وقد عاب علي بعضهم أني أكتب عن الملوخية والبامية والفول المدمس. وإنما فعلوا ذلك لبعدهم عن الشعب وتعلقهم بمذاهب قاحلة من الأدب، وأنه يجب أن يترفع عن الحديث عن هذه الأطعمة العامية وأن يتحدث عن «الترف الذهني». وأنا أختلف معهم من حيث إني أعتقد أن الأدب رسالة إنسانية لخدمة المجتمع وإنهاض الإنسان.
وفقراء شعبنا الذين أفقرهم وأجاعهم الاستعمار الأجنبي والاستبداد الوطني لا يحتاجون أن نصف لهم طاقات الورد وبتلات الياسمين.
لا، ليس الجمال غاية الأدب، وإنما غايته هي الإنسانية.
والإنسانية تطالب الأديب الإنساني قبل كل شيء بتوفير الطعام للشعب، ثم بعد ذلك الورد والياسمين ...
وحياتي الماضية في الصحافة والأدب والعلم يمكن أن تعد فشلا أو نجاحا.
فهي فشل يكاد يكون تاما من الناحية المالية لشخصي. فقد احترفت الصحافة منذ 1914 حين أخرجت مجلة المستقبل. وبقيت على هذه الحرفة - مع انقطاعات قهرية تدوم سنوات أو شهورا - إلى هذا العام. واشتغلت في جملة صحف ومجلات وأخرجت «المجلة الجديدة» 14 عاما، وألفت نحو أربعين كتابا.
ومع كل ذلك كنت - كي أعيش - أبيع ما أملك مما ورثت. كما أن وزارة «المعارف» لم تشتر قط بما قيمته مليم واحد من مؤلفاتي ولم تشترك في «المجلة الجديدة» سنة واحدة. وهناك صحفيون زاملوني لا يقل مجموع كسبهم في هذه السنين عن 30 أو 40 ألف جنيه. بل إن بعضهم كانت وزارة «المعارف» تشتري مؤلفا واحدا منه بألف جنيه دفعة واحدة. وكذلك هناك مجلات شهرية أو أسبوعية - دون ما أصدرت أنا من مجلات - بلغ اشتراك هذه الوزارة فيها ما لا يقل عن عشرين ألف أو ثلاثين ألف جنيه. بل إن محطة الإذاعة المصرية عاملتني بما يشبه المقاطعة كأني لست مصريا؛ حتى إني لأستطيع أن أقول إني لم ألق فيها في السنوات العشر الأخيرة أكثر من خمسة أحاديث. بينما غيري قد ألقى فيها نحو 400 أو 500 حديث في هذه المدة.
ومنح كثير من الأدباء جوائز لم أحظ أنا بجزء من مائة منها ... وهذا نجاحهم، وهذا فشلي.
أما نجاحي أنا فمن طراز آخر، هو أني استطعت أن أغير شباب مصر والشرق العربي إلى حد بعيد، وأوحيت إليهم استقلالا وشجاعة واعتمادا على العلم والرأي العصريين. أي جعلتهم يتطورون ويحيون حياة جديدة. وأكسبتهم بصيرة للمستقبل يعرفون بها ما فيه من ميزات وأخطار.
واستطعت أن أستنبط لهم أسلوبا كتابيا عصريا يؤدي - إلى حد ما - ما يحتاجون إليه من فهم. كما أني لم أتأخر عن التنبيه إلى ضرورة الأخذ بالحروف اللاتينية عندما اقتنعت بأن حروفنا العربية الحاضرة تعوق ارتقاءنا العلمي وتحد من ثقافتنا.
Bog aan la aqoon