذ الزمام سبعون قرشيا ما نجا منهم واحد - ويروى تسعون - وصار الناس يتساقطون تحت الجمل، وعائشة تنادي: «البقية البقية.»
فلما رأى علي اشتداد القتال بين الطرفين أمر بالهجوم على الجمل وأخذه عنوة، ونادى: «اعقروا الجمل»، فهجموا هجمة عظيمة، فعقروا الجمل فسقط، وانهزم جيش عائشة، فأمر علي مناديا فنادى: «لا تتبعوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تدخلوا الدور»، وحمل الهودج من بين القتلى، فإذا هو كالقنفذ لما فيه من السهام، فجاء علي حتى وقف على الجمل، وقال لمحمد بن أبي بكر: «انظر أحية هي أم لا»، ويروى أنه قال له: «انظر، هل وصل إليها شيء من جراحة؟» فأدخل محمد رأسه في هودجها. فقالت: «من أنت؟» قال: «أخوك البر»، فقالت: «عقق»، قال: «يا أخية، هل أصابك شيء؟» فقالت: «ما أنت وذاك.» ويروى أنه لما سقط الجمل اجتمع القعقاع وزفر على قطع بطانه، وحملاه وطافا به، ثم وضعاه، ولما أراد محمد أن ينظر إلى أخته عائشة مد يده في الهودج فقالت عائشة: «من هذا؟ أحرق الله يده»، فقال لها: «قولي: في الدنيا»، فقالت: «في الدنيا». ثم أتاها علي فقال: «كيف أنت يا أماه؟» قالت: «بخير»، قال: «يغفر الله لك»، قالت: «ولك»، فلما كان الليل أدخلها أخوها محمد البصرة بأمر علي، فأنزلها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية بنت الحرث بن أبي طلحة. وانتهت هذه الحادثة بمكان الخريبة بانتصار الإمام علي في يوم الخميس 22 جمادى الآخرة سنة 36ه/656م وكان اشتباكهم في القتال في يوم الخميس 15 من الشهر المذكور - ويروى في 11 منه.
وقتل من الطرفين زهاء عشرة آلاف
28
وسميت وقعة الجمل؛ لأنهم لم يروا منظرا مثل ذلك اليوم الذي تساقط الرجال فيه حول الجمل كتساقط الفراش على السراج، ولما هدأ الناس جهز علي عائشة بكل ما ينبغي من زاد ومتاع وركائب
29
واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات، وسير معها أخاها محمدا وشرذمة من الجند، وسيرها إلى مكة، ومنها إلى المدينة بالاحترام اللائق بها.
ولما كان يوم مسيرها خرج الناس لتشييعها، فخرجت يوم السبت غرة رجب سنة 36ه فوقف لها الإمام علي فودعتهم، وقالت: «يا بني، لا يعتب بعضنا على بعض، والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وبين أحمائها»، فقال علي: «صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة»، وشيعها علي بنفسه عدة أميال، وسرح بنيه معها مسافة يوم، وقد ندمت عائشة على ما فعلت وعادت بخفي حنين، وهي أول سيدة عربية قادت الجيوش في الإسلام. (7-2) إمارة عبد الله بن عباس على البصرة
ولما انتهى علي من وقعة الجمل، واستتب أمره في العراق ولى على البصرة عبد الله بن عباس - هو ابن عمه - وذلك في سنة 36ه، وسار هو إلى الكوفة. فلما كانت سنة 37ه سار الإمام علي لقتال معاوية في صفين، وسار عبد الله إلى الكوفة، واستخلف على البصرة زياد ابن أبيه، فوجه معاوية بن أبي سفيان - بعد استيلاء عمرو بن العاص على مصر - في سنة 38ه عامر بن الحضرمي - ويروى أنه عبد الله بن الحضرمي - في جمع إلى البصرة، ولما سيره قال: «يا عامر، إن جل أهل البصرة يرون رأينا في عثمان، وقد قتلوا في الطلب بدمه، فهم لذلك حنقون يودون أن يأتيهم من يجمعهم، وينهض بهم في الطلب بثأرهم ودم إمامهم. فانزل في مضر، وتودد الأزد فإنهم كلهم معك، ودع ربيعة فلن ينحرف عنك أحد سواهم؛ لأنهم كلهم ترابية فاحذرهم»، فسار ابن الحضرمي حتى وصل البصرة، فنزل في بني تميم، فأتاه العثمانية مسلمين عليه، وحضره غيرهم فخطبهم وحثهم على الأخذ بثأر عثمان.
وبلغ ذلك زيادا وهو يومئذ نائبا عن عبد الله بن عباس أمير البصرة، فكتب إلى الإمام علي بالخبر، فأرسل إليه أعين بن ضبيعة التميمي؛ ليفرق قومه عن ابن الحضرمي، فإن امتنعوا قاتل بمن أطاعه من عصاه، وكتب إلى زياد يعلمه ذلك. فلما قدم أعين نزل عند زياد، وجمع رجالا، ثم سار إلى قومه فتبعه عدد قليل، فنهض بمن معه لقتال ابن الحضرمي ومن معه، فواقفهم يوما ثم انصرف، فقتله قومه غدرا.
فلما قتل أعين أراد زياد قتال بني تميم، فأرسلت تميم إلى الأزد: «إنا لم نعرض لجاركم فما تريدون منا؟» فكرهت الأزد قتالهم وقالوا: «إن عرضوا لجارنا منعناه»، وكان زياد قد لجأ إلى الأزد فأجاروه وحموه، فكتب زياد إلى الإمام علي يخبره بقتل أعين وما جرى، فأرسل علي جارية بن قدامة السعدي التميمي، وبعث معه خمسين رجلا من تميم - ويروى خمسمائة - وكتب إلى زياد يأمره بمعونة جارية والإشارة عليه، فلما قدم جارية البصرة حذره زياد ما أصاب أعين، فأقام جارية في الأزد، وقرأ كتاب علي إلى أهل البصرة يوبخهم ويتهددهم ويتوعدهم بالمسير إليهم والإيقاع بهم. ثم سار جارية إلى قومه بني تميم، وقرأ عليهم كتاب علي، ووعدهم، فأجابه الأزد وكثير من تميم، فسار بمن تبعه لقتال ابن الحضرمي، فالتقيا بالقرب من قصر سنبل السعدي، وكان على خيل ابن الحضرمي عبد الله بن حازم السلمي فاقتتلوا ساعة فانهزم ابن الحضرمي، وتحصن بقصر سنبل،
30
فأحرق جارية القصر بمن فيه، فهلك ابن الحضرمي وسبعون رجلا معه، وعاد زياد إلى القصر، ورجع إلى عمله بعد أن تغلب عليه ابن الحضرمي، واضطره إلى الالتجاء بالأزد هربا منه
31
وعلى إثر ذلك عاد إلى البصرة عبد الله بن العباس.
فلما كانت سنة 40ه وشي أبو الأسود الدؤلي على عبد الله بن عباس، فأرسل الإمام علي إلى عبد الله يعاتبه ويحاسبه في الخراج، وكتب إلى أبي الأسود يأمره بمراقبة أمور البصرة، فاغتاظ ابن عباس، وكتب إلى الإمام علي: «ابعث إلى عملك من أحببت؛ فإني ظاعن عنه، والسلام»، واستدعى أخواله من بني هلال بن عامر، فاجتمعت معه قيس كلها، فسار من البصرة إلى مكة ، فضيع الإمام علي زعيما كبيرا يتبعه عدد كبير، كما ضيع أمثاله بتدقيقه الشديد في محاسبتهم، والمبالغة في المحافظة على الدين في الوقت الذي طمع فيه العمال في الأحكام، وفسدت نياتهم، واتخذ بعض أعدائه قتل عثمان ذريعة للوصول إلى عرش الخلافة، ومنهم معاوية الذي ابتاع الأحزاب بالمال، واجتذب كبار الرجال بالدهاء.
ولما استقال عبد الله بن عباس من إمارة البصرة ولى الإمام علي عليها حمران بن أبان، فبقي على عمله إلى أن قتل الإمام في الكوفة في 17 رمضان سنة 40ه/661م، وتولى الخلافة ابنه الحسن، فلما سلم الحسن لمعاوية الأمر، وتنازل له عن الخلافة في ربيع الأول سنة 41ه/661م بعد أن حكم ستة أشهر عصى حمران بالبصرة.
32 (8) البصرة في عهد الأمويين
لم استقل معاوية بن أبي سفيان بالخلافة، وتم له الأمر سنة 41ه، ووجه الولاة إلى الأمصار، وكان حمران بن أبان قد تغلب على البصرة؛ بعث معاوية بسر بن أرطأة بجيش، فانتزع بسر البصرة من حمران، وتولى إمارتها ستة أشهر ثم عزله معاوية في أواخر هذه السنة - سنة 41ه - وولى على البصرة عتبة بن أبي سفيان، وضم إليه خراسان وسجستان، ثم عزله في سنة 43ه، وأرسل بدله عبد الله بن عامر بن كريز - الذي كان أميرها في أيام عثمان - وضم إليه خراسان، وكان ابن عامر هذا كثير الحلم لينا؛ فطمع به أهل البصرة واستخفوا بالحكومة، وخالفوا أوامرها، فعزله معاوية في سنة 44ه/664م وبعث مكانه الحرث بن عبد الله الأزدي - ويروى: الحارث، وهو من أهل الشام. فلما وصل الحرث إلى البصرة ولى على شرطتها عبد الله بن عمرو الثقفي، واجتهد الحرث في إصلاح الأمور فعجز، وكثر النهب والسلب والقتل، وامتنع أكثر الناس عن تسليم الخراج، واستخفوا برجال الحكومة، فلم يبق لها غير، الاسم فعزله معاوية بعد أربعة أشهر، وولى إمارة البصرة زياد بن أبيه، وذلك في سنة 45ه.
33 (8-1) إمارة زياد على البصرة
زياد ابن أبيه أو ابن سمية، هو أحد دهاة العرب وساستها وخطباؤها وقادتها، استكتبه أبو موسى الأشعري يوم كان أميرا على البصرة في عهد عمر بن الخطاب، ثم استخلفه عبد الله بن عباس على البصرة مدة في أيام الإمام علي. فلما اضطربت فارس ولاه الإمام علي عليها فتمكن بدهائه من إيقاع الشقاق بين الثائرين، وما زال يضرب بعضهم ببعض حتى سكنت الفتن، وزال الاضطراب، وبقي على عمله حتى قتل الإمام علي، وتولى الحسن وزياد على فارس، فلما تنازل الحسن لمعاوية عن الخلافة بعث معاوية إلى زياد يطالبه في المال، فكتب إليه: «صرفت بعضه في وجهه، واستودعت بعضه للحاجة إليه، وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمه الله»، فكتب إليه معاوية بالقدوم لينظر في ذلك، فامتنع زياد. فما ولى معاوية بسرا على البصرة أمره باستقدام زياد، فجمع بسر أولاد زياد في البصرة وحبسهم، وهم: عبد الرحمن، وعبد الله، وعباد، وكتب إلى زياد يقول: «لتقدمن أو لأقتلن بنيك»، فامتنع زياد، واعتزم بسر على قتلهم، فسار أبو بكرة - هو أخو زياد لأمه - إلى معاوية، فلما قدم عليه قال: «إن الناس لم يبايعوك على قتل الأطفال، وإن بسرا يريد قتل بني زياد»، فكتب معاوية إلى بسر يأمره بالإفراج عنهم، فأطلق سراحهم.
وخاف معاوية من زياد فصالحه، واستقدمه إلى الشام، واستلحقه بنسب أبيه سفيان. ثم ولاه البصرة في سنة 45ه/667م.
ولما قدم زياد البصرة دخل مسجدها وصعد منبره، فاجتمع الناس، فخطب خطبته البتراء.
34
الخطبة
أما بعد؛ فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفي بأهله على النار؛ ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور التي ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول، إنه ليس منكم إلا من طرفت عينه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه، من ترككم الضعيف يقهر والضعيفة المسلوبة في النهار لا تنصر، والعدد غير قليل، والجمع غير مفترق. ألم يكن منكم نهاة يمنعون الغواة عن دلج الليل وغارة النهار، قربتم القرابة، وباعدتم الدين ، تعتذرون بغير العذر، وتغضون على النكر. كل امرئ منكم يرد عن سفيهه، صنع من لا يخاف عقابا، ولا يرجو معادا، فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب. حرام علي الطعام والشراب حتى أضع هذه المواخير بالأرض هدما وإحراقا. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما يصلح به أوله؛ لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله، لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمطيع بالعاصي؛ حتى يلقى الرجل أخاه فيقول: «انج سعد فقد هلك سعيد»، أو تستقيم لي قناتكم.
إن كذبة الأمير بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، وقد كان بيني وبين قوم إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي. إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل ذلك لم أناظره، فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس. أيها الناس، إنا قد أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا. فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا.
فلما فرغ من خطبته قال له عبد الله بن الأدهم: «أشهد أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب»، فقال زياد: «كذبت، ذلك نبي الله داود.»
واستعمل زياد الشدة والعنف، وجرد السيف، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، فخافه الناس وساد الأمن وهدأت الأحوال، واستعمل عند دخوله البصرة على شرطته عبد الله بن الحصين، وأمره أن يمنع الناس من الولوج بالليل، واستكثر من الشرطة والجند ، فبلغ عدد الشرطة أربعة آلاف شرطي وعدد الجند ثمانين ألفا في البصرة، واستعان زياد في تدبير شئون الإدارة بجماعة من كبار الرجال، منهم أنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن الحصين - رئيس شرطة البصرة؛ فساد الأمن، وسارت الأمور على أتم نظام، وزادت عمارة البصرة، وكثرت خيراتها، وتهافت إليها الناس من كل جانب، ويروى أنه ولى قضاء البصرة عمران بن الحصين فاستقال، فولى مكانه عبد الله بن فضالة، ثم أخاه عاصما، ثم زرارة بن أوفى.
ولما مات المغيرة بن شعبة أمير الكوفة في سنة 50ه - ويروى في سنة 49ه - ضم معاوية الكوفة إلى زياد، وجمع له المصرين - البصرة والكوفة - وهي أول مرة ضمتا معا أو أول مرة ضمت الولايتان لوال واحد، ثم ضم إليه خراسان، وأضاف إليه سجستان، ثم جمع له البحرين وعمان. فثبت زياد دعائم الملك لمعاوية، ومنذ ضمت إليه الكوفة في سنة 50ه أخذ يقيم في الكوفة ستة أشهر ومثلها في البصرة،
35
واستخلف على البصرة عند مسيره إلى الكوفة سمرة بن جندب، فظلم سمرة أهل البصرة حتى قيل إنه قتل ثمانية آلاف منهم في مدة قصيرة، فبلغ ذلك زياد، فأنكر عليه عمله، فعزله، وولى مكانه عبد الله بن عمر بن غيلان.
ولما مات زياد بالكوفة في رمضان في سنة 53ه أقر معاوية على البصرة عبد الله بن عمر بن غيلان، ثم عزله في سنة 55ه، وولى مكانه عبيد الله بن زياد،
36
ثم عزله في سنة 59ه، وبعد أيام قليلة أعاده إليها.
ومات معاوية في سنة 60ه/681م، وتولى بعده ولي عهده ابنه يزيد الأول؛ فأقر عبيد الله على البصرة.
كان ابن زياد مخلص النية لبني سفيان شديدا على أعدائهم، بل إنه كان أشد من أبيه على الخوارج، حتى قيل: إنه قتل منهم يوم إمارته على البصرة عددا عظيما عدا الذين قتلهم صبرا في سنة 58ه وفيهم عروة بن أدية أخو أبي بلال مرداس بن أدية، وكان سبب قتله أن ابن زياد خرج في رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع الناس وفيهم عروة بن أدية، فقال: «خمس كن في الأمم قبلنا فقد صرن فينا:
أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين .» فلما سمع ذلك ابن زياد ظن أنه لم يجترئ عليه إلا ومعه جماعة من أصحابه، فقام وركب وترك رهانه، فلام الناس عروة وقالوا له: «والله ليقتلنك»، فاختفى عروة فطلبه ابن زياد، ثم قبض عليه فقتله، فخرج مرداس أخو عروة في أربعين رجلا بالأهواز، واجتمع حوله جماعات، فأرسل إليهم ابن زياد ألفي مقاتل تحت قيادة ابن حصن التميمي فاندحر جيش ابن زياد.
وفي أيام إمارة ابن زياد على البصرة قدم الكوفة مسلم بن عقيل داعية للحسين بن علي، وكان على الكوفة يومئذ النعمان بن بشير، فبلغ ذلك يزيد الأول، فعزل النعمان عن الكوفة، وضمها إلى ابن زياد، وكتب إليه يأمره بالقبض على مسلم وقتله أو نفيه من الكوفة، وفي الوقت الذي ورد فيه كتاب يزيد إلى عبيد الله بن زياد وصل كتاب الحسين بن علي إلى شيعته من أهل البصرة مع مولى له اسمه سلمان، يقول لهم فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى مالك بن مسمع والأحنف بن قيس والمنذر بن الجارود ومسعود بن عمرو وقيس بن الهيثم، سلام عليكم. أما بعد؛ إني أدعوكم إلى إحياء معالم الحق وإماتة البدع، فإن تجيبوا تهتدوا سبيل الرشاد، والسلام» فكتموه جميعا إلا المنذر بن الجارود فإنه فشاه لتزويجه ابنته هند من ابن زياد، فدخل عليه وأخبره بالكتاب، فطلب ابن زياد رسول الحسين، وقبض عليه وقتله.
وعلى إثر ذلك استخلف ابن زياد على البصرة أخاه عثمان بن زياد، وسار هو إلى الكوفة، فخرج لتشييعه جماعة من أشراف البصرة فيهم المنذر بن الجارود وشريك بن الأعور، فوصل ابن زياد الكوفة، وجرى ما جرى هناك من خيانة الكوفيين، وغدرهم، وقتل مسلم، ثم قتل الحسين بن علي في محرم سنة 61ه، وسودت هذه الحادثة المؤلمة صحائف تاريخ بني أمية.
وعلى إثر حادثة كربلاء ظهرت الخوارج، وعظم أمرها، فوجه ابن زياد جيشا لقتالهم بالأهواز، فاندحرت عساكره، فاغتاظ حتى كان لا يدع بالبصرة أحدا ممن يتهم برأي الخوارج إلا قتله، حتى قيل: إنه قتل بالتهمة والظنة تسعمائة رجل من البصريين.
ولما مات يزيد الأول في سنة 64ه/684م تفاقم أمر الخوارج، وزادوا بمن التحق بهم من البصريين وغيرهم ممن كانوا على رأيهم، فاضطربت البصرة، وصار أهلها فرقا وأحزابا، وكان ابن زياد يومئذ بالبصرة، فلما بلغه نعي يزيد نادى: «الصلاة جامعة»، فاجتمع الناس بالمسجد فصعد ابن زياد المنبر وقال: «يا أهل البصرة إن مهاجرنا إليكم، ودارنا فيكم، ومولدي فيكم، ولقد وليتكم وما يحصي ديوان مقاتلكم إلا سبعين ألفا، ولقد أحصى اليوم مائة ألف، وما كان يحصي ديوان عمالكم إلا تسعين ألفا، ولقد أحصى اليوم مائة وأربعين ألفا، وما تركت لكم قاطبة من أخافه عليكم إلا وهو في سجنكم، وإن يزيد قد توفي، وقد اختلف الناس بالشام، وأنتم اليوم أكثر الناس عددا وأعرضهم فناء وأغنى الناس وأوسعهم بلادا، فاختاروا لأنفسكم رجلا ترضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أول راض من رضيتموه فإن اجتمع أهل الشام على رجل ترضونه لدينكم وجماعتكم دخلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن كرهتم ذلك كنتم على أحد يليكم حتى تقضوا حاجتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة، ولا يستغني الناس عنكم»، فقالوا له: «قد سمعنا مقالتك، وما نعلم أحدا أقوى عليها منك، فهلم فلنبايعك»، فأبى عليهم ذلك ثلاثا، ثم بسط يده فبايعوه بالإمارة، وانصرفوا عنه يمسحون أيديهم بحيطان المسجد، وعبد الله لا يشعر بهم، ويقولون: «أيظن ابن مرجانة أنا ننقاد له في الجماعة والفرقة؟»
وظن ابن زياد أنهم صدقوه، وأنهم بايعوه بنية خالصة، فبعث إلى أهل الكوفة من يطلب بيعتهم له فأبوا ذلك، وأمروا عليهم عامر بن مسعود حتى يجتمع الناس، ثم كتبوا إلى ابن الزبير بمكة يبايعونه بالخلافة، فلما علم البصريون بما فعله الكوفيون خلعوا طاعة ابن زياد، وسخروا منه واحتقروه - ويروى أنهم هموا بقتله - فخاف على نفسه، فاستجار بالحرث بن قيس الأزدي، ثم بمسعود بن عمرو سيد الأزد، فأجاراه، ثم هرب بحاشيته من العراق إلى الشام بعد أن أخذ من بيت المال مليونا وتسعمائة ألف درهم.
واجتمعت كلمة البصريين على توجيه الإمارة لعبد الله بن الحرث بن نوفل، فولوه عليهم إلى أن يجتمع الناس على إمام، وذلك في السنة نفسها 64ه، وهم يومئذ لا إمام لهم ، والخوارج قد صاروا على قاب قوسين أو أدنى منهم.
وخاف البصريون على أنفسهم من الخوارج، فاجتمعوا على توجيه مسلم بن عبيس القرشي لقتالهم، وجمعوا له خمسة آلاف فارس، وسيروه، فالتقى مسلم بالخوارج، فكسروا جيشه، ووقع هو قتيلا في المعركة في محل يسمى الدولاب، فجهزوا جيشا ثانيا - زهاء عشرة آلاف راجل - وأودعوا القيادة إلى عثمان بن معمر القرشي، وسيروه لقتال الخوارج، فلحقهم بفارس، فدارت الدائرة على جيش البصريين، ووقع قائده عثمان قتيلا. (8-2) خروج البصرة من يد الأمويين
وعلى إثر ما تقدم كتب البصريون إلى عبد الله بن الزبير بمكة يعلمونه أن لا إمام لهم، ويبايعونه بالخلافة، ويسألونه أن يوجه إليهم رجلا من قبله يتولى أمر البصرة،
37
فوجه إليهم عمر بن عبد الله بن عمر التميمي، وذلك في سنة 64ه، وكان البصريون يومئذ منقسمين إلى فرق وأحزاب، فاضطرب أمر الإدارة على الأمير فعزله ابن الزبير، وولى مكانه الحرث بن أبي ربيعة المخزومي، وذلك في سنة 65ه - وسماه بعضهم الحارث، ولما وصل الحرث إلى البصرة جمع أهلها واستشارهم في رجل يوليه حرب الخوارج، فطلبوا القائد المشهور المهلب بن أبي صفرة، وكانت الخوارج المعروفين بالأزارقة قد استولوا حينذاك على أصفهان والأهواز وما بينهما، وتوجهوا نحو البصرة حتى اقتربوا منها، وكان المهلب قد قدم من عند عبد الله بن الزبير إلى البصرة وقد ولاه خراسان، فاجتمع أشراف البصرة وأميرها الحرث، وأحضروا المهلب، وطلبوا منه أن يتولى حرب الخوارج فاعتذر بعهده على خراسان أولا، ثم لبى طلبهم، وانتخب من البصريين ممن يعرف شجاعته ونجدته اثني عشر ألف مقاتل - ويروى عشرون ألفا،
38
وسار حتى التقى بالخوارج، وصار يزيحهم مرحلة بعد مرحلة، حتى انتهوا إلى منزل من الأهواز، وهناك حدثت بين الفريقين معركة هائلة، كاد أهل البصرة ينهزمون لولا ثبات المهلب وقوة جأشه، وأصابت المهلب ضربة في وجهه أغمي عليه منها، فظن أصحابه أنه قد مات، فهاجموا وهجموا هجمة المستميت، فقتلوا عددا كبيرا من الخوارج فيهم زعيمهم نافع بن الأزرق - وقيل: عبيد الله بن الماحوز - وانهزم الباقون هزيمة منكرة إلى كرمان وجانب أصفهان.
وبلغ أهل البصرة أن المهلب قد قتل، فرجت المدينة بأهلها وهم أمير البصرة الحرث أن يهرب، وبينما هم في خوف واضطراب إذ أقبل رسول المهلب يبشرهم بسلامته وبالنصر، ومعه كتاب المهلب يعرفهم بالظفر وبما حدث، فاستبشروا بذلك واطمئنوا إليه، وأقام أمير البصرة بعد أن هم بالهرب، وأرسل كتاب المهلب إلى ابن الزبير، وذلك في سنة 65ه وبقي المهلب يطارد الخوارج مدة طويلة.
وفي أيام إمارة الحرث بن أبي ربيعة أرسل مروان بن الحكم في سنة 65ه جيشين؛ أحدهما: يقوده ابن زياد إلى إخضاع الجزيرة، وولاه إياها على أن يسير بعد فتحها إلى العراق لأخذه من ابن الزبير، والثاني: يقوده حبيش بن دلجة لقتال عامل ابن الزبير في المدينة «يثرب»، فانتصر حبيش على أمير المدينة، فأرسل أمير البصرة الحرث جيشا من البصرة تحت قيادة حنيف التميمي نجدة لأمير المدينة فاندحر جيش حبيش، ووقع هو قتيلا في المعركة، وعادت فلول جيشه إلى الشام. أما ابن زياد فإنه لما وصل الجزيرة أتاه كتاب عبد الملك بن مروان يخبره بموت أبيه مروان، ويستعمله على ما استعمله عليه أبوه، ويحثه على المسير إلى العراق، فسار حتى إذا كان بعين الوردة قابلته عصابة كبيرة مقبلة من العراق تحت قيادة سليمان بن صرد الخزاعي الكوفي،
39
فتقاتلوا فقتل سليمان ومعظم جيشه، وأقام ابن زياد هناك يترقب الفرص للزحف على العراق.
أما عبد الله بن الزبير: فإنه لما بلغه ما كان من عزم عامله بالبصرة على الهرب عزله، وولى البصرة عبد الله بن معمر، وذلك في سنة 65ه، وفي هذه السنة حدث طاعون بالبصرة، وفتك بأهلها فماتت به أم الأمير عبد الله ثم مات هو أيضا، فولى ابن الزبير على البصرة ابنه حمزة، وكان ضعيف الرأي والتدبير، فعجز عن إدارة الإمارة، واحتقره البصريون، فعزله أبوه، وأعاد الحرث بن أبي ربيعة وذلك في سنة 66ه.
وفي أثناء تلك الفوضى السائدة في العراق وغيره كان قد خرج المختار بن عبيد الثقفي بالعراق مطالبا بدم الحسين بن علي، فاستولى على الكوفة في سنة 66ه/675م وقاتل قاتلي الحسين وظفر بهم وقتلهم، وفيهم شمر بن ذي الجوشن وعمر بن سعد بن أبي وقاص وحفص بن عمر والمذكور وغيره، وبعث برءوسهم إلى محمد بن الحنفية نجل الإمام علي، ثم حارب عبد الله بن زياد فاستولى على الموصل، ولم يزل يقاتل ابن زياد حتى قتله وأحرق جثته في سنة 67ه بعد أن هزم جيوشه، ولكنه كان غير مخلص النية لأحد؛ لأنه من جملة الطامعين بالسيادة في أثناء تلك الفوضى، فكان يدعو الناس إلى بيعة محمد بن الحنفية ظاهرا، وهو يريدها لنفسه باطنا، ولم يكن محمد راضيا بتلك الدعوة، فكتب إليه يتبرأ منه، فحول دعوته لابن الزبير فحدث بينهما اختلاف فيما أنفقه المختار من بيت المال، فخلع المختار طاعة ابن الزبير، واستقل بالكوفة، وكتب إلى علي بن الحسين يرغبه في الخلافة على أن يكون هو وأهل الكوفة أول مبايعيه، فلم يجبه علي إلى ما طلب، فخشي ابن الزبير استفحال أمر المختار فولى أخاه مصعبا العراقين، وعهد إليه أن يقاتل المختار، وأن يستعين بالمهلب بن أبي صفرة، وأن يصلح شئون المصرين - البصرة والكوفة - وذلك في سنة 67ه. (8-3) إمارة مصعب بن الزبير على العراق
تقدم ذكر الأسباب التي دعت عبد الله بن الزبير أن يولي أخاه مصعبا إمارة العراقين في سنة 67ه/687م خصوصا وأنه كان خائفا من أن يحمل عبد الملك بن مروان على العراق وليس هناك من هو كفؤ لملاقاته من القواد المحنكين، ولما قدم مصعب البصرة دخلها متلثما، فدخل المسجد وصعد منبره، فقال الناس: «أمير أمير»، فاجتمعوا، وجاء الأمير المعزول «الحرث» فسفر مصعب لثامه فعرفوه، وأمر مصعب الحرث بصعود المنبر فأجلسه تحته بدرجة، ثم قام مصعب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
بسم الله الرحمن الرحيم:
طسم * تلك آيات الكتاب المبين * نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون
إلى قوله:
من المفسدين (فأشار بيده نحو الشام)،
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (وأشار نحو الحجاز).
ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (وأشار نحو الكوفة).
ثم قال: «يا أهل البصرة، بلغني أنكم تلقبون أمراءكم، وقد لقبت بالجزار»، ويروى أنه قال: «يا أهل البصرة، لا يقدم عليكم أحد إلا لقبتموه، وأنا ألقب نفسي بالجزار.» فصاروا يلقبونه بالجزار، ومكث مصعب في البصرة أياما.
ثم استقدم المهلب بن أبي صفرة؛ ليستعين به كما أمره به أخوه عبد الله، وجاءه أشراف الكوفة وهو بالبصرة، وطلبوا منه أن يسير لتخليص الكوفة من المختار، فجند جيشا عظيما قاده بنفسه ومعه أشراف البصريين، وسار إلى الكوفة لقتال المختار، فالتقى به، وبعد عدة معارك، حدثت بينهما معركة عنيفة دامت ثلاثة أيام متواليات، فانهزم المختار، فحصره مصعب وقتله، ونزل رجاله على حكم مصعب، وكانوا سبعة آلاف - ويروى ثمانية آلاف - فقتلهم كلهم صبرا، وبعث برأس المختار إلى أخيه عبد الله بن الزبير بمكة، وذلك في سنة 67ه. وبقتل المختار تم أمر ابن الزبير في العراق، وهدأت أحوال البصرة وغيرها، وبقي مصعب تارة يمكث في البصرة وآونة بالكوفة.
فلما كانت سنة 70ه أرسل عبد الملك بن مروان خالد بن عبد الله بن أسيد إلى البصرة؛ ليثير القبائل التي حولها على ابن الزبير. فوصل خالد مستخفيا في خاصته، ونزل على عمرو بن أصمع الباهلي، فبلغ ذلك صاحب شرطة البصرة عباد بن الحصين فسار إليه يطلبه، ولم يكن يومئذ مصعب بالبصرة، فانهزم خالد والتجأ بخالد بن مسمع فأجاره، وأرسل إلى قبيلتي بكر بن وائل والأزد، فأتته فرسان القبيلتين، وأول راية وصلته راية بني يشكر، فبلغ ذلك ابن الحصين، فأقبل في الخيل فتواقفوا بغير قتال، فلما كان الغد سار خالد بمن معه إلى محل يسمى الجفرة، فجاءه مدد من عبد الملك بن مروان عليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان، وفي الوقت نفسه أرسل مصعب ألف فارس مددا لابن الحصين؛ فاشتبكوا في القتال، وكانت الحرب سجالا بين الفريقين، وبعد معارك دامت أربعة وعشرين يوما اصطلحوا على شرط أن يخرج خالد من العراق، فخرج، وعلى إثر ذلك جاء مصعب إلى البصرة فأقام بها.
ولما كانت سنة 71ه سار مصعب بجماعة من رؤساء أهل العراق ووجوههم وأشرافهم قاصدا مكة. فلما وصل دخل على أخيه عبد الله فقال: «يا أمير المؤمنين، قد جئتك برؤساء أهل العراق وأشرافهم، كل مطاع في قومه، وهم الذين سارعوا إلى بيعتك، وقاموا بإحياء دعوتك، ونابذوا أهل معصيتك، وسارعوا في قطع عدوك، فأعطهم من هذا المال»، فقال عبد الله: «جئتني بعبد أهل العراق وتأمرني أن أعطيهم من مال الله، لا أفعل، وايم الله إني لوددت أن أصرفهم كما تصرف الدنانير بالدراهم؛ عشرة من هؤلاء برجل من أهل الشام»، فقال رجل منهم: «علقناك وعلقت أهل الشام»، ثم انصرفوا وهم ناقمون عليه، وقد يئسوا مما عنده، لا يرجون رفده، ولا يطمعون فيما عنده، ويروى أنهم بعد أن رجعوا إلى العراق اجتمعوا وأجمعوا على خلع ابن الزبير، فكتبوا سرا إلى عبد الملك بن مروان أن أقبل إلينا. (8-4) رجوع البصرة إلى بني أمية
كان مروان بن الحكم قد مات في سنة 65ه/684م، وتولى مكانه ابنه الداهية عبد الملك، فاشتغل بإخماد الثورات التي كانت في سورية، ثم أرسل في سنة 70ه خالد بن عبد الله؛ ليثير القبائل العراقية على ابن الزبير - كجس النبض - فلما انتهى من أشغاله في سورية في سنة 72ه استعد لقتال عبد الله بن الزبير، وكان قد بلغه ما جرى في العراق على يد المختار ثم على يد مصعب، وما حدث من الفتن والثورات حتى دانت البلاد العراقية لابن الزبير، وبلغ عبد الله بن الزبير استعداد عبد الملك، فكتب إلى أخيه مصعب بالكوفة يأمره بالمسير إلى الشام لقتال عبد الملك، فاستعد مصعب للمسير، وجهز الجيوش، وجعل على مقدمته إبراهيم بن الأشتر، وفي الوقت نفسه جهز عبد الملك جيشا عرمرما وسار به من الشام قاصدا العراق لمحاربة مصعب بن الزبير، واستصحب معه جماعة من القواد الكبار، فيهم الحجاج بن يوسف الثقفي، فالتقى الجيشان بمسكن،
40
وذلك في سنة 72ه.
وكان عبد الملك ومصعب قبل ذلك متصافيين وصديقين متحابين، فبعث إليه عبد الملك أن ادن مني أكلمك، فدنا كل واحد من صاحبه، وتنحى الناس، فسلم عبد الملك عليه ، وقال له: «يا مصعب، قد علمت ما أجرى الله بيني وبينك منذ ثلاثين سنة، وما اعتقدته من إخائي وصحبتي، والله أنا خير لك من عبد الله، وأنفع منه لدينك ودنياك، فثق بذلك مني، وانصرف إلى وجوه هؤلاء القوم، وخذ بيعة هذين المصرين - البصرة والكوفة - والأمر أمرك لا تعصى ولا تخالف، وإن شئت اتخذتك وزيرا لا تعصى»، فقال له مصعب: «أما ما ذكرت في من ثقتي بك ومودتي وإخائي فذلك كما ذكرته، ولكن بعد قتلك عمرو بن سعيد لا يطمأن إليك، وهو أقرب رحما مني إليك وأولى بما عندك فقتلته غدرا، ووالله لو قتلته في ضرب وحرب لمسك عاره ولما سلمت من إثمه، وأما ما ذكرته من أنك خير لي من أخي فدع عنك أبا بكر، وإياك وإياه، لا تتعرض له، واتركه ما تركك، واربح عاجل عافيته، وارج الله في السلامة من عاقبته»، فقال عبد الملك: «لا تخوفني به، فوالله إني لأعلم منه مثل ما تعلم، إن فيه ثلات لا يسود بها أبدا: عجب قد ملأه، واستغناء برأيه، وبخل التزمه.»
فلما يئس عبد الملك من مصعب رجع إلى مقره، وكتب إلى رؤساء العراقين - البصرة والكوفة - الذين هم أمراء جيش مصعب يفسدهم عليه، ويدعوهم إلى نفسه، ويوعدهم خيرا إن أطاعوه، ويهددهم شرا إن هم عصوه، وجعل لهم أموالا عامة وعهودا وشروطا، وكتب إلى إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي قائد مقدمة مصعب يجعل له وحده مثل جميع ما جعل لأصحابه على أن يخلعوا عبد الله بن الزبير، فأجابه أكثرهم، وشرطوا عليه شروطا، وسألوه الولايات؛ لأن نياتهم كانت قد فسدت على ابن الزبير، حتى قيل: إن أربعين زعيما منهم سألوه ولاية أصبهان، فقال عبد الملك لمن حضره: «ويحكم ما أصبهان هذه؟!» تعجبا ممن طلبها، كل ذلك جرى ومصعب لا يتصور الغدر في أصحابه. فجاءه أحدهم وهو إبراهيم بن الأشتر فأراه كتاب عبد الملك، وأكد له أنه كاتب غيره، ونصحه أن يستوثق منهم أو يقتلهم؛ لئلا يكونوا سببا لفشله، فقال مصعب: «ما كنت لأفعل ذلك حتى يستبين لي ذلك من أمرهم»، قال إبراهيم: «فأخرى»، قال: «وما هي؟» قال: «احبسهم في السجن حتى يتبين ذلك»، فأبى مصعب، فقال إبراهيم: «عليك السلام ورحمة الله وبركاته»، وكان إبراهيم هذا قد قال لمصعب قبل ذلك: «دعني أدعو أهل الكوفة بدعوة لا يخلعونها أبدا، وهي ما شرط الله»، فقال مصعب: «لا، والله لا أفعل، لا أكون قتلتهم بالأمس وأستنصر بهم اليوم.»
وعلى إثر ذلك اشتبكوا في القتال، والتحم الجيشان، فلما حمي وطيس الحرب حول هؤلاء الرؤساء برءوسهم ومالوا إلى عبد الملك وانضموا إليه بجموعهم، ومصعب ينظر إليهم وقد ندم على عدم سماعه النصيحة من إبراهيم، ولات ساعة مندم، وبقي في شرذمة قليلة من المخلصين له. فلما غدر أهل العراق بمصعب وانجلت خيانتهم قال لابنه عيسى: «يا بني، انج بنفسك، فلعن الله أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق»، فقال عيسى: «لا خير في الحياة بعدك يا أباه»، وظل يقاتل مع أبيه قتالا شديدا حتى قتل هو وإبراهيم بن الأشتر وجماعة من أنصار مصعب، وحمل عبيد الله بن زياد بن ظبيان على مصعب، فقال: «أيها الناس، أيها الأمير»، فقال مصعب: «غدركم يا أهل العراق»، فرفع عبيد الله سيفه ليضرب مصعبا فبدره مصعب بالسيف على البيضة، فنشب فيها، فجعل يقلب السيف ولا ينتزع من البيضة، فجاء غلام لعبيد الله فضرب مصعبا بالسيف فقتله، ثم حز رأسه عبيد الله وسار به إلى عبد الملك، فلما رآه سجد شكرا لله، وذلك في جمادى الآخرة سنة 72ه، ودفن مصعب في محل المعركة، ولم يكن لفشله سبب غير غدر أهل المصرين - البصرة والكوفة. (8-5) إمارة خالد
وعلى إثر ما تقدم بايع أهل العراق لعبد الملك بن مروان، فدخل الكوفة باحتفال عظيم فبايعه أهلها، ولما سكن الحال ولى على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وبعد أن دبر عبد الملك شئون البلاد العراقية جهز الحجاج بن يوسف الثقفي بجيش كبير - قيل: أرسل معه ألفا وخمسمائة من أهل الشام عدا أهل العراق - وسيره لقتال عبد الله بن الزبير بمكة ، فانتصر الحجاج، ومات ابن الزبير قتيلا في سنة 73ه وانتهت الخلافة، ولم يبق أمام عبد الملك من مناظر، وكانت مدة حكم ابن الزبير على البصرة ثمانية سنوات (64-72ه)، أما أمير البصرة الجديد خالد بن عبد الله، فإنه عزل المهلب بن أبي صفرة عن حرب الخوارج، وولاه الأهواز، وأرسل أخاه عبد العزيز بن عبد الله على حرب الخوارج، فهزموه هزيمة منكرة، فلما بلغ خالدا خبر الهزيمة كتب إلى عبد الملك يخبره بها، فكتب إليه يقول: «أما بعد؛ فقد قدم رسولك بكتابك تعلمني فيه بعثتك أخاك على قتال الخوارج، وبهزيمة من هزم وقتل من قتل، وسألت رسولك عن مكان المهلب، فحدثني أنه عامل لك على الأهواز، فقبح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال وتدع المهلب إلى جنبك يجبي الخراج وهو الميمون النقية الحسن السياسة البصير بالحرب المقاسي لها ابنها وابن أبنائها، انظر، ينهض بالناس حتى تستقبلهم بالأهواز ومن وراء الأهواز، وقد بعثت إلى بشر أن يمدك بجيش من أهل الكوفة، فإذا لقيت عدوك فلا تعمل فيهم برأي حتى تحضره المهلب وتستشيره فيه إن شاء الله.» فخرج خالد بجيش البصرة، وجاءه المدد من الكوفة - خمسة آلاف مقاتل - فسار حتى وصل الأهواز، ففشلت جيوشه. فلما علم بذلك عبد الملك ورآه غير ممتثل لأمره عزله، وضم البصرة إلى أخيه بشر بن مروان، وذلك في سنة 72ه، وصارت له إمارة المصرين - البصرة والكوفة، وفي أيام إمارة خالد في سنة 72ه اجتمع الزنوج بفرات البصرة ونهبوا وسلبوا ودمروا بعض القرى المجاورة للبصرة، فجمع لهم خالد جيشا فهزمهم، وقبض على جماعة منهم فقتلهم، وعلى إثر ذلك اجتمع الزنوج وأمروا عليهم رباح الملقب ب «شيرزنجي»، وساروا لقتال البصريين فحدثت بين الفريقين عدة معارك انجلت عن تمزيق الزنوج.
ولما ضم عبد الملك البصرة إلى أخيه بشر في سنة 72ه استخلف على الكوفة عمرو بن حريث، وسار إلى البصرة، فورده كتاب عبد الملك يقول فيه: «أما بعد، فابعث المهلب في أهل مصره إلى الأزارقة - الخوارج، ولينتخب من أهل مصره ووجوههم وفرسانهم وأولي الفضل والتجربة منهم، فإنه أعرف بهم، وخله ورأيه في الحرب فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين.» فدعا بشر المهلب، وتلا عليه كتاب عبد الملك، فلبى الأمر، وشرعا بتجهيز الجيوش، وجاءتهم نجدة من الكوفة، فسار المهلب بالجيوش حتى وصل رامهرمز وبها الخوارج، وقبل الاشتباك بالحرب جاءهم نعي بشر بن مروان من البصرة وخبر إسناد إمارة البصرة إلى خالد بن عبد الله بن أسيد، فرفض القتال كثير من أهل البصرة والكوفة، فكتب إليهم خالد يأمرهم بالعودة ويحذرهم المخالفة، فلم يجد ذلك فيهم نفعا، وذلك في سنة 73ه. وفي أيام بشر كثرت الخوارج في أطراف البصرة، وأغاروا على القرى، وخربوا عدة منها، وقتلوا ونهبوا، فجهز لهم بشر فمزق جموعهم. (8-6) إمارة الحجاج
دخلت سنة 75ه الموافقة لسنة 695م فولى عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي العراقين - البصرة والكوفة،
41
فوصل الحجاج الكوفة في اثني عشر راكبا على النجائب، وأرسل إلى البصرة الحكم بن أيوب الثقفي أميرا من قبله، وبعد أيام قليلة سار الحجاج إلى البصرة، فاستقبله الناس، فلما وصلها دخل مسجدها، وخطب خطبة تشابه خطبته بالكوفة، وبعد أن هددهم وتوعدهم قال: «إن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم - يعني الخوارج - مع المهلب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أخذه عطاءه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه»، ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون، فجاءه رجل يشكري فقال: «أيها الأمير، إن بي فتقا، وقد رآه بشر بن مروان فعذرني، وهذا عطائي مردود في بيت المال.» فلم يقبل الحجاج عذره وقتله، ففزع لذلك البصريون، خصوصا وأنهم كانوا قد حقدوا عليه، وأضمروا له الشر منذ أغلظ لهم القول في خطبته وتهددهم، فخرجوا حتى تداركوا على العارض بقنطرة رامهرمز، وخرج الحجاج حتى نزل رستقاباذ ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخا، فقام الحجاج في الناس، فقال: «إن الزيادة التي زادكم ابن الزبير في أعطياتكم لست أجيزها»، فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدي، وقال: «إنها ليست بزيادة ابن الزبير، ولكنها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك، أثبتها لنا»، فكذبه الحجاج وتوعده، وذلك في أوائل شعبان سنة 75ه.
ثم وجه الحجاج المهلب لقتال الخوارج، ووجه معه البصريين والكوفيين، وظل المهلب يطارد الخوارج مدة حتى قهرهم بعد أن جرت له معهم حروب عديدة لا محل لذكرها هنا، وظل البصريون يضمرون الشر للحجاج حتى اجتمعوا سرا فبايعوا عبد الله بن الجارود بالإمارة، فخرج ابن الجارود في سنة 77ه، وتبعه وجوه البصرة، فتجهز الحجاج لقتالهم، وبعد عدة معارك خاف أصحاب ابن الجارود من أن يمد عبد الملك الحجاج بالجيوش؛ فانضمت إليه جماعة بعد أخرى، حتى انحاز أكثرهم إلى الحجاج، وظل ابن الجارود بشرذمة قليلة فانتصر الحجاج، وقتل زعيم الثورة ابن الجارود وجماعة من أصحابه، ودخل البصرة ظافرا. ثم حدثت الحروب المشهورة بين الحجاج وشبيب بالكوفة، كان النصر في آخرها للحجاج. (8-7) استيلاء ابن الأشعث على البصرة
ولما بعث الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث إلى سجستان لقتال الثائرين هناك جهز عشرين ألفا من البصرة ومثلهم من الكوفة، وسيرهم معه إلى سجستان. فلما صالح ابن الأشعث الثائرين عزله الحجاج، فاتفق ابن الأشعث مع رؤساء جيشه على الخروج على الحجاج، فعادوا من سجستان، فلما كانوا في فارس خلعوا عبد الملك بن مروان، وبايعوا ابن الأشعث، فسار بهم إلى العراق قاصدا قتال الحجاج ونفيه من البلاد، وبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عبد الملك يخبره ويسأله أن يوجه إليه الجنود من الشام ، فبادر عبد الملك بإرسال الجنود، والحجاج مقيم بالبصرة، وبعد قليل وصل ابن الأشعث العراق، فالتقى جيشه بجيش الحجاج في «تستر»، فانكسرت مقدمة الحجاج وجاءته الهزيمة، فرجع ونزل الزاوية، وجاءت جيوش ابن الأشعث حتى نزلت البصرة، فبايعه أهلها، وكان دخوله فيها في آخر ذي الحجة سنة 81ه.
وعلى إثر ذلك جمع الحجاج جيشه، وجاءته الإمدادات من سورية، فتقابل الجيشان بالزاوية، فانكسرت جيوش ابن الأشعث، فاضطر إلى الخروج من البصرة، فخرج منها وسار إلى الكوفة. أما الحجاج: فإنه ولى على البصرة أميرها السابق الحكم بن أيوب الثقفي، وسار هو بجيوشه في إثر ابن الأشعث، وبعد حروب استمرت مدة طويلة انتصر الحجاج انتصارا نهائيا في جمادى الآخرة سنة 83ه، وفر ابن الأشعث إلى سجستان، وهناك مات منتحرا.
وفي أيامه في سنة 80ه حدث بالبصرة طاعون، فمات به خلق كثير، وفر منه عدد كبير من البصريين، وتفرقوا في البلاد.
ولما مات عبد الملك بن مروان في سنة 86ه الموافقة لسنة 705م وتولى ابنه الوليد؛ أقر الحجاج على العراق وخراسان والشرق كله، وفي سنة 87ه ولى الحجاج البصرة الجراح بن عبد الله العكي، ثم مات الحجاج في سنة 95ه الموافقة لسنة 713م بمدينة واسط التي بناها في سنة 81ه، بعد أن حكم العراق زهاء عشرين سنة. (8-8) استيلاء ابن المهلب على البصرة
كان الحجاج لما حضرته الوفاة قد استخلف على حرب المصرين يزيد بن أبي كبشة، وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، وعلى الصلاة ابنه عبد الله بن الحجاج، فأقرهم الوليد بن عبد الملك، ثم ولى إمارة العراق في السنة نفسها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، وذلك في سنة 95ه.
فلما مات الوليد في سنة 96ه/714م وبويع لأخيه سليمان بن عبد الملك ولى العراق يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فأقام يزيد بالبصرة، فلما كانت سنة 97ه نقله إلى ولاية خراسان، وولى على البصرة بدله عبد الله بن هلال الكلابي، ثم عزله في سنة 98ه وجعل مكانه سفيان بن عبد الله الكندي.
ولما مات سليمان بن عبد الملك في سنة 99ه الموافقة لسنة 717م وتولى الخلافة عمر بن عبد العزيز ولى على البصرة عدي بن أرطأة الفزاري، وولى قضاءها إياس بن معاوية بن قرة بن إياس بن هلال القاضي المشهور، وفي السنة نفسها عزل عمر يزيد بن المهلب عن خراسان، وأمر بالقبض عليه وإحضاره، وكان يزيد يومئذ في خراسان، فأقبل منها يريد العراق، فلما دخل البصرة قبض عليه أميرها عدي بن أرطأة، فحبسه ثم أوثقه، وبعثه مخفورا إلى عمر بن عبد العزيز بدمشق، فلما حضر سأله عمر عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك، فقال يزيد: «كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني به»، فقال عمر: «لا أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله، وأد ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين، ولا يسعني تركها»، فلما لم يجد عمر عند يزيد عذرا مقبولا أمر بحبسه بحصن حلب، واستمر يزيد بن المهلب في سجنه، فلما مرض عمر بن عبد العزيز مرضه الذي مات فيه في سنة 101ه/720م حس ابن المهلب بقرب موت عمر، فأعد للهرب عدته خوفا من يزيد بن عبد الملك لعداوة بينهما، فانهزم من السجن قاصدا البصرة، وكتب إلى عمر: «إني والله لو وثقت بحياتك لم أخرج من محبسك، ولكني خفت أن يلي الخلافة يزيد بن عبد الملك فيقتلني شر قتلة» فوصل كتابه وبعمر رمق فقال: «اللهم إن كان يريد بالمسلمين سوءا فألحقه به، وهضه فقد هاضني.»
ومات عمر بعد أيام قليلة، وتولى مكانه يزيد بن عبد الملك بن مروان، فبلغ ذلك يزيد بن المهلب فخلع طاعة بني مروان، ولحق بالبصرة، ودعا لنفسه، فاجتمع حوله خلق، وبلغ جيشه مائة وعشرين ألف مقاتل، فحمل على البصرة بعد أن استولى على أطرافها وعلى فارس والأهواز، فحصن البصرة أميرها عدي بن أرطأة، ودافع عنها دفاعا شديدا، وبعد حروب استولى ابن المهلب على البصرة، وقبض على عدي وجماعة من أصحابه فحبسهم، واستعمل الشدة، فهرب جماعة من أعيان البصرة إلى الشام وجماعة إلى الكوفة، وذلك في سنة 101ه/720م، وقوي أمر ابن المهلب، فخافه يزيد بن عبد الملك، فجهز جيشا كبيرا من الشام بلغ عدده ثمانين ألف مقاتل، وسيره تحت قيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك، وأرسل معه ابن أخيه العباس بن الوليد، وذلك في سنة 102ه.
أما ابن المهلب فإنه لما بلغه قدوم جيش ابن عبد الملك استعد لملاقاته، وجمع أهل البصرة فخطب فيهم، ودعاهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وحثهم على جهاد بني أمية، وزعم أن قتال أهل الشام أعظم ثوابا من قتال الترك والديلم، فانضم إليه من البصريين عدد كبير، فلما تهيأ للمسير اصطف له البصريون صفين، وقد نصبوا الرايات والرماح وهم ينتظرون خروجه، ويقولون: «يدعونا إلى سنة العمرين»، فاتفق أن مر الحسن البصري سيد فقهاء أهل البصرة، فرأى الرايات والرماح وصفوف البصريين فقال: «كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون، ثم يسرح بها إلى بني مروان يريد بهلاك هؤلاء القوم رضاهم، فلما غضب غضبة نصب قصبا، ثم وضع عليها خرقا، ثم قال: «إني قد خالفتهم فخالفوهم»، فقال هؤلاء القوم: «نعم»، وقال: «إني أدعوكم إلى سنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله ثم يرد إلى محبس عمر الذي فيه حبسه»، ويروى أن الحسن كان ممن حضر خطبة ابن المهلب، فلما سمعها قال: «والله لقد رأيناك واليا وموليا فما ينبغي لك ذلك»، فقام الناس فأسكتوه خوفا من أن يسمعه ابن المهلب.
ثم ولى ابن المهلب أخاه مروان على البصرة - وقيل: استخلف على البصرة ابنه معاوية - وخرج بجيوشه حتى أتى واسطا، فأقام بها أياما، ثم سار منها حتى نزل العقر، وأقبل مسلمة بن عبد الملك فنزل بجيوشه على ابن المهلب، فاشتبكوا في القتال، فكانت بين الفريقين حروب هائلة دامت ثمانية أيام، فلما حمي وطيس الحرب تفرق أصحاب ابن المهلب، وثبت معه البصريون، فاستمات ابن المهلب، وهجم بأصحابه الصادقين هجمات هائلة لم يسمع بمثلها حتى قتل في يوم الجمعة 12 صفر سنة 102ه، وقتل معه أخوه حبيب بن المهلب
42
وجماعة من أصحابه المخلصين، وفر من نجا، وقتل في هذه الحادثة ثمانية عشر ألف رجل من البصريين - ويروى ثمانية وعشرون ألفا، فلما بلغ أهل البصرة خبر قتلاهم ارتجت المدينة، وكثرت فيها المآتم، حتى قيل: إن المآتم دامت نحو سنة.
ولما انتهت فتنة ابن المهلب أسند يزيد بن عبد الملك إمارة العراق وخراسان إلى أخيه مسلمة، فاستخلف هذا الأمير على البصرة عبد الرحمن بن سليمان الكلبي، وذلك في سنة 102ه، ثم عزل يزيد أخاه مسلمة في سنة 103ه، وأرسل بدله عمر بن هبيرة الفزاري، فاستخلف ابن هبيرة على البصرة موسى بن عبد الله. فلما مات يزيد وتولى أخوه هشام بن عبد الملك في سنة 105ه/724م أقر ابن هبيرة على العراق، ثم عزله في سنة 106ه، وولى مكانه خالد بن عبد الله القسري، فأرسل خالد عقبة بن عبد الأعلى أميرا على البصرة، حتى إذا كانت سنة 109ه عزله، ووجه إمارة البصرة إلى أبان بن صبارة اليثربي، ثم عزله في سنة 110ه، فولى مكانه بلال بن أبي بكرة - ويروى ابن أبي بردة - وضم إليه قضاء البصرة، وفي أول إمارته في سنة 110ه مات بالبصرة الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشاعر المشهور الفرزدق، وفي أيامه في سنة 116ه حدث بالبصرة طاعون دام أكثر من شهر، فمات به عدد كبير من البصريين، وفي أيامه أحصيت نفوس أهل البصرة بعد الطاعون فكانت ثلاثمائة ألف نسمة، ولما كانت سنة 120ه عزل هشام خالدا عن العراق، وولى مكانه يوسف بن عمرو الثقفي، فأرسل يوسف كثير بن عبد الله السلمي أميرا على البصرة. فمات هشام في سنة 125ه/743م، وتولى بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فقتل في سنة 126ه، وجلس مكانه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فولى إمارة العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في السنة نفسها، فاستخلف على البصرة المسور بن عمرو بن عباد، وفي أيامه ظهرت الدعوة العباسية، ودخل البصرة سرا دعاة بني العباس، فنشروا دعوتهم، فاستجاب لهم كثير من البصريين خفية؛ لأنهم كانوا قد سئموا حكم الأمويين، فلما مات يزيد بعد ستة أشهر بويع لإبراهيم بن الوليد، فخلع نفسه وبايع مروان بن محمد في سنة 127ه/745م، وفي كل هذه المدة كانت الفتن متوالية في العراق؛ بل إن المملكة الإسلامية كانت بعد هشام بن عبد الملك كشعلة نار. (8-9) انقراض الدولة الأموية من البصرة
كان مروان بن محمد قد أقر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز على إمارة العراق، فخرج عليه الضحاك بن قيس، فحدثت بينه وبين عبد الله ابن عبد العزيز عدة حروب، انتصر في أكثرها الضحاك، ثم حمل على البصرة وحاصرها ثمانية أيام حتى اضطر أميرها المسور إلى تسليمها، فسلمها إلى الضحاك بعد أن أعطاه الأمان، وذلك في سنة 128ه/745م، فبلغ ذلك مروان فعزل عبد الله بن عمر عن العراق، وأرسل بدله يزيد بن هبيرة، وسير معه جيشا كبيرا لقتال الضحاك وغيره من الخوارج، وبعد أن قمع يزيد من بالكوفة من الخوارج سار إلى البصرة وحارب من حولها من الخوارج إحدى عشر يوما، فاسترد البصرة وانهزم الضحاك، فدخل يزيد البصرة ظافرا، وضبط نواحيها، وولى عليها شبيب بن شيبة؛ فساد الأمن فيها، وذلك في سنة 129ه، وعلى إثر ذلك ثار في العراق سليمان بن هشام بن عبد الملك، وطلب الخلافة لنفسه، وانضم إليه عشرة آلاف من البصريين، وبايعوه بالخلافة، ثم سار بجموع لحرب مروان بالشام، فلاقاه مروان فانتصر عليه، وتمزقت جموع سليمان.
وفي أيام ابن هبيرة حدث بالبصرة في سنة 130ه طاعون، فمات به خلق كثير، وعلى ذلك تولى إمارة البصرة مسلم بن قتيبة الباهلي في سنة 131ه، وفي أيامه قوي أمر بني العباس، وظهرت دعوتهم، فكانت الضربة القاضية على بني أمية.
ولما انتشرت عساكر العباسيين حصن البصرة مسلم بن قتيبة، واستعد للدفاع، فأرسل عبد الله السفاح مؤسس الدولة العباسية جيشا كبيرا لأخذ البصرة بقيادة سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب، ووجه إليه إمارة البصرة. فلما وصل سفيان طلب تسليم المدينة فأبى أميرها مسلم معتمدا على ما عنده من العدد والعدد؛ إذ كان في البصرة حينذاك جماعة من بني أمية وكثير من ولاة الأمويين الذين فروا من خراسان بعد تغلب قواد بني العباس عليها، وكان فيها أربعة آلاف مقاتل جاءت نجدة إليه عدا جيوش المدينة.
فلما رأى سفيان امتناع مسلم باشر الحرب، فاشتدت المعارك سبعة أيام متوالية، فانجلت عن انتصار جيوش بني العباس، فدخل سفيان البصرة منصورا، وعلى يده انقرضت دولة بني أمية من البصرة، وذلك في سنة 132ه، وقد قتل في هذه الحادثة عدد كثير من البصريين، ونكبت هذه المدينة نكبة عظيمة يوم سقوطها؛ إذ قام الرعاع فنهبوا وسلبوا وقتلوا؛ فنهبت أكثر الأسواق، وخربت دور كثيرة - قيل بلغ عددها سبعة آلاف دار - وأحصي من قتل في هذه الفتنة من أهل بصرة فكانوا أحد عشر ألفا.
ولما دخل القائد العباسي سفيان أعلن الأمان، وأمر مناديه، فاجتمع الناس في المسجد، فخطب فيهم لبني العباس، فبايع الناس للسفاح، ثم شرع في تنظيم شئون إمارته، ثم قبض على جماعة من بني أمية الذين كانوا في البصرة، فقتلهم وصلب جثثهم، وكتب بالفتح وبالخبر إلى الخليفة السفاح بالكوفة. (8-10) تتمة لما مر
كان الأمويون كثيري الاهتمام بشئون البصرة؛ لأهمية موقعها الجغرافي والتجاري والسياسي، ولكونها وسطا بين سورية والحجاز وفارس وبين النهرين؛ ولذلك اتخذوها في بعض الأحيان مقرا لإمارة العراق، ولما رأى الناس اعتناءهم الشديد بهذه المدينة تهافتوا إليها من كل الجهات حتى أصبحت في عهدهم من أعظم مدن الشرق، وصارت مهدا للعلوم والفنون والآداب، ومركزا للتجارة والصناعة، ومجتمعا لكبار الرجال من العلماء والفقهاء والفلاسفة والشعراء وغيرهم.
ومع وجود الفتن والاضطرابات أحيانا حول المدينة وأخرى في داخلها كانت عمارتها في أيامهم تزداد عاما فعاما، حتى قيل: بلغت مساحتها في أيام إمارة خالد بن عبد الله القسري 36 ميلا مربعا، عدا المغارس التي بها البساتين والأنهار، وبالغ بعضهم فقال: بلغت أنهارها التي تجري فيها الزوارق في أيام إمارة بلال بن أبي بردة مائة وعشرين ألفا.
وكان الولاة في عهدهم يتصرفون في الإمارة، ويجبون الأموال، وينفقون منها على الجند وفي ما تقتضيه الحالة، وعلى العمارة؛ من إصلاح الجسور وحفر الترع وغير ذلك، ثم يرسلون ما بقي إلى بيت المال في مركز الإمارة العامة «الكوفة»، أو إلى بيت المال في العاصمة «دمشق».
وكانت إمارة العراق في عهدهم تسمى إمارة العراقين؛ لاشتمالها على البصرة والكوفة، وكان كل أمير يتصرف في إمارته تصرف الملوك المستقلين، ومع وجود الاضطرابات في العراق فقد بلغ معدل خراج العراق في أيامهم (130000000) درهم سنويا. (9) البصرة في عهد العباسيين
قامت دولة بني العباس في 13 ربيع الأول سنة 132ه، واتخذ السفاح مدينة الكوفة مقرا له، فبعث في السنة نفسها عساكره لأخذ البصرة من الأمويين، فانسلخت منهم على يد القائد سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب، كما تقدم ذكره، وكان السفاح قد أسند إمارة البصرة إلى سفيان المذكور، وهو أول عامل لبني العباس على البصرة، ثم عزله
43
في سنة 133ه وولى عليها عمه سليمان بن علي، وضم إليه السواد ودجلة والبحرين وعمان، فزهت البصرة في أيامه، وعمر ما خرب منها في الفتن الماضيات.
فلما مات السفاح بالهاشمية في سنة 136ه وتولى أخوه أبو جعفر المنصور أقر عمه سليمان بن علي على البصرة، ولكنه عزله في سنة 139ه، وولى عليها سفيان بن معاوية - مرة ثانية - وأمره بقتل عمه عبد الله بن علي الذي كان قد التجأ بأخيه سليمان بن علي يوم إمارته على البصرة على أثر خروجه على الخليفة، وأمره بقتل حاشيته وكل من تحزب له من البصريين، ففتك سفيان بجماعة كبيرة من البصريين؛ لتحزبهم إلى عبد الله.
وسفيان هذا هو الذي قتل عبد الله ابن المقفع بالبصرة في سنة 142ه بسبب ما اتهم به من الزندقة والكيد للإسلام بترجمته كتب الزنادقة، وفي أيامه حفر في سنة 140ه أبو الخصيب مرزوق مولى أبي جعفر المنصور نهرا في جنوبي البصرة؛ فسمي باسمه - نهر أبي الخصيب، وهو المعروف بهذا الاسم حتى اليوم - وغرس عليه نخيلا وأشجارا، وبنى على صدره قصرا فخما.
وفي أيامه ثار عيينه بن موسى بن كعب في البصرة في سنة 142ه، وخرج على الخليفة، فقدم الخليفة إلى البصرة بجيش كثيف فقمع تلك الفتنة، ثم أمر ببناء جسر من القوارب والخشب في البصرة، وعمر ما كان قد خرب من المدينة، وأمن السبل، ورجع إلى مقره. (9-1) فتنة إبراهيم بن عبد الله واستيلائه على البصرة
فلما كانت سنة 145ه قدم البصرة من الحجاز إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الإمام علي بثلاثين ألف مقاتل، فدخل البصرة، وبايعه أهلها، ثم أرسل من استولى على الأهواز وواسط، وكان أخوه محمد بن عبد الله قد خرج بالمدينة «يثرب» على أبي جعفر المنصور، فبايعه أهلها بالخلافة ولقبوه بالمهدي وبالنفس الزكية، فلما كثرت أتباعه وقوي أمره أرسل أخاه إبراهيم هذا لقتال أبي جعفر المنصور في العراق ومحو الدولة العباسية معتمدا على ميل أكثر العراقيين وأهل فارس لبني علي، وفاته أنهم لم يخلصوا النية لأحد في الجاهلية ولا في الإسلام، وأنهم هم الذين غدروا بأسلافه.
فلما بلغ ذلك أبا جعفر المنصور داهية بني العباس وزعيمهم استعد لملاقاته، وكان قد أرسل قبل قدوم إبراهيم ابن أخيه عيسى بن موسى بجيش كثيف إلى الحجاز لقتال محمد بن عبد الله فقاتله وقتل أنصاره، وفي الأخير قتله، وفل جموعه، وفتك بكثير من العلويين، ثم عاد إلى العراق فأمره بقتال إبراهيم، وكان إبراهيم قد وصله نعي أخيه وما حل بأمره، فحمل على الكوفة، فلاقاه عيسى، فتمكن بمهارته الحربية وحسن سياسته وتدبيره من تمزيق جيش إبراهيم وقتله، وقد قتل في هذه الحرب عدد كثير من البصريين الذين انضموا إلى إبراهيم، قيل كان عددهم عشرين ألفا.
فلما انتهى أبو جعفر المنصور من فتنة إبراهيم بالبصرة ولى عليها في أواخر سنة 145ه مسلم بن قتيبة الباهلي، ثم أمره في سنة 146ه بقتل أنصار إبراهيم من البصريين، وتخريب دورهم، ومصادرة أموالهم، فخشي مسلم عاقبة ذلك الفتك؛ لما في هؤلاء من كبار الرجال من أهل النجدة والشرف، فتوقف في أمرهم، فعزله المنصور، وولى عليها محمد بن سليمان بن علي العباسي.
ولما قدم البصرة محمد بن سليمان قبض على خمسة وخمسين رجلا من وجهاء البصرة وأشرافها فصلبهم، ثم قبض على خمسمائة رجل من البصريين، وأرسلهم إلى الخليفة أبي جعفر المنصور مكبلين في الحديد، وصادر أموال الجميع، وهدم دورهم، وخرب بساتينهم - ويروى أنه هدم ثلاثة آلاف دار، وأتلف نحو عشرين ألفا من النخيل - وكان عمله هذا من النكبات العظيمة التي نزلت بالبصريين، وذلك في سنة 146ه. (9-2) الاضطرابات في البصرة
وتولى إمارة البصرة بعد مسلم بن قتيبة محمد بن عبد الله السفاح في سنة 147ه، ولكنه استقال بعد ثلاثة أشهر، فوجهت إمارة البصرة في السنة نفسها إلى نخبة بن سالم، ثم عزل في سنة 150ه، وتولى مكانه عقبة بن مسلم.
ولم تكن البصرة خالية من الاضطرابات منذ فتنة إبراهيم بن عبد الله، ومع ذلك فإنها كانت زاهرة زاهية بالعلماء الأعلام، وازدحمت برجال العلم والأدب، ووصلت فيها العلوم العربية واللغة والآداب إلى أوجها.
وبقي عقبة بن مسلم أميرا على البصرة إلى سنة 152ه، فحدثت ثورة بالبحرين، فأودع الخليفة إليه إخمادها، فسار من البصرة، ووجهت إمارتها إلى جابر بن توبة، ثم عزل بعد قليل، وتولى مكانه يزيد بن منصور، وفي أيام هذا الأمير في سنة 153ه قدم الخليفة أبو جعفر المنصور من مكة إلى البصرة بعد الحج، ونزل في الجسر الكبير بالبصرة، وأقام بضعة أيام يتفقد أحوالها، ثم سار إلى بغداد، وبعد مسيره بقليل ولى البصرة عبد الملك بن ظبيان النميري في سنة 154ه،
44
وكان هذا ضعيف التدبير؛ فاستخف به أهل البصرة، وكثرت فيها اللصوص، وفقد الأمن، فعزله الخليفة في سنة 155ه، وأمر على البصرة الهيثم بن معاوية العتكي، وكان من الولاة القديرين، فأعاد الأمن إلى نصابه، وسار سيرة حسنة في الأهلين، وفي أيامه زار البصرة الخليفة أبو جعفر المنصور في سنة 155ه، وأقام بها أربعين يوما، وبنى فيها قصرا فخما، ثم عاد إلى بغداد، وكتب إلى الهيثم يأمره ببناء سور على البصرة، فبناه في السنة نفسها - 155، وعلى إثر ذلك ظفر الهيثم في سنة 156ه بعمرو بن شداد الذي كان عاملا لإبراهيم بن عبد الله على فارس فقتله بالبصرة ثم صلب جثته، وفي أيام هذا الأمير توفي بالبصرة قاضيها سوار بن عبد الله في سنة 157ه.
ولما مات الخليفة أبو جعفر المنصور في سنة 158ه وتولى الأمر ابنه محمد المهدي أقر على البصرة الهيثم بن معاوية، ثم عزله في سنة 160ه، وأرسل بدله محمد بن سليمان العباسي، وضم إليه كور دجلة والبحرين، فزهت البصرة في أيامه، وزادت عمارتها، وامتدت أبنيتها، وكثرت خيراتها، وازدحمت بالناس حتى ضاق مسجدها المشهور بالمصلين لكثرتهم، حتى قيل: بلغ عدد المصلين يوم ذاك عشرين ألف رجل، واضطر الأمير أن يستأذن من الخليفة بتوسيع المسجد، فأذن له في سنة 160ه، فوسعه، وبلغت النفقة على توسيعه مائة ألف درهم صرفت بإذن من الخليفة من بيت مال البصرة.
وظل محمد بن سليمان أميرا على البصرة إلى سنة 166ه، فعزله الخليفة محمد المهدي، وولى عليها روح بن حاتم، وفي أيام هذا الأمير في سنة 167ه ثارت القبائل القاطنة بين البصرة والبحرين، وخرجوا على الحكومة، ثم هجموا على نواحي البصرة، ونهبوا وخربوا وقتلوا، فجهز الأمير لقتالهم جيشا، فاندحر جيشه، فاضطر إلى طلب النجدة من بغداد، فأمده الخليفة بجيش كبير، فتمكن من قمع تلك الثورة، وعادت الأمور إلى مجاريها. (9-3) البصرة في عهد الرشيد
توفي الخليفة محمد المهدي في سنة 169ه، وبويع لابنه موسى الهادي، فعزل روحا عن البصرة، وولاها محمد بن سليمان - المرة الثانية - فبقي محمد على البصرة حتى مات موسى الهادي في سنة 170ه، وتولى الخلافة أخوه هارون الرشيد، فأقره على البصرة، وظل عليها إلى أن مات بها في سنة 173ه، فولى هارون الرشيد مكانه سليمان بن جعفر، ثم عزله بعد ستة أشهر، وأرسل بدله عيسى بن جعفر، ثم عزله في سنة 174ه، وولى عليها عبد الصمد بن علي العباسي، ثم ولى عليها في سنة 177ه مالك بن علي الخزاعي.
ولم يحدث بالبصرة منذ تولى الخلافة الهادي إلى هذه السنة - 177 - ما يكدر جو السياسة أو ما يخل بالإدارة والأمن؛ بل كانت هذه المدينة تزداد عمارتها يوما فيوما، وتكثر خيراتها شهرا فشهرا، وازدحمت بالعلماء الأعلام حتى وصلت إلى أرقى درجات الكمال خصوصا في أيام هارون الرشيد؛ فإنها صارت من أكبر مدن الإسلام، ومركزا للعلماء العظام، ومهدا للعلوم والفنون والآداب، وقد زارها هذا الخليفة في سنة 180ه وبقي فيها بضعة أيام يتفقد شئونها، وينشط علماءها على سعيهم المتواصل، ثم عاد إلى بغداد، فولى عليها في سنة 181ه إسحاق بن سليمان، ثم انتقلت إمارة هذه المدينة في عهده من إسحاق بن سليمان إلى سليمان بن أبي جعفر في سنة 184ه، ثم إلى عيسى بن جعفر في سنة 185ه، ثم إلى الحسن بن جميل في سنة 187ه، ثم إلى عيسى بن جعفر في سنة 189ه، ثم إلى جرير بن يزيد في سنة 190ه، ثم - بعد ستة أشهر - إلى عبد الصمد بن علي العباسي - ثانية - ثم إلى إسحاق بن عيسى بن علي في سنة 193ه.
ولم يحدث في أيام هارون الرشيد في البصرة ما يخل بالسياسة أو الإدارة؛ بل كانت زاهية بفحول العلماء الذين انتهت إليهم رياسة أكثر العلوم العقلية والنقلية، وزادت عمارتها، وكثرت ثروتها، وعظم شأنها، وراجت فيها العلوم والآداب والفنون.
ولما توفي الخليفة هارون الرشيد في سنة 193ه وتولى ولي عهده ابنه محمد الأمين أقر إسحاق بن عيسى على البصرة، فخرج في السنة نفسها في أطراف البصرة ردان الحروري، وثار على الحكومة بجموعه، فانخذل وتمزقت جموعه.
وبقيت البصرة بعد هذه الحادثة في زهو واطمئنان إلى سنة 195ه، فأرسل الخليفة محمد الأمين أميرا عليها المنصور بن المهدي العباسي، وفي أيامه حدثت فتنة الأمين والمأمون، واستولت جيوش المأمون على الأهواز والكوفة وواسط، فاضطربت البصرة، وعزم أهلها على تحصينها وقتال جيش المأمون إذا اقترب منها انتصارا للأمين، فأبى أميرهم المنصور ذلك حقنا للدماء، فأعلن خلع الأمين وبيعة المأمون، وخطب له على منبر البصرة، فبلغ ذلك المأمون فأقره على إمارته، ولكنه وجه في سنة 196ه إمارة العراق إلى الحسن بن سهل، وضم إليه فارس والبحرين، فولى ابن سهل على البصرة العباس بن محمد الجعفري، وكانت بغداد يومئذ قد حاصرها طاهر بن الحسين قائد المأمون، ولم يبق للأمين غيرها. (9-4) البصرة في عهد المأمون
ولما تم أمر الخلافة للمأمون بعد مقتل الأمين في سنة 198ه بقيت البصرة من أعمال الحسن بن سهل، وظل عليها العباس بن محمد الجعفري إلى سنة 200ه، وكان قد خرج في هذه السنة أبو السرايا الطالبي، وجمع جموعا كثيرة، واستولى على الأهواز وواسط والكوفة، ثم سار بجموعه إلى البصرة، وألقى عليها الحصار، فدافع عنها أميرها العباس بمن معه من الجنود الأهلية، وبعد حروب شديدة انتصر أبو السرايا في السنة نفسها، ودخل البصرة، وبقيت هذه المدينة في قبضة الطالبيين إلى سنة 204ه، فأرسل الخليفة المأمون جيشا كبيرا يقوده أخوه صالح بن هارون الرشيد لاسترداد البصرة، فجرت بين الفريقين معارك عنيفة دامت نحو شهر، فانجلت عن انتصار جيوش المأمون، ودخول صالح البصرة ظافرا في السنة نفسها.
ومكث صالح على إمارة البصرة إلى سنة 206ه، فولى المأمون عليها داود بن مسجود، وضم إليه البحرين واليمامة، وفي أيام هذا الأمير ظهر الزط في طريق البصرة، ونهبوا بعض القرى،
45
فقاتلهم داود حتى أعاد الأمن إلى نصابه، وبقي على إمارته إلى سنة 215ه.
وفي أيامه في سنة 210ه أمر الخليفة المأمون بإحصاء من في البصرة من العلماء والتلاميذ، فبلغ عدد العلماء سبعمائة وعدد تلامذتهم أحد عشر ألفا، فلما وقف المأمون على هذا الإحصاء سر سرورا عظيما، وأحب أن ينشط المحتاجين منهم فأمر بتخصيص رواتب لهم، وأمر بإرسال نسخ من مؤلفات أولئك العلماء، فجمعوا له ما ألفوه من الكتب العلمية المختلفة في مدة عشرين سنة، فكانت على ما ذكره بعض المؤرخين أكثر من مائتي ألف مؤلف بين صغير وكبير أرسلت إلى المأمون في ثلاثة سفن، فلما وصلت بغداد ضمها المأمون إلى مكتبته.
وتولى البصرة بعد داود محمد بن عباد المهلبي في سنة 216ه، فمات في السنة نفسها، فولى المأمون بدله عجيف بن عتبة ، ولما توفي المأمون في سنة 218ه وتولى الخلافة أخوه المعتصم بالله أقر عجيفا على إمارته، فظهر الزط مرة أخرى في أيامه في سنة 219ه، وغلبوا على طريق البصرة، ونهبوا بعض القرى المجاورة للبصرة، وأحرقوا بعضها، وأخذوا الغلات من البيادر بكسكر وما يليها من البصرة، فأمر الخليفة عجيفا بقتالهم، فخرج إليهم بجيشه فانتصر عليهم، وقتل منهم نحو الخمسمائة حتى اضطر الباقون إلى طلب الأمان والعفو، فأمنهم عجيف على شرط أن لا يعودوا إلى الفساد، وذلك في سنة 220ه.
ودامت إمارة عجيف على البصرة إلى أن توفي المعتصم في سنة 227ه، وتولى الخلافة ابنه الواثق بالله، فأقر عجيفا على عمله، ثم مات الواثق في سنة 232ه، وتولى الخلافة أخوه المتوكل على الله، فعزل عجيفا وولى على البصرة عمير بن عمار في السنة نفسها، ولم يحدث في البصرة بعد حادثة الزط ما يخل بالأمن. (9-5) الفتن في البصرة
بقي عمير بن عمار على إمارة البصرة إلى سنة 239ه، فتولى إمارتها محمد بن رجا، وفي أيامه فسدت أحوال البصرة، واختلفت كلمة أهلها، وقامت بينهم الفتن، وانقسموا إلى فرقتين (البلالية والسعدية) وآلت تلك الفتن إلى القتال داخل المدينة، ثم ثاروا على أميرهم محمد بن رجا، وطردوه، وأخرجوا المسجونين، ونهبوا بيت المال وبيوت بعض المثرين، وظلت البصرة فوضى، ودامت الفتن والمعارك بين أهلها إلى أن قتل الخليفة المتوكل في سامرا في سنة 247ه، وتولى بعده ابنه المنتصر بالله، ثم مات في سنة 248ه، وتولى الخلافة المستعين بالله، ثم خلع في سنة 252ه وبويع المعتز، ومضت على خلافته سنة واحدة، والفوضى ضاربة أطنابها بالبصرة، وقد تولى إمارتها في هذه المدة جماعة من الولاة، فلم يتمكنوا من إصلاح الحال ولا استقام أحد منهم شهورا؛ بل كان بعضهم يستقيل، وبعضهم يعزل، ومنهم من يطرد، ومنهم من يقتل، ثم سكنت تلك الفتن في سنة 253ه. (أ) استيلاء الزنوج على البصرة
لم يكد البصريون يستريحون من تلك الفتن التي طحنتهم وجلبت عليهم ضروب النوائب حتى ظهر في سنة 254ه رجل ادعى الغيب ، وزعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين ابن الإمام علي، وجمع الزنوج الذين كانوا يسكنون السباخ، فالتف حوله منهم نحو الألفين فقوي بهم، وعاث في بادية البصرة فسادا، ثم قصد البصرة فاضطر البصريون إلى قتاله، فحدثت بين الفريقين عدة معارك حتى تمكن البصريون من صده بعد أن قتل منهم أكثر من ألف رجل.
ولما انسحب صاحب الزنج عن البصرة نهب أكثر القرى، وأحرق بعضها، وكان قد تولى الخلافة المهتدي في سنة 255ه، وبلغته أعمال صاحب الزنج، فأرسل في السنة نفسها أميرا على البصرة الأحوص الباهلي، وسير معه جيشا كبيرا بقيادة جعلان التركي لقتال الزنوج؛ فحدثت بين الطرفين حروب عديدة فاز في آخرها صاحب الزنج، واضطر القائد جعلان إلى تحصين البصرة والدفاع عنها، وألف البصريون جيشا منهم فكان فرقتين - السعدية والهلالية، وعلى إثر ذلك هجم الزنوج على البصرة في سنة 256ه في الوقت الذي تولى فيه الخلافة المعتمد على الله، فجرت بين الزنوج وبين البصريين حروب عنيفة دامت أحد عشر يوما، انتهت باندحار الزنوج،
46
فعادوا عن البصرة، ولكنهم نهبوا قراها وأحرقوا بعضها، وقاتلوا سكان أبي الخصيب أربعة أيام حتى استولوا على قريتهم وأحرقوا دورها ونهبوا ما فيها وأعملوا السيف في أهلها، وقد قتل في هذه الحادثة أكثر من خمسة آلاف رجل من البصريين، ثم حمل الزنوج على الأبلة فقاتلهم أهلها فانخذلوا، واستولى الزنوج على المدينة، ثم انسحبوا منها.
فلما كانت سنة 257ه أرسل الخليفة المعتمد على الله جيشا كبيرا بقيادة سعيد بن صالح الحاجب لقتال الزنوج، فالتقى بهم سعيد فانتصر عليهم وفتك بهم، ولكنهم لموا شعثهم، وهجموا عليه هجمة المستميت، فانهزمت عساكره بعد أن قتل منهم عدد كبير، واضطر القائد سعيد إلى الهرب، فقتل، فاستولى الزنوج على معسكره، فبلغ ذلك الخليفة، فولى في أواخر هذه السنة على البصرة منصور بن جعفر الخياط، وأرسله بجيش كبير، فحدثت بينه وبين الزنوج معركة هائلة في محل يبعد عن البصرة ثلاث ساعات، فانجلت عن انتصار الزنوج، فأغرقوا سفن الخليفة، وأتلفوا من فيها من الجنود والأموال، ووقع القائد منصور قتيلا.
وعلى إثر اندحار جيش القائد منصور وقتله استولى الزنوج على الأهواز والأبلة وعبادان وواسط، وقوي أمرهم، واشتدت شوكتهم، فأعادوا الكرة على البصرة، فاجتمع البصريون، وألفوا منهم جيشا بلغ عدده عشرين ألف مقاتل، وخرجوا للدفاع، فدامت الحرب بينهم وبين الزنوج ثمانية أيام بلياليها، وكانت حرب دموية هائلة أسفرت عن انكسار البصريين، فاستولى الزنوج على البصرة بعد أن قتل من البصريين عدد كبير، وذلك في أواخر سنة 257ه.
ولما دخل الزنوج البصرة انهزم منها عدد كثير من البصريين، واختفى الناس في دورهم، فنهب الزنوج المدينة، وأحرقوا أكثر دورها، ودام النهب والسلب والقتل والتخريب والتدمير ثلاثة أيام، ثم أعلن قائدهم الأمان، ونادى مناديه باجتماع الناس في المسجد لاستماع الأوامر فاجتمعوا - وكانوا على ما قيل نحو مائة ألف نسمة - فأمر بقتلهم، وبإحراق المسجد وهدمه، فأعمل أصحابه السيف في البصريين، فلم ينج منهم إلا من فر.
وبلغ الخليفة المعتمد خبر سقوط البصرة بيد الزنوج، واستفحال أمرهم، فجهز جيشا كبيرا، وسيره بقيادة أحمد المولد - ويروى: محمد - فاندحر أحمد، واضطر الخليفة إلى تجهيز جيش آخر في سنة 258، وأرسله بقيادة مفلح، فأصاب مفلحا سهم فقتله، فانهزم جيشه، فأرسل الخليفة أخاه أبا أحمد طلحة الملقب بالموفق بالله، وسيره بجيش كثيف، وكتب إلى بغداد وغيرها من المدن العراقية يأمر الولاة بجمع الجيوش وإرسالها مددا للموفق.
فسار الموفق حتى وصل نهر معقل - بالقرب من البصرة - والتقى بالزنوج هناك، فجرت بينه وبينهم حروب عنيفة اندحر في آخرها الزنوج، ووقع كثير منهم في الأسر، وفيهم قائدهم يحيى بن محمد البحراني، فإنه وقع أسيرا في قبضة الموفق، فأرسله إلى بغداد، ومنها أرسل إلى سامرا، فأمر الخليفة بقتله.
وكانت البصرة حينذاك قد فشا فيها الطاعون، وسرى منها إلى واسط وغيرها، فعاد الموفق إلى سامرا بعد هذا الانتصار، وتفرقت أكثر جنوده. فأرسل الخليفة في سنة 259ه إسحاق بن كنداج، فقاتل الزنوج فدحرهم عدة مرات، ولكنه لم يتمكن من الانتصار عليهم انتصارا نهائيا، فأرسل الخليفة قائده موسى بن بغا التركي بجيش كبير، فانتصر موسى على الزنوج، وقتل منهم عددا كبيرا، فبلغ انتصاره البصريين فثاروا على من عندهم من الزنوج فطردوهم، وتلاهم أهل أبي الخصيب فثاروا على الزنوج، ومنعوا إرسال الذخائر إليهم، فضاق الحال بالزنوج.
ولما كانت سنة 260ه استقال القائد موسى بن بغا من ولاية البصرة وقيادة الجيش، فأرسل الخليفة بدله مسرورا البلخي، وأودع إليه قتال الزنوج، فالتقى بهم وحدثت بينه وبينهم معركتين، فعاد إلى بغداد بسبب حدوث فتنة فيها.
دخلت سنة 261ه فجهز الخليفة جيشا جديدا، وسيره بقيادة أخيه الموفق - مرة ثانية - إلى البصرة لقتال الزنوج، وسير معه ابنه أبا العباس، فسار الموفق بجيش جرار - قيل: كان عدده خمسين ألف مقاتل - حتى وصل بالقرب من البصرة، فعسكر في الجهة الشرقية منها بالقرب من شط العرب، وبنى هناك مدينة اتخذها مقرا للحركات الحربية فسميت الموفقية؛ نسبة إليه. ثم جلب إليها التجار والباعة فابتنى فيها سوقا، فبنى الناس المنازل، وعمرت حتى صارت مدينة كبيرة، وبقيت مركزا لسوق الجيوش حتى انتهى الموفق من أمر الزنوج كما سنذكره.
أما الزنوج فإنهم كانوا قد بنوا لهم مدينة كبيرة في غربي نهر أبي الخصيب وسموها المختارة، وبنوا عليها سورا وأبراجا وخندقا، وجعلوا لحمايتها ثلاثة آلاف مقاتل، وجمعوا فيها عددا عظيما من النساء والأطفال الذين نهبوهم في غاراتهم على البصرة والأبلة والأهواز وغيرها، واتخذوا هذه المدينة مركزا للحركات الحربية، كما اتخذ الموفق مدينته مقرا لسوق الجيوش.
انتهاء أمر الزنوج
ظل الموفق يسير الجيش برا ونهرا لقتال الزنوج، والخليفة يمده بالعدد والعدد، فانتصر الموفق في أكثر المواقع، وكانت الجيوش البرية تحت قيادته والجيوش النهرية بقيادة أبي العباس، وظل النصر حليف الموفق حتى اضطرت القبائل المتفقة مع الزنج إلى طلب الأمان والعفو، وشرعت تلك القبائل تنحاز الواحدة تلو الأخرى إلى الموفق؛ فضعف أمر الزنوج، وقوي أمر الموفق وكثرت جيوشه، وتم له النصر في شهر جمادى الآخرة سنة 270ه، واحتل مدينتهم المختارة، وقتل رؤساء تلك الفتنة، واستولى على أموالهم ودورهم، وقتل زعيمهم علي بن عبد الرحيم، وأرسل رأسه إلى أخيه المعتمد، وكان قتله بشرى عظيمة بشرى عظيمة في العراق، ثم جمع الموفق الأموال التي نهبها الزنوج من البلاد، وكذلك النساء والأطفال، فأرجع الجميع إلى أصحابها؛ فارتاح الناس والبلاد من غارات الزنوج بعد أن أتعبوا الدولة خمسة عشر عاما، وكانوا مشغلة القواد والخليفة حتى خشي منهم أن يستولوا على العراق كله في الوقت الذي كانت فيه الخلافة قد ازدادت ضعفا على ضعف، واستبد القواد والولاة في الأطراف. وقد قتل في هذه الحروب عدة من القواد، منهم: سعيد بن صالح الحاجب، ومفلح، ومنصور بن جعفر الخياط ... وغيره، وقاتلهم جماعة من القواد فلم يظفروا بهم، منهم: أحمد المولد، وأحمد بن ليثويه، وموسى بن بغا، ومسرور البلخي، وإسحاق بن كنداج ... وغيره، ولم ينتصر أحد من القواد عليهم انتصارا نهائيا غير الموفق؛ لبراعته في الأساليب الحربية، وحسن سيرته وحزمه.
وكان أول ظهور صاحب الزنج هذا في إحدى قرى البصرة التي هو من أهلها، فادعى أنه من نسل الإمام علي كما تقدم، وهو في الحقيقة اسمه علي بن عبد الرحيم من ولد القيس، وزعم أنه يطلع على ما في ضمائر أصحابه وما يفعل كل واحد منهم. ثم دعا الزنوج الذين يعملون في السباخ في نواحي البصرة والكوفة واستنهضهم، فترك أكثرهم مواليهم، وقاموا معه، فأطمعهم في أسيادهم، ووعدهم أنه يملكهم ما في أيديهم، فاجتمع له خلق كثير منهم، فعبر دجلة، ونزل قرية تسمى الدينارية، وزعم أن سحابة أظلته ونودي منها: «اقصد البصرة تملكها»، فقاتل الخلافة العباسية باسم الدولة العلوية أعواما، وفعل ما فعل من قتل ونهب كما ذكرناه قبلا، ولقد بالغ بعض المؤرخين فقال: إنه قتل من البصريين مائة وخمسين ألفا، عدا الأسرى من الرجال والنساء والأطفال الذين بلغ عددهم مائتي ألف امرأة وعشرين ألف رجل وعشرة آلاف طفل، وإنه قتل في جميع حروبه نحو المليونين وخمسمائة ألف نفس، ونهب من الأموال ما قيمتها عشرين مليون دينار. (ب) انحطاط البصرة وهجمات القرامطة عليها
لما انتهت فتنة الزنوج التي أتعبت الدولة العباسية أعواما طوالا ولى الخليفة المعتمد إمارة البصرة في سنة 271ه العباس بن تركس، وأمره بتعمير ما خربته تلك الفتنة، فصدع بالأمر، وعاد البصريون الذين انهزموا إلى مدينتهم، ولكن بعد الخراب، كما قيل بالمثل: «بعد خراب البصرة»؛ لأن هذه المدينة كانت قد خربت لتوالي الفتن والحروب، وأخذت منذ حادثة الزنوج بالتقهقر والانحطاط، وقل سكانها، وذهب أكثر عمرانها، وزالت ثروتها وخيراتها.
ولما توفي الخليفة المعتمد ببغداد في سنة 279ه وتولى الخلافة المعتضد بالله ولى على البصرة أحمد بن محمد بن يحيى، فظهر في أيامه في سنة 285ه في البحرين رجلا يدعى أبو سعيد الجنابي، وكان قد تأمر على القرامطة، وجمع حوله جماعات من رعاع الناس، وفتك بأهل البحرين والقطيف، ثم قصد البصرة في سنة 286ه، فكتب إلى الخليفة المعتضد بالله أميرها أحمد يخبره بما عزم عليه زعيم القرامطة من الهجوم على البصرة، فأمره ببناء سور البصرة، فبناه وأنفق عليه أربعة عشر ألف دينار.
وعلى إثر ذلك هجم أبو سعيد القرمطي بجموعه على البصرة في سنة 287ه فجمع أميرها أحمد
47
أهلها، وضمهم إلى عساكره التي أرسلها إليه الخليفة، وكانوا ثلاثة آلاف مقاتل، فدافع عن المدينة حتى طرد القرامطة فعادوا بالفشل، ولكنهم انتصروا على جيوش الخليفة بالبحرين. ثم انتشرت القرامطة في سنة 289ه - في السنة التي مات بها ببغداد الخليفة المعتضد وتولى مكانه ابنه المكتفي - في أطراف الكوفة، فوجه الخليفة إليهم جيشا فانتصر جيش الخليفة، وقتل منهم عدد كبير، وأسر زعيمهم أبا سعيد وجماعة من أصحابه، وجيء بهم إلى بغداد، فعذبهم الخليفة، فمات أبو سعيد الهجري تحت العذاب، وقتل قائده أبو الفوارس مع أصحابه المأسورين، وعلى أثر ذلك أمر القرامطة عليهم أبا طاهر سليمان بن أبي سعيد، وحملوا على البصرة وحاصروها في السنة نفسها - 289 - ودامت الحروب بينهم وبين البصريين ثمانية عشر يوما، فانتصر البصريون، وعاد القرامطة بالفشل والخسران.
وتوفي الخليفة المكتفي بالله في سنة 295ه وتولى الخلافة بعده المقتدر بالله، فولى على البصرة في سنة 299ه محمد بن إسحاق بن كنداج، وفي أوائل أيامه زحف القرامطة على البصرة بقيادة زعيمهم أبي طاهر سليمان، فوصلوا البصرة على حين غفلة من أهلها في يوم الجمعة، والناس في الصلاة؛ فدخلوا المدينة، وقتلوا من صادفهم من أهلها، فأسرع الأمير محمد وجمع الجنود فقاتلهم حتى طردهم. (ج) الفتن في البصرة وهجوم القرامطة أيضا
لم تكد البصرة تستريح من هجمات الخوارج حتى قامت فتنة أهلية فيها في سنة 305، وكانت أولا بين قائد الجيوش الحسن بن خليل وبين أمير البصرة، فانحاز الأهلون إلى الأمير، فحقد القائد فهجم عليهم وهم في المسجد يصلون فقتل عددا كبيرا منهم، فثاروا عليه وقاتلوه؛ فحدثت فتنة كبيرة داخل المدينة. فلما وصل الخبر إلى الخليفة ببغداد اكتفى بعزل القائد، فعزله وأرسل بدله أبا دلف هاشم بن محمد الخزاعي.
وبعد تلك الفتنة أعطى الخليفة المقتدر بالله ولاية البصرة بالضمان إلى الوزير حامد بن العباس في سنة 307ه فطمع هذا الأمير في أموال الناس حتى ضاق الحال بالبصريين، وغلت الأسعار، وتذمر الأهلون من أميرهم، فأصدر الخليفة أمرا بنسخ ذلك الضمان.
ثم وجهت ولاية البصرة في 310ه إلى سبك المفلحي، وفي أيامه زحف على البصرة جمع كبير من القرامطة - وقيل: كانوا ألفا وسبعمائة مقاتل - يقودهم زعيمهم أبو طاهر سليمان، فوصلوا البصرة ليلا، وكانوا قد صنعوا سلالم من الشعر؛ ليتسلقوا بها سور البصرة، فوضعوها على السور وصعدوا إليه، وفتحوا باب المدينة، وقتلوا حراسها، فلم يشعر أمير البصرة سبك المفلحي بهم إلا في السحر، فأسرع فركب إليهم بجيشه فقتلوه وفرقوا جيشه، ثم وضعوا السيف في البصريين، ودامت المعارك بين الطرفين أحد عشر يوما داخل المدينة، فعل القرامطة في خلالها أنواع المنكرات من نهب وسلب وقتل وتخريب، ثم انسحبوا.
وعلى أثر هذه الحادثة ولى الخليفة المقتدر على البصرة محمد بن عبد الله الفاروقي في سنة 311ه فدخلها بعد انسحاب القرامطة منها بأيام، وكان قد قتل في هذه الحادثة من البصريين ألف وخمسمائة رجل، ووقع في الأسر منهم بيد القرامطة من النساء والأطفال عدد كثير، قيل: كان ألف امرأة وستمائة طفل.
وفي أيام إمارة محمد بن عبد الله الفاروقي في سنة 313ه قطع القرامطة طريق البصرة، فكتب محمد إلى الخليفة يخبره بذلك، فأصدر الخليفة أمرا إلى ولاة المدن يأمرهم بالتأهب لقتال القرامطة، فبلغ ذلك القرامطة فانسحبوا. (د) ولاية ابن رائق على البصرة
دخلت سنة 316ه فأعطى الخليفة المقتدر بالله ولاية البصرة بالضمان إلى محمد بن رائق، فسار إلى عمله، وقاتل القرامطة القريبين منه حتى أبعدهم، ومكث على ولايته حتى مات الخليفة المقتدر في سنة 320ه، وتولى بعده القاهر بالله، ثم تولى الخلافة الراضي بالله في سنة 322ه في الوقت الذي كان فيه أمر الخلافة قد ازداد ضعفا، وتسلط الأتراك ببغداد على شئون الدولة، وقلت الأموال، وتغلب الولاة على أطراف المملكة، واستقل بنو حمدان بالموصل وديار بكر وربيعة ومضر؛ فاستبد ابن رائق بالبصرة وواسط وأعمالهما، وامتنع عن إرسال الخراج السنوي إلى دار الخلافة، واستخلف على البصرة محمد بن يزداد، وأقام هو بواسط؛ ليكون قريبا من بغداد. (ذ) استيلاء البريدي على البصرة
عندما ضاق الحال بالخليفة الراضي لقلة الأموال قلد ابن رائق إمارة الأمراء ببغداد في سنة 324ه، فاستبد ابن رائق حتى لم يبق للخليفة غير الاسم والخطبة، وعلى أثر ذلك أرسل حاكم الأهواز أبو عبد الله محمد بن البريدي غلامه إقبالا في ألفي مقاتل لأخذ البصرة من ابن يزداد، فساعده البصريون؛ ليتخلصوا من ظلم ابن يزداد الذي أساء السيرة معهم، وأخذ أموال مثريهم بالباطل، وأكثر من الضرائب حتى اضطروا إلى الالتجاء بابن البريدي، واستنجدوا به، وبعد مناوشات انتصر إقبال، ودخل البصرة ظافرا في سنة 325ه، وبعد قليل سار إليها ابن البريدي، وكتب إلى الخليفة يطلب منه توجيه البصرة إليه، فأصدر الخليفة منشوره بذلك، فدخلت البصرة في ضمان ابن البريدي؛ فخفف عن أهلها الضرائب والمكوس، ولكنه لما استتب أمره ورسخت قدماه اضطهد الأهلين وظلمهم حتى اضطروا إلى رفع الشكوى إلى الخليفة، وأخبروه بما يقاسونه من ظلم ابن البريدي، ولما كان الخليفة يومئذ ضعيفا لا يقدر على شيء أصدر أمره بتوجيه ولاية البصرة إلى القائد بجكم التركي ليأخذها بالسيف، فسار بجكم بعشرة آلاف من الأتراك في سنة 326ه وبعد عدة وقائع استولى بجكم على البصرة، وطرد منها ابن البريدي.
ولم تمض أشهر قليلة حتى حدث خلاف بين بجكم وبين أمير الأمراء ببغداد ابن رائق، فسار بجكم بجيشه إلى بغداد في سنة 326ه فتغلب على ابن رائق، فقلده الخليفة إمارة الأمراء، وعلى أثر ذلك وجهت إمارة البصرة إلى ابن البريدي - ثانية - في سنة 327ه - ويروى: في سنة 328ه - وضمن رسومها وضرائبها وأعشارها.
ولما مات الراضي بالله طمع ابن البريدي ببغداد، فسير في سنة 329ه جيشا من البصرة لقتال بجكم، فجهز له بجكم جيشا سيره بقيادة توزون التركي، فالتقى الجيشان، فاندحر جيش بجكم أولا ثم انتصر، وفي أثناء ذلك مات بجكم قتيلا بطعنة غلام كردي طعنه حينما حمل على الأكراد طمعا في أموالهم.
وفي أيام إمارة ابن البريدي على البصرة حمل يوسف بن وجيه حاكم عمان على البصرة في سنة 332ه في سفن كثيرة مشحونة بالرجال، فاستولى على الأبلة، ثم تقدم نحو البصرة، فخرج ابن البريدي لقتاله، ولكنه لما علم بكثرة جيوش حاكم عمان عمد إلى الحيلة، فتظاهر بالتقهقر خدعة، فلما جن الليل هجم بجيشه فأحرق سفن يوسف، وصافح جيشه بالسيف فقتل أكثرهم، ونهب أموالهم وذخائرهم، فانهزم يوسف بالفشل والخسران. وفي السنة نفسها - 332ه - زحف معز الدولة ابن بويه بعساكره إلى البصرة، فحدثت بينه وبين ابن البريدي عدة وقائع اندحر في آخرها ابن البريدي، وتحصن بالمدينة، فحاصره معز الدولة أكثر من شهر ، ثم ترك الحصار وعاد إلى مقره.
وبقي ابن البريدي مستقلا بإمارة البصرة إلى أن توفي فيها في سنة 334ه، فتولى مكانه ابنه أبو القاسم ابن أبي عبد الله محمد بن البريدي، فأرسل إليه الخليفة منشور الإمارة على جري العادة في ذلك العهد. (ه) استيلاء معز الدولة البويهي على البصرة أو «البصرة في عهد بني بويه»
لما استولى معز الدولة أحمد بن أبي شجاع بويه على بغداد، وأسس الدولة البويهية فيها في سنة 334ه استأمن إليه أبو القاسم بن البريدي، وضمن له واسط والبصرة وأعمالهما، وعقد له في السنة نفسها، ثم حدث بينهما خلاف في سنة 335ه فامتنع أبو القاسم عن تسليم المال المقرر إرساله إلى بغداد، فجهز معز الدولة جيشا لطرده من البصرة، فالتقى جيشه بجيش ابن البريدي في واسط، فاستمرت الحرب بين الطرفين خمسة أيام، فاندحر جيش ابن البريدي، وقتل في هذه الحرب من وجهاء البصرة وأعيانها الذين كانوا أنصارا لابن البريدي سبعون رجلا.
فلما بلغ ابن البريدي خبر هزيمة جيشه جهز جيشا جديدا، فعلم بذلك معز الدولة، فجهز جيشا كبيرا قاده بنفسه، وأخذ معه الخليفة المطيع لله، وتوجه نحو البصرة في سنة 336ه، فلما اقترب معز الدولة إلى محل يسمى الدرهمية، وسمع جيش ابن البريدي بقدوم الخليفة معه، استعظموا ذلك فاستأمنوا إلى معز الدولة، وانحازوا إليه، فخاف ابن البريدي، فانهزم إلى هجر ملتجئا بالقرامطة، فدخل معز الدولة والخليفة البصرة باحتفال عظيم، وبعد أن نظم معز الدولة شئون البصرة ولى عليها وزيره أبا محمد الحسن بن محمد المهلبي، وذلك في سنة 337ه، وعاد إلى بغداد ومعه الخليفة المطيع.
وفي أيام إمارة الوزير ابن المهلبي على البصرة ثار أمير البطيحة عمران بن شاهين على معز الدولة، فقطع طريق البصرة في سنة 338ه، فقاتله ابن المهلبي ولكنه لم يظفر به، وحمل في سنة 341ه على البصرة - ثانية - حاكم عمان يوسف بن وجيه، وكان القرامطة قد ثاروا يومئذ على معز الدولة، فكتب إليهم يوسف يطمعهم في البصرة، وطلب منهم أن ينجدوه بجيش بري، فأمدوه فحاصر البصرة نهرا وبرا، ودام الحصار نحو شهر، فقاتله ابن المهلبي حتى جاءته النجدات من معز الدولة من بغداد، فانتصر على يوسف انتصارا نهائيا، وأغرق سفنه، ونهب أمواله وذخائره، فانهزم يوسف بالخذلان والخسران. (و) إمارة حبشي على البصرة وعصيانه
دخلت سنة 347ه فوجهت إمارة البصرة إلى حبشي بن معز الدولة، فاستقام أمره فيها حتى مات أبوه معز الدولة ببغداد في سنة 356ه، وتولى بعده ابنه بختيار الملقب «عز الدولة»، فحدثت بين الأخوين وحشة في سنة 357ه، فعصى حبشي بالبصرة وخرج على أخيه، فأرسل عز الدولة في السنة نفسها جيشا بقيادة أبي الفضل العباس بن الحسين لقتال حبشي وطرده من البصرة، وبعد حروب دامت أياما انتصر أبو الفضل فدخل البصرة منصورا، وأسر حبشي، وأرسله مخفورا إلى بغداد فحبس بها، وصادر أمواله.
ومكث أبو الفضل أميرا على البصرة أشهرا، ثم ولى عليها عز الدولة ابنه المرزبان. (ي) إمارة المرزبان وعصيانه
تولى المرزبان إمارة البصرة بعد أبي الفضل، فحدثت في أيامه فتنة بين الديلم والأتراك في الأهواز أدت إلى حروب دموية بين الطرفين، فبلغ ذلك من في البصرة من الديلم فثاروا على الأتراك الذين فيها، ونادوا بإباحة دمائهم، فقتل من الأتراك عدد كثير، وذلك في سنة 363ه.
وعلى أثر ذلك سار عز الدولة من الأهواز إلى البصرة، وكان قد ذهب إلى الأهواز لأمور إدارية، فثار عليه ببغداد القائد سبكتكين التركي على أثر نكبة الأتراك في الأهواز والبصرة، وتغلب سبكتكين على حكومة بغداد، وطلب من الخليفة الطايع أن يخلع نفسه، ويسلم الخلافة إلى ابنه عبد الكريم؛ لأنه كان قد أصيب بالفالج وثقل لسانه، فخلع نفسه، وبايع لابنه ولقبه الطايع لله في سنة 363ه.
وبعد أن قام عز الدولة بالبصرة أياما سار إلى واسط، ثم توجه إلى بغداد فحدثت بينه وبين سبكتكين فتنة أخرى، فانسحب إلى واسط، واستنجد بابن عمه عضد الدولة صاحب بلاد فارس، وحدث ما حدث في بغداد، حتى اغتصب عضد الدولة بغداد وحبس عز الدولة.
فبلغ أمير البصرة المرزبان بن عز الدولة خبر اعتقال أبيه وما جرى له مع عضد الدولة، فثار في البصرة في سنة 364ه، وهو يومئذ أميرها من قبل أبيه، فكاتب أمراء البلاد، واستنجد بهم على نصر أبيه، وكتب إلى ركن الدولة يشكو إليه أعمال ابنه عضد الدولة، ويخبره ما فعل بأبيه، وبعد حوادث يطول شرحها أخرج عضد الدولة عز الدولة من السجن، وأرجعه إلى منصبه، وعاد إلى مقره في السنة نفسها. (9-6) عضد الدولة وشرف الدولة والبصرة
ولما مات ركن الدولة وتولى ملكه ابنه عضد الدولة في سنة 366ه حدثت بينه وبين عز الدولة صاحب العراق وحشة فخلاف فحرب، فاستولى عضد الدولة على البصرة أولا في سنة 366ه، فأقام بها أياما، ثم ولى عليها ابنه أبا طاهر، وسار منها فاستولى على واسط، ثم انتهت تلك الفتنة باستيلاء عضد الدولة على العراق كله فدخل بغداد في سنة 367ه في عهد الخليفة الطايع بالله، وبقي عضد الدولة ملكا على العراق إلى سنة 373ه فتوفي ببغداد، وتولى بعده ابنه صمصام الدولة أبو كاليجار، وفي السنة نفسها طمع في العراق أخوه شرف الدولة أبو الفوارس ابن عضد الدولة فحمل على أخيه صمصام الدولة بخمسة عشر ألف مقاتل من الديلم، وسار من الأهواز قاصدا البصرة، وعليها يومئذ أميرا أبو طاهر بن عضد الدولة، فاستولى عليها شرف الدولة عنوة، وأقطعها إلى أخيه أبي الحسن بن عضد الدولة، وذلك في سنة 373ه. فبلغ صمصام الدولة خبر استيلاء شرف الدولة على البصرة فجهز لقتاله جيشا، وسيره بقيادة الأمير دبعش، فعلم بذلك شرف الدولة فسير جيشا لقتاله بقيادة الأمير دبيس الأسدي، فالتقى الجيشان فدارت الدائرة على جيش صمصام الدولة وأسر قائده. ثم اصطلح الأخوان على أن تكون البصرة لشرف الدولة، وعلى أثر ذلك ولى شرف الدولة على البصرة أخاه أبا طاهر بن عضد الدولة، فاستبد بها، ثم عصى واستقل في سنة 375ه، فجهز له شرف الدولة جيشا، وسار به فانتصر عليه وأسره، ودخل البصرة ظافرا.
وكانت الفتن مستمرة بين بني بويه، فعادت الحرب في سنة 376ه بين صمصام الدولة وبين شرف الدولة، فاستولى الثاني على واسط أولا، ثم على بغداد في سنة 377ه، ودخلت جميع البلاد العراقية تحت حكمه حتى مات في سنة 379ه، وكان من الملوك المصلحين كعضد الدولة. فتولى بعده أخوه أبو نصر بهاء الدولة، وهو الذي خلع الخليفة الطايع طمعا في أمواله التي صادرها، وولى الخلافة أبا العباس أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر ولقبه القادر بالله في سنة 381ه. (9-7) البصرة في أيام بهاء الدولة
تولى بهاء الدولة الملك في العراق في سنة 379ه فأقام ببغداد، وولى على البصرة نوابا.
وفي أيامه في سنة 386ه زحف على البصرة لشكرستان أحد قواد صمصام الدولة البويهي، فقاتله نواب بهاء الدولة، فانتصر عليهم بمعاضدة جماعة من البصريين منهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلوي، ودخل البصرة ظافرا في السنة نفسها، ولما استتب أمره فيها طمع في أموال الناس، فابتز أموال المثرين، وفتك بجماعة كبيرة من الوجوه والأعيان حتى اضطرت جماعة منهم إلى ترك أوطانهم، ولبث لشكرستان بالبصرة أكثر من شهر، فحمل عليه أمير البطيحة مهذب الدولة أبو الحسن علي بن نصر بإيعاز من بهاء الدولة، وكان تحت سيادته، فلما اقترب مهذب الدولة من البصرة فر منها لشكرستان؛ خوفا من أن يقع في الأسر، ودخلها مهذب الدولة ظافرا، فولى عليها نائبا من قبله، وظلت في قبضته إلى سنة 391ه.
دخلت سنة 391ه فجمع القائد لشكرستان جيشا كبيرا فأعاد الكرة على البصرة، فدخلها عنوة، وأعاد الظلم والسلب، وصادر أملاك أكثر الوجهاء، وقتل بعضهم ففر كثيرون من أهلها إلى بلاد أخرى تخلصا من ظلمه. فبقيت هذه المدينة تحت حكمه القاسي إلى سنة 395ه.
وفي السنة نفسها - 395 - جهز أمير البطيحة مهذب الدولة جيشا كثيفا، وسيره بقيادة أحد قواده أبي العباس بن واصل؛ لقتال لشكرستان وطرده من البصرة، وبعد معارك دامت أكثر من شهرين انهزم لشكرستان بمن معه، فاستولى أبو العباس على البصرة في السنة نفسها، وقد قتل في هذه الحادثة نحو الخمسة آلاف من الفريقين، وغرقت نحو ثلاثمائة سفينة.
استبداد أبي العباس في البصرة
كان أبو العباس بن واصل من قواد مهذب الدولة أمير البطيحة، وكان من المخلصين له، فلما انتصر على لشكرستان وطرده من البصرة واستتب أمره فيها طمع بالملك، فخلع طاعة مهذب الدولة، واستبد بالأمور؛ فسير مهذب الدولة جيشا لطرده ففشل جيشه، فجهز له جيشا ثانيا بقيادة أبي سعيد بن ماكولا ففشل أيضا، وقوي أمر أبي العباس؛ فخرج من البصرة بجيشه قاصدا البطيحة، وبعد حروب استولى على أكثرها فاضطربت عليه البلاد، فخاف على نفسه، فترك البطيحة، وعاد إلى البصرة.
وكان بهاء الدولة في تلك الأثناء مقيما في الأهواز، فلما بلغته قوة أبي العباس واستبداده بالبصرة خاف عاقبة أمره، فأحضر عنده عميد الجيوش - أو عميد العراق - أبا علي بن جعفر المعروف بأستاذ هرمز وكان نائبه ببغداد، فجهز له جيشا كبيرا وسيره لقتال أبي العباس ففشل أبو علي، ثم جهز بهاء الدولة جيشا آخر، فاستمرت الحروب بين جيوش بهاء الدولة وبين أبي العباس مدة حتى اضطر بهاء الدولة إلى المسير بنفسه فسار بخمسة عشر ألف مقاتل، فاندحر جيشه وعاد بالفشل، وذلك في سنة 396ه. فطمع أبو العباس ببهاء الدولة، فحمل عليه بجيشه وهو يومئذ بالأهواز، فدحرته جيوش بهاء الدولة وعاد بالفشل، وعلى أثر تلك الهزيمة زحف بهاء الدولة بجيش كبير على البصرة فحاصرها أربعة أيام، فانتصر على أبي العباس فقتله، ودخل البصرة ظافرا في سنة 397ه وأقام بها أياما، ثم ولى عليها الوزير أبا غالب، وعاد هو إلى الأهواز. (9-8) البصرة في عهد سلطان الدولة وجلال الدولة
هدأت الأحوال بالبصرة بعد فتنة أبي العباس حتى مات بهاء الدولة في سنة 430ه، وتولى ابنه أبو شجاع الملقب سلطان الدولة، فولى على البصرة أخاه أبا طاهر الملقب جلال الدولة.
ولما تغلب مشرف الدولة على أخيه سلطان الدولة في سنة 411ه وأخذ العراق منه أقر على البصرة أخاه أبا طاهر، فمكث على إمارة البصرة إلى أن مات مشرف الدولة ببغداد في سنة 416ه، فبويع بالملك أبو طاهر جلال الدولة ابن بهاء الدولة، ولما كان قد استوطن البصرة أيام إمارته عليها أراد أن يتخذها مقرا للسلطنة، فطلب جيش بغداد قدومه إليهم فامتنع، فخرج جيش بغداد عن طاعته، فاضطر إلى المسير إليهم، واستخلف على البصرة ابنه أبو منصور الملك العزيز، وفي أيام إمارة أبي منصور حدثت فتن عظيمة بين الديلم والأتراك في البصرة، فانتصر الأتراك فأخرجوا الديلم منها، فهجم الديلم على البصرة ونهبوا بعض القرى، فخرج لقتالهم أبو منصور فطردهم، وذلك في سنة 419ه، وعلى أثر ذلك أرسل أبو كاليجار ابن سلطان الدولة المستقل بفارس جيشا بقيادة أحد زعماء الديلم بختيار بن علي لأخذ البصرة، وبعد حروب استولى عليها عنوة، وانهزم أبو منصور، فنهب الديلم أسواق المدينة وصادروا أموال تجارها، ودام النهب سبعة أيام، وقتل في هذه الحادثة من البصريين عدد غير قليل. فدخلت سنة 420ه، فولى أبو كاليجار على البصرة أبا منصور بن بختيار القائد ابن علي.
وبلغ الخبر جلال الدولة فجهز جيشا كبيرا وسيره بقيادة وزيره أبي علي بن ماكولا في سنة 421ه فسار أبو علي في أربعمائة سفينة مشحونة بالرجال، ومعه عبد الله الشرابي، فخرج لقتاله أمير البصرة أبو منصور بن بختيار، وبعد حروب انكسر جيشه وانهزم هو وجيشه وتحصنوا بأبي الخصيب، وشرعوا بالدفاع عن أنفسهم، فتبعه أبو علي، فدارت معركة عنيفة دامت أربع ساعات، فانجلت عن اندحار جيش جلال الدولة، ووقوع قائده أبي علي أسيرا.
ولما اتصل خبر الهزيمة بجلال الدولة جهز جيشا ثانيا، فانتصر جيشه ودخل البصرة ظافرا في السنة نفسها - 421، وعلى أثر ذلك جمع القائد بختيار جيشا جديدا فحمل به على البصرة، فدحرته جنود جلال الدولة، وأسروه فقتلوه، وبعد أيام حدث خلاف بين جنود جلال الدولة فتفرقوا، فهجمت جيوش أبي كاليجار على البصرة فدخلتها في سنة 422ه، فولى أبو كاليجار على البصرة ظهير الدين بن أبي القاسم، فسكن الحال في البصرة، حتى إذا ما كانت سنة 424ه حدث خلاف بين أمير البصرة ظهير الدين وبين سيده أبي كاليجار، فاغتنم تلك الفرصة جلال الدولة فسير جيشا بقيادة ابنه الملك العزيز، فلما اقترب جيش جلال الدولة من البصرة انحاز أميرها إلى جلال الدولة، وسلم المدينة إلى ابنه الملك العزيز على شرط أن يكون له كمساعد أو مشاور في تدبير شئون البصرة.
ولم تمض أشهر على إمارة الملك العزيز على البصرة حتى قامت بينه وبين ظهير الدين فتنة أدت إلى حدوث قتال بينهما داخل المدينة، وكانت النتيجة طرد الملك العزيز من البصرة، فانحاز ظهير الدين إلى أبي كاليجار واعتذر إليه فأقره على عمله على أن يدفع إليه في كل سنة سبعين ألف دينار، فدخلت البصرة في ضمان ظهير الدين.
بقي ظهير الدين بن أبي القاسم مستقلا بالبصرة استقلالا إداريا إلى سنة 430ه، فامتنع عن إرسال المال المقرر إرساله إلى أبي كاليجار، وصار تارة يحتمي بجلال الدولة وأخرى يميل إلى أبي كاليجار، حتى اضطر أبو كاليجار إلى إرسال جيش لقتاله، فسير جيشا بقيادة العادل أبي منصور بن مافته في سنة 431ه، وبعد معركتين حوصرت البصرة حصارا شديدا حتى عجز ظهير الدين عن الدفاع، وقتل من جيشه نحو الأربعة آلاف، فاضطر إلى الهرب فوقع أسيرا، وصودرت أمواله المنقولة والثابتة، فاستولى جيش أبي كاليجار على البصرة عنوة، ودخلها ظافرا، وبعد أيام قليلة سار إليها أبو كاليجار فأقام بها أياما، ثم أعطاها بالضمان إلى ابنه عز الملوك على أن يدفع إليه في كل سنة مائة ألف دينار، وجعل له مساعدا وزيره أبا الفرج بن فسانجس، وعاد هو إلى الأهواز.
بقيت البصرة في قبضة عز الملوك بن أبي كاليجار صاحب فارس والأهواز إلى أن تغلب أبو كاليجار المذكور على الملك العزيز أبي منصور بن جلال الدولة، وأخذ العراق منه في سنة 435ه، ثم دخل بغداد سنة 436ه فلقبه الخليفة بمحيي الدين، فتم أمره في فارس والأهواز والعراق.
ومات أبو كاليجار ببغداد في سنة 440ه، فتولى العراق ابنه أبو نصر الملك الرحيم، فعصى عليه أخوه عز الملوك، واستبد بالبصرة في الوقت الذي كانت فيه أحوال الدولة مضطربة جدا، وكان البصريون يومئذ قد كرهوا أميرهم لسوء سيرته معهم، فتمنوا الخلاص منه على يد الملك الرحيم. فحمل الملك الرحيم على أخيه، فالتقى الجيشان في السفن في دجلة في سنة 445ه، فاندحر عز الملوك وعاد إلى البصرة فتحصن فيها، فتبعه أخوه، فلما اقترب منه ثار البصريون على أميرهم فطردوه، وسلموا المدينة إلى الملك الرحيم، واستقبلوه بالترحاب والسرور، وذلك في سنة 446ه، فأقام الملك بالبصرة أياما، ثم ولى عليها أبا الحرث أرسلان بن عبد الله البساسيري التركي، وعاد هو إلى بغداد.
وكانت الدولة السلجوقية يوم ذاك قد قويت، وفتح رجالها بلادا كثيرة محاددة لشرقي العراق في الوقت الذي كانت دولة بني بويه قد ازدادت ضعفا على ضعف، وانحل أمرها، وسئم الناس حكمها، وأصبحت عاجزة عن كل شيء، وكانت النتيجة أن طمع طغرل بك السلجوقي في العراق، فحمل على بغداد، فاستولى عليها في سنة 447ه وأسر الملك الرحيم؛ فانقرضت الدولة البويهية من العراق بعد أن ملكته مائة وثلاث عشرة سنة، وقامت على أنقاضها دولة بني سلجوق الأتراك. (10) البصرة في عهد السلجوقيين
فتح طغرل بك السلجوقي بغداد في سنة 447ه كما ذكرنا، فدانت له المدن العراقية في عهد الخليفة القائم بأمر الله، فوجه الولاة إلى البلاد، وولى في السنة نفسها على البصرة هزار أسب بن تكير بن عياض على أن يدفع له في كل سنة ثلاثمائة وستين ألف دينا - دينار ذلك العهد - فدخلت البصرة في ضمان هذا الأمير التركي، وهو أول وال سلجوقي عليها، وفي أيامه ثارت القبائل النازلة بين البصرة وواسط على الحكومة الجديدة، فأخضعهم هذا الأمير بالسيف.
وبقي هزار أسب على البصرة وتوابعها إلى سنة 451ه، فوجهت ولاية البصرة بالضمان إلى الأغر سابور بن المظفر، وتوفي طغرل بك سنة 455ه، فتولى الملك ابن أخيه ألب أرسلان بن داود، ثم تولى الملك بعده ابنه ملكشاه في سنة 465ه، فأعطيت البصرة بالضمان إلى علان اليهودي في سنة 469ه؛ لما لعلان من المنزلة الرفيعة عند الوزير نظام الملك الذي كان قابضا على زمام المملكة بيد من حديد، فجبى علان الأعشار والرسوم والضرائب من البصرة وعمالها نحو ثلاث سنوات، فمات في أواخر سنة 471ه بالبصرة، ومما يدل على علو منزلته في الدولة يومذاك أن السلطان ملكشاه لما بلغه موته حزن عليه، وانقطع عن الركب ثلاثة أيام، ولما ماتت أم علان قبله بأشهر مشى خلف جنازتها جميع البصريين إلا القاضي، فبلغ ذلك الوزير نظام الملك فعد عمل القاضي إهانة للحكومة ، فأغرمه ألف دينار وهي غرامة غريبة في بابها!
وعلى أثر موت علان اليهودي أعطيت البصرة بالضمان إلى خمارتكين التركي في أوائل سنة 472ه على أن يدفع إلى خزينة الدولة السلجوقية في كل عام مائة ألف دينار ومائة حصان.
وفي أيام ملكشاه توفي الخليفة القائم بأمر الله ببغداد في سنة 467ه، فبويع بالخلافة للمقتدي بالله. (11) غزو الأعراب البصرة واستيلاؤهم عليها
كانت البصرة قد أعطيت بالضمان إلى العميد بن عصمة في سنة 475ه بعد نسخ ضمان خمارتكين، فلما قامت الحروب بين السلجوقيين وضعفت الدولة طمع الأعراب بالبصرة، فغزاها بنو عامر النازلين في الأحساء، فحملوا عليها بعشرة آلاف فارس فأحاطوا بها في سنة 483ه في عهد السلطان ملكشاه، فخرج أميرها العميد فقاتلهم، فلما لم يكن عنده جيش يكفي لصدهم انسحب إلى نهر معقل، فبلغ البصريين انسحابه فخافوا على أنفسهم من القتل فتركوا أوطانهم، وفروا إلى بلاد أخرى، فدخلت بنو عامر البصرة، فنهبوا وخربوا وأحرقوا عدة مواضع، من جملتها مخزن الكتب التي أوقفها الوزير أبو منصور بن شاه مردان، وكان فيه على ما يروى عشرات الألوف من الكتب الثمينة، وخزانة الكتب التي أوقفها أبو الفرج بن أبي البقاء، وكان فيها على ما - قيل - خمسون ألف كتاب، وخربوا أوقاف البصرة، وظلوا ينهبون المدينة نهارا، ثم يخرجون منها ليلا فينهبها أصحاب ابن العميد ليلا، وبقي هذا الحال المريع أياما.
ولما بلغ خبر هذه الغارة إلى بغداد وجهت الحكومة سيف الدولة إلى طرد الأعراب من البصرة بأمر من السلطان ملكشاه، فسار سيف الدولة بجيش كبير فوجدهم قد خرجوا منها وفروا إلى جزيرة العرب، فمات السلطان ملكشاه في سنة 485ه، فقامت الحروب بين الأسرة المالكة حتى تم الأمر في السنة نفسها إلى السلطان بركيارق، فوجهت إمارة البصرة في سنة 493ه إلى الأمير قمباج، وفي أيام بركيارق توفي الخليفة المقتدي بالله ببغداد فجأة في سنة 487ه، فبويع بالخلافة لابنه المستظهر بالله، وكانت أيام بركيارق كلها فتن وحروب. (12) استبداد إسماعيل بن سلانجق بالبصرة وعصيانه فيها
بقي الأمير قمباج التركي على البصرة أشهرا، ثم استخلف عليها نائبا إسماعيل بن سلانجق التركي، فاستقام أمره فيها سنتين، ثم طمع بالملك فعصي واستقل في الوقت الذي كانت فيه الاضطرابات الداخلية متوالية في المملكة، وقد استبد أكثر العمال. فأوعزت الحكومة إلى مهذب الدولة بن أبي الخير صاحب البطيحة بقتال إسماعيل وطرده من البصرة، فسار مهذب الدولة ومعه معقل بن صدقة بن الحسين الأسدي صاحب الجزيرة الدبيسية يقود كل منهما جيشه، فالتقوا بإسماعيل فقتل معقل فانفل جيشه، فاضطر مهذب الدولة إلى الرجوع، وذلك في سنة 494ه.
وقوي أمر إسماعيل، وكثرت جموعه، واتسعت إمارته، وازداد قوة بالاختلاف الواقع بين السلاطين السلاجقة، فخفف الضرائب والرسوم عن أهل البصرة؛ ليجلب قلوبهم إليه، ثم راسل سيف الدولة وأظهر له أنه في طاعته. ثم حاول أخذ واسط ففشل، وفي أيامه حمل في سنة 495ه على البصرة أبو سعيد بن مضر صاحب عمان، فوصلت جيوشه شط العرب فقطعوا الطريق وقتلوا ونهبوا، ثم جرت مراسلات في الصلح بين أبي سعيد وبين إسماعيل فلم يتم الصلح، فحمل أبو سعيد على إسماعيل فاقتتل الجيشان فانكسرت عساكر إسماعيل، فاضطر إلى طلب الصلح فتوسط بينهما وكيل الخليفة؛ فتم الصلح على يده.
فلما استقر الأمر للسلطان محمد السلجوقي أراد أن يرسل إلى البصرة مقطعا يأخذها من إسماعيل، فخاطب في ذلك سيف الدولة صاحب الحلة حتى أقرت البصرة على سيف الدولة، فوجه السلطان عميدا إليها ليتولى ما يتعلق بالسلطان
48
هناك فمنعه إسماعيل ولم يمكنه من عمله، فبلغ السلطان محمد ذلك، وكان قد تولى السلطنة بعد موت أخيه بركيارق في سنة 498ه، فأمر سيف الدولة بطرد إسماعيل من البصرة. (13) إمارة سيف الدولة على البصرة
تهيأ سيف الدولة لقتال إسماعيل، ولكنه اشتغل بقتال منكبرس الذي خرج على السلطان وقصد واسطا؛ فأخر مسيره إلى البصرة، ولكنه أرسل إلى إسماعيل عاملا من قبله فقبض عليه إسماعيل واعتقله. فوصل الخبر إلى سيف الدولة فجهز جيشا كبيرا قاده بنفسه وقصد البصرة في سنة 499ه.
ولما بلغ إسماعيل قدوم سيف الدولة بالجيوش استعد للحرب، وحصن المدينة وقلاعها، واعتقل الوجوه من العباسيين والعلويين وغيرهم من الأعيان، فحاصر سيف الدولة المدينة برا ونهرا، وكان جيشه عشرين ألف مقاتل - على ما نقل، فخرج لقتاله إسماعيل ففشل فتحصن بالمدينة وأخذ بالدفاع، فدام الحصار أشهرا، ثم هجمت جنود سيف الدولة هجمة نهائية فدخلت المدينة في سنة 500ه، وانتهت هذه الحادثة بانتصار سيف الدولة ودخوله ظافرا. فانهزم إسماعيل إلى قلعة الجزيرة فامتنع بها، ثم طلب الأمان، فأمنه سيف الدولة فسار إلى فارس.
ومما يؤسف عليه أن جيش سيف الدولة حينما دخل البصرة فاتحا نهب بعض المحلات، وعلى ما نقله بعضهم أنهم استمروا على النهب ثلاثة أيام ثم نودي بالأمان.
ومكث سيف الدولة في البصرة أياما نظم فيها شئون المدينة، ثم استناب عنه مملوكا كان لجده دبيس اسمه التونتاش - ويروى: نونتاش، والنوشاش - وجعل معه مائة وعشرين فارسا، وسار هو إلى مقره الحلة.
مضت ثلاثة أشهر على نيابة التونتاش على البصرة، فاجتمعت ربيعة وانضم إليها المنتفكيون ثم قبائل أخرى من الأعراب، واتفقوا على غزو البصرة، وكانوا على ما يروى خمسة آلاف مقاتل، فهجموا على البصرة، فقاتلهم التونتاش فانهزم لقلة جيشه فأسروه، ودخلوا البصرة عنوة في سنة 500ه، فقتلوا ونهبوا أكثر الأسواق والدور، وأحرقوا بعضها، وخربوا كثيرا من الدور، حتى قال بعضهم: خرب في هذه الحادثة نحو الستة آلاف دار وعشرة آلاف دكان، منها حرقا ومنها هدما، ودام النهب والسلب شهرا، ثم خرجوا بعد أن انهزم أكثر البصريين من أوطانهم وتفرقوا في البلاد.
وبلغ سيف الدولة خبر غارة الأعراب على البصرة وأسر نائبه، فأرسل جيشا لطردهم، فوصل جيشه وقد خرج القوم من المدينة وفارقوها. (14) إمارة الأمير آقسنقر البخاري على البصرة
عندما اتصل بالسلطان محمد السلجوقي خبر هجوم الأعراب على البصرة وما فعلوه فيها من الأفعال المنكرة من نهب وقتل وتخريب؛ انتزع إمارتها من سيف الدولة في سنة 502ه، وولى عليها الأمير آقسنقر البخاري، وجعله شحنة وعميدا،
49
فاستقام أمره فيها، فعاد كثير من البصريين إلى أوطانهم، فأقام هذا الأمير إلى سنة 505ه، ثم استخلف عليها سنقر البياني، وسار هو إلى فارس. فأحسن سنقر السياسة والتدبير، وسار سيرة مرضية في الأهلين، فبقيت البصرة تحت حكمه بالنيابة عن الأمير آقسنقر حتى مات السلطان محمد ببغداد في سنة 511ه، وجلس مكانه ابنه السلطان محمود، فأقره على عمله، وفي أيامه مات الخليفة المستظهر بالله في سنة 511ه فبويع بالخلافة لابنه المسترشد بالله. (15) استيلاء ابن سكبان على البصرة
بقي سنقر البياني حاكما على البصرة بالنيابة عن الأمير آقسنقر البخاري إلى سنة 513ه، فثار أحد أمراء الجيش اسمه غزغلي وهجم على الحجاج، وكان أمير الحج يومئذ علي بن سكبان، فقاتل الثائر حتى قتله فانهزم أصحابه إلى البصرة، فلحقهم ابن سكبان حتى دخل المدينة في أثرهم، فوجد فتنة جديدة قامت بين الحاكم وبين رؤساء الجيش، فاغتنم فرصة تلك الفتنة، فتغلب على الولاية في السنة نفسها - 513ه.
ولما استتب أمر علي بن سكبان بالبصرة كتب إلى الأمير آقسنقر البخاري يعرض له الطاعة، ويطلب منه توجيه النيابة إليه، فلم يجبه الأمير إلى ما طلب، فاستبد ابن سكبان بالأمر، ولكنه سار سيرة حسنة في البصريين وجاملهم ووالاهم، وبقي مستقلا فيها إلى سنة 514ه.
دخلت سنة 514ه، فسير السلطان محمود جيشا كبيرا بقيادة الأمير آقسنقر البخاري لطرد علي بن سكبان من البصرة، فالتقى الأميران، وتقاتل الجيشان، وبعد حروب استولى الأمير آقسنقر على البصرة عنوة في سنة 515ه ودخلها ظافرا، وانهزم ابن سكبان، فاستقام أمر الأمير في هذه المدينة مدة، حتى إذا ما كانت سنة 517ه ثار صاحب الحلة دبيس بن سيف الدولة، وخرج على السلطان والخليفة معا، فحاربته حكومة بغداد حتى تمزق جمعه، فالتجأ بقبائل المنتفك فأغراهم على غزو البصرة وأخذها فوافقوه، وساروا معه حتى هجموا عليها ودخلوها فنهبوا أسواقها، وقتلوا رئيس جيشها، فبلغ الخبر حكومة بغداد فسيرت لقتاله جيشا بقيادة البرسقي، فانهزم دبيس ومن معه، ودخلوا البادية، فدخل البرسقي البصرة بدون قتال فتولى شئونها، فبقيت البصرة تحت حكم السلاطين السلاجقة يحكمها أمراؤهم إلى سنة 547ه، ثم عادت إلى الخلفاء، وسيأتي ذكر ذلك. (16) رجوع البصرة إلى الخلافة العباسية
كانت البصرة قد خرجت من سلطة الخلفاء منذ تسلط على الخلافة بنو بويه، وأسس معز الدولة البويهي دولته في العراق في سنة 334ه في عهد الخليفة المستكفي بالله، وظلت كذلك حتى انقرضت الدولة البويهية، وقامت على أنقاضها الدولة السلجوقية في سنة 447ه في عهد الخليفة القائم بأمر الله، وتوالى حكم سلاطين السلاجقة على العراق، وليس للخلفاء غير الخطبة والتوقيع على المناشير حتى مات السلطان محمود السلجوقي في سنة 525ه وجلس ابنه السلطان داود، فثار عليه عمه السلطان مسعود، فاستمرت بينها الحروب إلى أن تغلب على الأمر السلطان مسعود في سنة 526ه، فاغتنم الخليفة المسترشد بالله فرصة تلك الحروب فأرجع أكثر حقوق الخلافة المغصوبة، وألف له جيشا في بغداد، وأصبح مطاعا نافذ الكلمة في أكثر شئون البلاد العراقية، وقاتل الخارجين عليه حتى خافه السلاجقة أنفسهم، وظل يجتهد في إرجاع جميع حقوق الخلافة مغتنما فرصة ضعف الدولة السلجوقية وبعد رجالها عنه وانشغالهم في الحروب التي دامت بينهم أعواما طوالا، ولكنه اغتر بقوته فحارب السلطان مسعود، وحمل عليه إلى همذان، وبعد حروب انحاز أكثر قواده الأتراك إلى السلطان، وغدروا به فانخذل، ووقع أسيرا في قبضة السلطان مسعود، فخدعه بعقد اتفاقية، فأوعز إلى الأتراك بقتله فقتلوه غدرا في أواخر سنة 529ه بظاهر مراغة، وعادت سلطة السلاجقة على العراق.
فتولى الخلافة بعد المسترشد ابنه الراشد بالله، ثم خلع في سنة 530ه فتولاها المقتفي لأمر الله فسعى في إعادة حقوقه حتى إذا ما توفي السلطان مسعود في سنة 547ه وكثرت الفتن والحروب بين آل سلجوق انفرد الخليفة المقتفي بالحكم في العراق، وزال نفوذ السلاجقة، وأصبح الأمر كله للخليفة لا يشاركه فيه أحد، وعادت البصرة إلى الخلفاء يولون عليها من شاءوا، وهو الذي ولى على البصرة في سنة 554ه كمشتكين التركي، وعزل عنها الشيخ معروف رئيس المنتفق الذي تولى إمارتها منذ سنة 532ه.
وتوفي الخليفة المقتفي في سنة 555ه فبويع لابنه المستنجد بالله، فأقر على البصرة كمشتكين، وسار هذا الخليفة سيرة أبيه في الحزم والعزم وضبط الأمور، وفي أيامه استولى علي بن شنكا على البصرة. (17) استيلاء ابن شنكا على البصرة
في الوقت الذي كان فيه كمشتكين التركي على البصرة كان ابن شنكا - أو ابن شنكاه - على مدينة واسط في عهد الخليفة المستنجد بالله، وكان كمشتكين قد اشتغل بجمع الأموال، وأهمل أمر المدينة، وغفل عن الطامعين بإمارته، فطمع به ابن شنكا فحمل عليه في سنة 561ه، فنهب القرى والضياع، ثم رجع وأعاد الكرة في سنة 562ه فاستولى على البصرة عنوة بعد أن نهب وخرب أكثر المواضع، واتصل خبره بالخليفة المستنجد فأرسل لطرده جيشا بقيادة عميد الدين في سنة 563ه فانهزم ابن شنكا، ودخلت جيوش الخليفة ظافرة.
ومات الخليفة المستنجد في سنة 566ه فتولى الخلافة المستضيء بأمر الله فتوفي سنة 575ه، وجلس مكانه الناصر لدين الله، وكانت البصرة تحت حكم الخلافة إلى سنة 577ه، فأقطع الخليفة الناصر لدين الله ولاية البصرة إلى أحد مماليكه المعروف بالأمير طغرل بك، فمكث هذا الأمير في البصرة إلى سنة 580ه، فولى نائبا عنه محمد بن إسماعيل. (18) غزوة العامريين البصرة
وفي أيامه حمل على البصرة بنو عامر بقيادة زعيمهم عميرة العامري، وساروا إليها من الأحساء في سنة 588ه، فلما اقتربوا منها خرج لقتالهم محمد بن إسماعيل، فقاتلهم طول النهار، فلما جن الليل ثلم بنو عامر سور المدينة، ودخلوها على حين غفلة من أهلها، فقتلوا ونهبوا، فانهزم محمد بن إسماعيل، وكان قد كتب قبل وصول بني عامر إلى رؤساء المنتفق وخفاجة يطلب منهم النجدة، فوصل منهم جمع كبير بعد دخول الغزاة بيوم، فبلغ ذلك بني عامر فخرجوا مسرعين فالتقوا بالمنتفك وخفاجة بضواحي المدينة، وبعد قتال انتصر بنو عامر فعادوا إلى البصرة وعاد النهب والسلب مرة أخرى، فاضطر البصريون إلى ترك بلدهم فانهزموا منها بأنفسهم. فبلغ بني عامر خبر تجهيز الجيوش من بغداد لقتالهم، فخرجوا من المدينة بعد بضعة أيام. فعاد البصريون إلى أوطانهم، وذلك في السنة نفسها - 588ه. (19) البصرة في أواخر عهد العباسيين
كانت ولاية البصرة قد وجهها الخليفة الناصر لدين الله إلى الأمير ملتكين التركي في سنة 618ه، فاستتب أمره فيها إلى سنة 622ه في السنة التي توفي فيها الخليفة الناصر، وتولى الخلافة ابنه الظاهر بأمر الله، فحمل على البصرة جلال الدين بن خوارزم شاه بجيش كبير، فخرج لقتاله الأمير ملتكين، فاستمرت بينهما الحروب أكثر من شهر حتى وصل المدد من بغداد، فانهزم جلال الدين.
وظلت البصرة في قبضة الخلافة العباسية يتولاها الولاة حتى مات الخليفة الظاهر في سنة 623ه، وجلس مكانه المستنصر بالله فمات في سنة 641ه، فتولى الخلافة المستعصم بالله، فلما حمل هولاكو بجيش المغول على بغداد وقرض الدولة العباسية في سنة 656ه واستولى على العراق كله دخلت البصرة في حكمه. (20) الدولة الإيلخانية المغولية في البصرة أو «خراب البصرة القديمة»
كانت البصرة القديمة حينما استولى هولاكو على العراق في سنة 656ه وقرض الدولة العباسية وأسس الدولة الإيلخانية؛ قد خربت من توالي الفتن والحروب وهجمات الأعراب، وانهزم أهلها إلى بلاد أخرى، حتى لم يبق فيها غير دور قليلة، ومع ذلك فإنها دخلت في قبضة هولاكو فوجه إليها حاكما، ولكنها كانت فوضى حتى مات هولاكو في سنة 663ه وتولى الملك ابنه أباقاخان، وبقيت تحت حكم ولاة بغداد يولون عليها من شاءوا في عهد الملك تاكوردار أو أحمد الذي تولى في سنة 681ه، وأيام أرغون خان المتولي في سنة - 683ه، وأيام كيخا توخان - 690ه، وبايدوخان - 694ه، وغازان - 695ه، فتم خراب البصرة القديمة في عهده في سنة 701ه في الوقت الذي كانت فيه الحروب مستمرة بين آل هولاكو والفتن على ساق وقدم. فقامت مكان البصرة القديمة البصرة الجديدة التي سنبحث عن كيفية تأسيسها وما جرى فيها إلى آخر أيام الدولة العثمانية التركية. (21) تتمة
لما كانت البصرة باب العراق ومركزا وسطا بين سورية والحجاز ونجد وفارس وغيرها؛ اهتم بها الخلفاء الراشدون حتى زهت في أول عهدها بأعاظم الرجال، وصارت في القرون الأولى من بنائها دار العلوم والفنون ومجتمع المجتهدين ومركز الآداب ومهد الحضارة والتجارة والعمران ومعدن الثروة، وأخذت تتوسع عاما فعاما خصوصا في أيام بني أمية؛ فإنهم اهتموا بها اهتماما عظيما قاصدين بذلك تضعيف أمر يثرب - المدينة - مقر العلويين الطامحين بالخلافة. فتهافت إليها الناس من كل الجهات، فازدحمت بألوف من التجار وأهل الصناعة والمعارف على اختلاف مللهم ونحلهم، وطار صيتها في الآفاق حتى عظم شأنها، وأصبحت من أعظم بلاد الإسلام في عهدهم، واشتهرت بالسعة والعمران وكثرة الخيرات، وظل السعد يخدمها حتى سماها العرب: خزانة العرب وقبة الإسلام، كما كانت الكوفة يومذاك تسمى قبة الإسلام.
وازدادت هذه المدينة عمرانا وثروة وزهوا وشهرة في العصر العباسي الأول، حتى صارت في ذلك العهد من أكبر المدن الشرقية، وسكنها كبار الرجال من العباسيين والعلويين ورجال العلم والأدب، وتهافت إليها العلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة والتجار وأرباب الصناعة وغيرهم، فابتنوا فيها القصور الشامخة والمباني الفخمة، وأنشأوا الحدائق الغناء والميادين الواسعة والبرك والبساتين، وحفروا عشرات الألوف من الأنهار، وكثرت فيها المدارس الكبيرة والمعاهد العلمية، وامتدت تجارة أهلها إلى الهند والصين شرقا وأقصى بلاد المغرب غربا وإلى الحبشة جنوبا، وكانت السفن التجارية التي ترسوا في ميناها، وتحمل أصناف التجارة من الأقمشة والحبوب المختلفة والتمور وغيرها تعد بعشرات الألوف، وبلغت ضرائب تلك السفن مبلغا عظيما منذ عهد الأمويين إلى أواخر العصر العباسي الزاهر، ثم نقصت حينما ضعفت دولة بني العباس حتى أصبحت - ضريبة السفن التجارية - في أيام الخليفة المقتدر بالله في سنة 306ه «22575» دينار سنويا.
أما بساتينها: فكانت ممتدة إلى عبادان عند الخليج الفارسي تتخللها ألوف الأنهار ومئات القصور والحدائق المزينة بأنواع الرياحين والأزهار حتى اشتهرت بالمناظر الأنيقة والميادين العجيبة والبرك الفسيحة والفواكه البديعة والمباني الفخمة والقصور الشامخة، وكثرت الخيرات.
أما جوامعها: فكانت كثيرة جدا، وأشهرها الجامع المعروف يومذاك بمسجد الإمام علي الذي كان في وسطها، وكان من أحسن المساجد وأنظمها وأفسحها وأحكمها، وكان صحنه مفروشا بالحصباء الحمراء التي يؤتى بها من وادي السباع،
50
وكان عليه بناء عاليا مثل الحصن، وكان قد علق على جداره الخارج ألوف من حلقات الحديد لربط خيل من يدخل الجامع من أشراف العرب وزعمائهم، والورادين من النواحي، حتى بالغ بعضهم فقال: «كانت تلك الحلقات سبعين ألف حلقة»، ولكنها مبالغة غير معقولة، وكان في هذا الجامع القرآن الذي كان عثمان بن عفان يقرأ فيه لما قتل ، وأثر تغيير الدم في الورقة التي فيها الآية:
فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم .
وبدأ انحطاط هذه المدينة منذ ضعفت الدولة العباسية، فظلت تنحط سنة فسنة، وتزداد انحطاطا بسبب توالي الفتن والحروب فيها ، وظل الأمر كذلك في عهد البويهيين وأيام السلجوقيين وفي العهد العباسي الأخير، حتى أصبحت في القرن السابع للهجرة لا تزيد على ثلاث محلات كبار «محلة هذيل، ومحلة بني حرام، ومحلة العجم.»
ثم توالت عليها النكبات، وأغار عليها الخوارج حتى اضطر من بقي من أهلها إلى الهجرة منها، فتركوها بالتدريج، فخربت عن آخرها، وتم خرابها في سنة 701ه.
ومن أسباب خرابها: ظلم الولاة واستبدادهم فيها، وهجمات الأعداء عليها، ووخامة الهواء الحاصلة من تعفن المياه المحيطة بها المنبعثة من انكسار سد الجزائر، وتفشي الطواعين ...
وقد أنجبت البصرة القديمة عددا لا يحصى من العلماء والأدباء والخطباء والكتاب والمحدثين والمؤلفين والشعراء ورجال الدين واللغة والنحو والفلسفة، في أزمان مختلفة منذ أسست إلى آخر أيام العباسيين خصوصا في عهد الأمويين وفي العصر العباسي الزاهر.
ومن مشاهيرها من رجال العلم والأدب:
أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69ه.
والحسن البصري المتوفى سنة 110ه.
ومحمد بن سيرين المتوفى سنة 110ه.
والفرزدق الشاعر المتوفى سنة 110ه.
والمهلب بن أبي صفرة، القائد الكبير المتوفى سنة 83ه.
وابن جريج المتوفى سنة 155ه.
والخليل بن أحمد النحوي المتوفى سنة 160ه.
وبشار بن برد الشاعر المتوفى سنة 168ه.
وشبيب بن شبيبة التميمي المتوفى سنة 165ه.
وعبد الله بن المقفع المقتول سنة 142ه.
وأبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 193ه.
وأبو فيد مؤرج السدوسي المتوفى سنة 195ه.
وسيبويه النحوي المتوفى سنة 180ه.
والأخفش المتوفى سنة 211ه.
وعبد الله بن داود الحريري المتوفى سنة 211ه.
والأصمعي المتوفى سنة 216ه.
وإبراهيم بن سيار المتوفى سنة 221ه.
وأبو عثمان الجاحظ المتوفى سنة 225ه.
وأبو الهذيل محمد بن العلاف المتوفى سنة 226ه.
وأبو علي الضحاك الشاعر الخليع المتوفى سنة 250ه.
وأبو داود المحدث المتوفى سنة 275ه.
وأبو بكر العبدي المتوفى سنة 304ه.
وأبو القاسم نصر الخبزارزي الشاعر المتوفى سنة 317ه.
وأبو الحسن علي الأشعري المتوفى سنة 324ه.
وأبو يعقوب يوسف اللغوي المتوفى سنة 423ه.
وأبو عبد الله بن الشباس الذي ادعى الألوهية المتوفى سنة 444ه.
وأبو محمد القاسم الحريري المتوفى سنة 513ه.
وغير هؤلاء كثيرون كحماد، والسيد الحميري، وخلف الأحمر، ويونس بن حبيب، والوزير أحمد بن عمار وزير المعتصم، وأبو زيد الأنصاري، ويزيد بن المهلب ، وهارون بن موسى اليهودي، وأبو الحسين محمد المعروف بابن لنكك الشاعر، وابن أبي إسحاق الحضرمي، وعيسى بن عمر الثقفي، وميمون الأقرن، وأبو الحسن النضر بن شميل التميمي المازني، والحسين بن حمدان مؤسس الديانة النصيرية، وعلي بن محمد القيسي الخارجي، وأبو محمد عبد الله الأكفاني، وإخوان الصفا؛ وهم: زيد بن رفاعة، وأبو سليمان محمد بن مشعر البستي المعروف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الريحاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي.
وغيرهم ممن لو ذكرنا أسماءهم وتراجمهم لاحتجنا إلى تنميق كتاب كبير.
أما الذين ماتوا بالبصرة ودفنوا فيها من الصحابة والتابعين المستشهدين يوم الجمل فهم عدا ما ذكرنا أسماءهم كثيرون أيضا؛ فمن هؤلاء من الصحابة: طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأبو بكرة، وعتبة ... وغيرهم، ممن استشهدوا يوم الجمل وكانوا كثيرين، ومن التابعين: محمد بن واسع، وعتبة الغلام، ومالك بن دينار، وسهل بن عبد الله التستري، «والحسن البصري ومحمد بن سيرين وحماد.»
وفيها ماتت حليمة السعدية أم النبي في الرضاعة، وعلى ستة أميال من البصرة قرب وادي السباع دفن أنس بن مالك.
الفصل الثاني
البصرة الحديثة
ذكرنا قبل هذا في محله أن الخليفة المعتمد على الله كان قد سير أخاه طلحة الملقب بالموفق بالله بجيش كبير إلى البصرة في سنة 261ه لقتال علي بن محمد القيسي صاحب الزنوج الذي أشغل الدولة العباسية بالحروب أعواما.
فلما وصل الموفق البصرة ورأى صاحب الزنوج قد ابتنى بالقرب من البصرة مدينة كبيرة وحصنها بالأسوار والأبراج والعدد والعدد، واتخذها مقرا للحركات الحربية ابتنى الموفق مدينة صغيرة على نهر الأبلة أو على شط العرب تبعد عن البصرة القديمة بنحو 28 ألف قدم - فوت - إلى الشمال الشرقي - أو تبعد عن القديمة بنحو ساعتين - لحسن موقعها الجغرافي، وجعلها مركزا عاما لجيشه، ومقرا للحركات الحربية، فعرفت بالموفقية نسبة إليه، فلما انتصر انتصارا نهائيا على صاحب الزنوج وقتله في سنة 271ه بقيت هذه المدينة عامرة.
ثم سميت على توالي الأعوام باسم البصيرة - تصغير البصرة - وصارت منتزها ومصيفا للولاة والوجهاء، فابتنوا فيها القصور والمنازل حتى توسعت وزادت عمارتها على توالي الأيام، وأخذ البصريون يهاجرون إليها رويدا رويدا، فما تم خراب البصرة القديمة إلا وصارت هذه مدينة كبيرة، وسميت البصرة، واندرس اسم الموفقية واسم البصيرة، وقامت مقام القديمة في سنة 701ه في عهد السلطان غازان أحد ملوك الدولة الإيلخانية التي أسسها هولاكو المغولي في العراق بعد دولة بني العباس في سنة 656ه، أعني أنها قامت مقام القديمة في أوائل القرن الثامن للهجرة الموافق لأوائل القرن الرابع عشر للميلاد. (1) البصرة الحديثة في عهد الإيلخانيين
كانت البصرة الحديثة في عهد الملك غازان - أو قازان - الإيلخاني المغولي تابعة لبغداد، ترسل إليها الحكام من قبل الحاكم العام المقيم ببغداد، وظلت على تلك الحال حتى مات هذا السلطان في سنة 703ه وتولى الملك ابنه السلطان خدابنده محمد، ثم تولى بعده ابنه السلطان أبو سعيد بهادرخان في سنة 715ه، وفي أيامه في سنة 725ه كان على البصرة أميرا ركن الدين الفارسي التوريزي. فلما مات أبو سعيد هذا في سنة 736ه وتولى السلطنة أرباغاوون أو أرباخان ثار حاكم العراق ببغداد علي بادشاه فنادى بسلطنة موسى خان أحد أفراد الأسرة المالكة، فقامت الفتن والحروب بين التتريين، فتغلب على بعض البلاد الفراتية المماليك ملوك مصر والشام، وتغلبت قبائل العرب على البصرة والكوفة وعلى أكثر البلاد الواقعة على حافة البادية وحافة سواد العراق، وانتهت فتنة التتريين بقتل أرباغاوون، وصار الملك إلى موسى خان، فقتل بعد بضعة أشهر، فعادت الحروب بين أفراد العائلة المالكة، وبقيت البلاد العراقية فوضى، فحمل الشيخ حسن الكبير الجلائري التتري بجيش جرار، وكان أميرا على التتر الرحل المبثوثين في آسيا الصغرى، فالتقى بحاكم العراق موسى خان، وبعد حروب انتصر عليه وقتله، ثم سار إلى العراق فاستولى عليه في سنة 738ه وأسس الدولة الجلائرية في العراق. (2) البصرة في أيام الدولة الجلائرية وأيام تيمور لنك
بعد أن استقر أمر الشيخ حسن الكبير مؤسس الدولة الجلائرية التترية في العراق في سنة 738ه وجه الولاة إلى البلاد ومنها البصرة، فبقيت هذه المدينة يحكمها رجاله إلى أن توفي في سنة 757ه وتولى العراق ابنه السلطان ويس، ثم مات في سنة 776ه فاستقل بالعراق ابنه السلطان حسين، فقتله أخوه السلطان أحمد في سنة 784ه وجلس مكانه، فقامت المعارك والحروب بين رجال الأسرة المالكة حتى ضعفت الدولة في الوقت الذي كان فيه الفاتح المشهور تيمور لنك ملك التتر قد قوي أمره وعظمت سطوته، واستولى على بلاد كثيرة؛ كفارس وخراسان وسجستان وأفغانستان وأذربيجان وغيرها، حتى وجه نظره إلى العراق، فحمل عليه في سنة 795ه فانهزم السلطان أحمد؛ لعدم قدرته على صده، فاستولى تيمور لنك على بغداد أولا، ثم على بقية المدن العراقية، فوجه الولاة إلى الأمصار، وترك في كل مدينة حامية، وسار هو لفتح الهند.
وكان السلطان أحمد قد فر إلى مصر ملتجأ بسلطانها الملك الظاهر برقوق، فجهز له جيشا كبيرا، وسيره معه إلى بغداد، فلما اقترب منها انضمت إليه أكثر القبائل العراقية، فحاصر بغداد، فاضطر الحاكم الأمير مسعود السبزاوي إلى الهزيمة منها، فدخلها السلطان أحمد في سنة 797ه، فعادت له أكثر المدن العراقية.
أما تيمور لنك فإنه بلغه ما قام به السلطان أحمد الجلائري من استرجاع العراق فكر راجعا في سنة 803ه، وبعد حروب استولى على بغداد عنوة - مرة ثانية في السنة نفسها.
ومات تيمور لنك في سنة 808ه أثناء عودته من بلاد الصين، فتولى الملك بعده حفيده خليل بن ميران شاه بن تيمور لنك، فاغتنم الفرصة السلطان أحمد الجلائري فعاد إلى العراق، واستنفر القبائل العراقية، فانضم إليه خلق كثير، وبعد معارك استرد بغداد في السنة نفسها، ثم استرد بقية المدن العراقية، فاستقام أمره في العراق.
ولم يكد السلطان أحمد يستريح من تيمور لنك ومن قام بعده حتى حدثت بينه وبين قره يوسف التركماني صاحب ديار بكر وأذربيجان حروب في سنة 813ه انتهت بقتل السلطان أحمد غدرا في السنة نفسها في جوار تبريز، ثم انقرضت دولة الجلائريين في سنة 814ه وقامت على أنقاضها في العراق دولة الخروف الأسود التركمانية،
1
وكانت البصرة في أيام الجلائريين كغيرها من بلاد الرافدين يحكمها الولاة المستبدون، ولم يصلنا عنها خبر يستحق الذكر.
وأول من ملك العراق من ملوك دولة الخروف الأسود قره يوسف ، ثم ولى على العراق ابنه الشاه محمود في سنة 815ه، فقتل في سنة 817ه، فتولى العراق أخوه الشاه محمد بن قره يوسف فقتل أيضا في سنة 841ه، وصارت السلطنة إلى مير زاجهان شاه بن قره يوسف، وتم أمره في العراق وديار بكر وأذربيجان وفارس وكرمان، فولى في سنة 867ه على العراق ابنه بيربداق، غير أن الحروب بقيت بين رجال هذا البيت حتى ضعف أمرهم، وأصبحت البلاد التي تحت حكمهم - ومنها البصرة - فوضى تقريبا، ولم تكد تلك الفتن تنتهي حتى طمع في هذه الدولة حسن الطويل التركماني مؤسس دولة الخروف الأبيض - آق قويونلي - في ديار بكر، فقامت بينه وبين جهان شاه حروب دامت سنتين، فانتهت باستيلاء حسن الطويل - أوزون حسن - بن علي بيك على قسم من بلاد هذه الدولة في سنة 872ه، ثم عادت الحروب بين الدولتين، فانجلت عن انقراض هذه الدولة في سنة 874ه، فقامت مكانها في العراق دولة الخروف الأبيض، ولم يملك العراق من رجال دولة الخروف الأسود غير أربعة ملوك، ولم يكن ملكهم في هذا القطر أكثر من ستين سنة.
ولم يكن رجال دولة الخروف الأبيض أهلا للملك؛ بل كانوا كرجال الدولة التركمانية المنقرضة، ومن أجل ذلك قامت بين أفراد الأسرة المالكة حروب عنيفة بعد موت حسن الطويل في سنة 883ه فقتل أكثرهم، واستمرت الفتن والحروب حتى تولى آخرهم السلطان مراد بن يعقوب شاه في الوقت الذي كانت فيه الدولة الصفوية الفارسية قد قوي أمرها، وفتحت بلادا كثيرة، فحمل الشاه إسماعيل الصفوي على العراق في سنة 914ه وأخذه من السلطان مراد بعد حروب، ولم تكن مدة حكم دولة الخروف الأبيض في العراق أكثر من أربعين سنة، ولم يصلنا عن البصرة في عهد هاتين الدولتين التركمانيتين شيء يستحق الذكر، ولا شك أنها كانت في اضطراب كغيرها من المدن العراقية؛ بسبب توالي الفتن والحروب منذ قامت دولة الخروف الأسود إلى أن انقرضت دولة الخروف الأبيض هذه. (3) البصرة في عهد الدولة الصفوية الفارسية
كان الشاه إسماعيل الصفوي بن حيدر مؤسس الدولة الصفوية في إيران قد فتح بلادا كثيرة، وأسس مملكة واسعة الأطراف، وكان طامحا في العراق، فلما قوي أمره، ورأى أصحاب العراق قد أنهكتهم الحروب الداخلية حمل عليه في سنة 914ه كما تقدم، وبعد حروب استولى على بغداد أولا، ثم على غيرها، فدانت له أكثر بلاد الرافدين، ولكنه لما انشغل في حروب خراسان حمل السلطان مراد بن يعقوب شاه على بغداد في سنة 916ه فاستردها، فأعاد الكرة الشاه إسماعيل، فطرد السلطان مراد من العراق طردا نهائيا، وقرض دولة الخروف الأبيض التركمانية في سنة 920ه، وولى على العراق حاكما عاما أحد رجاله المدعو إبراهيم خان، وجعل مقره بغداد، فولى هذا الأمير على البلاد التابعة له رجالا من خاصته ومنها البصرة.
وتوفي الشاه إسماعيل في سنة 930ه فتولى الملك ابنه الشاه طهماسب الأول، وكان قاسي الحكم، فولى على البلاد العراقية رجالا قساة مثله، فظلموا الناس؛ حتى اضطر أكثر أهل البلاد إلى الهجرة من أوطانهم، وعصت أكثر القبائل العراقية، واستقلت بنفسها.
وتغلب في السنة نفسها - 930 - على بغداد الأمير ذو الفقار بن نخود سلطان
2
رئيس قبيلة موصلو من عشيرة كلهور الكردية، وكان قبل ذلك مستوليا على أطراف لورستان، فلما دانت له بغداد وبعض مدن الرافدين احتمى بالسلطان سليمان القانوني العثماني، وأرسل إليه وفدا من بغداد لعرض الطاعة والدخول تحت سيادته، وخطب له على المنابر، وضرب السكة باسمه. أما الشاه طهماسب فإنه لما بلغته أعمال ذي الفقار تريث، حتى إذا ما كانت سنة 936ه حمل على بغداد بجيشه فحاصرها، ولكنه لما عجز عن أخذها بالقوة لحصانة أسوارها يوم ذاك ركن إلى الخداع - والحرب خدعة - فأغرى علي بيك وأحمد بيك أخوي ذي الفقار، وأطمعهما بالمناصب الرفيعة والمال فانخدعا؛ فاغتالا أخاهما وقتلاه غدرا، وسلموا المدينة إلى الشاه في سنة 936ه، وعلى أثر سقوط بغداد سلمت أكثر المدن، فولى الشاه على العراق حاكما عاما بكلو محمد خان، وجعل مقره بغداد، فولى هذا الأمير على البصرة والجزائر قانصو بيك الفارسي، وبقيت هذه المدينة وسائر المدن العراقية خاضعة للفرس حتى حمل السلطان سليمان القانوني على العراق، ودخل بغداد فاتحا في سنة 941ه. (4) البصرة في العهد العثماني الأول
يقول بعض المؤرخين: إن الذي حمل السلطان سليمان القانوني على إشهار الحرب على الصفويين قسوة الفرس واضطهادهم السنة أبناء مذهبه، في الوقت الذي كانت الدولة العثمانية قد بلغت فيه مبلغا عظيما من القوة.
فصمم السلطان على الانتقام منهم، فأعلن الحرب عليهم، فافتتحت جيوشه تبريز، ثم بغداد في سنة 941ه ثم الموصل، ودانت له بلاد الرافدين، ولعله اتخذ اضطهاد أبناء مذهبه ذريعة للاستيلاء على هذا القطر شأن أكثر الملوك حينما يخدمهم السعد، وتقبل عليهم الدنيا.
أما البصرة: فإنها كانت يوم مجيء السلطان سليمان إلى بغداد بعد دخول جيشه فيها بأيام تحت حكم أمير فارسي اسمه راشد خان، وكان قد بلغه سقوط بغداد وغيرها، فخاف على نفسه ومنصبه فسار إلى بغداد؛ للمثول بين يدي هذا الفاتح الكبير، فلما قدمها عرض الطاعة والخضوع، فأقره السلطان على البصرة على شرط أن تكون الخطبة والنقود باسم السلطان، وأن يكون ممتثلا لأوامر ولاة بغداد الأتراك في المسائل الهامة، فعاد راشد خان إلى منصبه، ولكنه استبد بالأمور بعد أشهر كأن لم تكن له رابطة بالدولة العثمانية، فاضطرت إلى إرسال جيش بقيادة الوزير إياس باشا لطرد راشد خان من البصرة،
3
فلما اقترب جيش الأتراك فر راشد خان، فدخل الأتراك البصرة بدون حرب في سنة 953ه، فنظم إياس باشا شئون البصرة، وضم إليها واسطا وجزائر شط العرب.
وظلت البصرة في قبضة الأتراك التابعين لولاة بغداد إلى سنة 1005ه فاستقل بها أمراؤها، واستبدوا فيها، وحكموا أهلها بما تشتهيه نفوسهم. دخلت سنة 970ه فوجهت إمارة البصرة إلى درويش علي باشا التركي، وكان هذا سيئ التدبير غير كفؤ للحكم؛ فزل نفوذه، وقلت الأموال عنده؛ حتى عجز عن أرزاق الجند المحافظين للمدينة. (4-1) استقلال الأمراء بالبصرة
كان رجل في البصرة يدعى أفراسياب الديري،
4
وكان كاتبا لأميرها علي باشا، فلما ضعف أمر الأمير، وقلت عنده الأموال، وعجز عن تدبير شئون الإمارة وإعاشة الجند حتى استخف به الأهلون؛ تساوم مع كاتبه أفراسياب على إمارة البصرة، فباعها له بثمانية أكياس من الذهب - والكيس ثلاثة آلاف محمدية - على شرط أن يكون أفراسياب خاضعا لسلاطين آل عثمان، وأن يخطب لهم على المنابر، ويضرب السكة بأسمائهم، وعلى هذه الشروط استلم أفراسياب إمارة البصرة، واستلم علي باشا المال، وسار إلى الأستانة، وذلك في سنة 1005ه في عهد السلطان مراد الثالث، وهذا الحال - أعني بيع إمارة كإمارة البصرة التي هي باب العراق سواء علم بذلك السلطان أو بالعكس - مما يدل على شيوع الفوضى في المملكة العثمانية يومذاك.
ولم تمض على أمر أفراسياب أشهر حتى قوي أمره، وخافه الأمراء، وكان أهلا للإمارة؛ فأحبه الناس لسيرته الحسنة، ثم استولى على أكثر الجزائر، ومنع ما كان يأخذه من البصرة حاكم الحويزة السيد مبارك خان من الجوائز السنوية التي كانت أشبه بالجزية - أو الخاوة - وكذلك منعه من أخذ شيء من جهة شط العرب الشرقية،
5
وظل السعد يخدم أفراسياب حتى بقي مستقلا بالبصرة وما يتبعها سبع سنوات، فتوفي بالبصرة في سنة 1012ه، وتولى الإمارة ابنه علي باشا بوصية منه، وكان حازما كأبيه، فافتتح بقية الجزائر
6
وكوت معمر وكوت الزكية، وفتح صدره للعلماء والشعراء وأمن السبل، وفي أيامه ولد بالبصرة في سنة 1025ه شهاب الدين بن معتوق الموسوي البصري الشاعر المتوفى سنة 1111ه.
وفي أيامه في سنة 1036ه زحف القائد الفارسي صفي قلي خان بجيش كبير من الفرس على البصرة بأمر من الشاه عباس الأول بعد أن افتتح الشاه بغداد في سنة 1032ه ، فحاصر هذا القائد البصرة حصارا شديدا دافع في خلاله علي باشا دفاع الأبطال، وبينما هم في ذلك إذ فاجأهم خبر موت الشاه، فتركوا الحصار، وعادوا إلى بغداد؛ إذ كان صفي قلي خان يومذاك قائدا لجيش بغداد الفارسي.
وبقي علي باشا منفردا بالحكم حتى مات في سنة 1057ه، فتولى الإمارة ابنه حسين باشا، فورده منشور السلطان بتوجيه الإمارة إليه على جري العادة في ذلك العهد؛ فاستبد بالأمور، وأساء السيرة والتدبير، وظلم الأهلين حتى كرهوه ونقموا عليه، ثم حدثت بينه وبين عميه أحمد أغا وفتحي بك ولدي أفراسياب وحشة، فسارا إلى عاصمة آل عثمان، فشكيا إلى السلطان أعمال حسين باشا واستبداده وظلمه، فأصدر السلطان محمد الرابع أمره بطرده من البصرة، وبتجهيز الجيوش بقيادة والي بغداد مرتضى باشا، فجهزت الجيوش من بغداد وغيرها من المدن العثمانية، وسار مرتضى باشا قاصدا البصرة في سنة 1063ه.
وبلغ ذلك حسين باشا، فاستعد للحرب، وحصن القلاع خصوصا قلعة القورنة،
7
فالتقى الجيشان، وبعد قتال حاصر مرتضى باشا البصرة، ودام الحصار ثلاثة أشهر، وانتهى الأمر بهزيمة حسين باشا، ودخول مرتضى باشا البصرة ظافرا في سنة 1064ه، وفر حسين باشا بأهله وأمواله وحاشيته إلى بلاد إيران.
ولما دخل مرتضى باشا البصرة صادر أموال جماعة من الوجهاء، وقتل بعض الأعيان الموالين لحسين باشا، ثم قتل أحمد أغا وفتحي بك، واستعمل الشدة والظلم حتى نقم الناس وكرهوه، وبينما كان الحال باضطراب؛ إذ حدثت فتنة بين جنود مرتضى باشا الذين في القورنة، فثار أهل الجزائر على الباشا، وتبعهم أعراب قشعم والمنتفكيون وخزاعل وبنو كعب وبنو لام، فقتلوا عماله، وأصبحت البصرة محاطة بالثائرين، فاضطر مرتضى باشا إلى الخروج من البصرة منهزما بعساكره إلى بغداد.
وعلى أثر انسحاب مرتضى باشا من البصرة أرسل البصريون إلى أميرهم الفار حسين باشا يطلبون قدومه إليهم، فأقبل في السنة نفسها - 1064 - فدخل المدينة باحترام، وعاد إلى منصبه، فدان للسلطان، وكتب إليه يطلب عفوه، ويرجو توجيه الإمارة إليه، وقدم إليه هدايا ثمينة، فصدر منشور السلطان بتوجيه إمارة البصرة إلى حسين باشا ، ولقبه بلقب الوزير أيضا على عادة السلاطين في ذلك العهد مع كل أمير قوي، وظل حسين باشا مستقلا بالبصرة، ولكنه أعاد حكمه القاسي، واستبد بالأمور، وظلم الناس وتجبر، ثم طمع بالأحساء فسير لأخذها جيشا في سنة 1073ه فافتتحها جيشه عنوة، وفتك بأهلها فتكا ذريعا، ونهب وقتل، وفر حاكمها محمد باشا إلى عاصمة آل عثمان مستغيثا بالسلطان، فغضب السلطان على حسين باشا، وأمر بطرده من البصرة، ووجه قيادة الجيش إلى والي بغداد إبراهيم باشا، فاجتمع الجنود العثمانية من البلاد في بغداد، فسار الوالي بجيش كبير قاصدا البصرة في سنة 1075ه.
واتصل خبر هذه الحملة بحسين باشا، فاستعد للحرب، فالتقى الجيشان عند قلعة القورنة، فدارت رحى الحرب بين الفريقين، ثم حاصر إبراهيم باشا القورنة حصارا شديدا، وفي أثناء ذلك أرسل إلى البصريين كتبا يدعوهم للخضوع إلى السلطان، ويحذرهم عاقبة العصيان، ويعدهم ويمنيهم، فثاروا على محمد بن فداغ نائب حسين باشا فقتلوه، وقتلوا أعوانه، وطردوا من البصرة عيال حسين باشا، فبلغ ذلك حسين باشا وهو يومئذ محاصر في القورنة، فأرسل ثلاثة آلاف فارس من قبائل المتفك وأهل الجزائر؛ للتنكيل بالبصريين، فهجموا عليهم ليلا، فقاتلهم البصريون داخل المدينة، ولكنهم انكسروا وفروا، فقتل الأعراب أحد الوجهاء الشيخ ذي الكفل وجماعة من الوجهاء وغيرهم، ونهبوا وخربوا، وأحرقوا دورا كثيرة، وفتكوا بالأهلين.
واستمرت الحرب بين إبراهيم باشا وبين حسين باشا ثلاثة أشهر، فعجز الأول، فاضطر إلى المصالحة، وبعد مراسلات تم الصلح على شروط، منها أن يدفع حسين باشا نفقات هذه الحرب ستمائة كيس من النقود، وأن يسلم في كل سنة مائتي كيس من النقود إلى خزينة الدولة، وأن يعيد متصرف الأحساء محمد باشا إلى منصبه، وتعهد إبراهيم باشا بصدور عفو السلطان وتوجيه إمارة البصرة إلى حسين باشا، وأخذ معه يحيى أغا بن علي أغا صهر حسين باشا ليأخذ منشور السلطان بالإمارة، ورجع إبراهيم باشا إلى بغداد، وعاد حسين باشا إلى البصرة، وانتهت هذه الفتنة في سنة 1076ه.
ولما رجع إبراهيم باشا إلى بغداد ومعه يحيى أغا انهزم أربعة من الكواوزة الذين ضاق بهم الحال مع حسين باشا لسوء سيرته، وهم: أحمد بن محمود، وإبراهيم بن علي، واثنان آخران،
8
وانضموا إلى إبراهيم باشا، ثم توجهوا مع يحيى أغا إلى الأستانة، فأطمعوه بولاية البصرة، فاتفق معهم وغدر بصاحبه وحميه حتى إذا ما وصلوا الأستانة شكى جميعهم إلى السلطان ظلم حسين باشا واستبداده، واتفق في تلك الأثناء وصول كتاب من وجهاء البصرة إلى السلطان مع جماعة منهم يشكون فيه أعمال حسين باشا وحكمه القاسي وأخذ الأموال بالباطل؛ إذ اغتصب أموال التجار والأعيان، وفتك بكثيرين منهم بعد مصالحته مع إبراهيم باشا والي بغداد، فاجتمع الوجوه سرا، وكتبوا كتابا إلى السلطان شكوا فيه ما يقاسونه من الظلم والعسف والاستبداد، وأرسلوه مع جماعة منهم إلى العاصمة ليقدموه إلى السلطان.
فلما كثرت الشكوى على حسين باشا عند السلطان أصدر أمره بطرده من البصرة طردا نهائيا، وبتوجيه إمارتها إلى يحيى أغا، ووجه إليه رتبة الوزارة، فدعي يحيى باشا، وأودعت قيادة الحملة إلى الوزير إبراهيم باشا والي بغداد، ويروى أن قيادة هذه الحملة كانت قد أودعت إلى الوزير قره مصطفى باشا بأمر من السلطان محمد الرابع في سنة 1078ه، فاجتمع الجيش العثماني ببغداد، وانضمت إليه جيوش الرقة والموصل وشهرزور وغيرها حتى بلغ عدد الجيش على ما قيل خمسين ألف مقاتل.
واتصل خبر هذه الحملة الكبيرة بحسين باشا، فاستعد للحرب، وصادر أموال التجار والمثرين، وأرسل أمواله وعياله إلى بلاد إيران، وظل يجمع الجموع حتى بلغ عدد جيشه خمسة عشر ألف مقاتل، فتوجه به نحو القورنة، فأصدر أمره بإخلاء البصرة، فأخلوها في ثلاثة أيام، وخرج أهلها من ديارهم في أسوأ حال، ثم أمره أهل القرى التابعة للبصرة بالجلاء عن ديارهم فتركوها بعد أن نهب رجاله أكثر أموالهم وقتلوا وعذبوا من خالف الأمر، وكان الموظفون على تخلية تلك الديار أعوان هذا الأمير القاسي الحكم منهم أحد مماليكه علي بن أحمد بن شاطر وحسن بن طهماز وغيرهما.
والتقى جيش السلطان بجيش حسين باشا بالقرب من القرنة، وبعد معارك دامت أياما انكسرت جيوش حسين باشا، فاضطر إلى أن يتحصن في قلاع القورنة، فانهزمت عساكره ثانية، واستولى الجيش التركي على قلاع القورنة، فأعمل السيف في أهلها، وقد قتل في هذه المعركة الأخيرة نحو الأربعة آلاف من الأعراب، فانهزم حسين باشا بحاشيته إلى بلاد إيران قاصدا شيراز، فدخل الجيش العثماني ظافرا، وذلك في سنة 1078ه،
9
وانتهى أمر استقلال الأمراء بالبصرة. (4-2) ولاة البصرة الأتراك
دخل الجيش العثماني البصرة، فتولى ولايتها يحيى باشا، ورتب جيشا لحماية المدينة، ونظم شئونها، ولكنه بعد أن عادت الجيوش إلى أماكنها، وقوي أمره، تغيرت سيرته، فرفض قبول الدفتري - الدفتردار - التركي، وامتنع عن أداء نفقات الجيش، ثم طرد الدفتري وأمراء الجيش، وطلب أن ينفرد بالحكم على أن يؤدي في كل عام مائتي كيس من النقود إلى خزينة الدولة، واستمر على عتوه منفردا بالحكم حتى حدثت بينه وبين الانكشارية الذين في القورنة فتنة بسبب تأخير مرتباتهم، فأرسل لقتالهم فرسانا من القبائل العربية التي تحت حكمه، فقتلوهم، ونجا منهم من فر، فبلغ ذلك السلطان، فأصدر أمره بعزله وبتوجيه ولاية البصرة إلى قره مصطفى باشا المعروف بقبوجي باشي، وذلك في سنة 1080ه.
فسار الأمير الجديد بجيش من الأتراك، فاستلم البصرة، وبقي على إمارتها إلى سنة 1083ه، فأبدل بمحافظ بغداد حسن باشا، ثم عزل، وتولى مكانه السلاحدار حسين باشا في سنة 1085ه، فظل على ولاية البصرة إلى أن نقل في سنة 1088ه إلى ولاية ديار بكر، فأعيد على البصرة حسن باشا، ثم طلبه السلطان في سنة 1092ه، وأرجع على ولاية البصرة السلاحدار حسين باشا، ثم عزل في سنة 1094ه ووجهت ولاية البصرة إلى الوزير عبد الرحمن باشا.
وكان هذا الوزير من خيرة الولاة عالما فاضلا حسن السيرة والتدبير محبا للعلم والعلماء؛ فجدد بناء المساجد، وأحيا بعض المدارس، وأسس المدرسة المعروفة بالرحمانية - نسبة إليه - وخفف عن الأهلين بعض الضرائب، ومن أجل ذلك أحبه البصريون حبا جما، ولكنه عزل في سنة 1098ه، وتولى بدله حسين باشا الكمركجي فأساء السيرة وظلم الأهلين، فعزله السلطان في سنة 1099ه، وأعاد الوزير عبد الرحمن ففرح البصريون بعودته، فلم يدم فرحهم إلا قليلا؛ لأن السلطان عزله في سنة 1100ه وولى على البصرة دفتريها السابق حسين باشا، ومنح له لقب الوزير أيضا، فثار في أيامه - سنة 1102ه - الشيخ مانع أمير المنتفك، وخرج على الدولة، فحدثت بينه وبين حسين باشا هذا عدة معارك انجلت عن انكسار حسين باشا شر كسرة؛ لعدم نصرة والي بغداد له، وكانت النتيجة أن قوي أمر مانع، فاستولى بعد انتصاره بقليل على جصان وبدره ومندلي، وعلى أثر ذلك عزل السلطان حسين باشا عن البصرة، وأرسل بدله الوزير أحمد باشا ابن عثمان باشا. (4-3) هجمات المنتفكيين على البصرة
تولى أحمد باشا البصرة، فحدث في أيامه طاعون شديد الوطأة، فمات به خلق كثير من البصريين، فاغتنم الأعراب فرصة انشغال البصريين وأميرهم بهذا المرض الفتاك، فاتفق أهل الجزائر والمنتفكيون على غزو البصرة ونهبها، فحمل عليها منهم ثلاثة آلاف فارس بقيادة أمير المنتفك الشيخ مانع، فبلغ ذلك أحمد باشا، فلم يتمكن من جمع جيش كاف لصدهم، فخرج لقتالهم بخمسمائة فارس، فالتقى بهم في الدير، فتقاتلوا ثلاثة أيام، فانجلت المعركة عن تمزيق جيش البصرة، ووقوع أحمد باشا قتيلا في المعركة.
واتصل خبر هذه الحادثة بالبصريين، فاتفقوا على تولية الكتخدا حسين أغا؛ ليقوم بصد الأعراب، فولوه عليهم، فجمع منهم جمعا كبيرا للدفاع، وبينما هو في ذلك إذ هجم الثائرون على المدينة، فوقف لصدهم، ودافع دفاع المستميت حتى تمكن من طردهم، ولكنه قتل بعد ذلك في سنة 1103ه، فاتفق البصريون على نصب حسين الجمال واليا عليهم، فقام بالأمر حتى وجهت الولاية إلى خليل باشا أخي والي بغداد أحمد باشا في سنة 1104ه، فجمع خليل باشا جيشا من بغداد، وجاءت إليه الجيوش نجدة من الموصل وشهرزور بأمر من السلطان لقتال أمير المنتفك مانع، فقاد الحملة بنفسه حتى التقى بمانع في الجزائر، وبعد حروب دامت خمسة أيام انكسرت جيوش خليل باشا، فاضطر إلى التقهقر، فاستولى الأمير مانع على معسكره، ونهب أمواله وذخائره، وتحصن خليل باشا في البصرة.
وقوي أمر مانع حتى اضطر السلطان إلى استمالته، وكتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الطاعة والخضوع، وينصحه ويحذره عاقبة الشقاق والخلاف، وأصدر أمره بزيادة مخصصاته؛ فخضع مانع لأمر السلطان، وعاد إلى مقره، وهدأت الأحوال.
استيلاء المنتفكيين على البصرة
لما صفا الجو لخليل باشا والي البصرة أطلق العنان لأعوانه، فاستبدوا بالأمور، وظلموا الأهلين واضطهدوهم على مرأى ومسمع منه حتى ضاق الحال بالبصريين، فاتفقوا على طرده، فثاروا عليه، وطردوه هو وأعوانه، وسلموا المدينة إلى أمير المنتفك الشيخ مانع، وذلك في سنة 1106ه، والظاهر أن الشيخ مانع هو الذي سبب هذه الثورة؛ ليتسنى له الحكم بالبصرة.
وبقي الشيخ مانع أميرا على البصرة إلى سنة 1109ه منفردا بالحكم، والدولة العثمانية لا تبدي حراكا لضعفها، وكانت النتيجة أن خدع حاكم الحويزة فرج الله خان مانعا، واستعمل عليه الحيل والدسائس والخداع حتى أخرجه من البصرة ، فاستولى عليها. (5) دخول البصرة في قبضة الفرس وإخراجهم منها
استولى فرج الله خان حاكم الحويزة على البصرة كما ذكرنا، فلما استتب أمره فيها استخلف عليها أحد رجاله المدعو داود خان، فدخلت البصرة تحت سيادة الفرس.
وبلغ خبر استيلاء فرج الله خان على البصرة إلى السلطان، فلم يشأ أن يتركها له وهو من ولاة الفرس المستقلين في تلك الجهات، فوجه ولاية البصرة إلى والي حلب علي باشا، وأمره بجمع العساكر من البلاد لقتاله وإخراجه من البصرة، فاجتمعت الجيوش من حلب وديار بكر والموصل وسيواس وبغداد حتى بلغ عدد الجيش نحو الخمسين ألفا على ما نقل، فسار علي باشا بالجيوش حتى وصل القورنة في سنة 1111ه، فسمع داود خان بقدوم هذا الجيش الكبير فانهزم من البصرة، فدخلها علي باشا بدون قتال، فدانت له المدينة وما يتبعها من القرى والقبائل، فساد الأمن والسكون، وعادت البصرة إلى الدولة العثمانية بعد أن ملكها حاكم الحويزة الفارسي نحوا من سنتين. (6) استيلاء المنتفكيين على البصرة ثانية وطردهم منها
دخلت سنة 1114ه، فوجهت ولاية البصرة إلى محمد باشا القبودان، فدام حكمه فيها إلى سنة 1118ه، فعزل، وأرسل بدله الوزير خليل باشا، فثار في أيامه - في سنة 1120ه - أمير المنتفك الشيخ مغامس، وهجم على البصرة، فاستولى عليها عنوة، فاضطربت الأحوال، وفقد الأمن، وسادت الفوضى، فبلغ ذلك السلطان، فأصدر أمره إلى والي بغداد حسين باشا بتجميع الجيوش وإخراج الأعراب من البصرة، فصدع الوالي بالأمر، وجاءته النجدات بأمر من السلطان من حلب والموصل وديار بكر وشهرزور، حتى اجتمع عنده جيش كبير، فسار به قاصدا البصرة.
واتصل خبر هذه الحملة بمغامس فجمع الجموع من المنتفكيين والنجديين، واستعد للحرب، وبنى قلعة كبيرة على نهر عنتر في القورنة حشد فيها جموعه، فوصله الجيش العثماني فأحاط به من كل الجهات، فدارت بين الطرفين حرب هائلة انتهت بهزيمة أمير المنتفك في سنة 1121ه، فاحتل حسين باشا القورنة، ثم توجه إلى البصرة فدخلها ظافرا، فوجهت ولايتها إلى كتخدا بغداد مصطفى أغا، وبعد أن نظم حسين باشا شئون البصرة، وجعل عليها حامية عاد إلى بغداد، وعادت الجيوش إلى أماكنها، وانتهت تلك الفتنة.
وبقيت ولاية البصرة تنتقل من وزير إلى آخر كلهم من الأتراك العثمانيين من سنة 1124ه إلى سنة 1156ه، ولم يحدث فيها في هذه المدة غير تبديل الولاة وبعض الحوادث الطفيفة بين القبائل العربية تارة وبينهم وبين الولاة أخرى مما لا أهمية له. (7) إغارة نادر شاه على البصرة
عندما خلع الشاه عباس الثالث الصفوي وتوصل القائد الفارسي نادر خان إلى الجلوس إلى عرش إيران وقرض الدولة الصفوية، وأعلن ملوكيته في سنة 1148ه وسمي نادر شاه، ولقب نفسه بطهماسب الثالث؛ طمع بالعراق، فأشهر الحرب على الدولة العثمانية، فأغار على البصرة والقورنة في سنة 1156ه، ثم توغل في البلاد الفراتية، ووصل الحلة، ثم حاصر بغداد في عهد الوزير أحمد باشا، فلم يتمكن من أخذها، وظلت الحرب بينه وبين الأتراك إلى سنة 1159ه، فتم الصلح بينه وبينهم، ولم نقف على تفاصيل هذه الغارة على البصرة، والظاهر أنه لم يدخل المدينة.
وظل العثمانيون بعد هذه الحادثة يولون على البصرة متسلما بعد متسلم إلى سنة 1188ه، ولم يحدث فيها في هذه الأعوام الطوال شيء يستحق الذكر سوى ثلاثة حوادث؛ الأولى: ثورة أمير قشعم محمد بن مانع في سنة 1137ه، فأخضعه والي البصرة عبد الرحمن باشا، ثم عفا عنه وأمنه بعد أن أخذ منه أموالا كثيرة، والثانية: هجرة الشيخ سليمان رئيس قبيلة بني كعب، والتجاؤه بكريم خان الزندي في سنة 1178ه، فأسكنه مع قبيلته بأرض الدورق، وصار تابعا للفرس بعدما كان تابعا للدولة العثمانية؛ بسبب ما قاساه من ظلم والي بغداد عمر باشا، والثالثة: صدور أمر والي بغداد عمر باشا إلى متسلم البصرة سلام أغاسي محمد أغا بقتل جماعة من الوجوه، وبمصادرة أموال بعض القبائل؛ مما سبب الاختلال بالبصرة. (8) استيلاء كريم خان الزندي على البصرة
كانت أحوال البصرة مضطربة جدا في عهد والي بغداد عمر باشا، في الوقت الذي كان فيه أمر كريم خان الزندي المتغلب على مملكة إيران قد قوي، فاغتنم فرصة ذلك الاضطراب، فأعلن الحرب على العثمانيين، وأرسل أخاه صادق خان بجيش كبير في أواخر سنة 1188ه، فحاصر البصرة ومعه الشيخ سليمان رئيس بني كعب بقبائله، وعلى البصرة يومئذ متسلما سليمان بك أحد المماليك الأتراك المعروف بأبي سعيد الذي تولى إمارتها في سنة 1182ه، فدام الحصار ثلاثة عشر شهرا في عهد السلطان عبد الحميد الأول حتى اضطر المتسلم سليمان بك بعد الدفاع الطويل إلى التسليم في سنة 1190ه، «وسبب ذلك تقاعد والي بغداد عمر باشا عن نصرته، مع أن السلطان كان قد أرسل نجدة ومالا لصد الفرس، وأرسل جماعة من القواد الكبار إلى بغداد؛ ليجهزوا الجيوش، فطمعوا بالمناصب والأموال، وتقاعدوا عن أمر البصرة، ثم حدثت بينهم فتن عديدة مما لا محل لذكرها في هذا المختصر، على أن المنتفكيين كانوا قد جاءوا نجدة للبصريين، وقاتلوا معهم، ولكنهم لما طال أمد الحصار رجعوا إلى مواطنهم.»
ولما دخل صادق خان البصرة بعد أن أمن المتسلم والوجوه أسر المتسلم وجماعة من الأشراف والأعيان والتجار، وساقهم مخفورين إلى شيراز عاصمة أخيه كريم خان، واضطهد الأهلين حتى إذا ما كانت سنة 1192ه حدثته نفسه بالاستيلاء على بلاد المنتفك، فجهز جيشا كبيرا فسيره بقيادة أخيه محمد علي خان، وعلى المنتفك يومئذ الأميران ثامر بن سعدون وثويني بن عبد الله. فبلغ ذلك المنتفكيين فاستعدوا للقتال، واجتمعوا بالفصيلة - ويروى الفضيلة - قرب الفرات، فالتقى الجيشان، فاستمرت الحرب يوما وليلة، وكانت حرب عنيفة، فانجلت عن انهزام الفرس أشنع هزيمة بعد أن قتل منهم عدد كبير، فلحق المنتفكيون المنهزمين وطاردوهم، فغرق عدد كثير من الفرس في الفرات، وغنم المنتفكيون أموالهم وخيولهم، وعادوا منصورين إلى مواطنهم.
أما صادق خان فإنه حنق على المنتفكيين حنقا شديدا عند وصول شراذم جيشه المنهزمين، وصمم على الانتقام منهم، فجهز في سنة 1193ه جيشا جديدا لغزوهم، وسيره بقيادة محمد علي خان أيضا، وأرسل معه أخاه الآخر مهدي خان والشيخ سليمان رئيس بني كعب بقبائله العربية القحطانية. فبلغ خبر تلك الحملة المنتفكيين، فاستعدوا للحرب، فالتقى الجمعان بأبي حلانة، فأراد المنتفكيون الصلح عندما شاهدوا كثرة العدد والعدد، غير أن نفوسهم أبت قبول الشروط التي شرطها القائد الفارسي، ففضلوا الموت على الذل، فجرت بين الفريقين حرب دموية هائلة استمات فيها العرب، فهجموا هجمات عنيفة لم يسمع بمثلها؛ فانتهت الحرب بتمزيق الجيش الفارسي، ووقوع القائد محمد علي خان وأخيه مهدي خان قتيلين مع من قتل من الفرس، فانهزم من بقي منهم، فطاردهم العرب، ولحقوا فلولهم إلى البصرة، وهناك حاصروهم فيها بعد أن غنموا منهم أموالا وسلاحا وخيلا، واتفق في أثناء ذلك موت كريم خان الزندي، ووصول نعيه إلى البصرة.
فلما دخل المنهزمون من الفرس البصرة، وحاصر العرب المدينة حتى ضيقوا على حاميتها؛ خاف صادق على نفسه من أن يمد والي بغداد المنتفكيين فيقع في الأسر، وقد أصبح بعد موت أخيه وحيدا لا ناصر له خصوصا وأن زكي خان كان قد تغلب على عرش إيران، فانهزم من البصرة ليلا بأتباعه في السنة نفسها - 1193 - فدخلها المنتفكيون، وكتبوا بذلك إلى حكومة بغداد، وعلى ولايتها يومئذ الكتخدا إسماعيل بك وكيلا، فأرسل إلى البصرة متسلما نعمان بك، وانتهت هذه الحادثة بعد أن دام حكم الفرس بالبصرة نحوا من ثلاث سنوات.
تسلم نعمان بك متسلمية البصرة، وعلى أثر وصوله أطلق الفرس الأسراء ومن جملتهم سليمان بك المتسلم، فأرجعه السلطان إلى منصبه بعد أيام قليلة، ثم وجه إليه بعد أشهر ولاية العراق، فعرف بالوزير سليمان باشا الكبير، وبعد وصوله بغداد بأيام أرسل سليمان أفندي متسلما للبصرة في سنة 1194ه.
وفي أيام سليمان أفندي المتسلم في سنة 1199ه ثار أمير خزاعة حمد بن حمود على الحكومة، فشن الغارات على أطراف البصرة، فاستنجد المتسلم بسليمان باشا، فجهز له جيشا كبيرا، فالتقى الجيش بالثائر في الأهواز، فانتصر عليه، وفرق جموعه، وفر حمود إلى الحسكة، وعلى أثر ذلك عزل سليمان أفندي في سنة 1200ه، وأرسل بدله من بغداد إبراهيم بك متسلما على البصرة. (9) استيلاء المنتفكيين على البصرة
كان قد خرج على حكومة بغداد رجل يدعى عجم محمد، فجمع الجموع من أهل البلاد والقبائل، فقاتله الوزير سليمان باشا حتى مزق جموعه، فتلاه سليمان بك الشاوي، فثار أيضا على الوزير طمعا في منصبه، وحاول - على ما ينقل - تأسيس دولة عربية في العراق، ولكنه فشل وتمزقت جموعه، فالتجأ بأمير المنتفك ثويني بن عبد الله، كما التجأ عجم محمد بأمير خزاعة حمد بن حمود، فأغرى كل منهما صاحبه على الثورة، فاتفق الجميع على قتال سليمان باشا وخلعه من ولاية العراق، فاجتمعوا وأعلنوا الخروج، فحملوا على البصرة وزعيمهم أمير المنتفك ثويني، ولكن كل من الأربعة يريد الولاية لنفسه. فهجموا على البصرة في أواسط سنة 1200ه، وبعد حرب طفيفة استولوا عليها، وقبضوا على متسلمها إبراهيم بك فحبسوه، وصادروا أمواله، ثم نفوه إلى مسقط، وصادروا أموال أكثر التجار، وجبوا الرسوم والضرائب، وضيقوا على الناس حتى اضطر أكثرهم إلى الهجرة إلى بغداد وغيرها.
واتصل خبر هذه الحادثة بالوزير سليمان باشا، فجهز جيشا كبيرا من العرب والأكراد والانكشارية وغيرهم، وسار به نحو البصرة على طريق المنتفك، وهناك التقى بالثائرين في محل يسمى أم العباس، فأوقع بهم ومزقهم، فانهزم أميرهم ثويني، فولى الوزير على المنتفك أميرا حمود بن ثامر بن سعدون، ثم سار إلى البصرة فانهزم منها من كان فيها من الثائرين، فدخلها بسلام في أواخر سنة 1201ه، وبعد أن نظم شئونها ولى عليها متسلما مصطفى أغا الكردي، وجعل لحمايتها فرقة من عساكر الأكراد، وعاد هو ومن معه إلى بغداد. (10) القلاقل في البصرة وغارة أمير نجد عليها
بقي مصطفى أغا الكردي على البصرة إلى سنة 1203ه، فامتنع عن إرسال الخراج إلى بغداد، وعصى على الحكومة، وبعد حوادث طويلة قتل رئيس بوارج الدولة مصطفى أغا الحجازي، وسعى في إيقاد ثورة في البلاد، ولكنه لم ينجح في مسعاه، فزحف عليه الوزير سليمان باشا بجيشه حتى دنا من البصرة فانهزم مصطفى أغا إلى الكويت، فدخل الوزير البصرة، فولى عليها متسلما عيسى بك المارديني، وذلك في سنة 1204ه.
وظل عيسى بك في منصبه إلى سنة 1208ه فعزله الوزير، وأرسل بدله عبد الله أغا، فمكث في منصبه إلى سنة 1213ه، فحدث بينه وبين الوزير سليمان باشا خلاف، فعصى عليه، فجهز الوزير لقتاله جيشا، فانهزم عبد الله أغا، ولكنه بعد أيام قليلة سار إلى بغداد، وخضع للوزير ، وطلب عفوه، فعفا عنه، وأرجعه إلى منصبه في سنة 1214ه، فدام حكمه في البصرة إلى سنة 1216ه فعزله الوزير، وأرسل بدله صهره سليم بك.
ولما مات الوزير سليمان باشا الكبير ببغداد في سنة 1217ه عزل صهره سليم بك عن البصرة،
10
وأرسل بدله إبراهيم أغا متسلما.
وفي أيام المتسلم إبراهيم أغا هذا في سنة 1220ه زحف أمير نجد سعود بن عبد العزيز بجموعه على البصرة، فهجم عليها، فدافع المتسلم دفاعا شديدا حتى ضاق الحال بأهل المدينة، فاستغاثوا بالمنتفكيين، فجاءهم حمود بن ثامر بجموعه نجدة، فاضطر أمير نجد إلى الانسحاب، ولكنه عند عودته أحرق بعض القرى، ونهب وخرب.
وعزل المتسلم إبراهيم أغا في سنة 1223ه وأرسل بدله من بغداد سليم بك، فاستقر أمره في البصرة حتى إذا ما كانت سنة 1225ه حدث بينه وبين الوزير سليمان باشا الفتيل وحشة فأوعز الوزير إلى أمير المنتفك حمود بن ثامر بطرده من البصرة، فحمل عليه حمود، ففشل المتسلم، وتفرقت جموعه، فاضطر إلى الهزيمة، فدخل حمود البصرة، وكتب بذلك إلى الوزير، فأرسل أخاه أحمد بك متسلما للبصرة في السنة نفسها.
وعلى أثر قتل الوزير سليمان باشا الصغير - أو الفتيل - عزل أخوه أحمد بك عن البصرة، ووجهت متسلميتها إلى رضوان أغا في سنة 1226ه ثم عزل، وأرسل بدله يعقوب أغا سنة 1227ه فعزل أيضا في سنة 1228ه، وتولى مكانه سعيد أغا فعزل بعد سنة، وأرسل بدله في سنة 1229ه بكر أغا، فمكث هذا في منصبه إلى سنة 1236ه فعزل وحل مكانه محمد كاظم أغا باني السوق المعروف اليوم بسوق كاظم أغا، وفي أيامه خرج على الحكومة محمد بن ثاقب بن وطبان الزبيري، فهجم بجموعه على قصبة الزبير أولا فصده عنها أهلها بمساعدة آل الزهير، ثم قصد البصرة فجمع كاظم أغا الأهلين، وضم إليهم جيشه، فدافع حتى تمكن من طرد الثائر.
وعزل كاظم أغا في سنة 1239ه، فعين متسلما على البصرة عبد الغني أغا فعزل بعد سنة. (11) غارة المنتفكيين وهجوم بني كعب على البصرة
تولى متسلمية البصرة في سنة 1240ه عزيز أغا، وكان أهلا لهذا المنصب، فدام حكمه إلى سنة 1247ه، وفي أيامه في سنة 1243ه عزل الوزير داود باشا حمودا عن إمارة المنتفك لأمور نقمها عليه، وولى بدله على المنتفك عقيل بن محمد بن ثامر، فثار غضب حمود، وأعلن الخروج على الدولة، وجمع الجموع، وسيرها بقيادة ابنيه ماجد وفيصل؛ لأخذ البصرة، وخشي الفشل فراسل سلطان مسقط السيد سعيد ورؤساء بني كعب يطلب منهم النجدة، فجاءته نجدة مسقط في السفن ونجدة بني كعب على الخيل، فنزل ماجد بالجيش البري قريبا من نهر معقل،
11
ونزل فيصل بالجيش البحري - أو النهري - بأبي سلال، فلما تكاملت الجيوش حاصرا البصرة برا ونهرا، فدافع البصريون دفاعا شديدا، وعاضدهم بنو عقيل النجديين، وقاتلوا معهم، فدامت المعارك بين الفريقين نحوا من شهرين، فانجلت عن هزيمة الهاجمين في السنة نفسها.
وفي أيامه في سنة 1246ه على أثر عزل الوزير داود باشا وأسره وتولية إمارة العراق علي باشا اللاظ؛ هجمت عشيرة بني كعب على البصرة، فقاتلهم البصريون بزعامة آل الزهير ومعاضدة بني عقيل النجديين، فطردوهم خاسرين.
وعلى أثر هذه الحادثة عزل علي باشا عزير أغا، وأرسل بدله متسلما على البصرة عبد القادر باشا، فمات هذا بالبصرة في مرض الطاعون بعد بضعة أشهر من توليته، وعزير أغا هذا هو الذي جدد بناء مسجد بدر المتصل بسوق كاظم أغا، فعرف بجامع عزير أغا. (12) البصرة بعد الوزير داود باشا
كانت البصرة في عهد الوزير داود باشا أمير العراق قد أخذت تدب فيها روح المدنية، ولكنها ما كانت تنجو من ظلم متسلميها المستبدين من المماليك الأتراك،
12
حتى إذا ما انتهت حكومة المماليك من العراق في سنة 1247ه بعد أسر الوزير داود باشا، وشرع ولاة بغداد في بعض الاصطلاحات؛ نالت البصرة شيئا قليلا من ذلك الاصطلاح، وظلت تابعة تارة لولاة بغداد يولون عليها من شاءوا من أعوانهم، وأحيانا يرشح الولاة من أرادوا فيصدر أمر السلطان بتعيينه، وآونة يرسل السلطان متسلما عليها من عاصمته، وبقي الحال على ذلك إلى سنة 1288ه بعد عزل الوزير مدحت باشا، فانفصلت البصرة عن ولاية بغداد، وربطت بالعاصمة «الآستانة»، وصار السلطان يرسل إليها المتصرفين تارة والولاة أخرى، ولكن أهلها ذاقوا مرارات أنواع المظالم من أولئك الرجال الذين تواردوا عليها ممن لا يهمهم غير جمع الأموال بحق أو بغير حق، ولا تأخذهم في قبول الرشوة لومة لائم.
ومن الحوادث التي جرت بعد عهد الوزير داود باشا: أخذ عدة مقاطعات من الشيوخ كأراضي ميهجران ونهر حوز وغيره من المنتفكيين وضمها إلى أموال الدولة في عهد والي بغداد رشيد باشا الكوزلكي في سنة 1273ه، وأخذ مقاطعات أخرى من بعض رؤساء القبائل وضمها إلى خزينة الدولة في أيام نامق باشا والي بغداد في سنة 1282ه؛ وسبب ذلك على ما نقل: أنهم كانوا قد تغلبوا على تلك الأراضي، وأخذوها من الحكومة يوم ضعفها بغير حق.
ومنها: هياج وجوه البصريين على المتسلم سليمان بك التركي
13
الذي تولى البصرة في سنة 1281ه، فظلم أهلها، وابتز أموالهم، حتى اضطروا إلى رفع الشكوى إلى والي بغداد تقي الدين باشا، فاكتفى الوالي بتقريعه، فلم ينته، فلما تولى ولاية بغداد نامق باشا رفعوا شكواهم إليه فعزله.
ومنها أن الحكومة بدأت بأخذ الضريبة على النخيل على حساب الجريب منذ سنة 1282ه، ثم ربطت أكثر مقاطعات البصرة برسم الجريب في سنة 1286ه، وفوضت في السنة نفسها أكثر الأراضي الأميرية ببدل المثل، وأسست دائرة البلدية في المدينة، ثم أردفها بتأليف محكمة التمييز، وسيرت سفنا بخارية في دجلة بين بغداد والبصرة في سنة 1285ه في عهد الوزير الخطير مدحت باشا. ومنها: نصب ناصر باشا السعدون واليا على البصرة في سنة 1292ه وجعلها ولاية بعد أن كانت متصرفية، وعزل ناصر باشا في سنة 1294ه، وإرجاع البصرة متصرفية في سنة 1297ه. (13) البصرة في عهد السلطان عبد الحميد خان الثاني
كانت البصرة متصرفية إلى أيام السلطان عبد الحميد الثاني، وظلت على حالها حتى إذا ما كانت سنة 1301ه جعلت ولاية عثمانية، فتوالى عليها الولاة الأتراك الذين كانوا يرسلون من الأستانة، وكان معظمهم من المستبدين في الأحكام لا يبالون بالظلم وقبول الرشوة وابتزاز أموال الناس من أي وجه كان، ولا يهمهم غير منافعهم الشخصية إلا من ندر منهم، ولم يحدثوا إصلاحا يذكر، ولا قاموا بعمل حيوي، ومن أشهر هؤلاء الولاة المشير نافذ باشا الذي تولى سنة 1305ه، وهداية باشا المتولي سنة 1309ه، وفخري باشا الذي تولى وكالة الولاية في سنة 1322ه، ومخلص باشا المتولي سنة 1322ه، غير أن هذين الأخيرين من خيرة الولاة الذين جاءوا في العهد الحميدي خصوصا مخلص باشا؛ فإنه كان من المصلحين.
على أننا لا ننكر أن هذه المدينة زادت عمارتها ونفوسها في عهد السلطان عبد الحميد خان الثاني، وصارت حسنة الأسواق كثيرة العمائر مع ما كان يحدث في ذلك العهد من الاضطرابات بسبب هجمات اللصوص عليها؛ إذ كانت فيها يومئذ عصابات مؤلفة من الأعراب والعبيد المتشردين، فكانوا يهجمون على المدينة تارة ليلا وأحيانا نهارا، فيدخلونها بصورة مريعة فيقتلون وينهبون، ثم يعودون إلى أماكنهم بعد أن يأخذوا ما شاءوا من النقود التي للتجار سواء كانت في الدور أم في المخازن أم في الأسواق، وعدا ذلك فقد كانت الطرق في أكثر الأحيان يقطعها اللصوص أو الأعراب الثائرين على الحكومة، فينقطع سير البواخر في دجلة، ويمكننا أن نقول: كانت الفوضى ضاربة أطنابها في البصرة وما حولها في العهد العثماني الأخير.
أما العلوم فلم يكن لها أثر في هذه المدينة، ولا كان فيها غير عدد قليل من المدارس الابتدائية الرسمية التي أسست في العهد الحميدي، ومهما كانت حالة البصرة غير مرتاحة في عهد عبد الحميد فإنها كانت يومئذ قد زادت عمارتها وتوسعت، وأخذت تجارتها بالرقي، وزادت ثروة أهلها، وكثرت نفوسها بسبب كثرة القادمين إليها للاتجار من بلاد مختلفة. (14) البصرة بعد إعلان الدستور
أخذت هذه المدينة تسير نحو الرقي والعمران منذ أعلنت الدولة العثمانية الحكم بالدستور في سنة 1326ه، وقلت هجمات عصابات اللصوص عليها، وجرى فيها بعض الإصلاح، ومن أشهر ولاتها في ذلك العهد: عارف بك المارديني الذي تولى في أول سنة 1327ه، وسليمان نظيف بك الكاتب التركي المشهور المتولي في آخر سنة 1327ه، ولولا الفتن التي كانت تثيرها يد المغرضين حينذاك لزهت البصرة في تلك الأيام. ويمكننا أن نقول: إنها ارتاحت كثيرا في ذلك العهد وإن حدثت فيها بعض الاضطرابات التي لا نرى الوقت مساعدا لذكرها في هذا المختصر، ويحق لنا أن نقول: إن البصرة لم تر عهدا بعد العصر العباسي الأول مثل عهد الدستور؛ من حيث النهضة التجارية والحركة العمرانية والنظام والانتظام. (15) سقوط البصرة بيد البريطانيين
قامت الحرب العامة في أواخر سنة 1332ه وعلى البصرة يومئذ وكيلا للولاية القائد صبحي بك، وكانت الحكومة العثمانية قد سيرت أكثر الجنود العراقية إلى جهات قفقاسيا، وأرسلت جيشا ضعيفا نحو الخمسة آلاف جندي أكثرهم من العراقيين إلى البصرة، وسدت شط العرب عند الفاو، فهجم أسطول البريطانيين على الفاو في منتصف شهر ذي الحجة من السنة المذكورة، فاندحر الجيش العثماني بعد بضعة أيام، ثم انسحب من البصرة في آخر يوم من هذا الشهر، فدخل البريطانيون المدينة في اليوم الثاني من محرم سنة 1333ه، ثم سقطت القورنة في 20 محرم سنة 1333ه بعد معارك عنيفة قام بها القائد العثماني صبحي بك حتى نفذت ذخائره الحربية، فاضطر إلى التسليم.
وحاول العثمانيون استرداد البصرة من البريطانيين، فجمعوا جيشا كبيرا، فحدثت بين الفريقين حروب دامت ثلاثة أيام في الشعيبة، فانتهت بفشلهم، وبانتحار القائد سليمان عسكري بك، وذلك في شهر جمادى الآخرة سنة 1333ه، وعلى أثر ذلك سقطت العمارة في أوائل شهر رجب، ثم سوق الشيوخ في أوائل رمضان، ثم الناصرية في اليوم التاسع من رمضان، وبقيت الحروب بين الدولتين حتى سقطت بغداد بيد البريطانيين في 15 جمادى الأولى سنة 1335ه الموافق ل 11 آذار سنة 1917م.
تنبيه
جاء في حاشية «البصرة في عهد الخلفاء الراشدين»: «وبقي شريح على القضاء ... إلخ»، والأصح أن عمر نقله إلى قضاء الكوفة، فظل على قضائها إلى أيام الحجاج.
وجاء في «البصرة في عهد العباسيين»: «ولكنه عزله في سنة 139 وولى عليها سفيان»، والأصح أن سليمان بقي في البصرة حتى مات بها في سنة 142ه.
ولما كانت أكثر الكتب اليوم لا تخلو من الأغلاط المطبعية، وقد وقع في هذا المختصر بعض الأغلاط التي لا تخفى على رجال العلم، فنلتمس من القراء الكرام أن يعذرونا عن ذلك.
كما أني أرجو أن يرشدوني إلى موضع الخطأ التأريخي خدمة للوطن ، وأن يعذروني عن ذكر الحوادث التي لا تساعد الظروف على نشرها.
المأخذ
معجم البلدان:
لياقوت الحموي.
وفيات الأعيان:
لابن خلكان.
الأخبار الطوال:
لأبي حنيفة.
الدعاة.
التمدن الإسلامي:
لجرجي زيدان.
دائرة المعارف:
لفريد وجدي.
تاريخ ابن الأثير.
تاريخ الأمير حيدر.
قرة العين في تاريخ بغداد والبصرة وبين النهرين:
لرشيد السعدي.
خلاصة تاريخ العراق:
للأب إنستانس.
الفوز بالمراد:
للأب إنستانس.
تاريخ الأدب العربي.
تاريخ أحمد رفيق التركي.
تاريخ نعيما التركي.
سالنامة البصرة لسنة 1318ه:
لمحمد نجيب بك آل بابان.
مطالع السعود.
القرماني.
التحفة النبهانية:
للشيخ محمد النبهاني.
زاد المسافر:
لفتح الله العكي.
تقويم العراق لسنة 1923م:
لصاحب جريدة العراق رزوق أفندي.
نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق :
ليوسف أفندي غنيمة.
Bog aan la aqoon