ولذلك كان خلع فاروق انتصارا للقومية المصرية العربية وليس محض انتقال من النظام الملوكي إلى النظام الجمهوري؛ لأن الانتقال الأكبر كان من الحكم التركي الكردي الذي عاش 776 سنة إلى الحكم المصري العربي الذي سيعيش إلى الأبد بإرادة الشعب. •••
كان فساد الحكم - قبيل خلع الشقي فاروق - قد بلغ أقصاه. وكانت السراي تستخدم كل من شاءت من الموظفين، وخاصة الجواسيس، لتعقب جميع الذين يشتبه في سلوكهم نحوها. وما زلت أذكر أن صديقي محمد خالد الكاتب الناهض المعروف زارني ذات يوم. وقعدنا في مكتبتي وتجاذبنا الحديث عن الفساد العام في الأحزاب والزعماء وجرأة فاروق على العدوان. وتبادلنا كلمات تساءلنا فيها إذا كان فاروق ينوي قتلنا في الشارع؟ وأن من الأصوب ألا نبقى خارج منازلنا إلى ما بعد الغروب. وكان قد شاع عن فاروق أنه يقتل خصومه. ولم يكن أسهل من قتلنا في الظلام على أيدي الجواسيس أو القبض علينا وطرحنا في أحد السجون ثم الادعاء بأننا متنا بالسكتة.
وكانت تهمتنا وقتئذ أننا كنا نريد قلب نظام الحكم من الملوكية إلى الجمهورية. وتقدمت جاسوسة معروفة كانت تختلط بالأدباء وتصادق أديبا «كبيرا» بهذه التهمة لنا - أنا والدكتور مندور - إلى السراي. وقامت النيابة العامة بالتحقيق وأفرجت عنا بعد اعتقالي 15 يوما واعتقال مندور 50 يوما.
ولذلك كان يوم خلع فاروق يوم التهاني تصل إلي عن طريق التليفون وبالمصافحة في الطريق وبالزيارة لبيتنا حين كنا نقدم الشربات للمهنئين. ومما يذكر مع السرور أن ضغط الدم عندي كان على الدوام حوالي 180، ولكن بعد طرد هذا الشقي من مصر انخفض إلى 150. وبقي على ذلك إلى الآن.
وفساد فاروق يعود - كما هو الشأن في جميع الفاسدين - إلى الوسط الفاسد الذي نشأ فيه. فإن تربيته الأولى أيام الطفولة والصبا كانت تتجه نحو حرمانه مما كان يشتهي من طعام؛ لأن أباه المغفل فؤاد كان يعتقد أن هذا الحرمان سوف يصنع منه رجلا يضبط شهواته. ولكن الذي حدث أن فاروق تعلم سرقة الطعام كما تعود خدمه الخاصون به تهريب الطعام إليه. فنشأ على اعوجاج في الأخلاق يقصد إلى مآربه بطرق سرية ملتوية غير صريحة.
ولما مات أبوه انفرج بعد الضيق فأصبح يأكل كما لو كان ثورا. ومن هنا هذا الإفراط في السمن الذي انتهى إليه.
ولما أصبح ملكا وجد أن النظام الحزبي في مصر يتيح له أن يستغل الخلافات والمتناقضات فيضرب حزبا بآخر كي تنتهي السلطة إليه وحده. فإذا كان حزب الوفد يطالب بالحد من سلطانه وهو في الحكم، فإن حزب الأحرار الدستوريين يسلم له - وهو خارج الحكم - بما بخل به عليه حزب الوفد؛ فيطرد الوزارة الوفدية ويأتي بوزارة من الأحرار الدستوريين. أما حكم الدستور ففي التراب.
وكان فاروق يجد - مع الأسف - من يؤيده من السفلة في هذا السلوك الإجرامي نحو الوطن.
ولكن أي وطن؟ إن مصر لم تكن وطنه إلا من حيث الشكل. وكان مكانه منها الإقطاعي يستغل أبناءها. ولم يتعلم قط تاريخها ولم يدرس لغتها ولم يهدف إلى أهدافها، وهذا شأن أسرته كلها منذ أيام محمد علي؛ أي منذ 150 سنة. بل ماذا أقول؟ كان شأنه شأن الحاكمين الأتراك والأكراد منذ صلاح الدين الأيوبي إلى 1952.
وكان الشعب مع الوفد على الدوام إلى سنة 1950.
Bog aan la aqoon