وليس من السهل أن يكشف الإنسان عن ضميره الديني كيف تكون ثم نما ثم تبلور في قليل من الاتجاهات الأخلاقية الرئيسة، ثم تجوهر في اتجاه مفرد يجذب إليه كل ما في الشخصية من نشاط روحي. ولكني أذكر أني - وأنا دون العشرين - أحسست أن نظرية التطور تأخذ مكانا دينيا في نفسي وأنها قد حملتني واجبا روحيا. وقد نما هذا الواجب في نفسي إلى واجبات. ذلك أن آفاق الحياة لم تتسع فقط بنظرية التطور، بل زادت في العدد واللون، كما شسع بها تاريخ البشرية شسوعا عظيما . ذلك أننا قد فهمنا من هذه النظرية أن كل حي على هذه الأرض لا يقل عمره عن 700 مليون سنة؛ لأن كل إنسان قد كان في وقت ما طينة نبضت بالحياة، فإذا به فيروس ثم أميبة مفردة ثم أميبات متصلة متعاونة، ثم حيوان رخو بلا رأس، ثم سمكة، ثم زاحفة، ثم حيوان لبون، ثم قرد، ثم إنسان. ثم هذا الإنسان سوف يكون سبرمانا.
فهنا قرابة تطورية بيننا وبين الحيوان. وفي هذا معنى ديني جليل لأننا والأسود والكلاب والقياطس والسمك أبناء عمومة. وكنا قد قطعنا على هذا الكوكب نحو 700 مليون سنة. وقد انقرض بعضنا وبقي بعضنا الآخر. ولكن مع هذا الانقراض وهذا البقاء يتجه التطور في مجموعة نحو ما نفهم من الرقي البشري: وجدان موضوعي يأخذ مكان العواطف الذاتية، أي عقل يسمو على الغرائز. وإذن نجد أن للرقي البشري أساسا طبيعيا. بل إن هذا الرقي مفروض علينا وواجب حتم بل واجب ديني بحيث يتطور الفرد وتتطور الأمة وتتطور الدنيا. ومن يعارض التطور ويدعو إلى الجمود يكفر لأنه يعارض الدين. وليس التطور كله منطقا نستطيع أن نقيم عليه البرهان الناصع لأن فيه كثيرا من التسليم. ومن هنا كانت المشابهة بينه وبين العقائد الدينية. وليس من الضروري - كي يكون لنا دين أو ضمير ديني - أن نؤمن بالغيبيات؛ لأن المعارف العلمية في أيامنا تكسبنا نزعات دينية. فهناك رجال الثورة الفرنسية مثلا، فقد اشتطوا وألغوا الديانة المسيحية، وأسسوا ما أسموه «ديانة العقل». والإنسان العادي حين يقرأ تاريخهم ويصفهم الوصف المألوف يقول إنهم «كفرة». ولكنا عندما نتأمل سلوكهم نجد أنهم كانوا مسوقين بروح ديني، بل أكثر من هذا بعقائد دينية. وهنا تعجبني كلمة قالها ماتزيني الوطني الإيطالي: «ليس هناك انتصار للروح البشري أو خطوة ارتقائية للمجتمع البشري إلا ومرجعها عقيدة دينية راسخة.»
وفي سني أجد أن مصادر ديانتي - أو بالأحرى ضميري الديني - إلى جنب البوذية والإسلام والمسيحية واليهودية والهندوكية، تعود في كثير من النور الذي أهتدي به، إلى السيكلوجية والبيولوجية والأنثربولوجية والتاريخ. فإن هذه العلوم قد أفدت منها مغزى المأساة البشرية، مأساة ماضينا وحاضرنا وآمالنا في المستقبل. ولذلك كانت ديانتي موضوعية منطقية لا ذاتية عقيدية فقط.
ومع أني نشأت في المسيحية واحتضنتني الكنيسة أيام طفولتي وصباي فإنها كانت في تلك السنين الأولى من عمري في جمود لا يحمل على الحماسة أو يبعث الولاء أو يربي الضمير. وليس شك أن الكنيسة القبطية قد نهضت هذه الأيام، وهي الآن غير ما كانت عليه قبل خمسين سنة.
وقد تغير إحساسي نحوها تغيرات مختلفة؛ فقد عزفت عنها أيام الشباب لأن وطأة العلوم العصرية كانت شديدة على نفسي. ثم عدت إليها في حنان فوجدت فيها تاريخنا المعذب الممزق، ووجدت صوت الفراعنة ينطق عاليا من منابرها. فأصبحت الكنيسة القبطية عندي كنيسة قومية مصرية. ولكن لم يكن هناك دين إذ كان كل هذا إحساسا تاريخيا.
أجل! قد يقال هذا القول، وأنا أسلم بصحته إلى حد ما، ولكن الإحساس التاريخي ينطوي أيضا على إحساس ديني. ولست أشك أني حين انكببت على دراسة الفراعنة، إنما كنت أنبعث بروح ديني قومي. والدراسة الصحيحة للتاريخ يجب أن تكون موضوعية علمية كما يدرس أي علم. ولكن قلما نستطيع ذلك إذا كنا ندرس تاريخنا القومي.
وقد عرفت حوالي 1935 المرحوم كامل غبريال (باشا)، وكان قد درس اللغتين القبطية والفرعونية، وحاول أن يحملني على درسهما. ولكن سني المتقدمة حالت دون ذلك. وقد نهضت هذه اللغة في بعض الأوساط القبطية، ولكنها لم تبلغ المكانة التي بلغتها اللغة العبرية بين اليهود، أي أن تصير لغة التخاطب والتفاهم بل التأليف؛ فإن اليهود الصهيونيين قد انقلبوا إلى عبرانيين وأحيوا لغتهم التي كانت قد انقرضت حتى في أيام المسيح. وظني أنهم يخسرون بذلك؛ لأن هذه اللغة لن تتسع للثقافة العصرية. كما أن الأرلنديين الوطنيين قد خسروا أيضا بإحياء لغتهم القديمة؛ لأن اللغة الإنجليزية خير لهم - ولو أنها لغة الفاتحين الغاصبين - من لغتهم التي لن تتسع للثقافة العصرية.
وما زلت أذكر الأثر السيكلوجي في صديقي كامل غبريال (باشا)؛ فإنه لتعلقه بلغة الفراعنة صد عن المسيحية باعتبارها ديانة أجنبية قد طردت الديانة المصرية القومية. وكان كثيرا ما يعقد المقارنات بين عقائد الكتاب المقدس - التوراة والإنجيل - وبين عقائد الفراعنة، كي يقنعني بأفضلية الثانية على الأولى من حيث الأخلاق السامية والقيم البشرية العالية.
وقد كان أثر العقليين كبيرا جدا في نفسي؛ حتى إني لخصت أحد الكتب التي كانوا ينشرونها وهي «نشوء فكرة الله» لجرانت ألين. وأصدرت هذا التلخيص في نحو ثلاثين أو أربعين صفحة في مصر حوالي 1912. ويرى القراء هذا الكتيب ضمن كتابي «اليوم والغد». وقد كان هدف المؤلف أن يثبت تسلسل الأديان، وأن التوحيد الحاضر يرجع إلى الأديان القديمة. ولم يكن جرانت ألين مصيبا في جميع افتراضاته، ولكنه استهواني في تلك السنين للنظر المادي الذي اتبعه في تفسير الغيبيات. وبعد ذلك عرفت «الغصن الذهبي» لفريزر. وهو موسوعة رائعة للعقائد القديمة وتسلسلها إلى أيامنا تحت أستار مختلفة. ثم زادني نورا تلك البحوث المتشعبة التي قام بها إليوت سمث وزملاؤه في إيضاح الأثر الذي تركته العقائد المصرية القديمة. وهذه المؤلفات لفريزر، وإليوت سمث - مع تناقضها أحيانا - هي تربية خصبة وتثقيف سام لكل من يدرسها. ولا يستطيع إنسان أن يصف نفسه بأنه مثقف إلا إذا عرفها. ولكن اهتماماتي بهذه الدراسات وقتئذ لم تكن دينية بل كانت تاريخية.
على أن اهتمامي بالدين بدأ وأنا حوالي الأربعين. ذلك لأن النضج الديني - مثل النضج الجنسي - لا يأتي إلا في ميعاد. فقد شرعت أقرأ الكتب المقدسة جميعها في عناية، وأشغل نفسي بالمشكلات الدينية الهندوكية. وكنت أجد فتنة في أنبياء التوراة بل في أسلوب التوراة. كما أني وجدت أن القوة الجاذبية في شخصية المسيح كبيرة جدا. وقد مضى علي نحو عشرين سنة وأنا أحلم بتأليف كتاب عن شخصية المسيح بحيث أكتب في حرية الضمير مع إيماني به وحبي له. ولكني كلما كنت أفكر في الالتباسات التي سوف تنشأ بيني وبين بعض القراء، كنت أنكص وأنا في أسف ومرارة. لأني أكره أن أؤلم المطمئنين المستقرين الذين قد لا يجدون الطمأنينة واليقين في السيرة التي أرويها، مخلصا، أنشد الحقائق ولا أبالي غيرها. وموقفي هنا هو موقف تولستوي ورينان.
Bog aan la aqoon