كلمة للمعرب
تقدمة الكتاب
روسيا القديمة
القيصر نقولا الثاني
ارتقاء روسيا
ابتداء أسرة رومانوف
بطرس الأكبر
الاحتفالات الشائقة
غبطة البطريرك الأنطاكي
كلمة للمعرب
تقدمة الكتاب
روسيا القديمة
القيصر نقولا الثاني
ارتقاء روسيا
ابتداء أسرة رومانوف
بطرس الأكبر
الاحتفالات الشائقة
غبطة البطريرك الأنطاكي
تاريخ آل رومانوف
تاريخ آل رومانوف
تأليف
سليم قبعين
تذكارا لمرور 300 عام على ملك أسرة رومانوف السعيد من 1613-1913.
كلمة للمعرب
عندما قامت الاحتفالات في عاصمة الروس، مدينة بطرسبرج، تذكارا لمرور ثلاثمائة عام على ملك آل رومانوف السعيد، طلب إلي كثيرون من مواطني الأفاضل أن أكتب لهم شيئا عن تلك الأسرة الكريمة، مع وصف الاحتفالات الباهرة التي أقيمت في جميع أنحاء روسيا، فلبيت الطلب (مع علمي الثابت بما سيكبدني من النفقات والمشاق)، وذلك للأسباب الآتية: (1)
أن أسرة رومانوف رفعت الإمبراطورية الروسية من حضيض الانحطاط إلى أوج العز والمجد، ورجال مثل هؤلاء جديرون بالمدح والإطراء وتخليد الذكر. (2)
لا يخفى على أي إنسان ما قامت به أسرة رومانوف من المساعدة للشرقيين عموما، والأورثوذكسيين خصوصا؛ فقد ساعدتهم في خلال قرون ثلاثة مساعدات مادية وأدبية.
فشادت لهم الكنائس، وأنشأت المدارس؛ لإرضاع أبنائهم لبان العلوم والآداب منذ نعومة أظفارهم، وقد انتشرت مدارسها في جميع أنحاء سوريا وفلسطين، وأقامت أيضا في كثير من البلاد المستوصفات الطبية لمعالجة الفقراء بلا مقابل؛ ابتغاء مرضاة الله جلت قدرته. (3)
كل من له أقل إلمام بأحوال فلسطين وسوريا، يعلم حق العلم أن الحكومة الروسية، التي يمثلها آل رومانوف، قد حافظت محافظة شديدة على المذهب الأورثوذكسي. (4)
أنجبت المدارس الروسية كثيرين من أبناء سوريا وفلسطين الأفاضل، الذين نفعوا وطنهم وأهلهم وذويهم بعلومهم وآدابهم وسعة معارفهم. (5)
الإقرار بالفضل واجب، أقول ذلك لأن لروسيا فضلا عظيما علي؛ فقد تلقيت علومي في مدارسها بلا مقابل، ووجدت من أساتذتي الكرام كل معاملة حسنة، وإرشاداتهم ما زالت إلى اليوم قبسا لامعا يسدد خطواتي، ويرشدني إلى العيش الشريف والمبادئ القويمة في هذه الحياة، وفوق ذلك فقد تزوجت من سيدة روسية، أنجبت لي أولادا، هم بفضل تربيتها مثال الآداب والفضائل والنجاح. ومن كان مثلي معدما فلا يستطيع مكافأة أولئك المحسنين، اللهم إلا بالمحافظة على ما غرسوه في نفسي من المبادئ القويمة، وكلمة مدح أسوقها لهم كلما سنحت الفرصة، على قول القائل:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
وبناء على ما تقدم، أقدمت على طبع هذا الكتاب من باب الإقرار بالفضل لذويه، وعلى الله الاتكال في كل حال.
كتبه
سليم قبعين
تقدمة الكتاب
إلى منار الطائفة الأورثوذكسية، وعميدها في الديار المصرية، ذي الفضل والحسب والجاه حبيب باشا لطف الله.
لما كان لكل كتاب عنوان، ولكل مقال ديباجة بيان، وقد جرت العادة أن يهدي العامل أجمل وأثمن ثمرات يمينه إلى ملك جليل، أو سيد نبيل؛ تنويها بقدر عمله، وأن يقدم الأديب مبتكرات فكره أو خلاصة بحثه واستقرائه إلى أريحي ألمعي؛ إعلاء وتشريفا لتأليفه، فقد رأيت أن أقدم كتابي هذا إلى مقامك الفخيم، وأتوجه باسمك الكريم، لعلمي بأنك من الطائفة الأورثوذكسية، في الديار المصرية، بمنزلة الغرة من الجبين، والتاج من المفرق. وإنما أقدمت على هذا الإهداء بدافع الثقة من حبك العلوم والآداب، التي أنهلت أشبالك الغر الكرام منها الكأس المعين. فتقبل مني أيها السيد الأمثل هذه الزهرة المتفتحة في روضة الأدب العربي، وبارك بيدك البيضاء هذا الحجر في بناء التاريخ الحديث، فمثلك من تعقد بحجزته نواصي الآمال، وتجمع على محبته قلوب الرجال.
كأنك في كل النفوس محبب
فأنت إلى كل النفوس حبيب
المخلص
سليم قبعين
روسيا القديمة
احتفلت الأمة الروسية في 21 فبراير/شباط سنة 1913، احتفالات باهرة بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على تملك أسرة آل رومانوف، القابضة الآن على دفة الأحكام في الإمبراطورية الروسية الشاسعة الأطراف المترامية الأكناف. فإنه في 21 فبراير/شباط من عام 1613، حينما انقرضت أسرة ريوريك انتخبت الأمة الروسية، باتفاق الآراء وإجماع الأصوات، ميخائيل ثيودورفيتش رومانوف ملكا عليها، وهو واضع أساس أسرة رومانوف التي هي من أعظم وأقوى الأسر المالكة في العالم، وقد أخرجت ملوكا عظماء وقياصر حكماء سجل لهم التاريخ صفحات مسطرة بالأعمال المجيدة لخير ومنفعة روسيا، أدهشت شعوب أوروبا وآسيا. ومهما أجهد الإنسان فكرته، فإنه لا يستطيع تعدادها بالنظر لكثرتها، ولما كان ما لا يؤخذ كله لا يترك جله، فإنني سأشير باختصار إلى ما فعله قياصرة آل رومانوف في خلال ثلاثمائة عام.
وقبل ذلك أقول: إن جريدة روسيا الشبيهة بالرسمية، أصدرت ملحقا لعددها 2322 ذكرت فيه أعمال قياصرة آل رومانوف بتفصيل واف، وما قاموا به من الأعمال المجيدة التي رفعت شأن الإمبراطورية الروسية وجعلتها في مقدمة الممالك اتساعا وقوة، وبذلك كفتني الجريدة المذكورة مئونة التعب والمشقة. وإنما رأيت قبل تعريب الملحق المذكور أن أعرف حضرات قراء كتابي هذا بحالة روسيا قبل أن يتولى فيها الأحكام ملوك آل رومانوف، وهي ما يعبرون عنها «بروسيا القديمة»، وقد جمعت ذلك من عدة تواريخ روسية مشهود لها بصحة الرواية، فأقول بإيجاز:
بعد أن تحررت مدينة موسكو عاصمة روسيا القديمة من نير البولونيين الذين حكموها مدة، أرسل أهالي موسكو الرسائل إلى أهالي الجهات ليرسلوا نوابا عنهم لانتخاب ملك، ولما انتظم عقد النواب قرروا أن يصوموا ثلاثة أيام قبل مباشرة الانتخاب، وعلى أثر انتهاء الصيام عقدوا اجتماعا كبيرا، وبعد مفاوضات ومناقشات طويلة قرروا في 21 فبراير من عام 1913 انتخاب ميخائيل ثيودورفيتش رومانوف، وقد صادق على هذا الانتخاب جميع المجتمعين في «ساحة الحمراء».
ميخائيل ثيودورفيتش، هو ابن الشريف ثيودورنيكيتيتش رومانوف (ابن شقيق أناستاسيا رومانوفنا) الذي حكم عليه غودونوف أن يدخل الدير وينتظم في سلك الرهبان تحت اسم «فيلاريت». ولما علا عرش روسيا المدعي بالملك ديمتري الكاذب، أمر بسيامته مطرانا لمدينة روستوف، ولهذا المطران ذكر مجيد في تاريخ روسيا؛ فإنه قاوم ملوك بولونيا الكاثوليك مقاومة عنيفة عندما كانت روسيا خاضعة لسلطتهم، وقد نفوه إلى بولونيا، حيث ذاق صنوف الإهانة والعذاب.
عندما انتخب أهالي موسكو ميخائيل ثيودورفيتش ملكا عليهم، كان عمره 16 عاما، وكان في ذلك الوقت موجودا مع والدته الراهبة مرثا في دير إيباتييفسكي، الكائن في مدينة كوستروما، فلما سمع البولونيون الكاثوليك بأمر انتخابه ملكا أعدوا حملة عسكرية زحفوا بها على الدير الموجود فيه ليقتلوه، ولما قربت الحملة من قرية «دومين» صادفها فلاح اسمه إيفان سوسانين، فسألوه عن مكان الدير، فأدرك هذا الفلاح الساذج بثاقب فكره ما يقصده الأعداء، فصمم على تضحية نفسه فدية للملك الجديد، وقال لرجال الحملة اتبعوني وأنا أدلكم على الدير. فصدقوه وساروا وراءه، فقادهم إلى حرش كثيف ليس له أول من آخر، مملوء بالمستنقعات، وقد أدركوا في النهاية أنهم خدعوا، فجردوا سيوفهم وقتلوا هذا الفلاح الذي خلد له في التاريخ الروسي ذكرا مجيدا، ونظم له الشعراء القصائد مما سيأتي ذكره فيما بعد.
ولما اتفقت الكلمة على انتخاب ميخائيل ثيودورفيتش ملكا، أرسلت له الجمعية العمومية وفدا مؤلفا من كبار رجال الدين والسياسة، يعرضون عليه قبول التاج، ولكنه رفض ذلك رفضا باتا، وكذلك والدته الراهبة رفضت مباركة ابنها، غير أن رجال الوفد هددوهما بالشر إن هما لبثا مصرين على هذا الرفض، وقالوا لهما: إن الله يغضب عليكما إذ لبثتما مصممين على هذا العزم ولم تقبلا ما عرضته عليكما الجمعية العمومية التي تمثل الأمة. وإذ ذاك قبل الشاب الطلب، ورفعت والدته الراهبة مرثا يدها وباركته.
ولما جلس على عرش الملك، كانت المملكة في اضطراب عظيم، وكانت خزينتها خالية خاوية، والأمة في فقر مدقع، وفوق ذلك، فإن أعداء روسيا في الداخل والخارج كانوا يحاولون تمزيقها ببراثنهم الحادة؛ فإن عصابات القوزاق كانت تطوف البلاد وتعيث فيها فسادا، وتنهب القرى، وتقتل الناس بلا رحمة ولا شفقة. وأعظم خطر كان يهدد روسيا في ذلك الوقت، زحف أهالي ليتفا الكاثوليكية تحت قيادة قائدهم المشهور ليسوفسكي، الذي كان يتنقل من جهة إلى أخرى يقتل من يصادفه في طريقه وينهب القرى.
إن الملك ميخائيل، مع حداثة سنه وعدم خبرته، تمكن من الثبوت على عرش المملكة، واستطاع توطيد أركان السلام والأمن في أنحائها؛ ولذلك أسباب عديدة وجيهة؛ أهمها أن الشعب كان منهكا من كثرة الحروب وتواليها، ونهب الناهبين لأمواله وأرزاقه، وقد وضع ثقته في الملك الجديد، واعتقد أنه المنقذ الوحيد الذي يستطيع إنقاذه من المصائب والنوائب المتوالية، فأصبحت الثقة متبادلة بين العرش والشعب.
وكان الملك الشاب يكثر من عقد الجمعيات العمومية للمداولة في شئون المملكة وأحوالها، ثم وجه التفاته إلى أعداء روسيا الذين يهددونها بين آونة وأخرى، فشتت شمل العصابات القوزاقية، وقبض على زعيمها بلوفين وشنقه، ثم وجه اهتمامه إلى عدو كبير للمملكة، اسمه زاروتسكي، الذي كان محتلا لمدينة أستراخان، وأقلق الأقاليم المتاخمة لبحر قزوين، فقبض عليه أيضا وأماته ميتة شنعاء، ثم أرسل القائد بوجارسكي ضد ليسوفسكي العاتي، فطارده مدة طويلة، ولكنه لم يستطع التغلب عليه. ولكنه في سنة 1616 مات ليسوفسكي وأراح الله بموته مملكة موسكو من شره.
ثم بعد ذلك قام الملك الشاب بحروب عديدة مع أسوج ونروج وملوك آخرين، لا محل لذكرها في هذا الكتاب الذي أرمي في تأليفه إلى جهة أخرى غير الجهة التاريخية، وهي وصف ما كانت عليه روسيا من الانحطاط قبل تملك آل رومانوف، وما جرى لها من التقدم على عهد تملكهم السعيد، إلى أن وصلت إلى حالتها الحاضرة من القوة والرفعة وعزة الشأن.
القضاء في روسيا القديمة
كانت الأحكام في روسيا القديمة على غاية من البساطة المتناهية، فكان الأخصام يحضرون إلى دار الأمير (الحاكم) الذي كان ينظر في الخصام، ثم يعهد حله والحكم به إلى أشخاص منتخبين من الشعب (محلفون). وكان الحكم يجري شفهيا بدون كتابة، فيحضر الخصمان شهودهما، وأحيانا كانا يقدمان تقارير كتابية عن قضيتهما، وإذا ارتاب المحلفون في أمر القضية، كانوا يحلفون الخصمين تاركين الحكم العادل في ذلك لله. وجملة القول أن القضايا كانت تحل بسرعة وبدون تأجيل. وفي مدينة نوفغورد كانوا يعينون مدة لا تزيد عن الشهرين لحل النزاع بشأن الأراضي، ولكن كانت الرشوة شائعة جدا، وقلما كان الإنسان ينهي قضيته بدون رشوة. وكان الحكام إذا لم يملأ الأخصام جيوبهم، يصادرونهم ويضيعون حقوقهم ويعاقبونهم بالعقابات الجسدية، كالجلد وما شابه ذلك. وأما في القرى، فكانت تعهد الأحكام إلى العمد ووكيل الحاكم الذي يعين خاصة لهذا الغرض. ومجمل القول أن الأحكام كانت مختلة معتلة، وقلما يتحصل الإنسان على حقه، وكان بودي إطالة الكلام على الأحكام والأوامر الملوكية والقوانين، ولكن حال ضيق المجال ذلك فاكتفيت بما ذكرت.
حالة المرأة في روسيا القديمة
كانت المرأة الروسية في العهد القديم متمتعة بحرية تامة؛ تحضر الولائم والاجتماعات المختلفة، ولكن في مملكة موسكو، كانت الأسر الشريفة تحجز النساء ولا تسمح لهن بالخروج والاجتماع بالرجال.
وبناء على ذلك كانت الملكة وبناتها لا يظهرن على أحد من الرجال، إلا أقرب أهاليهن، وكذلك الأشراف كانوا يحجبون نساءهم وبناتهم، ولا يصرحون لهن بالخروج إلا إلى الكنيسة وقصر الملك لزيارة الملكة. وقبل زواجهن ما كانت عين رجل تقع عليهن مطلقا، حتى إن العريس ما كان يستطيع رؤية عروسه إلا بعد أن تصبح زوجة له، وكانت والدته وقريباته يخترن له عروسا ويصفنها له.
وكانت المرأة في العهد القديم، في بيوت الأشراف، لا تتمتع بشيء من الحقوق، حتى إنه لم يكن يحق لها إدارة شئون منزلها، أو حق تربية أولادها، الأمر الذي كان يعهده الأشراف إلى المربيات أو الخالات أو العمات، اللاتي كن يربين الأولاد تحت مراقبة أب العائلة. والمرأة العريقة في الحسب كان من العار عليها إرضاع أولادها.
وظهر في القرن السابع عشر رجل شريف يسمى ماتفييف، كان يميل بطبعه إلى المدنية الأوروبية وعادات أهلها، فزين غرف منزله على الزي الأوروبي، بالمرايات والساعات والصور المختلفة، وأحضر لابنه أساتذة أجانب ليعلموه العلوم والآداب، ولم ينسج على منوال أشراف روسيا في ذلك العهد، الذين كان يرافقهم دائما أبدا عدد من الندماء والمشعوذين. ثم إنه لم يتمسك أيضا بعادات الأشراف من جهة نساء منزله؛ فإنه كان يتناول الطعام على مائدة واحدة مع زوجته وبناته. وحدث مرة أن الملك أليكسي ميخايلوفتش زاره زيارة بسيطة، فرأى ربيبته الآنسة ناتاليا كيريللوفنا من أسرة نارشكين، فأسرت لبه بلطفها وجمالها وعذوبة ألفاظها، وما فتئ حتى تزوجها، ولما أصبحت ملكة خالفت عادات الملكات، فغدت تظهر للجمهور، وأخذت تزور مراسح التمثيل، ومن هذا العهد أخذت نساء البلاط يظهرن للشعب.
الفلاح في روسيا القديمة
كان الفلاحون في روسيا القديمة مستعبدين للأشراف استعبادا تاما، هم وعائلاتهم وأولادهم وبيوتهم، ولم يكن يحق للواحد منهم الانتقال من سيد إلى سيد، وكان أسيادهم يعينون لهم وكلاء، يسومون الفلاحين صنوف العذاب والهوان، ويعاملونهم معاملة الحيوانات العجم، بل أشد من ذلك. وكثيرون من الفلاحين كانوا يهربون تخلصا من هذه المعاملة إلى الأقاليم القوزاقية، حتى خلت البلاد منهم. وقال أحد المؤرخين المسافر في بلاد روسيا في ذلك الوقت، إنه قطع مساحة تبلغ آلافا من الكيلومترات، لم يصادف في طريقه عشر نساء ورجلا واحدا. وكان أسيادهم ووكلاؤهم يجلدونهم ويعاقبونهم بجميع أنواع العقابات الجسدية، وكانوا يبيعون الفلاحين وأولادهم ونساءهم كما تباع الخنازير والحمير. وعلى هذه الطريقة كان الفلاحون لا يملكون شبر أرض، بل يعملون ليلا ونهارا متحملين حر الصيف وبرد الشتاء لخدمة أسيادهم بدون مقابل على أتعابهم؛ ومع ذلك ما كانوا يجدون ما يسدون به رمقهم ويسترون به أجسادهم. ومهما أجهد الكاتب قريحته، فإنه لا يستطيع وصف الحالة السيئة التي كان يقاسيها الفلاح الروسي المسكين. وفي اللغة الروسية كتب كثيرة مؤلفة بهذا الموضوع، تقشعر من هول وصفها الأبدان، وترتعد الفرائص.
وبقي الفلاحون يرسفون بأغلال الاستعباد، ويتحملون ضروب الشقاء إلى زمن القيصر إسكندر الثاني، الذي هزته الأريحية والغيرة الوطنية إلى تحرير الفلاحين من نير الاستعباد. وقد كان لخبر تحريرهم رنة فرح وسرور في جميع أنحاء روسيا، وما زال ذلك اليوم إلى يومنا هذا عيدا عظيما، يعيده الفلاحون في كل عام. وقد سجل القيصر إسكندر الثاني له ذكرا مجيدا في بطون التاريخ الروسي، وما زال ذكره حيا، يردد اسمه كبار الفلاحين وصغارهم مقرونا بالشكر والتمجيد والتعظيم. وقد نظم الشعراء كثيرا من القصائد الرنانة والأغاني الوطنية التي ما زالوا يتناشدونها إلى اليوم في ساعات الصفاء والراحة، وإني ما زلت أذكر من أيام المدرسة الروسية في مدينتي ووطني الناصرة التي تلقيت فيها علومي، بعض أبيات من أغنية علمنا إياها أستاذ الغناء أعربها تعريبا حرفيا:
يا حريتي! يا حريتي الذهبية!
إن الحرية صقر حر طائر في الفضاء الفسيح.
إن الحرية شفق منير.
ومنها:
إن محبنا ووطننا العظيم منحنا هذه الحرية ، التي أصبحنا بعدها أحرارا نرتع في رياض الصفاء والراحة ... إلخ.
وأما الفلاح الروسي اليوم، فقد تحسنت حالته تحسنا يذكر، وأصبح يمرح في رياض الحرية، ويشتغل بأملاكه التي وهبتها له الحكومة، وكل ذلك سيأتي وصفه وبيانه في سياق تعريب ملحق جريدة روسيا الذي أشرت إليه آنفا.
ومما تقدم، يظهر للقارئ الكريم أن حالة روسيا كانت قبل ثلاثمائة عام، على جانب عظيم من الضعف والانحطاط والهمجية، وأما الآن فإنها أصبحت دولة راقية، وهاك ما كتبه أحد الكتاب عن روسيا الحاضرة:
إن إمبراطورية روسيا العظمى قد ترامت إلى أبعاد شاسعة، حتى إن مساحتها تبلغ سدس العالم المأهول، وقد أوجدت تحت لوائها بلادا شاسعة، وأقاليم عديدة، وعدة بحار وأنهار وجبال شامخة، وأحراش ليس لها أول من آخر، ومروج وحقول، وهي على اتساع مساحتها غنية بالسكان المختلفين في الأجناس والأديان، ومن عدة مئات من السنين كان سكان روسيا مقصورين على الروسيين الأصليين، وكانت تسمى في ذلك العهد «مملكة موسكو»، التي كانت أصغر من المملكة الحالية بعشر مرات، عدا عن أنها كانت ضعيفة لا حول ولا طول لها، وكانت معرضة دائما أبدا لهجمات الشعوب المجاورين لها، ولبثت روسيا مئات من السنين تسام صنوف الهوان تحت نير التتر.
ولما تمكنت من التخلص من تحت ذلك النير الثقيل، تحملت أيضا كثيرا من هجمات مجاوريها الأقوياء، ومن الفتن والثورات الداخلية، ولكنها بالتدريج نمت وتقوت؛ فإنها ضمت إليها أولا سيبيريا العظمى، ثم انضمت إليها روسيا الصغرى، ثم في خلال عدة سنين أشهرت حروبا كثيرة، كان الفوز فيها حليفها والنصر أليفها، وافتتحت عدة مقاطعات من أملاك تركيا، وأخضعت كل إمارة ليتفا، والجهات المتاخمة لبحر البلطيق وفينلاندا، وقسما عظيما من بولونيا، وجميع بلاد القوقاس، وإقليم روسيا الجديدة، وجهات أخرى.
وبناء على ذلك، فإن روسيا أصبحت دولة عظمى مختلفة أجناس الرعايا، وذلك بخلاف الممالك الأخرى التي أهاليها من جنس واحد وقبيلة واحدة، يدينون بدين واحد ويتكلمون بلغة واحدة.
إن روسيا الآن يسكنها قبائل وشعوب مختلفة، الذين يتكلمون بمائة وأربعين لغة، ويدينون بمذاهب شتى ؛ فعدا المسيحيين الأورثوذكسيين يوجد فيها الكاثوليك واللوثريون والبروتستانت، وفي روسيا يعيش عدة ملايين من المسلمين واليهود والبوذيين وغيرهم.
وكان عدد سكان روسيا بحسب الاكتتاب العام، الذي جرى منذ ستة عشر عاما، يبلغون 125 مليونا من النفوس، وأما الآن فإنهم يبلغون 148 مليونا ونصف، منهم الثلثان؛ أي نحو 83 مليونا ونصف روسيون أصليون، والعدد 65 مليونا الباقي يقسم على هذه الشعوب الآتية:
بولونيون: نحو 8 ملايين.
يهود: نحو 5 ملايين.
فينلانديون: نحو 2 مليون.
قوقاسيون وغروزين: نحو 2 مليون.
أرمن: أكثر من 1 مليون.
أهالي ليتفا واللاتيش: أكثر من 3 ملايين.
تتر وكيرغيز وبوريات وغيرهم من القبائل الرحل في سيبيريا: نحو 11 مليونا.
نمسويون: نحو 2 مليون.
مولودوفانية: نحو 1 مليون.
شعوب أخرى: نحو 1 مليون.
ثم إن 83 مليونا ونصف؛ أي الروسيين الأصليين، يقسمون إلى ثلاثة أقسام؛ وهم «أهالي روسيا العظمى» (55 مليونا ونصف)، وأهالي روسيا الصغرى (22 مليونا)، وأهالي روسيا البيضاء (6 ملايين)، وكلهم يختلفون عن بعض في لهجة الكلام وفي المعيشة والعادات.
إن هذه الشعوب والقبائل العديدة المستظلة بالعلم الروسي، يعتبرون رعايا خاضعين لجلالة إمبراطور روسيا، وخاضعين أيضا لقانون واحد، ما عدا فينلاندا التي لها قانون خاص بها. ثم إنهم جميعا، سواء كانوا روسيين أو بولونيين أو تتر مسلمين أو يهود، ملزومون بتأدية الخدمة العسكرية والدفاع عن الوطن من هجمات الأعداء، وكذلك ملزومون بدفع الضرائب الأميرية بدون استثناء.
القيصر نقولا الثاني
صاحب الجلالة والعظمة
القيصر نقولا الثاني: إمبراطور روسيا العظمى.
جلال الملك على عهد أسرة رومانوف القياصرة العظام
لأسرة رومانوف والدهر يشهد
مآثر غر كل يوم تجدد
لهم حفظ التاريخ ذكرا ممجدا
يحدث عن أيامهم ويخلد
همو عدلوا والعدل فيهم سجية
وبالعدل يحيا كل شعب ويسعد
إذا ما نظمت الشعر فيهم فإنني
أنظم درا غاليا وأنضدد
هم القادة الأنجاب والسادة الألى
إذا فعلوا أو صرفوا القول سددوا
بنوهم رعاياهم إذا ما ملمة
ألمت وكم شمل المظالم بددوا
وكم نهجوا للمجد والعز والغنى
مناهج شتى للرعايا ومهدوا
أياديهم في كل جيد قلادة
وأجيادهم بالمدح منهم تقلد
إذا ضلت الآراء في أي معضل
فآراؤهم مثل الكواكب ترشد
بهم نهض الفلاح من وهدة العنا
وكم هم أقاموا الخصم روعا وأقعدوا
إذا ما ارتقى العرش المملك منهم
رأيت جلال الملك وهو مجسد
فبطرس ذاك الأكبر العاهل الذي
بنى الأس والأبناء جاءوا فشيدوا
وإسكندر الثاني ولا تنس فضله
محرر فلاح السلاف ومسعد
مشيد صرح العدل فالناس واحد
لديه سواء سيد ومعبد
ولله در إسكندر الثالث الذي
به السلم مرفوع اللواء مؤيد
وواسطة العقد الفريد وفخرهم «نقولاهم» الثاني الهمام الممجد
نقولا أبو الدستور ذو الرأي والندى
بأفضاله الدوما تقر وتشهد
قياصرة في مجدهم كل قيصر
يخر له كسرى العظيم ويسجد
همو روجوا سوق التجارة والغنى
فليست وهم في حلة المجد تكسد
وهم غرسوا غرس العلوم وهم سعوا
وهم شتتوا الجهل المميت وشردوا
وهم أرسلوا للشرق نور تمدن
وما الشرق إلا شاكر ليس يجحد
قضت أمة الروس قرونا ثلاثة
وفي كل يوم أمة الروس تصعد
فيا آل رومانوف لا زال ملككم
يزيد ونعامكم على الناس تحمد
أقيموا احتفالات الفخار ونمقوا
وزيدوا اتساع الملك فهو مؤيد
المخلص
سليم قبعين
كيف يعيش جلالة القيصر نقولا الثاني
ألف العلامة الروسي الأستاذ إيلتشانينوف كتابا تحت عنوان «ملك الإمبراطور نقولا أليكساندروفيتش» ذكر فيه حياة القيصر اليومية، فاقتطفت منه الفصل الآتي:
تبتدئ الحركة في قصر الإمبراطور، أو في أي مكان يقيم فيه، عند الساعة الثامنة صباحا، وأحيانا كثيرة عند الساعة السابعة. وعند الساعة التاسعة تماما يتناول جلالته طعام الفطور البسيط المعتدل شأنه في جميع أدوار حياته، وبعد مناولة الطعام، يقصد مكتبه الخصوصي للعمل، فيطالع جرائد الصباح والتلغرافات المرفوعة له، المتضمنة أمورا شتى، وكل شيء يوجه التفات جلالته، يسطره بيده في كتاب مذكراته الموجود دائما على مكتبه.
والوقت الواقع بين الساعة العاشرة والحادية عشرة، يخصص بحسب البروجرام اليومي لرياضة الصباح، ولكن حقيقة الأمر أن جلالته يصرف الوقت من الساعة العاشرة إلى العاشرة والنصف، في تناول التقارير والأوراق التي يرفعها إليه كبار موظفي البلاط القيصري، وفي هذه الفترة من الزمان يقابل جلالته الذين يلتمسون المثول بين يديه من كبار الموظفين، أو أشخاصا من الأعيان يطلب نفسه مثولهم بين يديه. ثم إن الوقت الباقي حتى الساعة الحادية عشرة يخصصه جلالته للرياضة في حديقته الخاصة، وحده وأحيانا برفق ولي العهد. وفي هذه الرياضة يتبعه عدة كلاب يحبها الإمبراطور محبة شديدة، وفي خلال النزهة لا يكف عن مداعبتها، وهي بدورها لا تنقطع عن تفكيه جلالته بحركاتها الودية.
وعند الساعة الحادية عشرة تماما، يعود جلالته إلى القصر، وقبل أن يبتدئ باستقبال الوزراء وكبار رجال الموظفين، الذين يرفعون له في هذا الوقت التقارير العديدة، يأخذ مع ولي العهد في ذوق أنواع طعام الغداء الذي يقدم لجلالته في أوان مقفلة قفلا محكما، ومختومة بختم موظف خاص، فتفتح أمامه ويذوقها، ويظهر استحسانه أو استهجانه لأنواعها، فيكتب للموظف هذه الملحوظات في دفتر خاص لمراعاتها في طهي الطعام مرة أخرى.
وبعد ذلك يستقبل الوزراء وكبار الموظفين لمطالعة ما يرفعون لجلالته من الأوامر الرسمية التي يدوم نظرها إلى الساعة الواحدة تماما، حيث يكون تهيأ طعام الغداء.
يتناول جلالته طعام الغداء مع أفراد أسرته الكريمة الذين يراهم حول المائدة لأول مرة في ذلك اليوم، وأحيانا يدعو لمناولة الطعام بعض رجال حاشيته. أما طعام الغداء، فإنه يكون وافرا جدا ولكنه بسيط.
وبعد تناول الطعام تتجدد المقابلات حتى الساعة 3-4، وهي تكون مختلفة في عدد الذين يمثلون بين يدي جلالته؛ فإنه أحيانا يكون عددهم قليلا، وأحيانا كثيرا عندما يحظى بمقابلته موظفو إحدى المدارس العالية العسكرية أو الملكية أو أعضاء بعض الجمعيات المختلفة. ويندر كثيرا أن لا يقابل أحدا في هذا الوقت، وما يبقى من الوقت حتى الساعة الخامسة، يعين لرياضة جلالته المسائية. والوقت من الساعة 5-6 يعين لتناول الشاي بين أفراد عائلته القيصرية، وفي خلال تناول الشاي لا يترك الوقت يذهب سدى، بل يستعمله في الأحاديث العملية والقراءة بصوت مسموع، وأما الأوقات الأخرى فإنه يستعملها لأشغاله الخصوصية، وزيارة معاهد العلم والمدارس الحربية وغيرها.
وفي كل يوم قبل النوم، يكتب جلالته في مذكرته اليومية تأثيرات ذلك النهار ولو بكلمات موجزة، وهذا أمر لا بد منه، سواء كان في قصره، أو في الطريق، أو في البلاد الأجنبية.
إن جلالته كجميع أفراد أسرة رومانوف، له ذاكرة وقادة وذهن حاد وأفكار رائقة، وهو يكتب ملحوظاته بخط ثخين واضح، وبسرعة زائدة وبدون توقف. وجلالته يسطر عباراته بلغة روسية سهلة، ويتجنب الجمل الطويلة، ولا يحب استعمال الكلمات الأجنبية في تعابيره. وأما مراسلاته التي يكتبها للمقربين منه، فإنه يكتبها بالحبر، وأحيانا بقلم الرصاص، وهذه المراسلات تكون عباراتها في غاية الإيجاز والرقة وعذوبة الألفاظ. ثم إن جلالته لا يحب التكلم بالتليفون، وفي غرفة عمله لا توجد عدة التليفون، ولكنها توجد في غرفة خدم جلالته.
كل تغيير يجري في بروجرام جلالته اليومي يخبر عنه رجال البلاط قبل حدوثه. ثم إن الأوراق دائما أبدا متراكمة فوق مناضد ومقاعد وكراسي غرفة عمل جلالته. ثم إنه لا يحب إطالة الزمن في حل المسائل التي تعرض عليه، بل إنه ينهيها أو يصدر أمره بإنهائها بأسرع ما يمكن من الوقت. ومن المدهش أنه مع كثرة الأوراق الموجودة في غرفة جلالته، فإنه يعرف موضع كل ورقة بسرعة متناهية. أما التقارير التي يجب تحويلها إلى محلات الاختصاص، فيضعها جلالته بنفسه في غلافات خاصة، ويعنونها بنفسه، وقد خصص لها في غرفته منضدة خاصة يضعها عليه، وهي تكون على قياسات مختلفة، ومكتوب على كل غلاف منها لمن يجب أن تحول.
إن جميع أدوات الكتابة الخاصة بجلالته ليست من الأدوات النفيسة المزخرفة الغالية الثمن كما يتبادر لذهن الكثيرين، ولا يغيرها بين حين وآخر، وأما أقلام الرصاص فإنه يستعملها حتى النهاية، وأحيانا يعطي بقياتها الباقية إلى ولي عهده ليتفكه بها.
إن جميع الأعمال التي يعملها جلالته مع وزرائه ورؤساء دوائر حكومته، يعدها هؤلاء من أصفى أوقاتهم وألذ ساعات حياتهم، ثم إن كل تقرير يرفع لجلالته يكتب عليه ملحوظة خاصة بيده الكريمة، وهو يشتغل مع وزرائه ببشاشة ورقة اشتهر بها، فيدب في نفوسهم روح النشاط التي تدفعهم إلى قول كل ما في نفوسهم بلا خوف ولا وجل.
ومن كلمات جلالته المأثورة لوزرائه وموظفيه، قوله لهم: «إني أحب سماع الصدق.»
وإتماما للفائدة، نذكر بعض ما يكتبه جلالته من الملحوظات على التقارير التي ترفع إليه: «إني واثق كل الثقة بضرورة إعادة النظر بالدقة على جميع قوانيننا القضائية والإدارية، حتى يسود العدل أخيرا في روسيا، وبناء على ذلك باشروا بمعونة الله هذا العمل الشاق.» «يجب توجيه الالتفات والاهتمام بشئون سيبيريا الشرقية وإقليم أوخوتسكي، فباشروا العمل بسرعة متناهية وبدون إبطاء وتأجيل.» «يجب على نظارة المعارف أن تبذل كل مجهوداتها لإيجاد معلمات وطنيات اختصاصيات، ومع ذلك يجب عليها أيضا أن تبذل وسعها في اتخاذ الاحتياطات الكافلة لحالة المعلمات الأدبية والمعيشية التي إذا فقدت توجد أولئك المعلمات اللاتي لا نصير لهن في مركز حرج.» «في نظري مسألة إنشاء خط مزدوج لسكة حديد سيبيريا غير قابل للتأجيل.» «تلامذة المدارس العليا يستطيعون الاشتغال بتعليم الجمهور، أو التلامذة الموجودين في المدارس الوسطى، ولكن مع ذلك يجب أن يسيروا بحسب نظام المدارس الموجودين فيها القاضي عليهم بالتحلي بالكمالات والآداب.»
وقس على ذلك.
إن الأوراق المرفوعة لجلالته التي تطلب الاهتمام بها، وتوجه أنظار جلالته، يبقيها لديه حتى يطالعها بإمعان، ويكتب على جوانبها ملحوظاته بشأنها.
ثم إن جلالته يأمر بعضهم أن يقرأ على مسامعه جميع تقارير الولاة حرفا بحرف، والمهم منها يقرأ على مسامعه ومسامع الإمبراطورة في أثناء تناول الشاي مساء. ويحدث أحيانا أن جلالته يأمر أحد رجال بطانته أن يلخص له بعض الأوراق كتابة ويرفعها له.
وكثيرا من الأحيان يجلس جلالته مدة طويلة يدرس بعض الأوراق، ويمعن النظر فيها، ويكتب عليها حل المسائل المطلوبة.
وفي جميع الأعمال يحب جلالته الوجهة الروسية، ويحلها على طريقة التقاليد الروسية التي يتمسك بها تمسكا شديدا، ويكره أن يكون بين الموظفين أشخاص من غير أصل روسي.
وفي بعض الأحيان يزور جلالته مئات من الزائرين، الذين يبلغ عددهم في العام الواحد عدة آلاف.
إن مقابلة جلالته لزائريه تضرب بها الأمثال في جميع أنحاء العالم، فإن الزائر إذا لبث بين يديه 10 أو 15 دقيقة يخرج مندهشا من بساطة المقابلة، والأسئلة التي يلقيها عليه، فيخبره ببعض أشياء عن حياته وأعماله، ويسأله عن أفراد عائلته، فيخرج وقلبه مفعم بالسرور والنشاط والارتياح، وهو يقول في نفسه إن الدعاء بطول بقاء القيصر أمر واجب لا بد منه.
إن جلالته لا يطيل زمن المقابلة أكثر من الوقت المحدد، كما أنه لا ينظر إلى ساعته في خلال الزيارة، ولكنه يعطي لكل واحد الوقت اللازم الذي ينتهي أيضا في الأجل المضروب، الأمر الذي يحير أفكار المقربين من جلالته.
يقيم جلالته كثيرا في القرية الملوكية «تسارسكويه سيلو»، ولكنه يقابل زائريه في القصر الشتوي في بطرسبرج للأسباب الآتية:
يقول جلالته: لا يصعب علي وحدي السفر من العاصمة، ولكن زائري العديدين يحتاج كل واحد منهم لإضاعة نصف يوم في سبيل هذه الزيارة. هكذا يفتكر الحاكم على نحو 160 مليونا من النفوس، ويهتم لكل صغيرة، ويبذل وسعه لتوفير أسباب سعادة رعاياه وراحتهم. أما رياضة جلالته فتكون على أنواع مختلفة، فإما أن يسير مشيا على الأقدام، أو يمتطي صهوة جواد مطهم. وفي بيترهوف يركب زورقا، ويجذف بنفسه تجذيفا محكما، وفي رياضته في الزورق يكون برفقة ولي عهده، فيجلسه على ركبتيه، ويكون برفقته أيضا الأميرات كريماته.
وعند الساعة السادسة مساء يجلس جلالته للعمل، ويلبث يعمل بجد إلى الساعة الثامنة تماما، حيث يهيأ طعام العشاء، وهذا الوقت يصرفه القيصر وحده، وهذا نادرا، ولكن في أغلب الأحيان مع بعض الوزراء ورؤساء الموظفين.
بعد مناولة طعام العشاء يصرف القيصر ساعة ونصف مع عائلته، ومثل هذا الوقت يصرفه بعد مناولة الشاي عند الساعة الخامسة؛ يصرف هذا الوقت في الحديث مع أسرته الكريمة، وعند الساعة التاسعة ونصف يعود القيصر إلى العمل، ولا ينام هذا العاهل العامل قبل الساعة الثانية عشرة أو الثانية عشرة ونصف، وكثيرا ما بعد هذا الوقت.
وأحيانا كثيرة لا ينام القيصر وسط النهار لأخذ شيء من الراحة، وطول النهار يحفظ النشاط والقوة والإرادة، ولم يسمع عنه أنه يشكو ملل التعب أو النصب. وإذا أنهى أعماله الليلية قبل الوقت المعين، فإنه يذهب إلى الإمبراطورة حيث يقرأ على مسمعها بعض الكتب أو الجرائد، ويعيد على مسامعها ما علق في نفسه من أحاديث الوقت الذي صرفوه عند مناولة شاي المساء، ثم تنتهي أعمال النهار القيصرية بالصلاة لله، كما تبتدئ كل يوم.
ومما تقدم يظهر أن القيصر القابض على زمام أحكام الإمبراطورية الروسية يعمل في النهار عشر أو اثنتي عشرة ساعة؛ منها أربع ساعات يعمل بها منفردا، ولا ينام أكثر من سبع ساعات، ومنها خمس أو ست ساعات يخصصها لتناول الطعام والإقامة بين أفراد عائلته.
وفي ليلة الأعياد الكبيرة يذهب لحضور الصلاة عند الساعة السابعة ونصف مساء، وفي أيام الأعياد يحضر خدمة القداس الإلهية عند الساعة الحادية عشرة صباحا.
إن جميع الأعمال الخاصة بشئون المملكة يعملها جلالته منفردا، وليس لجلالته مستشارون يساعدونه على الأعمال، وإنما يساعده أحيانا بعض أشخاص، أو بعض موظفي البلاط الذين يعهد إليهم بعض الأعمال، كوضع تلغرافات الشفرة أو يبيضون بعض الرسائل وغير ذلك.
قال مرة جلالته لبعضهم: إني أشتغل ثلاثة أضعاف ما يشتغله الرجل، فاشتغل أنت ضعفيه.
إن أنجال جلالته يستيقظون باكرا مثل والدهم، ولكنهم يقضون زمن الصباح في الدور العلوي، وأما جلالته فإنه يكون في الدور الأسفل، وأحيانا قليلة يحضرون عند والدهم لتحيته تحية الصباح، ولكن يرونه كل يوم على طعام الفطور. ثم إن جلالته قبل أن ينام أنجاله يودعهم واحدا واحدا، ويرسم على كل واحد منهم علامة الصليب ويقبله.
تقدم أن الإمبراطور يتناول الطعام مع أفراد أسرته الكريمة، وقبل الأكل وبعده يرسمون على صدورهم علامة الصليب، وفي نهاية الطعام ينهض كل واحد منهم ويشكر والديه، وفي خلال الطعام يكون الحديث ممنوعا بشأن الأعمال، وأحيانا كثيرة يمازح القيصر ضيوفه، ويطلب من كل واحد أن يروي ملحة أو فكاهة، أو يصرح بما يخالج ضميره بكل حرية، وأحيانا يلقي الأحاجي على الحاضرين. وبالجملة فإنه يحب قضاء وقت الراحة بالصفاء والمباسطة والانشراح.
قلنا إن القيصر بعد الطعام يقرأ على مسامع جلالة القيصرة بعض الكتب، الأمر الذي يسرها كثيرا، وأغلب الكتب التي يطالعها جلالته من مؤلفات وبنات أفكار الكتاب الروسيين، ويحب مطالعة مؤلفات الكاتب الروسي المعروف غوغول، والقيصر واقف تمام الوقوف على مؤلفات غوربونوف، ويحسن جلالته الكتابة باللغة الروسية واللغات الأجنبية، وكذلك يحب التاريخ الروسي، وهو رئيس للجمعية التاريخية المعروفة باسم جمعية إسكندر الثالث.
إن القيصر نقولا الثاني يحافظ محافظة شديدة على عادات ومبادئ أسلافه العظام، ويحترمها احتراما شديدا، ويوالي درسها. وفي خلال ساعات الراحة يستعمل كثيرا من الوقت في محادثة ولي عهده، وتدريبه على العمل. والإنسان إذا أمعن النظر في الأعمال التي يعملها جلالته، يندهش دهشا شديدا، فإنه يعلم حق العلم أنه مع كثرة الأعمال لا يشكو الملل، ولكنه يجدد قواه العقلية التي تنهكها الأعمال بالرياضة، وتمرين أعضاء الجسم، والمشي، وركوب الجياد والزوارق، واللعب بكرة القدم، وغيرها من الألعاب الرياضية. وهو ماهر في السباحة، لدرجة أنه لا يستطيع مجاراته فيها أحد، فيمكث تحت الماء عدة دقائق، كما أنه ماهر بإطلاق الرصاص وإصابة المرمى.
إن جميع أفراد حاشيته من الروسيين، وفي مطبخ البلاط تطبخ الأطعمة الروسية فقط - وعد المؤلف أنواعها - ويتناول جلالته أيضا الشمبانيا الروسية، وفي أيام الصيامات تنقطع جميع أفراد العائلة القيصرية عن جميع أنواع الملاهي، وتعيش بسكينة وإمساك النفس، وفي الأسبوع الأول والرابع والسابع من الصيام يأكلون المأكولات الصومية. وكل معيشة القيصر وأسرته تدل بوضوح على الطهارة، واستقامة الرأي، والتمسك بالمذهب الأورثوذكسي كل التمسك.
أما صاحبة الجلالة القيصرة أليكساندرا ثيودورفنا، فإنها تسير على خطة زوجها العظيم، ومتفقة معه اتفاقا تاما على إدارة المملكة، وتشاطره كثيرا من الأتعاب، وهي فوق ذلك مثال للأمهات في تربية الأولاد، وإدارة شئون المنزل، فإنها تخيط بيديها الكريمتين ملابس أولادها، وتعمل في المنزل، وقلما يعمل القيصر عملا بدون استشارة القيصرة. وبوجه الإجمال فإن جلالتها جوهرة كريمة، بل هي مثال الفضائل والكمالات.
صاحبة الجلالة والعظمة
الإمبراطورة أليكساندرا ثيودورفنا: قيصرة روسيا العظمى.
والجرائد التي يطالعها جلالته هي: نوفويه فريميا، روسكي إينفالد (الجريدة العسكرية الرسمية)، وجريدة الفيغارو الفرنسية، وجريدة إيلليستراسيون (المصورة)، ويطالع أيضا بعض المجلات الإنكليزية المصورة.
وجلالته يحب الصيد كثيرا كجميع أسلافه وأجداده الكرام، الذين اشتهروا بحب الصيد.
ومن أول أكتوبر سنة 1912 ابتدأ البرنس ولي العهد يتعلم العلوم تحت ملاحظة والدته الكريمة التي تخصص قسما كبيرا من وقتها لتعليمه وملاحظة تربيته.
وولي العهد على جانب عظيم من النباهة والذكاء وحدة الجنان، يكثر الأسئلة على أساتذته، فلا يترك شيئا بدون أن يسأل عنه، وهو على استعداد عظيم لتعلم الحركات العسكرية، فإنه يظهر مهارة زائدة في الألعاب الرياضية. وبوجه الإجمال فإن الأسرة القيصرية على جانب عظيم من الاجتهاد والنشاط، حتى ضربت بها الأمثال في جميع أنحاء العالم، أدامها الله كواكب ساطعة في سماء المجد والسؤدد والفضائل.
ارتقاء روسيا
تحت صولجان آل رومانوف
1
إن تاريخ روسيا في خلال ثلاثمائة عام يقود المتتبع له إلى الدهش الشديد والحيرة العظمى، عندما يذكر كيف كانت حالة هذه المملكة عندما جلس على عرش الحكم فيها أول ملك من أسرة آل رومانوف، فقد كانت عبارة عن عدة مدن صغرى، وقرى متاخمة لمدينة موسكو، وكانت في حالة يرثى لها من الدمار والخراب، من توالي هجمات القوازق، الذين كانت عصاباتهم تطوف البلاد وتعيث فيها فسادا، وكذلك عصابات البولونيين، وعصابات أخرى من المتشردين، الذين لا عمل لهم غير النهب والسلب وقطع الطرق. وأما مدينة موسكو فقد دنسها ودمرها الأعداء، الذين احتلوها مرارا، حتى إن قصر الكرملين المشهور لبث مدة طويلة بدون سقف.
وقد استولى الأسوجيون على أراضي نوفغورود، واستولى البولونيون على مقاطعة سمولنسك الروسية، وكذلك أخضعوا لسلطتهم جهات روسيا الصغرى الغربية. ثم إن الجهات الجنوبية والجنوبية الشرقية كانت برمتها خاضعة لعصابات القوازق والتتر الأشداء، فالأولون ما كانوا يعترفون بسلطة، أما الآخرون فكانت تركيا تعضدهم وتعزز سلطتهم. وأما سيبيريا الغنية الواقعة وراء الجبال، كانت مستقلة استقلالا تاما، يحكمها عدة قبائل مختلفة.
وإذا قابلنا بين هذا الماضي البعيد، وحاضر روسيا السعيد، التي تبلغ مساحة أرضها الكثيرة السكان سدس مساحة الكرة الأرضية، فإننا نندهش دهشا شديدا لهذا الانقلاب العظيم، ولا ريب أنه يخطر على بال كل إنسان، أنه حدث بظروف فوق العادة، أو بحظ عظيم حالف الأمة الروسية وحكامها، أو أن أحد حكامها انتهز فرصة ضعف جيرانها، وأن ذلك حدث بواسطة دهاء رجال سياستها، وبقوة جنودها ومهارة قوادها.
والتاريخ الروسي يدل بإيضاح زائد، على أن روسيا لم يظهر فيها شخص كنابوليون أو كإسكندر الكبير، ولكنها سارت في سبيل القوة والرقي سيرا تدريجيا، حتى أصبحت الآن إمبراطورية عظمى. والحقيقة أيضا أنها ما وصلت إلى حالتها الحاضرة إلا بوجودها تحت صولجان آل رومانوف.
تقوت ونمت روسيا مرهبة الأعداء بالاتحاد والتمسك بالمبادئ القويمة والثقة بقادتها الذين يقودونها في سبيل الحياة. إن المبدأ الأساسي الحيوي، الذي سارت عليه روسيا في خلال ثلاثمائة عام، هو مبدأ الإيمان الأورثوذكسي القويم، وإخلاصها وطاعتها لمليكها الأورثوذكسي. إن القيصر هو ممسوح من الله على المملكة، ولذلك فهو راع للكنيسة، ومدير شئونها الروحية أيضا، وحياة روسيا قائمة على ثلاثة أمور، هي: «اتحاد الشعب والملك والكنيسة»، وفي هذا الاتحاد تكون قوة روسيا.
إن زمن الاضطراب الذي قضته روسيا لم يقتصر على كونه زمن محن وتجارب ودمار، فإن زمن الخصام على عرش الملك زعزع البلاد، وزاد في تعاستها وشقائها، وكل ذلك مهد الطريق لجلوس الشاب ميخائيل ثيودوروفيتش رومانوف على عرش المملكة، ويعتبر عهده عهد سعادة وسلام لها.
ويجب على كل روسي أن يذكر البطريرك جيرموجين
2
الذي كان يعظ الشعب ويرسل له الرسائل إلى المدن، مظهرا له الخطر الذي يتهدد الديانة الأورثوذكسية من قبل البولونيين. ويجب أيضا ذكر المطران إيسيدور في خلال حصار مدينة نوفغورد من الأسوجين، فقد وقف على أسوار المدينة مواجها للأعداء. ويجب ذكر عاموس أسقف مدينة صوفيا، عندما هجم الأعداء ودخلوا المدينة عنوة، فإنه التجأ إلى منزله مع عدد كبير من أهالي المدينة، ودافع فيه عن نفسه وعن قومه دفاع الأبطال، ولكن الأعداء حرقوا المنزل، فمات الأسقف حرقا مع الموجودين.
ويجب ذكر الأب ثيوكتيست، الذي دب روح الحماس في نفوس رعيته، حتى كسروا الجنود الثائرين في عام 1606، وفي عام 1608 فقط عادوا فاستولوا على المدينة وقتلوا أسقفها البار، وقتل الأب غالاكتيون؛ لأنه أبى مباركة المدعي بالملك.
ولما استولت جماهير الخائنين على مدينة روستوف، التجأ المطران فيلاريت رومانوف مع أهل المدينة المخلصين إلى الكنيسة، وأقفلوا أبوابها، واستعد الجميع معه لميتة الاستشهاد، ولكن الأعداء حطموا باب الكنيسة ودخلوها عنوة، وقتلوا عددا غفيرا من الشعب، ودنسوا الهيكل المقدس، ثم ألبسوا المطران ملابس بولونية رثة، وقبعة تترية، وقادوه حافيا بالإهانات والازدراء والتحقير إلى السجن.
ومما تقدم، يظهر لنا أن رجال الدين كانوا يظهرون بمظهر الأبطال البواسل، وهذا أمر لا يحتاج إلى برهان؛ لأن المنازعات والحروب كانت جميعها تحدث بسبب الدين، وكان الروسي يفضل الاستشهاد على تغيير دينه، وقد أهرقت دماء ألوف الروسيين بسبب الدين، ولكن إيمانهم لم يتزعزع، ولكن هذه الشدائد والأهوال التي ذاقها الروسيون بسبب الدين، قد أثمرت فيما بعد أثمارا شهية غزيرة.
لفظة الوطن مقدسة عند الروسي، ولكنه يعتبر أن الوطن هو الدين الأورثوذكسي، ومع أن روح التعصب تشتم من هذا التعبير، ولكنه لا يعبأ بذلك، بل يعتقد اعتقادا راسخا في نفسه أن كل تغيير في الدين ولو في بعض الطقوس يعتبر خيانة شنعاء، وسقوطا للنفس، وخرابا للوطن. فالروسي يفهم الوطن غير ما يفهمه الآخرون، فهو في نظره عبارة عن الكنيسة وجميع ملحقاتها، وبناء على ذلك فإن مالوروسيا (روسيا الصغرى) هاجمت ضد بولونيا؛ لأنها مست إحساسات أهلها الدينية، وانضمت بعد ذلك إلى موسكو، وبوجه الإجمال فإن الروسيين يحافظون على دينهم محافظتهم على نفوسهم؛ ولذلك فهم حماة الأورثوذكسية في روسيا، وفي الشرقين الأقصى والأدنى وفي أميركا وجميع أنحاء العالم.
صاحب السمو الملوكي ولي العهد
وصاحبات السمو كريمات القيصر والقيصرة.
حياة الكنيسة والمعارف اللاهوتية على عهد ملك آل رومانوف
قضت الكنيسة عهدا محزنا في أواخر القرن السادس عشر، قبيل عهد الاضطرابات الثقيل؛ فقد كثرت الهرطقات واشتد ضغط الغرب لدرجة قصوى، وكانت المدارس ومعاهد العلم مصدرا لكل هرطقة وفساد، وقد قفلت المدارس الروسية، وما كان رجال الدين يستطيعون قراءة الكتب الكنائسية علنا، والشعب كان يرزح تحت أعباء الجهل المطبق، حتى إنه قل من كان يعرف منه دستور الإيمان أو أبانا الذي.
وفي جهات روسيا الجنوبية الغربية، حيث انتشرت سلطة الجزويت الذين نشروا الكثلكة بالقوة، كان رجال الدين الأورثوذكسي يسامون صنوف العذاب والهوان؛ فقد اضطهدهم وطردهم كهنة الجزويت، وكانوا يجلدونهم بالسياط كما يجلدون الفلاحين، وأما جهل الشعب في هذه الجهة وانحطاطه، فحدث عنه ولا حرج. أما الكنائس الأورثوذكسية، فإن أكثرها تحول إلى كنائس كاثوليكية، وبعضها أجر لليهود، فكان المستأجر اليهودي يحفظ لديه مفاتيح الكنيسة، ويتقاضى أجرة معينة على كل مرة يفتح فيها أبواب الكنيسة لإقامة الخدمة الإلهية، هذا فضلا عن أنه كان يتهكم مع أبناء جنسه على الخدمة الدينية.
إن زمن انتشار سلطة البولونيين وانحطاط الحالة الاقتصادية في زمن الاضطراب والمشاغب، زادا في حرج المسألة، وفي انحطاط الكنيسة إلى درجة محزنة، وانحطاط المدارس الدينية والعلوم اللاهوتية. وحسبنا الآن أن نقابل ذلك الماضي المؤلم التعيس بهذا الحاضر المفرح السعيد، حتى نعلم ذلك الشوط الواسع من النجاح الذي قطعته الكنيسة في عهد آل رومانوف.
ومن عهد جلوس ملوك رومانوف على عرش الملك، ابتدأ دور الاهتمام بإعلاء شأن التعليم الديني وحياة الكنيسة، ويجب أن نفهم أنه لم يكن من السهل القيام بهذا العمل العظيم، لا سيما في ذلك الوقت الذي كانت عصابات البولونيين والقوازق والليتفيين يطوفون جميع أنحاء المملكة، يعيثون بها فسادا، وينهبون الأديرة والحلل الكنائسية والأواني المقدسة، ويجردون الأيقونات من الحجارة الكريمة المزدانة بها.
إن سلطة البطركية - وبالإجمال السلطة الروحية - ارتفعت حالا على أثر ارتقاء والد أول ملك من ملوك آل رومانوف على كرسي البطركية، وهو البطريرك فيلاريت. وعلى عهد الملك ميخائيل ثيودورفيتش ارتفع شأن البطركية لدرجة قصوى، لا تطلب زيادة لمستزيد، حتى إن البطريرك أحرز لقب الملك الأعظم، وكان يحضر المجالس التي يعقدها الملك، ويحضر أيضا الجمعيات العمومية، وكان لرأيه المقام الأول.
وعلى عهد البطريرك فيلاريت أنشئت مدرسة دينية في مدينة موسكو لتعليم العلوم اللاهوتية باللغتين اليونانية واللاتينية القديمتين. وفي عام 1682 تولد مشروع إنشاء أكاديميا لاهوتية، واستدعى للتعليم فيها أساتذة يونانيون.
وفي عام 1762 استولت الحكومة على كل الأموال الموجودة في الكنائس، وكان هذا من الأسباب الداعية إلى تقليل عدد الرهبان، ولكن لوحظ إذ ذاك تقدم أدبي عظيم بين الموجودين منهم، وظهر عدة رهبان نوابغ.
وأما ترقية الكنيسة وتقدم العلوم اللاهوتية، فقد ابتدأت في القرن التاسع عشر، عندما بلغ عدد الجامعات اللاهوتية أربعا، وأصبحت مع المدارس الدينية الوسطى ذات رواتب مخصصة وقوانين منظمة، وقد نبغ منها عدد عظيم من رجال الدين المشهود لهم بالتضلع من العلوم اللاهوتية والأعمال المجيدة.
ولكن الإصلاح العظيم في نظام المدارس الدينية الذي حدث عام 1867، كان له الفضل الأوفر.
وفي أول الجيل السابع عشر على عهد ملوك آل رومانوف الأولين، كان التعليم الديني منحصرا في ولايات روسيا الوسطى، ولكن في مقاطعات نوفغورد وما جاورها الخاضعة لأسوج، كان المبشرون ينشرون المذهب البروتستانتي، وفي روسيا الصغرى وروسيا البيضاء كانت انتشرت الكثلكة بالقوة، وفي الجنوب والجنوب الشرقي ساد الإسلام، وفي خلال الجيل السابع عشر اندمجت نوفغورد وروسيا الصغرى مع مملكة موسكو في أبرشية واحدة، ومن هذا الوقت غدا نور الأورثوذكسية ينتشر شيئا فشيئا، حتى وصلت أشعته إلى الشرق الأقصى. وابتداء من عام 1682 أصبحنا نرى الأديرة منتشرة حتى في سيبيريا المتباعدة، ومع مرور الزمان أصبحت الأورثوذكسية منتشرة في سيبيريا وفي جنوب روسيا وفي القوقاس وأستراخان.
وبوجه الإجمال فإنه في خلال ثلاثمائة عام تعززت الكنيسة الأورثوذكسية، ونمت وتقوت على مثال الكنيسة البيزنطية، عندما كانت في أوج مجدها، وقد أدخلت على المدارس اللاهوتية إصلاحات عديدة جدا، جعلتها لا تخرج في تعاليمها عن حدود تعاليم الإنجيل الشريف.
بيت رومانوف والأسطول
من المسائل الرئيسية التي وجه إليها التفاته مؤسس دولة رومانوف، هي اهتمامه بتعزيز قوات روسيا الحربية.
نحن نعلم حق العلم الخدمات الجليلة التي قامت بها للوطن قواتها الحربية، التي أوصلت حدود روسيا على عهد خلف ميخائيل ثيودورفيتش من بحر البلطيق حتى المحيط الهادي.
إن الوقت المضطرب المظلم انتهى بانتخاب الملك الشاب ميخائيل، الذي وحد الأمة ووفق بينها.
وفي 1642 امتدت علاقات روسيا مع إيران وهولاندا وإنكلترا، الأمر الذي جعل مملكة موسكو توجه التفاتها إلى أهمية الأسطول، وقد شرع بذلك الملك الهادئ أليكسي ميخايلوفيتش ومساعده ذو الرأي الثاقب والفكر الصائت أوردين ناشوكين، الذي كتب عنه المستر كولينس الإنكليزي ما يأتي: الآن ناشوكين يعمل بجد ونشاط في إصلاح وتنقيح القوانين الروسية، وترتيب إدارة المملكة، وهذا الرجل نزيه شريف المبادئ، ولا يمكن ابتياع ذمته، لا يعرف الملل في الأعمال، ويحب الملك حبا يشبه العبادة.
صاحب السمو الإمبراطوري
ولي العهد والأمير العظيم أليكسي نيقولايفتش.
صاحبة الجلالة الإمبراطورة
ماريا ثيودورفنا والدة جلالة القيصر.
وفي عام 1664، أصدرت حكومة إيران أمرا بإعفاء بضائع التجار الروسيين من رسوم الجمارك، وقد اضطرت روسيا إذ ذاك أن تحافظ على الطرق التجارية، من أستراخان حتى بحر خفاليتسكي، ولأجل هذه الغاية صنعت الحكومة أول مركب، وذلك في 14 نوفمبر/تشرين ثاني من عام 1866، في قرية ديلينوفا، وسمي هذا المركب إريول (النسر)، وبلغ طول هذا المركب 80 قدما، وعرضه 21، وعمقه 6، وعلى مقدمته ومؤخرته نسر فوقه التاج، ورسمت على أعلامه النسور أيضا، وتعين موظفوه الكبار من الروسيين. ولما أقلع إلى أستراخان رافقه زورقان كبيران أجنبيان، ومركب آخر عليه عدة مدافع وقنابل، ومن هذا الحين دخلت روسيا في عهد مدنية جديد.
ولما ظهر في سماء روسيا بطرس الأكبر، رأى أن الأسطول للمملكة كالماء للسمك، فوضع قانونا للبحرية قال فيه: إن مملكة موسكو في حاجة شديدة للقوات البحرية، وإنه يجب على خلفائي أن يداوموا الاهتمام بإنشاء الأسطول. وقد حققوا آماله وأتموا وصيته المقدسة رويدا رويدا، والحكومة الحاضرة تسعى لإنشاء أسطول ضخم يضارع أساطيل الدول العظمى.
القضاء في روسيا: سنة 1613-1913
قلنا إن الملك الشاب جلس على عرش المملكة الروسية، وهي في حالة خراب ودمار، وقد استطاع أن يعمل لخيرها أمورا كثيرة، ووضع لها نظامات عديدة، ولكن حالة القضاء كانت في درجة منحطة، وقد سلمها إلى خلفه كما استلمها هو؛ لأنه من الصعب تنظيم القضاء والأحكام في مثل تلك الظروف المضطربة.
ونحن نعلم أنه بعد الملك ميخائيل جلس على كرسي المملكة ملوك عديدون، استطاعوا إصلاح الأحكام حتى بلغت في هذه الأيام مبلغا يضارع الأحكام عند أعظم الأمم المتمدنة؛ ففي ذلك العهد كانت الأحكام الإدارية والقضائية ممتزجة ببعضها، بحيث لا يستطيع أحد أن يميز الأحكام المدنية من الجنائية. وقال أحد المؤرخين: إن القضاء كان في ذلك العهد فوضى، لا نظام له معروف، أو طريق مألوف، فإن عدم وجود القوانين وعدم أهلية القابضين على زمام القضاء، كانا يجعلان الحقوق ضائعة، وكان الأهالي يشكون مر الشكوى من حالة القضاء وحالتهم الفقرية، حتى إنهم صرحوا مرة للملك أنهم مستعدون لتقديم نفوسهم وأملاكهم في سبيل إصلاح المملكة، ولكن بقيت حالة القضاء مضطربة مختلة على عهد الملوك الأولين، حتى بطرس الأكبر، الذي بناء على معلوماته التي جمعها من البلاد الأجنبية استطاع أن يضع أسسا للإدارة والقضاء.
القيصر إسكندر الثالث
ملك السلام.
وفي عام 1719 عندما أجري إصلاح الولايات، لم يكن في البلاد موجودة محاكم، فأصدر أمره في 8 يناير من ذلك العام بإنشاء إحدى عشرة محكمة، وأمر في الحال بإقامة الأبنية لها، وكانت هذه المحاكم تخضع في أحكامها لمحكمة عليا، مؤلفة من نظارة حقانية المملكة، وأنشأ بعد ذلك محاكم استئناف ومحاكم في المدن، وبعض القرى الكبيرة، ولكن هذا الإصلاح القضائي لم يأت بالفائدة المطلوبة، فإن الولاة ورجال الإدارة لبثوا يتدخلون في شئون القضاء، فحدث بسبب ذلك تناقض في الآراء ووجهة الأحكام، الأمر الذي زاد القضاء اختلالا واعتلالا. وفي 1720 اشتكت لجنة الحقانية القضائية مر الشكوى من هذه الحالة السيئة، فلجأت الحكومة إلى الطريقة المستعملة في البلاد الأجنبية، وهي نقل الموظف من جهة إلى جهة أخرى.
ومما يجب ملاحظته، أنه في ذلك العهد لم يكن لدى روسيا لا رجل ولا مال للقيام بإصلاح القضاء وتنفيذ نوايا بطرس الأكبر. وقال أحد المؤرخين: إن الأمة كانت في ذلك العهد على جانب عظيم من الجهل المطبق، فلم يكن الواحد يميز القاضي من الحاكم، وقد انتهز الحكام هذه الفرصة لإملاء جيوبهم، ونهب أموال المتقاضين بلا حق، وحاول بطرس الأكبر إجراء طرق عديدة لإصلاح القضاء، فلم يفلح بها، وبناء على ذلك فقد بقي القضاء مختلا مدة طويلة في جميع أنحاء روسيا، ومع ذلك فإن ذلك المصلح العظيم أدخل على البلاد إصلاحات عديدة في الأحكام القضائية والإدارية والتجارية، وهو أول من عين رجال النيابة (المدعي العمومي) وألف مجلس السنات (الشيوخ) ليكون مرجعا للقضاء.
القيصر إسكندر الثاني
محرر الفلاحين.
وقد ألف بطرس الأكبر عدة لجان لإصلاح القضاء، فلم تعمل شيئا مفيدا، وأخيرا ترك هذه المسألة لأسلافه. ولما جلست الإمبراطورة كاترينا الثانية على عرش الملك أرادت تحقيق هذه الأمنية، فجمعت لهذا الغرض عام 1767 في مدينة موسكو 564 نائبا، عهدت إليهم وضع قوانين جديدة على أساس أمر أصدرته بذلك، ثم إنها رأت أنه ليس من مصلحة المملكة أن تبقى قوانينها على ما هي، فقامت بمشروع إصلاح الولايات عام 1776، وأدخلت فيه بعض الإصلاحات على القضاء، وكان أهم شيء ترمي إليه هو تقريب القضاء إلى أفهام الرعية. ومن الإصلاحات التي أجرتها ما يأتي: فصل الإدارة عن القضاء، فصل الأحكام الإدارية عن الأحكام المدنية والجنائية، إنشاء دور خاصة للمحاكم. ومن هذا العهد أصبحنا نرى المحاكم تسير سيرا منظما، وقد قسمتها الإمبراطورة إلى ثلاثة أقسام - لا محل لذكرها في هذه العجالة - وبقي القضاء في روسيا سائرا على النظام الذي وضعته له إلى السنة الستين من الجيل التاسع عشر.
ولكن القياصرة بولس الأول، وإسكندر الأول، وبولس الثاني (عام 1796) أجروا بعض الإصلاحات في القضاء، ولكن القضاء الروسي أدخل عليه إصلاح حقيقي على عهد القيصر نقولا الأول، فإنه أمر بجمع القوانين الروسية الموضوعة في أزمان مختلفة، وكان ملغى منها مواد كثيرة، وعهد إصلاحها وإكمالها إلى النابغة المشهور سبيرانسكي، الذي بعد تعب 7 سنين وضع 45 مجلدا جمعها من القوانين الموضوعة في أزمان مختلفة.
ولكن على عهد القيصر إسكندر الثاني، دخل القضاء الروسي في عهد جديد سعيد، فوضع في عام 1860 قوانين جديدة، ونزع من يد رجال البوليس أشياء كثيرة، وسارت في قضائها على الطريقة السائرة عليها الأمم المتمدنة.
وفي 20 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1864 صودق على القوانين التي وضعها القيصر إسكندر الثاني، وبعد عامين دخلت في الاستعمال. ثم إن القيصر إسكندر الثالث وجلالة القيصر نقولا الثاني أجريا بعض إصلاحات ثانوية في القضاء الروسي، وبناء على ما تقدم فإن روسيا انتقلت على عهد آل رومانوف، من عهد مظلم إلى عهد منير عادل لا يضيع فيه حق ولا يغبن إنسان.
القيصر نقولا الأول.
رقي الأمة المادي في ثلاثة قرون
لكي يتصور الإنسان الخطوة الواسعة التي خطتها روسيا في 300 عام، لا يكلفه ذلك إلا أن ينظر حوله، فيرى كل شيء جديدا لم يكن له أثر من ذي قبل. اليراع الذي أكتب به، والورق، والكتب، والمنضدة، والساعة، والرسوم الفوتوغرافية، والمصباح الذي ينار بالكهرباء أو الكحول أو البترول، ورياش الغرفة وزينتها، والأواني المنزلية، والطعام والشراب، والشوارع المنارة، والجسور، والعربات، والمخازن، وخطوط الترامواي، كل هذا جديد لم يكن له أثر من قبل، وإن كان فعلى طراز قديم خال من الذوق وإحكام الصناعة. أجل لقد أصبحنا في عالم جديد وحياة جديدة، والروسي الآن ما كان يستطيع العيشة لو وجد في ذلك العهد المظلم الخالي من جميع مطالب وحاجيات المعيشة، وكذلك إنسان العهد القديم، لو وجد في هذا العصر لاندهش دهشا شديدا، وأيقن أنه في عالم آخر غير عالمه.
فكم من الأعمال العظيمة اقتضى القيام بها في البلاد لإيصالها إلى هذه الحالة التي ترتع بها الآن، فقد ارتقت ارتقاء عقليا وأدبيا واقتصاديا، وغير ذلك.
إن حالة البلاد المادية كانت في ذلك العهد طبيعية، وعاش الناس فيها على حساب مواجب الطبيعة التي كانت تهبها للبلاد.
وأما الزراعة، فكانت في العهد المظلم في درجة قصوى من الانحطاط، ومساحات شاسعة من الأراضي كانت بورا، لا تجد أيدي عاملة تستثمر خيراتها الوافرة، ولم تكن تزرع إلا قطع أراضي صغيرة في أواسط روسيا.
وكان الأهالي يستسهلون الاشتغال بصيد الحيوانات والأسماك على الاشتغال بالزراعة التي كانت في حيز العدم، ونمت نموا بطيئا جدا. مثلا في عام 1615 في فورينج وأوسكول، كان يزرع الفلاح فدانا واحدا أو فدانا ونصفا، ويترك نحو 30 فدانا خاصة به بورا.
أما الفلاحون فكانوا يكرهون الاشتغال بالزراعة؛ لأنهم كانوا في أغلب البلاد مستعبدين للأشراف، ومن أواسط القرن الماضي، أخذ الغيورون على تقدم البلاد يهتمون بمسألة تحرير الفلاح من نير الاستعباد ، وأخذت هذه الفكرة الشريفة تزداد انتشارا يوما فيوما، وفي 1861 جرى إصلاح هام للفلاحين، ووزعت عليهم الأطيان بعد أن كانوا يشتغلون فيها كالعبيد، ولكنها لم تعط ملكا لكل فرد، بل إنها جعلت تحت مراقبة جمعيات، حتى إذا ازداد عدد الأهالي في المستقبل يصيبهم نصيبا من الأرض يرتزقون منه، ولكن في هذه الجمعيات لم تعم المساواة، بل وجد فيها الغبن، حيث كان القوي يأكل حقوق الضعيف، فنجم عن ذلك خراب عام للفلاحين، واضطر البعض أن يشهروا حربا عوانا على هذه الجمعيات لإصلاح الخلل الموجود فيها، ثم للضرب على أيدي بعض الأشخاص الذين قبضوا على زمام هذه الجمعيات، واستعملوها لأغراض ثورية، وقد حاول العلماء والأفاضل الذين كرسوا نفوسهم لهذه المسألة إقناع الحكومة بحالة تلك الجمعيات الحرجة، وضرورة تحويل الأراضي إلى ملك الأفراد، وقد انتهى الأمر على هذه الصورة، الأمر الذي أفضى إلى تحسين حالة الفلاحين.
وسارت الزراعة بعد ذلك على طريقة منظمة، وهي خطوة شاسعة في سبيل تقدم روسيا، التي ترتكز ثورتها على الزراعة التي يشتغل بها ثلاثة أرباع أهلها.
كان الروسيون في العهد القديم يعيشون عيشا بسيطا طبيعيا، يزرعون من القمح قدر ما يلزم لطعامهم، وكذلك من الكتان قدر ما يلزم لملابسهم، ولكن بعد ذلك الحاجة ازدادت كثيرا، واحتاجت البلاد إلى معامل كثيرة وأيدي عاملة تقوم بحاجات البلاد، فأخذ بطرس الأكبر يغرسها بيده الحديدية، وكان يمنح أرباب الصنائع امتيازات عديدة، ومنحا كثيرة، وحسن أجور العمال، وضمن لهم أجرتهم. ومن جهة أخرى فإنه وضع ضرائب باهظة على المصنوعات الأجنبية، وازدادت الصناعة ارتقاء على عهد كاترينا الثانية، ومنحت امتيازات كثيرة لأصحاب المعامل، وأعفتهم من كثير من الرسوم، وصرحت لمن يريد إنشاء معمل أن ينشئه بدون تصريح من الحكومة.
الإمبراطور إسكندر الأول.
غير أن الصناعة لم ترتق الارتقاء الحقيقي إلا بعد تحرير الفلاحين من نير الاستعباد، فنمت بعد ذلك الصناعة، وزادت معامل الأقمشة والسكر، ومع هذا كان يزداد عدد السكان أيضا، وتزداد مطالبهم زيادة مطردة، ومع مرور الأيام ارتقت الصناعة رقيا محسوسا، وما زالت الحكومة عاملة على إبلاغها درجة الكمال، حتى تضارع الصناعة في أرقى الممالك والبلاد.
الإمبراطور بولص الأول.
طرق المواصلات في خلال ثلاثة قرون
إذا ألقينا نظرة على تاريخ الأمم، لا نجد في العالم أمة تملك أراضي مثل الأمة الروسية، التي تملك أراضي شاسعة متباعدة الأطراف، مترامية الأكناف، وقسم عظيم منها مغطى بالأحراش الكثيفة والمستنقعات، وكانت المواصلات في العصور الماضية صعبة جدا لقلة الطرق، فكان الناس يسافرون على أرجلهم، أو على ظهور الحيوانات، أو على الزوارق، متنقلين من نهر إلى نهر. وليتصور القارئ الصعوبة التي كان يصادفها الأهالي، فإنهم كانوا إذا أرادوا الانتقال من نهر إلى نهر، يجرون الزورق أو المركب على الأرض، أو على ظهر نقالات من عيدان الأشجار الغليظة، حتى يوصلوه من نهر إلى نهر. ولهذه الغاية كانوا يصنعون مراكب خفيفة يسهل نقلها، وعدا ذلك فإن القرصنة كانت شائعة في تلك الأيام، فإذا أقبل لصوص البحر على مركب يصرخون على أصحابه بقولهم لهم: ارفعوا أيديكم إلى فوق. فيستولي عليهم الرعب وينقادون صاغرين لأولئك القرصان. وقد قال أحد المؤرخين إن الخوف كان مستوليا على الأهالي من القرصان، لدرجة أن ثلاثة منهم يستطيعون سلب ثلاثين وأربعين رجلا من الأهالي.
الإمبراطورة كاترينا الثانية.
وعلى عهد بطرس الأكبر بدءوا في إنشاء الطرق، فأصدر أمره بتعيين لجنة خاصة للاهتمام بهذا الأمر، وملاحظة الأعمال. وفي عام 1706 أنشئت في روسيا أول ترعة، وهي المعروفة بترعة لادوجسكي، وكانت الطرق البرية معدومة على عهد بطرس الأكبر وما بعده من الملوك، فكان الإنسان يقطع المسافة بين موسكو وبطرسبرج في خمسة أسابيع؛ لكثرة المستنقعات التي تعترضه في طريقه، وعدم وجود الجسور، ولكن الملوك والملكات كانوا يوجهون التفاتهم رويدا رويدا إلى إصلاح الطرق البرية والبحرية، فاستدعوا لهذه الغاية مهندسين من إسبانيا وفرنسا وهولاندا؛ لإنشاء الترع والطرق.
وفي عام 1829 أنشئت في لوندرا أول سكة حديدية، ونسجت بعد ذلك على منوالها الممالك الأخرى، وقد قدم في ذلك العهد إلى روسيا المهندس النمساوي فون جيرستنير، لأعمال خاصة به، وفي خلال وجوده طلب من الحكومة الروسية امتيازا لإنشاء خط حديدي، ولكنها رفضت طلبه.
وفي عام 1838 شرعت الحكومة الروسية بمد أول خط حديدي من بافلوفسك إلى بطرسبرج، وإذ ذاك ظهر مشروع إيصال بطرسبرج بموسكو بخط حديدي، وقد حصل بهذه المسألة مناقشات عنيفة، فإن الأكثرية قاومت هذا المشروع مقاومة شديدة، بحجة عدم وجود الإيرادات الكافية من الخط. وقال أحد المعترضين: إن مقدار الشحن الذي يشحن من موسكو إلى بطرسبرج، لا يزيد في العام الواحد عن 7900 بود، وعدد الركاب لا يزيد عن 8000، ومجموع الإيراد من ذلك لا يزيد عن 5650 روبل (565 جنيها مصريا) فاعترض الكونت «تول» ناظر طرق المواصلات على هذا الاعتراض بقوله: إن قلة الشحن والركاب ناجمة عن رداءة الطرق، فإذا زال هذا السبب وتسهلت المواصلات، يزداد مقدار الشحن وعدد المسافرين، وبعد مناقشات طويلة رفض مجلس الوزراء المشروع بأغلبية الأصوات بحجة عدم فائدته.
ولكن الإمبراطور نقولا الأول عقد مجلس الوزراء تحت رئاسته في 1 فبراير/شباط عام 1842، وبعد أن سمع مناقشة الوزراء بشأنه، قرر أن المشروع مفيد ومستطاع، وأصدر أمره بالشروع في العمل، وعلى هذه الصورة بدئ في روسيا بإنشاء الخطوط الحديدية، التي أخذت تزيد يوما فيوما، حتى زادت زيادة عظيمة، وتألفت منها في هذه الأيام شبكة من الخطوط، تبلغ مساحتها ما يزيد على 60000 فيورست، مخترقة جميع أنحاء المملكة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، ومن ذلك يتضح ما قام به ملوك آل رومانوف من الخدمات في تسهيل المواصلات برا وبحرا.
الإمبراطور بطرس الثالث.
العلوم والآداب في 300 عام
إذا أراد الكاتب وصف حالة العلوم والآداب قبل 300 عام، يقف يراعه في يده جزعا، ولا يطاوعه للسير على القرطاس. وفي بدء الجيل السابع عشر، كانت تشتم في روسيا رائحة الآداب الغربية، ولكن الغربيين عندما كانوا يكتبون عن روسيا، يصفونها بأنها بلاد نصف آسيوية.
الإمبراطورة إليصابات بتروفنا.
وقد سادت في روسيا مدة طويلة المدارس الدينية التي كانت قلما تبحث عن الحقائق العلمية في غير الكتب المقدسة، ولم يكن في المدارس الأخرى علوم متنوعة، سوى قواعد اللغة والتاريخ، وقد قبضت المدارس الدينية بيدها الحديدية على زمام العلوم والآداب أكثر من مائة عام.
وفي أوائل القرن الثامن عشر، عندما كان الأوروبيون يؤلفون الروايات والكتب المتنوعة، ما كان في روسيا أثر لذلك مطلقا، حتى إن لغتها لم تكن مهذبة في ذلك العصر، وقد أنجبت البلاد في ذلك العصر المظلم، النابغة لومنسوف الذي أصلح اللغة الروسية وهذبها، وبعد مرور 60 أو 70 عاما أخذت الآداب الروسية تتدرج في سلم الرقي، حتى ضاهت اللغات الأوروبية.
وفي سنة الستين والسبعين، نبغ في روسيا كاتبان مجيدان، ونريد بهما دوستويفسكي وتولستوي، ولا سيما هذا الأخير الذي دوى اسمه في سائر أنحاء المعمورة، وقد امتاز هذان الكاتبان بتصوير نفس الإنسان الداخلية وشعوره، ووصف معيشة الناس على اختلاف طبقاتهم، ووصف الخير والشر وصفا مطابقا للحقيقة.
الإمبراطور يوحنا الرابع.
وإذا ألقينا نظرة على مؤلفات بوشكين، وغوغول، وأرباب الأقلام، في العام الخمسين نجد أن الروايات والمؤلفات، تقدمت تقدما سريعا، حتى فاقت الروايات الروسية في موضوعها وآدابها الروايات الفرنسية.
وأما المؤلفات القصصية الروسية في الجيل السابع عشر، فقد كانت منحطة انحطاطا عظيما، وتناولت مواضيع سخيفة، مثل الحكايات الخرافية عن إسكندر ذي القرنين وغيرها من الحكايات والخرافات التافهة التي لا يستخلص الإنسان منها مغزى أدبيا، أو فائدة من الفوائد، وأما الروايات التمثيلية، فقد مثلت أول رواية في مدينة موسكو في مرسح غريغوري في القرن السابع عشر، وهي رواية إستير الدينية، وبعد ذلك نقلت من اللغة الإنكليزية إلى الروسية بعض الروايات التمثيلية، ثم أنشئت بجوار المرسح المذكور أول مدرسة لتدريس فن التمثيل.
وبعد مائة عام رفع سوماروكوف شأن التمثيل الروسي (التياترو)، ولكن الفرق بين تمثيل ذلك العهد، والتمثيل في عهد غريبويديف، وبوشكين، وغوغول، ثم أوستروفسكي واسع جدا. وزائر المراسح الروسية في هذه الأيام يستولي عليه الدهش لبلوغه درجة الكمال. يقولون إنه مهما تقدمت الآداب والعلوم في اللغة الروسية، فلا تبلغ جزءا مما هي عليه في أوروبا، ولكن مرت بعض الأعوام سبقت فيها الآداب الأوروبية، الأمر الذي يدل على استعداد الأمة الروسية، والذكاء المطبوع عليه أفرادها.
3
ابتداء أسرة رومانوف
وضع الأساتذة س. ث. بلاتونوف ، وفاسينكو، وتورايف كتابا، بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على ملك آل رومانوف، وقد امتاز عن غيره من الكتب بدقة مباحثه وصحة روايته، وقد وجه التفاتي الفصل الأول من هذا الكتاب المعنون بالعنوان الآتي: «تسلسلت أسرة رومانوف من الشريفين كوشكيني وزاخاريني وأقاربهم أسرة كاليتا».
وجاء في هذا الفصل أن أول ملك من الأسرة المالكة الآن من عائلة شريفة عريقة في الحسب والنسب، ويقول الكاتب أن أصل تلك العائلة ضاع في ظلمة العصور، ولم يعلم عنه إلا روايات تناقلتها بعض الألسن، منها أن عائلة رومانوف متسلسلة، من أمير بروسي الذي إذ طرد من أملاكه الموروثة في مقاطعة ساموجيتي وسودافيا، فر في أواخر القرن الثاني عشر إلى روسيا، وقد بحث الكاتب في أصل هذه الرواية، وأوضحها الإيضاح التاريخي الآتي:
الإمبراطورة أنا إيوانوفنا.
في أواخر القرن الخامس عشر، وفي أوائل القرن السادس عشر، أخذ يظهر في بلاط ملك موسكو، عدد كبير من الأمراء المتسلسلين من أصل عريق، وبالنظر إلى طيب عنصرهم، أخذوا يحلون محل أشراف موسكو في البلاط الملوكي.
فأخذ هؤلاء الأشراف يبحثون عن طريقة يتخلصون بها من مضايقة وإهانات هؤلاء الأمراء الذين اتصفوا بالكبر، وحاولوا تطهير البلاط الملوكي من الأشراف الذين خدموا ملك موسكو من عهد بعيد، وكان من بين هؤلاء الأشراف أفراد عائلة رومانوف الذين خدموا في البلاط من عهد بعيد، متسنمين ذروة المناصب العالية، وكل هذا جعلهم من زمن بعيد، يفتكرون من زمن بعيد في إرجاع أصل عائلتهم إلى سلف عظيم، وبما أنه في ذلك العهد هاجر إلى موسكو كثيرون من الأجانب من بلاد اليونان والبلاد الأخرى، فأخذوا يسعون إلى إيجاد تلك النسبة التي يبحثون عنها من أصل أجنبي، وهكذا تم، فإن عائلة رومانوف انتسبت إلى أصل شريف خرج من بروسيا.
الإمبراطور بطرس الثاني.
ولكن ما هو السبب الذي جعلهم ينتسبون إلى أصل بروسي، ذلك أن كثيرين من أشراف روسيا انتسبوا مثل هذه النسبة، وعدوا نفوسهم من أصل الأمراء الذين هاجروا إلى روسيا من بروسيا، حتى إن ملوك روسيا كانوا ينتسبون إلى البروسي القديم، شقيق أغسطس قيصر الذي يقولون إن أول أمير روسي ريوريك كان من عائلته.
ثم قال الكاتب: إننا إذا جمعنا جميع الروايات عن أصل الأسرة المالكة الآن، نستطيع استخلاص منها ما يأتي:
في الجيل الرابع عشر، كان من بين أشراف موسكو أندريه إيفانوفيتش كابيلا الذي تسلسلت منه عدة عائلات شريفة، وأسلافه كانوا مقربين من ملوك موسكو، ولبثوا مقربين مع مزاحمة الأمراء الوافدين لهم.
الإمبراطورة كاترينا الأولى.
ومن أجداد أسرة رومانوف المشهورين، زخاري إيفانوفيتش، جد الملكة أناستاسيا، التي اختارها الملك يوحنا الرابع زوجة له.
ثم قال الكاتب: ولقد تتبعت تاريخ عائلة رومانوف، فرأيتهم في خلال قرنين ونصف، خدموا بالأمانة والصدق ملوك موسكو، وكانوا واقفين على أفكارهم ونواياهم، ثم أخيرا اتصلوا بالقربى مع عائلة الملوك، التي كانت في دور الانحلال، وكانت الملكة أنستاسيا المتواضعة ملاكا حارسا لزوجها يوحنا الرابع، الملقب بالرهيب، وأما شقيقها ذو القلب الطاهر والعقل الثاقب الشريف نيكيتا رومانوف، فكان صديقا ومستشارا للملك يوحنا الرهيب الذي له في التاريخ الروسي ذكر مؤلم، وكان الشعب يحبه محبة شديدة، ولا عجب بعد هذا إذا آل الملك لأسرة رومانوف بعد أن خدموه الأعوام الطوال، واتصلوا مع العائلة المالكة بصلة القربى.
ثم إنه لما جلس على عرش الملك بوريس غودونوف، لم يظهر عداءه لآل رومانوف، ولكن في بدء عام 1601 غضب عليهم جميعا، وعلى أقاربهم أيضا، وأبعدهم عن البلاط، ونفى زوجته وحماته إلى أحد الأديرة، وحكم عليهما بالانتظام في سلك الرهبنة، ولكن هذا الحادث خدم آل رومانوف خدمة جليلة، وأشهر أمرهم في البلاد، وقد أفضى ذلك إلى أنه في 21 فبراير من عام 1913 انتخبت الأمة بإجماع الأصوات الشاب ميخائيل ثيودورفتش رومانوف ملكا على مدينة موسكو.
بطرس الأكبر
واضع أساس روسيا الجديدة
وجدت من الضرورة أن أخصص فصلا في كتابي هذا، أذكر فيه شيئا عن أعمال بطرس الأكبر، واضع أساس روسيا الجديدة، مقتطفا ذلك من عدة تواريخ روسية، فأقول:
في عام 1682 توفي الملك ثيودور أليكسييفيتش، ولم يترك له خلفا من أولاده يرث الملك بعده، ولكنه كان له أخوان، أحدهما يوحنا، من أم واحدة، وهي ماريا ميلوسلافسكايا، زوجة الملك أليكسني الأولى، والثاني بطرس من ناتاليا زوجة الملك الثانية، ولما مات الملك ثيودور المذكور، لم يوص بالملك لأحد، وفي خلال دفن الملك تساءل الناس عمن يجلس بعده على عرش المملكة، وكان عمر شقيقه يوحنا 16 عاما، ولكنه كان ضعيف النفس والإرادة، ومريضا في جسمه؛ لذلك لم يكن يصلح للملك، وأما الأمير بطرس فكانت بنيته قوية، ومشهورا بالذكاء وسرعة الخاطر؛ ولذلك فإن الأفكار اتجهت إليه، ولما صعد البطريرك إلى الساحة «الحمراء»، سأل الشعب أيهما من الشقيقين يريدونه ملكا عليهم، فأجاب بصوت واحد نريد الأمير بطرس، وبعد ذلك قدمت موسكو روسيا جميعها يمين الطاعة له.
بطرس الأكبر
واضع أساس روسيا الجديدة. •••
ولد بطرس الأكبر في 30مايو/أيار، سنة 1672، ولما بلغ الرابعة من عمره توفي والده، فتكفلت والدته ناتاليا كيريللوفنا تربيته، ولما حان وقت تعليمه، استدعت والدته البطريرك الذي صلى صلاة مخصوصة، ورش الفتى بالماء المقدس، وباركه وعهد أمر تعليمه إلى الشماس زوتوف الذي أجلس الأمير الصغير وركع أمامه، وبدأ يدرسه، ولكن الأمير لم يستفد منه شيئا؛ لأن هذا المعلم كان ملما إلماما بسيطا بالقراءة والكتابة، حتى لما بلغ بطرس السادسة عشرة كان يقرأ قراءة ضعيفة جدا، ويكتب بأغلاط فاحشة جدا تدل على ذلك كراريسه التي كان يكتب بها المحفوظة إلى اليوم، وبعد ذلك وقف على مبادئ بعض العلوم من رجل غريب يدعى تيمميرمان، وجد مصادفة في موسكو، وكان في ذلك العهد سفيرا لروسيا في باريس الأمير ياكوف دولجوروكي، فأحضر له هدية أسطرلابا وبعض أدوات حسابية، ولكن الملك الصغير الذي كان عمره آنذاك خمسة عشر عاما، لم يدر ما يفعل بها، ولم يستطع أحد من المحيطين به أن يوضح له طريقة استعمالها، ولكن طبيبا نمسويا أرشده إلى رجل هولاندي تاجر، فاستدعاه وأخذ يدرس عليه الحساب وبعض العلوم، وكان هذا المعلم الجديد جاهلا أيضا، حتى إنه يغلط في جميع الأرقام الصغيرة، وقد نشأ بطرس وهو لا يدري شيئا من العلوم، الأمر الذي أسف عليه مرارا عديدة في حياته، حتى قال مرة: «آه لو تعلمت في صغري كما ينبغي!» ودخل مرة غرفة بناته فوجدهن يتعلمن، فتنفس الصعداء، وقال: «كنت أتمنى أن يكون أصبعا واحدا في يدي خيرا من بقائي جاهلا.»
وكان بطرس يتمرن كثيرا في المناورات العسكرية بجوار موسكو برا وبحرا، ولم يرحم في هذه المناورات نفسه، ولا الذين معه، حتى إنه تفرقعت مرة قنبلة فغطى دخانها وجهه، وجرحت شظاياها عدة ضباط، وحينما كان يقوم بمناورة بحرية في البحر الأبيض، هبت عليه ريح شديدة هاج منها البحر وماج، وكاد يخته يغرق بمن فيه، وقد نظروا الموت حيانا، فتناول بطرس الأسرار المقدسة، ولكن من حسن حظه وجد بين البحارة بحار ماهر، استطاع إدارة الدفة وقاد اليخت إلى مكان أمين.
وبعد أن درس بطرس بعض الفنون الحربية من تلك المناورات، نزل لميدان العمل وجعل يحارب أعداءه المحيطين به.
الملك يوحنا الرابع.
سفرات بطرس الأكبر
كان بطرس الأكبر يميل إلى التعرف بالأجانب المقيمين في موسكو، وأكثرهم من النمسويين؛ لأنه وجد في أحاديثهم ورواياتهم عن حالة المعيشة في أوروبا لذة عظيمة، وقد مال في النهاية إلى السفر ليقف بنفسه على مدنية الغرب؛ ليدخلها إلى بلاده، وفي ربيع 1697 تأهب للسفر، وحتى يتجنب المقابلات الرسمية والاحتفالات الباهرة، ألف وفدا وأوفده إلى عواصم أوروبا، وانتظم هو نفسه في سلك أعضاء هذا الوفد تحت اسم بطرس ميخايلوف، وشدد النكير على أعضاء الوفد حتى لا يذكروا اسمه، فوصل إلى ريغان، وكانت إذ ذاك تحت حكم النروجيين، ولم يسمح له حاكمها برؤية حصونها حتى من بعيد، فغادرها على عجل، وفي المدن الأخرى بقطع النظر عن تخفيه، قوبل مقابلات حافلة، وأقيمت إكراما له المآدب والليالي الراقصة، والحفلات الهزلية، ولكن جميع ذلك لم يرق في عينيه؛ لأنه كان طالب فوائد علمية وصناعية، فكرس وقته لزيارة القلاع والحصون، ومخازن الأسلحة والمعامل، والكليات والمكاتب، والمراصد الفلكية، وأهم شيء كان يهمه الاطلاع عليه، هو الاستعدادات الحربية البرية والبحرية، فأقبل على درس ذلك بهمة ونشاط.
وفي مدينة كينيهسبرج انصب على تعليم إطلاق المدافع، وما مضى عليه زمن قصير حتى تحصل على شهادة من رئيس المهندسين بأنه يحكم الرماية.
وفي هولاندا اشتغل كعامل بسيط مدة أربعة أشهر، أتقن في النهاية صناعة عمل المراكب، وفي بدء أمره أخفى اسمه وقيد نفسه في أحد مصانع المراكب، وسكن في بيت الحداد كيست الذي كان يعرفه من موسكو، فكان يذهب كل صباح إلى الشغل ويجهد نفسه في العمل، حتى يتصبب العرق من جسمه، ولكنه لم يستطع إطالة الإقامة؛ لأن اسمه عرف، وأصبح الناس الذين يتوافدون زرافات زرافات لمشاهدة ملك روسيا بين العمال يضايقونه جدا، فسافر إلى أمستردام حيث انتظم في سلك عمال أحد مصانع المراكب، وهنا صنع بيديه مركبا دون أن يشترك معه أحد بعمله، وفي النهاية أخذ شهادة نجار ماهر ورسام، ولكنه لم يكن راضيا عن صناعة المراكب الهولاندية؛ ولذلك غادر هولاندا، وسافر إلى إنكلترا حيث أقام مدة شهرين ونصف في مصنع للمراكب في ديبتفورد، على بعد ثلاثة كيلومترات عن لندرة، ثم سافر بعد ذلك إلى فينيسيا المشهورة في ذلك الوقت بصنع السفن الصغيرة السريعة، ولكنه لم يستطع الإقامة فيها؛ لأنه اضطر للسفر إلى فينا لمقابلة إمبراطور ألمانيا ليحوله عن عقد السلام مع تركيا، وبعد هذه المقابلة أراد العودة إلى فينيسا، غير أنه وردته أخبار من موسكو تنبئه بحصول ثورة، فعاد إليها مسرعا.
الملكة صوفيا أليكسييفنا.
الملك ثيودور أليكسييفتش.
وبعد ذلك حارب الملك كارلوس ملك أسوج حروبا عديدة، انكسر فيها أمامه، غير أن هذا الانكسار لم يثبط عزائم بطرس، بل قال: «إن الأسياد الأسوجيين يحتمل أن يغلبونا عدة مرار، ولكنا نتعلم منهم كيف نغلبهم.» وفي 16 مايو/أيار، بينما كان الملك كارلوس يحارب في بولونيا، استطاع بطرس كسر جنود الأسوجيين الذين تركهم كارلوس على شواطئ البلطيق، وفي إحدى الجزائر التي استولى عليها، الواقعة على نهر نيفا، وضع أساس مدينة بطرسبرج عاصمة روسيا الجديدة.
وبعد ذلك احتاج بطرس إلى المال، فوضع أساسا لإيرادات جديدة، فأنشأ ورق «الدمغة»، وأمر ببيعه للأهالي، ووضع الضرائب على الأهلين، وطلب مالا من الأديرة، حتى إنه أمر بأخذ أجراس كثيرة من الكنائس وصبها مدافع. وفي مدينتي نوفغورد وبسكوف، ساق بطرس أهالي المدن والجنود والكهنة والنساء لبناء القلاع والحصون، وبواسطة نشاطه المتواصل أصبح لديه بعد زمن قصير جيش جعل ينتصر انتصارات متوالية، وأخذ بعد ذلك يزيد في عمران وتحصين مدينة بطرسبرج، وقد انتصر في خلال ذلك بطرس أول انتصار بحري؛ فإن مركبين أسوجيين اقتربا من نيينتانتس لتعزيز حاميتها، وكان بطرس قد استولى عليها دون أن يعلم العدو بذلك، فلما بلغ بطرس قدوم المركبين سار مع منشيكوف وفرقة من الجنود على الزوارق، وبعد معركة كبرى أطلقت فيها المدافع، كسر العدو واستولى على المركبين، وكان هو في مقدمة الصاعدين إليهما. وعلى هذه الصورة تم إنشاء مدينة بطرسبرج، التي أحبها بطرس الأكبر محبة شديدة؛ لأنه المؤسس لها، وغدت محل إقامته، وأصبحت بعد ذلك من أهم مرافئ روسيا التجارية، وقد بلغ عدد سكانها على عهده أربعين ألفا.
إصلاحات بطرس الأكبر
إذا أراد الكاتب تعداد الإصلاحات التي قام بها هذا المصلح العظيم، فإنه لا يستطيع إلى ذلك سبيلا، وإني أذكر منها نزرا يسيرا؛ ليكون دليلا على مجموعها.
الملك أليكسي ميخايلوفيتش.
بعد رجوعه من أوروبا منع الروسيين ارتداء الملابس الواسعة، التي تعيق الحركة وتبعدهم عن الغربيين، ثم أمر عام 1700 أن يكون ابتداء السنة الجديدة من أول يناير/كانون ثان، وكان يبتدئ قبلا من شهر سبتمبر/أيلول، ثم أصلح القضاء إصلاحا عظيما. ثم قسم المملكة إلى ولايات وجعل عددها 12 ولاية، وأنشأ مجلس الشيوخ؛ ليكون مراقبا على أعمال الولاة والقضاة، ثم جعل إدارة الأمور الدينية في البلاد، في مجلس دعاه مجلس السينودوس، وفي أيامه انتهى زمن البطاركة. أنشأ أوسمة الشرف لمكافأة الموظفين الأمناء، فأنشأ وسام القديس أندراوس المدعو أولا، ووسام القديسة كاترينا، وأصلح الجندية والأسطول إصلاحا باهرا، فبلغ عدد الجيش في أيامه 200000 جندي منظم، ولما توفي كان الأسطول الروسي مؤلفا من 40 مركبا كبيرا و800 مركب صغير. أصلح حالة الفلاحين الذين كانوا مستعبدين للأشراف الذين كانوا يبيعونهم بيع السلع، ومنع بيعهم بيعا إفراديا؛ أي إنه لم يسمح لأصحاب الفلاحين بيع أب العائلة أو ابنها. أنشأ مدرسة لتعليم أبناء الموظفين والأهالي المتمدنين، وأنشأ عام 1715 مدرسة تحت اسم الأكاديميا البحرية، وأنشأ عدة مدارس في مقاطعات عديدة، وكل تلميذ كان يخرج من هذه المدارس بدون أن ينجح في الامتحان ويتحصل على شهادتها، كان يمنع من الزواج. ثم أرسل إرساليات عديدة من الطلبة إلى أوروبا، وكان يمتحنهم بنفسه، وأمر الأساقفة أن ينشئوا في منازلهم مدارس لتخريج الكهنة، وأجبر رجال الدين على تعلم - عدا العلوم اللاهوتية - التاريخ والجغرافيا والحساب والآداب. ثم هذب بنفسه الحروف الهجائية الروسية، ونقلها من حالتها القديمة إلى حالتها الحاضرة.
الملك ميخائيل ثيودورفيتش.
وقد أصلح العيشة العائلية إصلاحا يذكر، وهدم الحجاب، حيث كان أغلب الأغنياء يحجبون نساءهم وبناتهم؛ ولهذه الغاية كان يولم الولائم في البلاط الملوكي، ويدعو إليها القواد والأشراف، ويرغمهم على إحضار نسائهم وبناتهم، وأمرهم أيضا أن يقيموا في منازلهم ليالي السرور ويدعون إليها معارفهم، وفعل كل ذلك لنشر روح الولاء بين الهيئة الاجتماعية الروسية. وفي الصيف كانت تعين أيام خاصة للرياضة في حدائق بطرسبرج، كان يجب على الطبقة الراقية حضورها بمجرد سماعها الضرب على الطبل، وبهذه الطريقة تخلصت المرأة الروسية من أسر الاحتجاب، ومن الملابس الخاصة القديمة، وأمر أن تكون المدة بين الخطبة والزواج ستة أسابيع، يجوز فسخ الخطبة في خلالها، وأصدر أمرا بأنه لدى عقد القران يجب على والدي العروس أن يقسما يمينا بأن هذا الزواج برضاء ابنتهما، وبوجه الإجمال فإن بطرس الأكبر قام بحروب عظيمة، كان الفوز فيها حليفه، ووسع أملاك روسيا، وأصلح عادات أهلها، ومهد لها الطريق إلى المدنية، ويروى عنه روايات عديدة في ديار الغربة، وحكايات ونوادر لم أجد لها متسعا في هذا الكتاب الصغير.
الاحتفالات الشائقة
21 فبراير/شباط
سبق لنا القول، إنه في 21 فبراير سنة 1913 مرت ثلاثمائة عام على جلوس أول ملك من أسرة آل رومانوف على عرش المملكة الروسية، وجرت عادة الشعوب أن تقيم الاحتفالات، التي يعبرون عنها باليوبيلات إكراما وإظهارا لما تكنه أفئدتهم من شعائر الإخلاص والولاء .
والأمة الروسية على اختلاف أجناسها ونحلها ومذاهبها، تعترف بما قام به آل رومانوف من الخدمات العظيمة للبلاد، فإنها استلمت زمام الأحكام فيها، وهي في حالة خراب واضطراب، وما زال ملوكها يعملون بجد ونشاط وغيرة وإخلاص، حتى رفعوا شأن البلاد وأسعدوا العباد.
إن الكاتب مهما أوتي من البراعة والمهارة وطول الباع، فإنه لا يستطيع وصف الاحتفالات الشائقة النادرة المثال، التي أقامتها الأمة الروسية، وماذا يقول وقد عيدت مملكة روسيا في ذلك اليوم السعيد عيدا مجيدا؟ فازدانت المدن والقرى بالأعلام وأقواس النصر والأزهار، وأقيمت الصلاة في جميع معابدها.
وقبيل حلول اليوم السعيد، أخذت الجماهير تتوافد على بطرسبرج عاصمة روسيا من جميع أنحاء المملكة، حتى غصت بهم الفنادق والمحلات العمومية، وضاقت على رحبها عن استيعابهم.
أصبحت بطرسبرج في 21 فبراير/شباط مرتدية حلة من الزينة والبهاء والرواء، من أعلام ذات ألوان ساطعة، تخفق في الهواء خفقان السرور والارتياح، وأقواس نصر بديعة الصنع يأخذ منظرها بمجامع القلوب. برزت العاصمة في ذلك اليوم بروز العروس من خدرها، وقد أشرقت في ذلك اليوم الشمس بأنوارها الساطعة البهية، مشاركة للناس في أفراحهم.
وما كادت الغزالة ترسل أشعتها الذهبية، حتى أخذت الأجراس في جميع الكنائس تقرع، حتى صمت الآذان من أصواتها، وفرشت الطريق الملوكية بالأبسطة الفاخرة.
وعند الساعة الثامنة أطلقت المدافع معلنة الناس بابتداء الاحتفال، ومن هذه الساعة كان يرى الناظر مئات من الحفلات الدينية، يسير فيها رجال الدين حاملين الصلبان والأيقونات «والمراوح»، ينشدون أناشيد الدعاء بحفظ جلالة القيصر وأسرته الكريمة، وكان يتبعها جماهير مجمهرة من الشعب لا يحصى لها عدد، ووجهتهم كلهم الكنيسة الجامعة «كازانسكي سوبور»، وعند الساعة التاسعة ونصف، ظهرت مواكب الجنود الذين ملئوا الفضاء بأنغام الموسيقى العسكرية المطربة، وعند ذلك توقفت الحركة في الشوارع؛ لأن كل إنسان لازم مكانه؛ ليشهد ذلك الموكب العظيم، فكانت عبارة عن بحر من الرءوس المتلاصقة، أو بالتعبير العربي، كانوا كالبناء المرصوص. وكانت نوافذ المنازل ومحلات التجارة والمصارف المالية مزدحمة بالمتفرجين، وعند الساعة الواحدة بعد الظهر، خرج الموكب الملوكي من القيصر الشتوي «زيمني دفوريتس»، وسارت مواكب الجنود وأخذت الموسيقى تصدح بأنغامها الشجية، وظهر من بعيد فرسان الحرس القيصري بأرديتهم الحمراء الباهرة، وساروا بين صفوف الجنود السائرين على جانبي الطريق، وعلى أثرهم كان جلالة القيصر جالسا في عربة عالية مكشوفة تسير الهوينا، وإلى جانبه صاحب السمو ولي العهد، وسارت على أثر عربة جلالته عربة أخرى مغطاة، ركبتها صاحبتا الجلالة القيصرة ووالدة القيصر، وركبت كريمات القيصر عربة ثالثة، وكان الشعب يقابل الموكب القيصري بهتاف «أورا» (فليحي) المتواصل، وكان القيصر وولي العهد والقيصرتان وكريماته، يحنون رءوسهم محيين تلك الجماهير.
وعند الساعة الحادية عشرة قبل الابتداء بالصلاة، حضر إلى كازانسكي سوبور غبطة البطريرك الأنطاكي غريغوريوس حداد، ونيافة إسكندر مطران طرابلس، ونيافة ديمتريوس مطران السرب، ونيافة فلاديمير مطران بطرسبرج، وفلافيان مطران كييف، وعدد لا يحصى من الأساقفة ورؤساء الأساقفة، وقد حضر الصلاة: نساء الشرف، ورئيس الوزارة وزوجته، والقائم بأعمال وزارة البلاط القيصري الأمير كوتشوبيه، الوزراء، ومستشار الإمبراطورية، ورئيس المجلس الملوكي الأمير أكيموف، وأعضاء هذا المجلس وأعضاء مجلس الدوما ورئيسه، أعضاء مجلس الشيوخ، موظفو البلاط، سيدات الحاشية الملوكية، رؤساء أركان الجيش البري والبحري، وكبار ضباط الجيشين، ورؤساء وفود الجمعيات العديدة، ووفود الولايات، ومن جملتهم وفد فينلاندا، وكثيرون من الأمراء والأميرات العظام.
ولما وصل الموكب القيصري الكنيسة، خرج لاستقباله غبطة البطريرك الأنطاكي، ونيافة مطران بطرسبرج، فلفظ غبطة البطريرك خطبة وجيزة على مسامع جلالته تناسب المقام، ثم قبل جلالة القيصر وولي العهد الصليب، ورشا بالماء المقدس، ثم وقفا في المكان المعد لهما، الواقع إلى جهة اليمين عن المذبح، ثم خرج رئيس الشمامسة، وتلا على مسمع الحاضرين بصوت روسي جهوري المنشور الإمبراطوري السامي، ثم بدئ بصلاة الدعاء، التي قام بها غبطة حبر الأحبار، العلامة غريغوريوس حداد بطريرك مدينة أنطاكية المقدسة، وسائر المشرق ولفيف المطارنة والأساقفة ومن معهم من رجال الدين، وأول صوت دعاء رفعه غبطة البطريرك الأنطاكي الذي قرأ الإنجيل المقدس باللغة العربية، وما نطق أول آية حتى خشعت القلوب وانحنت الرءوس، ثم تليت الصلاة الخاصة الجديدة التي وضعها المجمع المقدس ، وما بدئ بتلاوتها حتى ركع جلالة القيصر وجميع أفراد الأسرة المالكة، وحذا حذوهم جميع الحاضرين بدون استثناء، ولما هتف رئيس الشمامسة بالدعاء المعروف الذي أوله «سنين عديدة» ... استعد الجنود للسير، وأخذت أجراس الكنيسة تقرع، وأطلقت قلعة بطرسبرج المدافع، وبعد نهاية صلاة الدعاء، قبل جلالته وسائر أفراد العائلة المالكة الصليب، ثم قبلوا أيضا الأيقونات المقدسة العجائبية، وهي أيقونات المخلص المجيد، وأيقونة سيدة قازان، وبعد ذلك استعدوا للخروج، وما كاد جلالة القيصر وولي العهد يبرزان من الباب، حتى أحنت الجماهير رءوسها إجلالا واحتراما، وصاحت بصوت واحد ملأ الفضاء: أورا ... أورا ... أورا ...! ثم أنشدوا النشيد الملوكي الذي أوله «اللهم احفظ الملك»، وسارت الناس وبيدهم الأعلام، وهم ينشدون النشيد المذكور وراء الموكب القيصري حتى القصر الشتوي، ثم إن جميع الذين حظوا بالمثول بين يدي جلالته في ذلك النهار مهنئين، أنعم عليهم بالمداليا التي وضعت خصيصا لليوبيل السعيد.
ومما يجب الإشارة إليه، هو أنه في الوقت الذي أقيمت فيه صلاة الدعاء في الكنيسة الكاتدرائية، أقيمت صلاة دعاء أخرى في المسجد الإسلامي، بحضور صاحبي السمو أمير بخارى، وأمير خيوى، تليت فيها آيات القرآن، وفي نهايتها نهض الإمام الأكبر ولفظ خطبة طويلة، أظهر فيها إخلاص المسلمين الروسيين لملوك آل رومانوف.
وكذلك أقام الإسرائيليون في كنيسهم صلاة دعاء، حضرها نواب من جميع الشركات والدوائر الإسرائيلية.
ثم أقام وفد منغوليا صلاة دعاء أيضا في الهيكل الجديد البوذي في بطرسبرج، وقام بالاحتفال خمسة لامات أو كهنة، تحت رئاسة لاما سيبيريا الشرقية الأعظم.
أما الاحتفالات الشائقة، التي أقيمت في ذلك النهار، وما ازدانت به مدينة بطرسبرج من الأنوار، فحدث عنها ولا حرج، ومهما أجهدت يراعي فلا أستطيع وصفها، كما أن كتابي هذا لا يستوعبها، وبالإجمال فإن الأمة الروسية عيدت عيدا عظيما، أعربت فيه عن شعورها وإخلاصها لأسرة آل رومانوف الكريمة، التي نقلتها من ظلمة الجهل والمظالم إلى نور العلم والمدنية والعدالة.
ثم إن جلالته لم يدع هذا المهرجان السعيد والعيد المجيد يمضي بدون أن يمنح رعاياه منحا عظيمة، حتى تتم أفراحهم وتتوفر سعادتهم، فأمر جلالته بتوزيع مبالغ وافرة من الصدقات، وأصدر عفوه عن ألوف المسجونين، ومنح أمته منحا عديدة تضمنها المنشور القيصري، ثم مثل بين يدي جلالته في ذلك النهار عند الساعة الثالثة بعد الظهر أعضاء المجمع المقدس، ورئيس الوزارة والوزراء والأعيان، وأعضاء مجلس الدوما، وفي الساعة العاشرة من اليوم التالي حظي بتقديم التهاني لجلالته الأشراف ومندوبو البلاد، وعند الساعة الخامسة بعد الظهر، حضر جميع السفراء ومندوبو الممالك. وفي ذلك المساء ازدحمت الأوبرا القيصرية بجمهور غفير من الأجانب وغيرهم، وفي 23 فبراير مثل بين يدي جلالته مندوبو الفلاحين من جميع القرى، وقد أقيمت لهم مأدبة فاخرة، وفي 25 منه أقيمت مأدبة عظمى في القصر الشتوي لعظماء وكبار موظفي الإمبراطورية ترأسها جلالة القيصر.
ويقدرون النفقات التي أنفقتها الحكومة على هذه الاحتفالات، بنحو خمسين مليون روبل.
وقررت مجالس البلديات في جميع أنحاء روسيا إقامة تماثيل للأسرة المالكة، وملوكها السابقين. وعندما عزمت الحكومة الروسية على الاحتفال بهذا اليوبيل العظيم، أرسلت دعوة إلى جميع ملوك العالم، ودعت أيضا بطاركة الأورثوذكس، فأرسل غبطة البطريرك المسكوني مندوبا عنه الأرشمندريت يعقوب، وأرسل غبطة البطريرك الأورشليمي هدية نفيسة إلى جلالة القيصر.
وأما غبطة البطريرك الأنطاكي غريغوريوس حداد، فإنه لبى الدعوة، وسافر بنفسه إلى روسيا، وسافر برفقة نيافة المطران إسكندر طحان مطران طرابلس الشام، وقد لقي غبطته من إكرام الوفادة والحفاوة ما أنطق لسانه بالدعاء والشكران. وبعد نهاية الاحتفالات التي أقيمت في بطرسبرج، طاف جلالة القيصر بعض عواصم الولايات لزيارة رعاياه المخلصين الذين أقاموا الاحتفالات الباهرة وتمتعوا برؤية طلعة جلالة قيصرهم المحبوب، والله أسأل أن يديم جلالته ويطيل عمره ويشد أزره ويصونه، مع أصحاب السمو الأنجال الكرام، وجميع الأسرة القيصرية ما تعاقب الملوان وأشرق الفرقدان.
بيت رومانوف
غبطة البطريرك الأنطاكي
في روسيا
أفتتح الكلام عن غبطته بذكر ترجمة حياته التي أنقلها بالحرف الواحد عن جريدة نوفويه فريميا المشهورة التي قالت:
إن غبطة حبر الأحبار البطريرك الأنطاكي غريغوريوس الذي قدم إلى روسيا،
1
يعد من أشهر مشاهير رجال الأورثوذكس في الشرق، وغبطته كان يسمى قبل أن انتظم في سلك الرهبنة أغناطيوس، ولد عام 1859 في عائلة عربية بسيطة، وقضى سني حداثته في وسط فقير غير مشهور بين الفلاحين المحرومين من كل شيء في سوريا.
وقد تلقى دروسه الابتدائية في مدرسة عبي العربية، بالقرب من بيروت، ثم أكثر من المطالعة والدرس والبحث، حتى برع في العلوم اللاهوتية والفلسفية والآداب. وكان فيما بعد سكرتيرا خصوصيا للمثلث الرحمات البطريرك جراسيموس، ولما بلغ العام الثامن عشر، انتظم في سلك الرهبنة، وتسمى غريغوريوس، وفي عام 1879 رسم شماسا، ثم انتخب وهو في هذه الوظيفة مطرانا لمدينة طرابلس، وفي 6 مايو/أيار رسم أسقفا، ثم رقي إلى رتبة مطران، ولما خلا كرسي البطركية الأنطاكية من البطريرك عام 1906، قرر مجمع مطارنة الكرسي الأنطاكي الذي التأم في 5 يونيو/حزيران من ذلك العام، انتخاب المطران غريغوريوس بطريركا لمدينة الله المقدسة أنطاكية وسائر المشرق.
إن غبطة البطريرك غريغوريوس الرابع، خطيب مفكر ينقاد إليه الكلام بسهولة، وإذا خطب فإنه يؤثر على السامعين، وفي الغالب يصيب المرمى في كلامه. وغبطته من رجال الدين العاملين، ويميل إلى روسيا ميلا خصوصيا، كما أنه يحب الأمة الروسية حبا مفرطا. وغبطته له تأثير عظيم في سوريا مقرون بالإجلال والتعظيم. ا.ه.
غبطة السيد غريغوريوس الرابع
بطريرك أنطاكية وسائر الشرق.
وقد أشرت سابقا إلى أن غبطته رأس الاحتفال الديني الذي أقيم في كازانسكي سوبور، في يوم الاحتفال العظيم، بمرور ثلاثمائة عام على تملك أسرة آل رومانوف.
وقرأت في الجرائد الروسية عن غبطته فقرات عديدة، أنقلها كما هي:
قالت جريدة روسيا: في 25 مارس مرت 200 سنة على تأسيس دير القديس إسكندر نيفسكي، وبمناسبة هذا الحادث العظيم في تاريخ روسيا الديني، أقيمت في ذلك اليوم في الدير المذكور حفلة دينية كبرى، وقد قام بخدمة القداس الإلهي صاحب الغبطة البطريرك غريغوريوس الرابع، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، مع حضرات المطارنة الأجلاء فلاديمير مطران بطرسبرج، وإسكندر مطران طرابلس، وغيرهما، وقد قدم غبطته مع حاشيته إلى الدير قبل الشروع في الخدمة الإلهية راكبا عربة رسمية، فقابله وكيل رئيس الدير ولفيف من الرهبان، وقبل انتهاء الخدمة الإلهية لفظ غبطته خطبة باللغة السلافية (الروسية القديمة) وبعد انتهاء الصلاة، أقيمت إكراما لغبطته وجميع رجال الدين مأدبة فاخرة.
وقالت جريدة روسيا تحت عنوان «قدوم البطريرك الأنطاكي إلى بطرسبرج ما يأتي»: في يوم الأربعاء الموافق 19 فبراير/شباط قدم بطرسبرج؛ للاشتراك في حفلات التتويج، غبطة البطريرك غريغوريوس الرابع، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، وكان برفق غبطته حاشيته الكبيرة.
وقبل وصول القطار، اجتمع في المحطة لاستقبال الضيف الكريم جميع أعضاء المجمع المقدس، ومطارنة بطرسبرج، وموسكو، وكييف، وكذلك عدد كبير من الأساقفة والأرشمندريتية، وكانوا كلهم معلقين على صدورهم الصلبان، ولما خرج غبطته من غرفة القطار، قوبل بنشيد أسبولاتي ديسبوتا (سنين عديدة) وبعض أناشيد دينية.
ثم تقدم إلى غبطته رئيس المجمع المقدس، وسلم عليه، وطلب منه أن يبارك روسيا الأورثوذكسية، وقصد غبطته من المحطة دير القديس إسكندر نيفسكي، فقابله رجال الدين بالصلبان والأناشيد الروحية، ودعي للاستراحة في غرفة المطران، حيث تناول الشاي، ومن هناك قصد دار رئيس المجمع المقدس، حيث نزل ضيفا كريما معززا، وهناك أقيمت صلاة دعاء، دعي في نهايتها لغبطته بطول البقاء، ثم قدم لغبطته بعض أعضاء المجمع المقدس. وعند الساعة الثالثة بعد الظهر، قصد بيتروبا فلوسكي سوبور؛ لخدمة صلاة عن نفس ملوك وملكات روسيا المتوفين من أسرة رومانوف، وقد حضرها كثيرون من أصحاب المقامات العالية، وقد قدمت لغبطته عربة رسمية مع خدمة من القصر الملوكي؛ ليقوموا بخدمته، فركب هذه العربة، وسارت أمامه عربة أخرى، جلس فيها رجل حاملا صليبا مقدسا كبيرا.
وقد قدمت مع غبطته من سوريا شقيقته التي لا يفارقها أبدا.
وقالت جريدة ريتش، في اليوم الثاني والعشرين من شهر فبراير/شباط:
زار غبطة البطريرك الأنطاكي، برفق نيافة إسكندر مطران طرابلس، رئيس الوزارة الروسية، المسيو كوكو نتسوف، ثم زار بعده وزير الخارجية، المسيو سازونوف، ووزير الداخلية المسيو ماكلاكوف.
وفي نفس هذا اليوم، أدب مطران بطرسبرج إكراما لغبطته مأدبة فاخرة، حضرها كثيرون من المطارنة، وأعضاء المجمع المقدس.
وفي نفس هذا اليوم، مثل بين يدي غبطته مسلمين سكرتير الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية، الأستاذ ديمتريفسكي، والأستاذ سوكولوف من قبل الجمعية المذكورة، وقدما لغبطته «باناجيا» ثمينة.
وقالت جريدة روسيا أيضا، في 28 شباط:
زار غبطة البطريرك الأنطاكي مع نيافة مطران السرب ديمتريوس، الأكاديميا الروحية الكبرى، فقوبلا من أساتذة المدرسة استقبالا شائقا، ورتل التلاميذ «سنين عديدة»، ثم دخلا كنيسة الأكاديميا حيث قابلهما رئيس المدرسة الأسقف جاورجيوس والصليب بيده، ولفظ بين يدي غبطته خطبة باللغة اليونانية، وبعد أن أقيمت صلاة الدعاء، جلس غبطته في قاعة المدرسة للاستراحة، وقد خطب بين يديه الأستاذ سوكولوف خطبة أظهر فيها خدمات غبطته في توطيد دعائم الأورثوذكسية في الشرق، فشكره غبطته وقال إنه يتمنى أن تشرق أشعة نور الإيمان، وتنتشر في جميع أنحاء روسيا، حتى يصل لمعانها إلى الشرق الأورثوذكسي الذي لا يوجد من يغرس فيه أصول التعليم الديني القويم، ولا يقيض له الله من النوابغ إلا نادرا مثل المرحوم جراسيموس يارد مطران سلفكيا الذي تلقى علومه الدينية في أكاديمية بطرسبرج اللاهوتية.
وقالت هذه الجريدة في موضع آخر:
إن غبطته طلب من المجمع المقدس كمية من الميرون المقدس؛ ليوزعها على كنائس بطركيته، وقد لبى المجمع المقدس طلبه وأعطاه أربعين بودا من الميرون المقدس.
وكتبت جريدة روسكويه سلوفو فصلا ضافيا عن زيارة غبطته لموسكو، والاستقبال الباهر الذي استقبل به.
وقالت في مقالة أخرى، في 3 مايو/أيار:
زار غبطة البطريرك الأنطاكي مع أفراد حاشيته، ولفيف كبير من كبار رجال الدين الروسيين، مدرسة الترتيل الكنائسي، فقابل غبطته الأسقف تريفون ورئيس المدرسة أ. د. كاستالنسكي.
وفي قاعة استقبال المدرسة أنشد جوق المرتلين بين يدي غبطته بعض الأناشيد الدينية، الأمر الذي سر له غبطته سرورا عظيما، وكتب في دفتر زائري المدرسة باللغة العربية ما يأتي: «رأى البطريرك يعقوب الملائكة صاعدين ونازلين على السلم، ولكن التوراة لم تذكر أن الملائكة كانوا يغنون، وها إني الآن أسمع ترتيلا يشبه غناء الملائكة الذي لا يدع السامعين ينامون كما نام البطريرك يعقوب.»
ثم خرج غبطته مودعا كما قوبل بالإجلال والاحترام، ومن هنا قصد دير النبي دانيال، فقدم لغبطته رئيس الدير الأسقف أناسطاسيوس نيقونة تمنية، ثم تناول غبطته طعام الغداء على مائدة الدير.
ثم زار في دير بوكروفسكي المدفن الموجود تحت الأرض، المدفون فيها المطران نيوفيت الذي وهبه القيصر نقولا الأول دار البطريركية في موسكو، وهنا أقام غبطته صلاة نيلح.
وفي دير القديس يوحنا الذهبي الفم، قدم لغبطته أسقف الدير أيقونة القديس المذكور.
وعند الساعة السابعة مساء، زارت غبطته الأميرة العظيمة إليصابات ثيودورفنا، وجرى بينها وبين غبطته حديث طويل، عن حالة مدراس الجمعية الفلسطينية الأورثوذكسية في الشرق، ولبثت الأميرة مع غبطته ساعة من الزمان.
ثم قالت إن حياة غبطته حياة جد ونشاط وعمل، فإنه يستيقظ عند الساعة السادسة صباحا، وهو بنفسه يوقظ حاشيته، ثم يصلي صلاة الصباح التي تدوم ساعة.
وبعد قهوة الصباح يشتغل غبطته في مكتبه، يدقق حتى الظهر بأعمال البطركية الأنطاكية، ثم يتناول طعام الغداء، ويستريح بعده، وغبطته يصرف وقتا طويلا في مطالعة الكتب والجرائد، وكل يوم يعربون لغبطته الجرائد، ولا سيما ما يرد فيها بشأن أبرستيته، وعلمنا أنه كان يأمر بترجمة كل ما تقول عنه صحف موسكو في خلال إقامته بها.
ومن الساعة الثامنة مساء يجلس للعمل في مكتبه، وكثير ما يلبث عاملا حتى بعد منتصف الليل.
سليم قبعين
M. SELIM COBEIN .
Bog aan la aqoon