المجلد الأول
مقدمات
تصدير
...
باب المقدمات:
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير: بقلم محمد سعدي العرنان*
ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في سنة ١٣٢٩هـ-١٩١١م، أي: منذ ثلاثين سنة تقريبًا؛ ولم يطبع بعدها إلا اليوم، على كثرة طلابه وشدة الحاجة إليه.
ولقد يكون مما يشوق القارئ أن يعلم أن مؤلفه قد ألفه وسنه ثلاثون سنة، وهي سن قلما يتهيأ فيها لشاب أن يحصل من أبواب العلم باللغة ما اجتمع للرافعي في هذا الكتاب؛ فضلًا عن أن يكون له فيما حصل من ذلك رأي وموازنة واستنباط تهيئ له أن يؤلف ويخرج برأيه للناس في كتاب!
على أنه كتاب أول كتاب في فنه؛ فما رأى قراء العربية كتابًا علميا في "تاريخ آداب العرب" قبل هذا الكتاب وكتاب جورج زيدان؛ وإنما كان يكتب الكاتبون من معلمي المدارس في هذا الفن -قبل هذين الكتابين- مذكرات لتلاميذهم على نسق خاص يحدده منهج التعليم؛ ليحفظوها فيجوزوا بها الامتحان؛ ولم تكن أبواب هذا الفن محدودة الأصول والفروع على ما يعرف القراء في هذا الكتاب والكتب من بعده، ولكنها كانت تأريخ وفيات وبعض مختارات من شعر الشعراء، ونثر الكاتبين والخطباء، مقسمة على التاريخ الزمني كما لا يزال إلى اليوم في بعض دور التعليم.
ولم يكن للرافعي في الأدب قبل هذا الكتاب رأي ذو خطر أو دراسة ذات أثر أو جولان في باب من أبواب الكتابة، وإنما كان مقصورًا على الشعر معنيا به مؤملًا أن يكون له فيه منزلة تخمل ذكر فلان وفلان من شعراء عصره؛ وقد بلغ في ذلك مبلغًا، لذلك كان عجيبًا أن يحيد الرافعي عن مذهبه في الشعر إلى الكتابة والتأليف، وكان أعجب أن يبلغ وهو في أول الطريق ما بلغ بهذا الكتاب!
وإنما لكل شيء سبب، والسبب الذي عاج بالرافعي عن مذهبه في الشعر إلى هذا المذهب في التأليف؛ هو إنشاء الجامعة المصرية في سنة ١٩٠٧م.
ويعرف القراء مما ذكرت في "حياة الرافعي" أنه لم يحصل من الشهادات العلمية غير "الابتدائية"، إذ قطعته بوادر العلة التي وقرت أذنيه عن المدارس، فلزم داره يدرس نفسه ويعلم نفسه حتى حصل ما حصل وظل يطلب المزيد، فلما أنشئت الجامعة المصرية تطلع إلى ما يقال هناك في دروس الأدب، لعله يجد فيه الجديد الذي يتشوف إليه ويطلبه.
ومضى على إنشاء الجامعة سنتان وما استحدثت شيئًا في الأدب يفتقر إليه الرافعي وما تحدث
_________
* هذا التصدير كان للطبعة الثانية.
1 / 5
أساتذتها حديثًا في الأدب لا يعرفه الرافعي ... وأيقن الرافعي من يومئذ أنه شيء ... فلبث يتربص.
وطال انتظار الرافعي وما استطاعت الجامعة أن تثبت له أن فيها دروسًا للأدب، وما استطاع الرافعي أن يقنع نفسه بأن في الجامعة أساتذة يدرسون الأدب، فكتب مقالًا في "الجريدة" يحمل فيه على الجامعة وعلى أساتذة الجامعة وعلى منهج الأدب في الجامعة. ورن المقال رنينه وأحدث أثره، فاجتمعت اللجنة الفنية للجامعة وسبقت بين الأدباء جائزة -مائة جنيه- لتأليف كتاب في "أدبيات اللغة العربية" وكذلك كانوا يسمونها- وضربت أجلًا لتأليف الكتاب سبعة أشهر.
وقرأ الرافعي دعوة الجامعة فلم يرض ولم تهدأ نفسه، فكتب مقالًا ثانيًا في الجريدة، ينعت فيه الجامعة ولجنة الجامعة، ويتأبى على الدعوة التي دعت، ويقرر أن الذين دعوا الدعوة، إلى وضع الكتاب وجعلوا لذلك العمل إلى فصاله سبعة أشهر إنما مست بهم الحاجة إلى كتاب وأعوزهم مؤلفه فالتمسوه بتلك الدعوة يفتشون عنه في ضوء الجائزة.
"إنهم على الأغلب سيعهدون بتدريس الكتاب لغير مؤلفه، فيكون الحاضر لديهم كالغائب عنهم، ولا فضل لدارهم إلا أنها مصدر التلقين، فإذا طبع الكتاب صارت كل مكتبة في حكم الجامعة؛ لأن العلم هو الكتاب لا الذي يلقيه، وإلا ما بالهم لا يعهدون بالتأليف لمن سيعهدون إليه بالتدريس؟ وهل يقتصرون على أن يكون من كفاية الأستاذ القدرة على إلقاء درسه دون القدرة على استنباط الدرس واستجماع مادته حتى لا يزيد على أن يكون هو بين تلامذته التلميذ الكبير" ... !
"لم تنفض إدارة الجامعة يدها من قوم رؤساء الصناعة وظهور مناصبها العالية وألسنة الحكم فيها، ثم تلتمس من ضعف الأفراد ما لم تؤمله في قوة الجماعة وهي تعلم أن الحمل الذي تتوزعه الأكف يهون على الرقاب"١.
ومضى الرافعي يتجنى ويتدلل، وعادت الجامعة تفكر في الأمر؛ ثم أعادت نشر المسابقة لتأليف الكتاب، وزادت الجائزة إلى مائتين والمدة إلى سنتين وتعهدت بطبع الكتاب المختار، وتأهب الرافعي لتأليف كتابه.
انقطع الرافعي لتأليف هذا الكتاب في منتصف ١٩٠٩، وفرغ منه وأتم طبعه في سنة ١٩١١ قبل أن يحل الأجل الذي فرضته الجامعة، ولم يكن الرافعي طامعًا في جائزة الجامعة، ولذلك لم يتقدم لها بكتابه، ترفعًا عن قبول الحكم فيه لجماعة ليس منهم من هو أبصر منه بالمحكوم فيه! ولعله كان يؤمل يومئذ أملًا أكبر من الحصول على جائزة الجامعة.
وكان أسبق المؤلفات ظهورًا لدعوة الجامعة، الجزء الأول من كتاب جورج زيدان، ثم هذا الكتاب الذي بين أيدينا، سبقه ذاك بشهر أو شهرين سبقًا مطبعيا٢.
_________
١ ما بين الأقواس "" هو من المقال الثاني للرافعي في الجريدة، والمقالان منشوران في كتاب "المعركة تحت راية القرآن" للرافعي، طبع دار الكتاب العربي، بيروت، فليرجع إليهما من شاء.
٢ حكاه الرافعي.
1 / 6
هممت أن أتحدث عن هذا الكتاب من حيث آراه وكيف اجتمع لمؤلفه الرأي فيه، وأي نهج سلك، ولكني آثرت أن أدع لقارئه أن يقول قوله مجردًا، غير متأثر بثناء صديق أو مذمة ناقد، وحسبي ما ذكرت من ذلك في كتاب "حياة الرافعي".
ويجد القارئ في ص١٩، ٢٠ من هذا الجزء ثبتًا لأبواب الكتاب في أجزائه الثلاثة، وقد رتبها على اثني عشرة بابًا، أما الأبواب الثلاثة الأولى منها فقد صدر بها الجزءان الأول والثاني، وقد سبق طبعهما في حياة المؤلف، وأما سائر الأبواب فلي حديث عنها في صدر الجزء الثالث؛ إذ خلفه المؤلف على مكتبه ورقات مخطوطة، على أنه قد فرغ من تأليفه -فيما أحسب- منذ بضع وعشرين سنة، ثم صرفته بعض شئون الحياة حتى أعجله الموت عن تمام أمره. يرحمه الله.
السبت: ١٢ من ربيع الأول سنة ١٣٥٩هـ
٢ إبريل نسة ١٩٤٠م
محمد سعيد العريان
1 / 7
صفحة فارغة
1 / 8
مقدمة الطبعة الأولى:
باسمك اللهم أقدم بين يدي فاتحة الكتاب، وبحمدك أتقدم بين يديك إلى ما تفتح من الصواب، وبالصلاة والسلام على نبيك الحكيم أستفتح من حكمة الألباب هذا الباب؛ اللهم فاجعل لكتابي من اسمك فائدة الذكر والبقاء، واكتب له من حمدك معنى القبول والثناء، وألق عليه من أثر الحكمة بركة المنفعة والنماء.
أما بعد: فإن هذا التاريخ علم قد كثرت عليه الأيدي واضطربت فيه الأقلام، واستبقت إليه العزائم حتى عثرت بها عجلة الرأي ولجاجة الإقدام، وقد أخصب في الأوهام، حتى نفشت في واديه كل جرباء١؛ وامتزج أمره بالأحلام، فلم يمس كتابه علماء حتى أصبح قراؤه أدباء؛ على أنهم تجاذبوه انتهابًا فجاء واهيًا في وثيقته٢، وتناكروه اهتيابًا فخرج ضعيف الشبه بين ظاهره حيقيقته٣؛ وما منهم إلا من يحسب أنه أمال بالقلم يده مرخى العنان، مخلى له عن طريق السبق إلى الرهان؛ وإن للقلم لو أطلقوه لنفرة أيسر خطبها الجماح، ولكنه مذلل والطائر أهون ما يطرد إذا كان مهيض الجناح٤.
كثرت الكتب، وهي إما أعجمي الوضع والنسب، وإما هجين في نسبته إلى أدب العرب٥، يلتفت فيها الكلام التفاته السارق إلى كل ناحية٦، ويسرع في مرة إسراع السابق على كل ناجية٧؛ فلا يحققون ولكن يخلدون إلى سانح الخاطر كيفما خطر٨ ولا ينقبون ولكنهم يجدون في كل حجر أصابوه معنى الأثر؛ وإذا كتبوا تاريخ الرجال فكأنهم يكتبونه على ألواح القبور٩؛ ثم ينطلق الكتاب وفي صدره اسم "المؤلف" يسعل به كما يسعل المصدور، وهم لو علموا منطق المعاني لرأوا كلامًا كثيرًا يدعوهم أن يدعوه، وكان يرفعهم، لو أنصفوه ولم يضعوه؛ ولكنهم يأخذون في كل جانب، ويضم ما ضم حبل الحاطب١٠؛ وإنما كان العلم كالروض؛ يقصر بعض أغصانه فيسهل على كل
_________
١ يقال في الكناية عن الخصب: نفشت العنز لأختها؛ لأنها تنفش شعرها وتنصب روقيها في أحد شقيها فتنطح أختها، وإنما ذلك من الأشر. ويقولون في أوصافهم: خلفت أرضًا تظالم معزاها أي: تتظالم.
٢ ضعيف العقدة: كناية عن تراخي التأليف واضطرابه.
٣ الاهتياب، والهيبة: بمعنى، وتناكر الشيء: تجاهله.
٤ الاطراد: جري الشيء، والمهيض: المكسور.
٥ الهجين: عربي ولد من أمة؛ والمراد استعجام نسق التأليف، كما ستعرفه في الفصل التالي.
٦ كناية عن الإضطراب والأخذ من كل جهة.
٧ الناجية: السريعة، وهي من صفات النوق.
٨ سانح الخاطر: ما يعرض لأول وهلة وأكثر ما يكون خطأ؛ وأخلد: مال إليه، أو لزمه.
٩ لا يكتب على هذه الألواح إلا الاسم والتاريخ وشيء من النسب وبعض الأشعار ...
١٠ من المجاز: هو حاطب ليل، للمخلط في كلامه؛ وحبل الحاطب إنما يضم التخليط.
1 / 9
متناول، ويطول بعض فروعه فيكد يد الفارع المتطاول، وهذا التاريخ قد طوي في رءوس أهله فكانت جماجمهم غلاف كتابه، وغابت حقائقه في القبور كما يغيب أثر الميت في ترابه؛ فلم يبق إلا إنفاق الأعمار وسيلة لاستدراك ما فات؛ وليكون ما يموت من عمر الأحياء فداء لآثار الحياة بعد من الموت؛ وفي ذلك هم من الكد يلحف القلوب والأكباد١، وحرية تتلذع حتى في القلم والصحيفة والمداد، وضيق يخيل للباحث أن بين الأوراق، بحارًا ذات أعماق؛ وأن رأسه يصطدم من أحرف السطور، بحروف الصخور؛ وضجر يتوهم به الكاتب أن روحه تثبت من جسده، إلى يده؛ فيجد للقلم خزًا كالحز في الوريد، ومسا من نفسه كمس المبرد للحديد؛ بل يرى كأن المعاني لا تنضج إلا إذا جعل رأسه قدرها، وأوقد من فكره جمرها؛ فيتنسم وكأنه يتنسم بعض دخانها٢ ويزفر وكأنما يزفر من حر نيرانها!
وأنا أصور للقارئ هذا الجحيم الذي خلق للكتاب، ولا ذكرت ما أعد لهم فيه من أنواع العذاب، لأدعي أني الكاتب الذي لا يصرف غيره الأقوال، ولا أن كتابي يعد شيئًا إذا الأشياء حصلت الرجال٣، ولا أن لي محابر الأقلام ومدادها، وبياض الصحف وسوادها؛ فإني لست في هذا "العصر" ممن تخدعه الشمس بطول ظله٤، أو تغره النفس بكثرة وقلة٥؛ ولكني رأيت من كتب في هذا التاريخ يريد أن يستولي على الأمد وادعًا في مكانه، ويلحق الطريدة ثانيًا من عنانه، ويستبد بالسبق من قبل أن يجري في رهانه، ومن ألف فقد استهدف أيما استهداف، والرأي -كما قيل- ميزان ولا يزن الوافي لناقص ولا الناقص لواف؛ ولا أكذب الله؛ فإن كتب القوم في الأيدي كالثياب المتداعية: كلما حيصت من ناحية تهتكت من ناحية٦؛ اقتصروا فيها على تمزيق الأسفار، فجعلوا القلم كالمقراض٧؛ واختصروا من التاريخ أقبح الاختصار، فكأنه لم يكن للعرب أمر ماض؛ وهذا العلم إن لم يزاول بقوة النية خرج ضعيفًا، والقلم غصن روحي فإن لم تروه النفس أصبح قصيفًا.
لا جرم أن هذا التأليف ليس إلا مدرجة التلف، بعد أن أغفله من سلف، وعفا الله عما سلف، وقد يقتحمه رجل الهمم، فلا يلبث من فرقه، أن تراه كالصبي في مشيته يتخلع٨؛ ويركبه فارس القلم، فلا يلبث من نزوه وقلقه، أن تراه كالجبان في سرجه يتقلع؛ فإنما هي حقائق بعضها متمنى فات، وبعضها لا يزال حملًا في بطون المؤلفات؛ فليس الصبر على نقض تراب المناجم، حتى يخرج معدن الذهب، بأشد من الصبر على فض الكتب والمعاجم، حتى يخلص تاريخ الأدب.
_________
١ أي: يلحسها فيشتد عليها.
٢ التنسم: التنفس.
٣ إذا ميزت الأشياء الرجال وأظهرت صفاتهم؛ والجملة شطر بيت لذي الرمة.
٤ وقت "العصر" يبلغ ظل كل شيء مثليه، والتورية في هذه اللفظة.
٥ بكثيره وقليله.
٦ الخوص، والحياصة: الخياطة؛ ومنه المثل: إن دواء الشق أن تحوصه.
٧ يسمي ظرفاء "الصحافيين" هذا النوع من النقل: "التحرير بالمقص"!
٨ تخلع الصبي: تفككه في مشيه حين يدرج.
1 / 10
بيد أني وإن طاولت التعب فيما استطعت من الإتقان والتجويد، وحسبت زمني في إغفال حسابه كأنه عمر ليس فيه يوم جديد، لا أقول إني أتيت منه على آخر الإرادة، ولا أزعم أني أوفيت على الغاية من الإفادة، فلذلك أمر تنصرم دونه أعمار، وللكمال عمر لا يحسب بالسنين، ولكن بالأعصار. وجهد ما بلغت من همة النفس أن أكون بنجوة من التقصير، وأن أدل بما جمعته من حوادث التاريخ على أن عمر التاريخ غير قصير، ولقد رميت في ذلك المرمى القصير، وعالجت منه الطبع والعصي؛ ولو أن لي قلمًا ينفض مداده شبابًا على الأفهام، ويكون في جنة هذا التاريخ آدم الأقلام، لخرج منها وليس عليه من حلته، إلا مثل ما هبط به آدم من "ورق" الجنة في قلته.
بيد أن الورقة من أحدهما: تعد في بركتها بأشجار، ومن الآخر تعدل في منفعتها بأسفار، وحسبي ذلك عذرًا إن جريت على العادة في تقديم الأعذار.
المؤلف
1 / 11
صفحة فارغة
1 / 12
كلمة في هذا التأليف:
لست أريد بما أثبته من هذه الكلمة أن أظهر الاستبصار فيما ألفت من هذا الكتاب، أو استطيل بما تهيأ لي من طريقته؛ فذلك مني جهد المقل، وقوة الضعيف الذي لا يمضي حتى يكل، وبعد فما أنا وهذا الأمر؟ وأين أقع منه؟ هل ولدت مع التاريخ فأكون شاهد نشأته، والقاضي في خصومة أهله، ومن إليه الكلمة في الجرح والتعديل، والطرح والتبديل؟ وهل أنا إلا رجل يقرأ ليكتب، ويكتب ليقرأ الناس؛ فإن أصاب فلهم ولا هم، وإن أخطأ فعليه وخلاهم ذم.
ولكني أريد أن أصف الطريقة التي انتهجتها، وأبين لم خالفت القوم في نمط التأليف إلى ما ابتدعته، وما هو مبلغهم من العلم فيما يقتحمون من تلك الخطة؛ وأن أنزع في ذلك بالدليل وأدعي بالبينة، مستعيذًا
بالله من فتنة القول وزوره، وخطل الرأي وغروره:
اجتمع المتأخرون على جعل التدبير في وضع "تاريخ أدبيات اللغة العربية"١ أن يقسموا هذا التاريخ إلى خمسة عصور: الجاهلية، فصدر الإسلام، فالدولة الأموية، فالعباسية إلى سقوطها سنة ٨٥٦ للهجرة، ثم ما تعاقب من العصور بعد ذلك إلى قريب من هذه الغاية، حيث ابتدأت النهضة الحديثة.
وأول ما ابتدع هذا التقسيم، المستشرقون من علماء أوروبا؛ قياسًا على أوضاع آدابهم مما يسمونه Litterature فهم الذين تنبهوا لهذا الوضع في العربية، فجاءوا به كالمنبهة على فرط عنايتهم بفنونها وآدابها؛ وحسبهم من ذلك صنيعًا٢!
بيد أن تلك العصور إذا صلحت أن تكون أجزاء للحضارة العربية التي هي مجموعة الصور الزمنية لضروب الاجتماع وأشكاله؛ فلا تصلح أن تكون أبوابًا لتاريخ آداب اللغة التي بلغت بالقرآن الكريم مبلغ الإعجاز على الدهر، ولم تكد تطوي عصرها الأول حتى كان أول سطر كتب لها في صفحة العصر الثاني شهادة الخلود وما بعد أسباب الخلود من كمال
_________
١ هذا هو الاسم الذي ضربت به الذلة على كل كتاب عربي، وقلما يغيرون منه إلا لفظة "أدبيات" يبدلونها بآداب، وإني لو لم أكن أعرف أن هذا العلم ينقله الضعفة عن موضوعات اللغات الأعجمية ويحتذون مثالها فيه، لعرفت ذلك من ركاكة هذه التسمية واختبالها، فلا أدري كيف يجعلونها مع فرط ثقلها عنوانًا لآدب اللغة التي توزن حروفها بالألسنة!
٢ أول من ميز الأدب والفنون بالتاريخ هو "باكون" مؤسس الفلسفة الحديثة -توفي سنة ١٦٢٦ للميلاد- فإنه جعل أقسام التاريخ ثلاثة: التاريخ الديني، وتاريخ الاجتماع، وتاريخ الأدب والفنون.
1 / 13
ثم إن تاريخ الآداب فنا من الفنون العملية التي يحذو فيها الناس بعضهم حذو بعض، ويأخذ الآخر منها مأخذ الأول، وتتساوق فيها الأمم على وضع واحد؛ لأنها لا تتغير على الجملة في تعرف مادتها وتصرف أداتها حتى يتعين علينا أن نجعل آداب لغتنا حميلة على آداب اللغات الأعجمية، يفصل على أزيائها، وإن ضاقت به وخرج فيها باذ الهيئة مجموع الأطراف متداخل الأعضاء، وكأنه مشدود الوثاق، أو مأخوذ بالخناق. إنما التاريخ حوادث قوم بعينهم، والآداب اللسانية ليست أكثر من مواضعات يتواطأ عليها أولئك القوم، تخرج منها الحوادث المعنوية التي هي ميراث التاريخ كله في أيديهم من العادات والأخلاق على أنواعها، فتاريخ الآداب في كل أمة ينبغي أن يكون مفصلًا على حوادثها الأدبية؛ لأنها مفاصل عصوره المعنوية، والشأن في هذه الحوادث التي يقسم عليها التاريخ أن تكون مما يحدث تغييرًا محسوسًا في شكله، وأن تلحق بمادته تنوعًا خاصا بنوع كل حادثة منها؛ فإذا لم تكن كذلك لم يكن التاريخ متجددًا إلا باعتبار الزمني فقط؛ وهذا ليس بشيء؛ لأن تغير الزمن طبيعة الوجود؛ من أجل ذلك تجد الأمة التي لا حوادث لها ليس لها تاريخ.
على أن مثل تلك الحوادث التي وصفناها قد تعقم به الأزمنة المتطاولة في تاريخ بعض الأمم، وقد تتساوق في بعض عصورها الراقية: كآداب اللغات الأوروبية؛ وقد تكون منقطعة كما هي في تاريخ الأدب العربي.
وهذا التاريخ فضلًا عن تداخل أدواره بعضها في بعض حتى لا حد بينها ولا يتعين لأحدها مفصل يبتدئ منه، أو ينتهي إليه، فإنما يمتاز عن كل ما سواه بذهاب الكثير من أصول حوادثه، لانقطاع متن التأليف من أول عهده، واضطراب النسق التاريخي فيما ألف بعد ذلك بحيث يستحيل أن تنضد كل حوادثه في متعاقب أزمانه، أو تنزل على مراتب عصوره.
وهذا الجاحظ إمام الكتاب، ورأس الآداب، والذي لا يستعصي عليه من داء القلم إلا ما يعيي طب أساته، ويمتنع أن يكون من قدرة كاتب متأخر وضع دوائه في دوانه، قد حاول بعض ذلك مرة في باب من كتابه "البيان والتبيين"؛ فلم يصنع شيئًا، ورهقه من العجز ما سوغ له أن يجعل عجزه في معنى استطاعته، فاكتفى به عذرًا.
قال في باب أسماء الخطباء: "كان التدبير في أسماء الخطباء وحالاتهم وأوصافهم، أن نذكر أسماء أهل الجاهلية على مراتبهم، وأسماء أهل الإسلام على منازلهم، ونجعل لكل قبيلة منهم خطباء، ونقسم أمورهم بابًا بابًا على حدته، ونقدم من قدمه الله ﷿، ورسوله ﷺ في النسب، وفضله في الحسب؛ ولكني لما عجزت عن نظمه وتنضيده تكلفت ذكرهم في الجملة" ا. هـ١.
هذا على أنه في شباب اللغة وريعان الأدب، والرواة يومئذ متوافرون، ومادة العرب لا تزال باقية؛ فكيف بنا وقد بعد العهد، وانقطعت الأسانيد، وبليت الصحف؛ وليس التدبير في أسماء
_________
١ عجز الجاحظ أيضًا عن ترتيب شواهد كتاب الحيوان، كما صرح بذلك في باب الضب في المصحف السادس من كتابه، وإن كان هذا العجز من معاني الفوضى التي اقتضتها طبيعة الأدب يومئذ.
1 / 14
الخطباء الذي أعجز الجاحظ وهو ما هو، إلا جزءًا مما يجب من التدبير في أصول التاريخ كله إذا وسعنا في الكثير ما ضاق عنه في القليل؛ ولكن الذي ينظر أمامه إلى حد، فلما ينتبه إلى مقدار ما وراءه مما لا يحد.
وعلى هذه السبيل وضعت الكتب في "تاريخ أدبيات اللغة العربية"؛ فقد تصوروا حدودًا معينة من الزمن، لا يلبث أحدهم أن يمد إليها قلمه حتى يتجاوزها ويكاد يؤرخ ما في الغيب أيضًا.
وقد رأينا لتاريخ لحضارة في كل أمة راقية أربعة أبواب متفرقة على أركانه: وهي الأدب، والسياسة، والدين، والعلم فتلج الأمة في باب الأدب إلى نوع الكمال في عواطفها، ومن باب السياسة إلى مبلغ القوة في كيانها، ومن باب الدين إلى درجة السعادة في أنفسها، ومن باب العلم إلى ما تعز به في مجتمعها من هذه الثلاث. بيد أن تلك الأركان لا تستوي في جميعها ضعفًا وقوة، ولا في اعتماد أصل التاريخ على بعضها دون بعض؛ فقد كانت دعامة التاريخ العربي في قيامه أدبية محضة، ثم جاء الدين فاستتبع السياسة والعلم، لا جرم كان للأدب عندهم تاريخ خاص لا يمتزج بالدين ولا بالسياسة ولا بالعلوم، إلا من جهات معلومة تعرف بها وجوه الاتصال بين أجزاء تاريخهم في جملته وإفضاء بعضها إلى بعض في المخالطة والارتباط.
وبديهي أن تعاقب ثلاثة عشر قرنًا من تاريخ الأدب الإسلامي لم ينشىء لغة أفصح مما نطقت به العرب قبل ذلك، ولا جاء بشعر يباين أشعارهم في الجملة، ولا جعل لأدبائنا مذاهب متميزة في تكوين الدين والسياسة والعلم، بل ليس في تعاقب تلك العصور الأدبية على الأغلب إلا موت رجال وقيام رجال، وإلا أمور عرضية مما يترك في مادة الأدب آثارا قليلة تدلل على اختلاف القرائح وتباين الغرائز في أولئك الرجال قاموا عليه، وتاريخها متعلق بمواقع رجالها من طبقات الزمن؛ ثم هي من قلتها بحيث لا تبلغ إلا أن تلوي عليها بعض عرى التاريخ ويبقى سائره على تفصيله الذي أشرنا إليه آنفًا.
إذا تدبرت هذا وأنعمت على تأمله، علمت السبب في حشو ما تراه من كتب الأدبيات التي ترتب على العصور بالطم والرم١ من تاريخ العلوم الدينية والدنيوية، وبالتراجم الكثيرة التي تخرج بشطر الكتاب إلى أن يكون سجل وفيات، ثم بتعداد الكتب والمؤلفات التي تلحق شطره الآخر بكتب الفهرست. ومؤلفو هذه الكتب لا يدرون أنهم مرغمون على ذلك بحكم هذه الطريقة العقيمة التي تتبنى ولا تلد؛ إذ ليس في تفتيش القبور عن بقايا الحياة إلا العظام، ومن يرجع إلى ورائه لا يقطع شيئًا إلى الأمام!
ثم هم يجهلون أن لتاريخ كل أمة تباين غيرها مباينة طبيعية مزاجًا معنويا تتعلق به حوادثها، كما تتعلق أخلاق الفرد بنوع مزاجه الفطري؛ ومن أين يكون للعصبي في أبواب التحمل والأناة والسعة والخفض ما يكون لذي المزاج الليمفاوي مثلًا؟ فأيما امرؤ أجرى على الاثنين حكمًا واحدًا ظلمهما
_________
١ كل ما لا يراد منه إلا الكثرة.
1 / 15
كليهما، وكذلك الأمر في أمزجة التاريخ.
وأنت خبير بأن الرجال في تاريخ الآداب الأوروبية هم قطعه التي يتألف منها؛ لأنهم متصرفون في اللغة كأنها إنما توضع لعهدهم أوضاعًا جديدة، فكل رجل منهم في طريقته ومذهب فن علم "؟ "، أو هو على الحقيقة قطعة متميزة في تركيب التاريخ العقلي؛ ولكن الرجال عندنا في قياسهم بأولئك ينزلون منزلة التشبيهات من المعاني الأصلية؛ إلا ما ندر، ولا حكم للنادر؛ وذلك لأن في لغتنا معنى دينيا سرها وحقيقتها، فلا تجد من رجل روى أو صنف أو أملى في فن من فنون الآداب أول عهدهم بذلك، إلا خدمة للقرآن الكريم؛ ثم استقلت الفنون بعد ذلك وبقي أثر هذا المعنى في فواتح الكتب؛ والقرآن نفسه حادثة أدبية من المعجزات الحقيقية التي لا شبهة فيها، وإن لم يفهم سر ذلك "من لا يفهمونه".
أفيصلح بعد هذا أن يكون تاريخ الأدب العربي مبنيا على غير حوادثه التي كونته وتعلق بأكثرها رجاله دون أن تتعلق بهم، كما هو الشأن في سواه؟
على أن المستشرقين فيما أرى لم يختاروا ذلك الوضع إلا لمكان العجمة منهم، إذ لا سليقة لهم في العربية وآدابها، وإن كان منهم رءوس في بعض فنون التاريخ العربي، ثم لأنهم يتعجلون الفائدة كيف أصابوها، فأيا ما يضعوا من ذلك فلهم به فضل؛ ثم هم يكتبون لأنفسهم ولأقوامهم، فلا يبالون بما تفتق عليهم هذه الطريقة التي يستمرون عليها. ولكن ما بال أدبائنا "أصلحهم الله" قد أضلوا الحجة وجهلوا بموضع الشبهة، فتابعوا على غير نظر وكانوا جميعًا في ذلك كإن وأخواتها فيما يعمل وما يكف؟ وما بالهم وهم بقية العرب وأهل اللسان وحفظة الكتاب، لا يأنفون أن يعدوا من "أدبيات اللغة" تاريخ علم الفلك مثلًا، وإن كانت روائع الألفاظ تشبه بالنجوم، ولا أن يقرنوا علم الصرف بعلم الكيمياء. وإن كان لكل منهما "وزن" معلوم١.
إن صنيع أولئك "المستشرقين" وهؤلاء "المستغربين" لا يعتبر في حقيقة التأليف إلا توسعًا من ضيق، وتوفيرًا من فلة، وإغراقًا في الحشد والاجتلاب؛ والفرق بعيد بين علم يورد منه المؤلف إشباعًا لكتاب، وبين كتاب يفرده إشباعًا للعلم نفسه؛ ولهذا بقي تاريخ آداب العرب محتاجًا إلى طريقة أخرى، لا يختصر فيها الزمن بسرعة النقل، ولا يرفه على الفكر بهذا "الاضطراب الرياضي" في وثوبه بين الكتب، ولا يستر فيها قبح التأليف بحسن التقسيم، ولا يقوى ضعف المعنى بما يكون من العناية، ولا تنفق الفصول الهزيلة سمنًا بما تلبس من الأوراق الكثيرة!
ولم تسقط دولة العقول في هذه الأمة إلا منذ ابتدأ العلماء يعتبرون العلم فهم العلم كما هو؛ فتهافتوا على ذلك باختصار الكتب وشرحها وتفتيقها بالحواشي والتعاليق "الهوامش"، وتلخيص
_________
١ كان العرب في صدر الإسلام يسمون ما عرف يومئذ من العلوم -كالنحو والفرائض- بعلوم الموالي، ويأنفون منها لأنها غميزة في سلائقهم، ثم لما استبحر العلم بعد شباب الدولة العباسية كان العلماء يفرقون بين "أنواع العلوم وأصناف الآداب" كما يؤخذ من طبقات الأدباء لابن الأنباري، وكل ذلك لأن المذاهب العلمية "اختصاص لا اختصار".
1 / 16
المتون؛ ونحو ذلك مما يورث الاضمحلال، ويفقد العقل معنى الاستقلال، ويجعل القرائح كالظل المتنقل: كل آونة يقرب إلى الزوال.
وقد بلغ من أثر ذلك أن صار العلماء يجهلون حتى أسماء العلوم التي لم تمسخ على أيديهم، وخاصة في مصر؛ فهذا شيخ الإسلام محمد بن عبد البر السبكي المتوفى بدمشق سنة ٧٧٧هـ يقول: إنه يعرف عشرين علمًا لم يسأله عنها بالقاهرة أحد.
ونقلوا عن القاضي عز الدين بن جماعة المتوفى سنة ٨١٩هـ -وهو الذي كان يفاخر به المصريون علماء العجم في كل فن، ويشيرون إليه في أنواع المعقول- أنه كان يقول: أعرف ثلاثين علمًا لا يعرف أهل عصري أسماءها!
وكل ذلك من وناء الهمم، واجتماع العلماء من هذه الشروح على ما يشبه تشريح الرمم، حتى ليس إلا "قال وقيل، وإن قلت قلت، وفيها قولان......" ولعمري ما جبل "قاف" إلا جزء من هذه السلسلة ... ١.
وإذا كان عمود التاريخ سياقة الحوادث كما أسلفنا، فلا تزغم هذه الحوادث على أن تقع في غير وقتها، وتنفصل عن طبيعتها، وتتصل بغير طبقتها في التاريخ؛ ولذلك رأينا الطريقة المثلى أن نذهب في تأليفنا مذهب الضم لا التفريق، وأن نجعل الكتاب على الأبحاث التي هي معاني الحوادث لا على العصور؛ فنخصص الآداب بالتاريخ، لا التاريخ بالآداب كما يفعلون؛ وبذلك يأخذ كل بحث من مبتدئه إلى منتهاه، متقلبًا على كل عصوره، سواء أتسقت أم افترقت؛ فلا تسقط مادة من موضعها، ولا تقتصر على غير حقيقتها، ولا تلجأ إلى غير مكانها، ثم لا يكون بعد ذلك في التاريخ إلا التاريخ نفسه، لا ما يزين به من العبارة المونقة، ولا ما توصل به الحقائق القليلة من تصورات الخيال وشعر التآليف، إلى أمثال ذلك في مواضع الاستكراه وضيق المضطرب؛ وأمثلته فيما بين أيدينا ماثلة لا تحتاج إلى انتزاع، وهي على نفسها شاهدة فلم يبق في أمرها نزاع.
وإذا تدبرت طريقتنا هذه، وقابلت آثارها بما شئت من آثار الطريقة الأخرى، وأحكمت ذلك بعقل راجح؛ وأنعمت فيه بنظر غير مدخول رأيت أي: هذه الكتب أحسن قيامًا على تاريخ الأدب، وأوفى بالحاجة منه، وأرد بالفائدة على طالبه، وتبينت أيها أضعف منزعة من الرأي والتدبير في طريقته، بما يكشف لك خلو باطنه من ورم ظاهره، وما تجده من سرعة الاتصال في هذا "الفراغ المعنوي" بين أوله وآخره.
المؤلف
_________
١ مما نورده تفكهة، أن بعض العلماء كان لا يقرأ دروسه إلا في كتب مخطوطة -تحققًا بالعلم- ومن عادتهم في المخطوطات أن يكتبوا أوائل الكلمات في الشروح والحواشي بالحمرة؛ فكان صاحبنا يدفع نسخته لأنبغ طلبته، يقرأ فيها ثم يشرح هو بعده، وكان إذا فرغ القارئ من جملة في المتن، أعادها الشيخ ومطل بها صوته وفخم كلماتها حتى يفرغ منها على هذا الوجه، ثم يبتدئ الشرح بقول للقارئ: قال أيه، قال: "شوف عندك الحمرا يا سيدي شوف".
1 / 17
صفحة فارغة
1 / 18
نمط الكتاب وأبوابه:
قد قلنا في طريقة الكتاب؛ أما تأليفه وأسلوبه ونمطه فإننا لم نأل جهدًا في البحث والتنقيب، ولم نأخذ في أمرنا بالرسلة، ولا استوطأنا منه الهين الهين؛ بل طاولنا ما طال من التعب، وصابرنا ما يعز عليه الصبر من الضجر، وما زلنا نرد النفس على مكروهها حتى استقرت، فلم نترك كتابا يمكن أن يستفاد منه حرف مما نحن بسبيله إلا قرأناه في طلبه١، وحملنا على النفس ما يكون من نصبه، وهذا أمر كما ترى متطاول، ومنال ولكن لم نجد له لبعده من متناول، ثم إن مواد هذا التاريخ إذ لم يتولها الكاتب بالذهن الشفاف، ولم يعتبرها بالفطنة النفاذة حتى يكون لغيبها كالعراف، فقلما تجتمع إلا متفرقة في طلب مواضعها، منازعة إلى منازعها؛ لأنها في أصلها غير كاملة النسق، ولا قريبة المتسق؛ ومن تحرى ما تحريناه من ذلك يقف من تاريخ الأدب على غور بعيد.
ولم نبالغ في تهذيب العبارة، ولا تدقيق المعاني، ولا تنقيح الألفاظ؛ إذ كان سبيل التاريخ أن لا يجيء عن طبقة واحدة من الناس، فبالحري لا يوضع لطبقة واحدة منهم، وحسبنا من البلاغة أن يكون كتبانا لمقتضى الحال.
ولم نستكثر من الأمثلة "والمختارات"؛ رغبة منا عن حشو الكتاب بما لا فائدة فيه إلا تعذيب حجمه، وتذنيب نجمه؛ إذ كان ذلك لا يغني شيئًا في مادة التاريخ إلا قليلًا منه يستوفى به حق النقد، ويدل ببعضه على أثر من آثار ما نحن فيه، والأمثلة مطروحة في طرق النظر من كل كتاب، وقد ابتذلها المتأخرون حتى لم يعد من دونها حجاب٢.
وكذلك ضربنا صفحًا عن الروايات الضعيفة، والمبالغات السخيفة، وما اعترضنا من التكاذيب والتهاويل إلى ما يدل في تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وبالغنا في التثبت والتحقيق وتصفح الآراء وتجريح النقلة والرواة، مقتصدين في الثقة بهم، معتدلين في التهمة لهم، لا نتجاوز مقدار
_________
١ اصطلح بعض المتأخرين على أن يذكروا في مؤلفاتهم أسماء الكتب التي ينقلون عنها؛ ويعينون مواضع النقل ليخرجوا من تبعة ما ينقلون إذا كان خطأ، فيلقون ذلك على الكتاب زيادة في حسنات مؤلفه١.
وقد كان سبيل الرواية عند محققي المتقدمين أن يذكر الرواية سنده في كل ما يرويه للقطع بصحته أو فساده، إذ العدالة شرط في الصحة؛ فإن لم يذكر أنه روي عن فلان عن فلان إلخ يسميهم، لم تعرف عدالة المروي عنهم، ولا يوثق بصحة ما يرويه؛ وبذلك لا يكون ذكر السند إلا لإثبات الصحة، وسيأتيك هذا البحث مستفيضًا. أما نحن فلما لم يكن لنا سند. وكنا نستهجن أن نثبت شيئًا لا نمخض الرأي فيه ولا نثق بصحته بعد تقدم النظر، دون أن ننبه عليه إذا مست الضرورة إلى إثباته فقد أهملنا ذكر الكتب؛ لأن ذلك تطويل من غير طائل؛ ولأننا نبسط كل معنى نأخذ فيه، ولم نعين مواضع ما ننقله لأن علينا تبعته.
٢ لعلنا نتبع هذا التاريخ بكتاب "القرائح العربية" الذي انتقينا فيه عيون الكلام نظمه ونثره إن شاء الله!.
قلت: وكم كان للمؤلف ﵀ من آمال أعجله الموت دون تمامها؛ ومن بينها هذا الكتاب!
1 / 19
الصواب حتى نقبل ما لا يعقل، ولا مقدار الوهن حتى نلحق ما يقبل بما لا يقبل.
وقد جعلنا أبوابه اثني عشر بابًا تنطوي على جملة المأثور، ويدور عليها التاريخ كما تدور السنة على عدة الشهور، وهذه سياقتها بعد فصلين من التمهيد في تأريخ الأدب، وأصل العرب:
"الباب الأول": في تاريخ اللغة ونشأتها وتفرعها وما يتصل بذلك.
"الباب الثاني": في تاريخ الرواية ومشاهير الرواة وما تقلب من ذلك على الشعر واللغة.
"الباب الثالث": في منزلة القرآن الكريم من اللغة وإعجازه وتاريخه، وفي البلاغة النبوية ونسق الإعجاز فيها.
"الباب الرابع": في تاريخ الخطابة والأمثال: جاهلية وإسلامًا.
"الباب الخامس": في تاريخ الشعر العربي ومذاهبه والفنون المستحدثة منه وما يلتحق بذلك.
"الباب السادس": في حقيقة القصائد المعلقات ودرس شعرائها.
"الباب السابع": في أطوار الأدب العربي وتقلب العصور به وتاريخ أدب الأندلس إلى سقوطها، ومصرع العربية فيها.
"الباب الثامن": في تاريخ الكتابة وفنونها وأساليبها ورؤساء الكتاب وما يجري هذا المجرى.
"الباب التاسع": في حركة العقل العربي وتاريخ العلوم وأصناف الآداب جاهلية وإسلامًا "بالإيجاز" التاريخي.
"الباب العاشر": في التأليف وتاريخه عند العرب ونوادر الكتب العربية.
"الباب الحادي عشر": في الصناعات اللفظية التي أولع بها المتأخرون في النظم والنثر وتاريخ أنواعها.
"الباب الثاني عشر": في الطبقات وشيء من الموازنات١.
هذه هي حوادث التاريخ وأبوابه، ومنها كما ترى فصوله وكتابه، وأنا أسأل الله أن يكون قد كتب فيه من السلامة ما يحقق به الفائدة للقراء، وأن يهب له من حسنات أهل الإنصاف ما يكفر عن سيئات أهل المراء. والحمد لله على ما أنعم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
_________
١وزعت هذه الأبواب على أجزاء الكتاب كما يلي: حوى الجزء الأول البابين، الأول والثاني، وحوى الجزء الثاني الباب الثالث، وكان يفرض -حسب هذا التقسيم- أن يحوي الجزء الثالث من "تاريخ آداب العرب" الأبواب الباقية، أي: من الباب الرابع إلى آخر الباب الثاني عشر، ولكن المشرف على الطبعة الأولى للجزء الثالث، المذكور، بين في المقدمة التي صدر بها ذلك الجزء، أنه لم يجد بين أوراق المخطوطة، أوراقًا تتضمن الأبحاث التي تؤلف الأبواب الرابع والثامن والتاسع والثاني عشر، حسبما أشار المؤلف. ولعله -أي: المؤلف- كان ينوي الكتابة فيها ولم يفعل.
لمزيد من المعلومات عن تكوين الجزء الثالث تراجع مقدمة المشرف المشار إليها. "الناشر".
1 / 20
تمهيد
الفصل الأول: الأدب- تأريخ الكلمة
...
تمهيد:
الفصل الأول: الأدب.
الأدب: تاريخ الكلمة.
تقلبت هذه اللفظة في العربية على ثلاثة أدوار لغوية، تتبع ثلاث حالات من أحوال التاريخ الاجتماعي؛ فهي لم تكن معروفة في الجاهلية وصدر الإسلام إلا بما يؤخذ من معناها النفسي الذي ينطوي فيه وزن الأخلاق وتقويم الطباع والمناسبة بين أجزاء النفس في استوائها على الجملة، وكل ما هو من هذا الباب؛ ومنه الحديث الشريف: $"أدبني ربي فأحسن تأديبي". ولعل ذلك كان توسعًا منهم في أصل مدلول الكلمة الطبيعي، على ما هو معروف من أمرهم في اشتقاق اللغة وانتزاع بعضها من بعض؛ فإنهم يقولون: أدب القوم يأدبهم أدبًا، إذا دعاهم إلى طعام يتخذه. والقوم أهل بادية مقفرة تأكل فيها الشمس حتى ظلها، وتشرب نسيمها وطلها، فإذا هلك فيها الزاد هلك حامله، وإذا لم يدفع عن نفسه بأسلحة فمه فالجوع قاتله؛ ولذلك تمدحوا من أقدم أزمنتهم بالقرى وعدوه من أعظم مفاخرهم؛ لأنه شريعة الطبيعة التي أدبتهم هذا الأدب، بل هو شعرها في أخلاقهم، إذ ارتقى بعد ذلك بارتقاء الشعر حتى تخرقوا فيه، كما يؤثر عن كرمائهم وأجوادهم مما استوعبته كتب المحاضرات.
فلما كان هذا الخلق مظهر الخيم الصالح فيهم، وحقيقة الأدب الطبيعي منهم، وأرقى معاني الإنسانية عندهم؛ لأنه ليس وراء إمساك الحياة على الحي غاية، توسعوا فيه بمقدار ما بلغوا من رقي الآداب، وجعلوه تعريفًا نفسيا كما مر؛ ولا بد أن يكون ذلك بعد أن ارتقوا في اجتماعهم، واشتبكت العلائق بينهم، حتى أخذت الفطرة الطبيعية تمتزج في أكثرهم بما يخالطها من صنعة الاجتماع، وكان ذلك سببًا في انتباههم في هذا الوضع؛ لأن الأدب على اختلاف معانيه إنما هو رد النفس إلى حدود مصطلح عليها اصطلاحًا وراثيا.
ثم لما جاء الإسلام ووضعت أصول الآداب، واجتمعوا على أن الدين أخلاق يتخلق بها، فشت الكلمة، حتى إذا نشأت طبقة المعلمين لعهد الدولة الأموية كما سيجيء، أطلق على بعض هؤلاء لفظ المؤدبين، وكان هذا الإطلاق توسعًا ثانيًا في مدلول "الأدب" لأنه اكتسب معنى علميا إذ صار أثرًا من آثار التعليم.
ثم استفاضت الكلمة وكانت مادة التعليم الأدبي قائمة بالرواية من الخبر والنسب والشعر واللغة
1 / 21
ونحوها، فأطلقت على كل ذلك، ونزلت منزلة الحقائق العرفية بالإصلاح؛ وهذا هو الدور الثالث في تاريخها اللغوي، وهو أصل الدلالة التاريخية فيها.
وقال ابن خلدون في حد الأدب: "هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب ليفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة، والأخبار العامة. والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه ... ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف. ا. هـ.
فهذا كما ترى ثبت لما قررناه؛ لأن كل ما عدوه من موضوع الأدب إنما هو مادة الرواية، وعلى ذلك يستحيل أن يكون معنى الأدب الاصطلاحي جاهليا، ولا أن يكون من مصطلحات القرن الأول؛ لأن الكلمة لم تجئ في شيء من شعر المخضرمين ولا المحدثين، وقد كانوا أهلها ومورثيها من بعدهم لو أنها اتصلت بهم أو كانت منهم بسبب. والعجب أنك تجد لهم القوافي الطويلة على الباء وقد استوعبوا فيها الألفاظ، إلا مادة الأدب ومشتقاتها، مع أنه ليس أخف منها عند المتأخرين ولا أعذب ولا أطرب ولا أعجب، والسبب في ذلك ما ذكرناه وما نذكره.
بلى، قد روى صاحب "العقد الفريد" في باب الأدب من كتابه كلمة أسندها لعبد الله بن عباس ﵄ وهي قوله: "كفاك من علم الدين "أن تعلم"١ ما لا يسع جهله، وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل"، ومقتضى ذلك أن "علم الأدب" كان بالغًا من الإتساع في عهد ابن عباس حتى صار أقل ما لا يسع جهله منه رواية الشاهد والمثل للقرآن والعربية، وهو نهاية الغرابة والشذوذ؛ لأن ابن عباس توفي فيما بين سنة ٦٨ و٧٤هـ، على اختلاف أقوال المؤرخين، ولم يكن يومئذ بالتحقيق ما يصح أن يسمى علم الأدب.
وقد تناقل المتأخرون هذه الرواية عن العقد الفريد دون أن ينتبهوا لما فيها من فساد الدلالة التاريخية، ولكن الصحيح أن الكلمة لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، كما أسندها إليه الجاحظ في كتاب البيان. ومحمد هذا هو أصل الدولة العباسية؛ لأنه أبو السفاح أول الخلفاء العباسيين، وتوفي سنة ١٢٥ وقيل ١٢٦هـ، ومما يرجح فساد تلك النسبة إلى ابن عباس، قول عمرو بن دينار فيه: ما رأيت مجلسًا كان أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس: الحلال والحرام والعربية والأنساب والشعر. ولو كان لفظ الأدب معروفًا يومئذ لاجتزأ به وطوى فيه الثلاث؛ فالكلمة إذن من موضوعات القرن الثاني، أي: بعد أن بلغت الدولة الأموية مبلغها من المجد العربي.
_________
١ سقطت هذه الكلمة من نسخ العقد الفريد.
1 / 22
أما في القرن الأول فقد كانوا يسمون ما يقرب من ذلك بـ"علم العرب" كما ذكره المسعودي في "مروج الذهب" إذ نقل عن المدائني حديثًا تصادر عليه ابن عباس وصعصعة بن صوحان، وفيه أن ابن عباس بعد أن سأل الرجل عن قومه وعن الفارس فيهم ونحو ذلك مما يتعلق بالأيام والمقامات قال: أنت يابن صوحان باقر علم العرب١. وما كان الأدب الاصطلاحي بأكثر من هذا العلم يومئذ.
وبعد أن عرفت حدود الأدب في القرن الثاني واشتهرت الكلمة، بقيت لفظة "الأدباء" خاصة بالمؤدبين، لا تطلق على الكتاب والشعراء، واستمرت لقبًا على أولئك إلى منتصف القرن الثالث، ومن ذلك كان منشأ الكلمة المشهورة "حرفة الأدب" وأول من قالها الخليل بن أحمد صاحب العروض المتوفى سنة ١٧٥هـ، وذلك قوله كما جاء في "المضاف والمنسوب" للثعالبي: "حرفة الأدب آفة الأدباء"؛ لأنهم كانوا يتكسبون بالتعليم ولا يؤدبون إلا ابتغاء المنالة، وذلك حقيقة معنى الحرفة على إطلاقها٢.
فلما فشت أسباب التكسب بين الشعراء في القرن الثالث، وبطلت العصبية التي كانت تجعل للشعر معنى سياسيا فاتخذوه حرفة يكدحون بها، وجعلوه مما يتدرع به إلى أسباب العيش، جائزة خليفة أو منادمة أمير أو ما دون ذلك من الأسباب أيها كان انتقل إليهم لقب الأدباء، للمناسبة بين الفئتين في الحرفة، ولم يلبثوا أن استأثروا به لتوسعهم في تلك الأسباب.
ثم جاء ابن بسام الشاعر المتوفى سنة ٣٠٣هـ فجعل "الحرفة" نبزًا، وأخرجها عن وضعها اللغوي إلى معنى مجازي غلب على حقيقتها واستبد بها فأرسلها مثلًا. وذلك فيما رثى به عبد الله بن المعتز حين قتل في سنة ٢٩٦هـ ودفن في خربة بإزاء داره بعد جلال الإمارة وعزة الملك إذ يقول:
لله درك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لو ولا ليت فتنقصه ... لكنما أدركته "حرفة الأدب"
وهذا هو أصل الكلمة التي تعاورها الأدباء، واعتبرها الشعراء ميراثًا دهريا إلى اليوم، وإنما يتناولها ابن بسام من لغة العامة، وطبعها على شيء من عبث أخلاقه التي بلغت من هجاء الأمراء والوزراء وذوي المكانة من الناس إلى هجاء أبيه وإخوته وسائر أهل بيته حتى سنها طريقة، فيقال لمن يقفو أثره في عبث اللسان: "إنه يجري في طريق ابن بسام".
ثم صارت الآداب من يومئذ تطلق أيضًا على فنون المنادمة وأصولها، وأحسب ذلك جاءها من
_________
١ الباقر: المتبحر في العلم، وبه سمي محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم لتبحره.
٢ يقال: أحرف الرجل إحرافًا، إذا نما ماله وكثر، والاسم الحرفة من هذا المعنى. قال قطرب: والحرفة عند الناس: الفقر وقلة الكسب، وليست من كلام العرب، إنما تقولها العامة.
1 / 23
طريق الغناء؛ إذ كانت تطلق عليه في القرن الثالث؛ لأنه بلغ الغاية من إحكامه وجردت فيه الكتب، وأفردت له الدواوين من مختارات الشعر، كما سنفصله في موضعه، وكانوا يعتبرون معرفة النغم وعلل الأغاني من أرقى الآداب، وفيها وضع عبيد الله بن طاهر من ندماء الخليفة المعتضد بالله المتوفى ٢٨٩هـ كتابه "الآداب الرفيعة"١. لذلك قال ابن خلدون: إن الغناء في الصدر الأول كان من أجزاء هذا الفن "الأدب" وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصًا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه.
وقد ألف كشاجم الشاعر الرقيق الذي كان طباخ سيف الدولة بن حمدان كتابه "أدب النديم" أودعه ما لا يستغني عن شريف، ولا يجوز أن يخل به ظريف؛ وهو مطبوع مشهور. وعلى هذه الجهة قال أبو القاسم إسماعيل بن أحمد الشجري من شعراء القرن الرابع أيضًا، وقد جمع "حرف" الآداب:
إن شئت تعلم في الآداب منزلتي ... وأنني قد عداني العز والنعم
فالطرف والسيف والأوهاق تشهد لي ... والعود والنرد والشطرنج والقلم٢
وكل ذلك إنما كان في تاريخ البلدين، أما الأعراب فلم يجر عليهم حكم الأدب، ولم يتناولوا الكلمة على إصطلاحها، وإنما اتخذ بعضهم لقب الأديب يتمدح به على جهة ما ينشأ عنه من معاني الرقة الحضرية التي تقابل في طباعهم الجفاء ولوثة الأعرابية، كقول بعضهم، أنشده الجاحظ:
وإني على ما كان من عنجهيتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب٣
ولم ينتصف القرن الرابع حتى كان لفظ "الأدباء" قد زال عن العلماء جملة، وانفرد بمزيته الشعراء والكتاب في الشهرة المستفيضة، لاستقلال العلوم يومئذ وتخصص الطبقات بها، على ما كان من ضعف الرواية ونضوب مادتها حتى قالوا: "ختم تاريخ الأدباء بثعلب والمبرد". وكانت وفاة المبرد سنة ٢٥٨هـ، وثعلب سنة ٢٩١هـ؛ فيكون ختام تاريخ الأدباء "أي: المعلمين" في أواخر القرن الثالث، ومن يومئذ أخذ الأدب يتميز عن علم العربية، بعد أن كانوا يعدون "الأدباء" أصحاب النحو والشعر، وإن كان ذلك بقي موضوع علم الأدب؛ ومن هذا أنه لما وضع علي بن الحسين المعروف بالباخرزي٤ كتابه "دمية القصر" الذي جعله ذيلًا على "اليتيمة" للثعالبي، عقد فيه فصلًا "لأئمة الأدب" قال في أوله: "هؤلاء قوم ليس لهم في دواوين الشعر رسم، ولا في قوانين الشعراء اسم" ثم ترجم طائفة من علماء اللغة: كأبي الحسين بن فارس صاحب "فقه اللغة"، وابن جني النحوي، وأسد
_________
١ تصلح هذه الكلمة أن تكون تعريبًا لما ترجمه المتأخرون "بالفنون الجميلة" Beaux arts وعبيد الله هذا كان نادرة في الغناء، قال صاحب الأغاني: إنه توصل إلى ما عجز عنه الأوائل من جمع النغم كلها في صوت واحد تتبعه هو وأتى به.
٢ الطرف: الكريم من الخيل، والأوهاق: جمع وهق، قال الليث: هو الحبل المغار يرمي في أنشوطه فتؤخذ به الدابة والإنسان، وغرض الشاعر أن يجمع حرف الكدية التي ينال بها، وسيأتي تفصيل ذلك في بحث الشعر.
٣ العنجهية: الحمق والجهل، واللوثة: الهيج والحمق أيضًا، والمراد بكل ذلك جفاء الأخلاق.
٤ نسبة إلى باخرز: ناحية من نواحي نيسابور، وقتل علي هذا في بعض مجالس الأنس ٤٦٧.
1 / 24