في 1908 سافرت إلى فرنسا وهبطت باريس:
شباب وفراغ وباريس، وأنا في التاسعة عشرة، ولكن لا! فإن باريس عندي لم تكن مدينة الأنوار التي كان يحج إليها المصطافون ويجدون فيها ما يشتهون؛ لأن هذا الذي يشتهونه قد وضع لهم وحدهم؛ إذ إن سواد الباريسيين يجهله. وباريس من حيث الانغماس الجنسي تعد من أنسك العواصم الأوروبية. ثم كانت شهواتي الملتهبة في تلك السنين ذهنية أكثر مما كانت جنسية. وكانت الدهشة عندي على أعظم ما تكون حين وجدتني في مجتمع يخالف المجتمع الذي نشأت فيه في مصر، ولم تكن دهشة منبهة فقط بل كانت صدمة موقظة.
كنت في مصر قبل 1908 أعرف الحجاب وأرتضي شعائره ولا أجد غرابة أو عيبا في التلميذات الصغيرات يدخلن المدرسة السنية الابتدائية وعلى وجوههن براقع بيض. وكنت أجد الفصل بين الجنسين شيئا مألوفا. والبيت في مصر خدر كامل ونساؤنا مخدرات كاملات. ولا أكاد أذكر أني طوال عمري في مصر قبل سفري إلى فرنسا قد تحدثت إلى آنسة أو قعدت إلى سيدة أو فتحت عيني في وجه امرأة مصرية. فلما وجدت المجتمع الباريسي واختلطت به ورأيت فيه المرأة الفرنسي على حريتها وصراحتها وطلاقتها؛ شعرت أن أفقا جديدا يتفتح أمامي لم يستطع يعقوب صروف أو فرح أنطون أن يفتحه لي من قبل. فإنهما لم يمسا هذا الموضوع - أي حرية المرأة - لسبب واضح وهو أنهما مسيحيان. وكانا بالطبع يخشيان أن يعاب عليهما النقد للعقائد أو التقاليد الإسلامية. ولم أكن قد عرفت قاسم أمين أو بالأحرى لم أتحمس له. ولا أدري العلة لغيابه عن وجداني في ذلك الوقت؛ لذلك كنت حين أضطر إلى محادثة إحدى الباريسيات أحس ارتباكا يغمر كياني فلا أجد اللعثمة في لساني فقط بل التخاذل أيضا في سائر أعضائي. وقد احتجت إلى سنوات كثيرة حتى أتغلب على هذا الشعور المتعس الذي غرسته في نفسي تسع عشرة سنة من الفصل بين الجنسين في مصر.
وواضح أن هذا الشلل النفسي منع عاطفة الحب أو كظمها في الوقت الذي كان يجب أن تنفرج فيه أو تتسامى؛ ذلك أن الحب فنا كنا نجهله نحن في مصر في تلك السنين. وكانت أية محاولة مني نحو التعارف الحميم بآنسة تنتهي بخيبة تكوي القلب والعقل معا. وفي مصر في وقتنا هذا من ينظر إلى الاختلاط بين الجنسين بعين المقت أو النفور، ولكني حين أقارن حالي سنة 1909 وما كنت عليه من تعس جنسي ووكس عاطفي بحال شبابنا الآن في سرورهم ولهوهم أراني مضطرا إلى الاعتراف بأنهم سعداء يغتبطون في ظروف كنت أنا فيها شقيا يرثى لي.
وحبست نفسي في مدرسة ابتدائية في قرية قريبة من باريس تدعى موليري من قرى القرون الوسطى. واندغمت في عائلة ناظر المدرسة، وشرعت أتعلم اللغة الفرنسية في نشاط ومثابرة حتى نبزت بين المعلمين بعبارة «كيه فوديرسا» أي «ما المعنى؟» وذلك لإلحاحي على السؤال. ولم تمض أشهر حتى وجدتني أقرأ الجريدة اليومية بل الكتاب في فهم وتعقل بمساعدة المعلم. وكان انتفاعي بجرائد فرنسا اليومية عظيما؛ لأنها وجهتني في السياسة وجهة عالمية كانت جرائدنا في مصر في ذلك الوقت تعجز عنها. وانقطعت صلتي بمصر باستثناء «الجريدة» التي كان يصدرها لطفي السيد، وكان يلقن بها تعاليمه الجديدة: مصر للمصريين لا للأتراك ولا للإنجليز. حرية المرأة. الحكومة الدستورية بإيجاد برلمان. وكان يكتب في هذه الشئون وغيرها بأسلوب اقتصادي بعيد عن الزخارف التي كنا نتعلمها في المدارس الثانوية ونحسب أنها قمة البلاغة وتاج الفصاحة. وقد عرفت أن مجلة «المقتطف» قد جمعت هذا العام 1945 عددا كبيرا من مقالاته التي كتبها بالجريدة فيما بين 1907 و1914. والقارئ يستطيع أن يجد في هذه المقالات ذلك التوجيه الوطني الذي وجدته أنا في تلك السنين منها.
وكانت المرأة الفرنسية - كما قد عرف القارئ مما ذكرت - أعظم ما حرك وجداني الاجتماعي، بل كذلك حرية المرأة في أوروبا الغربية؛ فإن هذه الحرية كانت لهبا يلسع ويجرحني في كرامتي الوطنية كلما ذكرت حال المرأة المصرية. وإلى هذه السنوات وإلى هذا الوجدان تعود ثورتي بعد ذلك على التقاليد المصرية التي لم أعد أطيق صبرا عليها. وكثيرا ما فقدت صداقات كنت أحرص عليها لموقفي من هذه التقاليد، بل هناك من أصدقائي من يقول إني فقدت مكاسب.
وبعد ذلك قرأت هنريك إبسن ودعوته إلى شخصية مستقلة للمرأة، ثم عرفت المنظمات والجمعيات النسوية التي كانت في لندن تطالب بحقوق الانتخاب والنيابة. وامتلأ قلبي وذهني نورا وتفاؤلا بمستقبل البشر.
وقد نشأت في مصر في وسط ريفي؛ ولذلك التفت إلى الريف في فرنسا وتعلمت منه. فإننا في مصر لا نرحل إلى الريف إلا مضطرين كارهين؛ لأننا نتوقع الغبار على السكك والإهمال الصحي في المساكن. وريفنا فضلا عن هذا صحراء الروح لما يخيم عليه من جهل وفاقة وقذر للجسم كأنه الدنس للنفس . ولكن ريف فرنسا جنة العين. وكنت أجد السعادة العظمى في فسحة أقضيها ماشيا على الطرق الزراعية التي يكسوها البلاط - وقتئذ - بين حقول تموج بحركة الحياة النامية في البقول أو تزدان بالكروم وأشجار الفاكهة الزاكية. وما زلت أذكر ذات مرة أني رأيت على مسافة في جولاتي هرما صغيرا أحمر أثار استطلاعي فقصدت إليه، فلما بلغته وجدته شجرة قد كساها التفاح الأحمر كاد يخفي أوراقها ...
والقرية الفرنسية - مهما صغرت - تحتوي كثيرا من المرافق الاجتماعية حتى لكأنها مدينة صغيرة؛ فإن فيها المطعم والحانة والفندق والسوق الأسبوعية. ولذلك كثيرا ما يقضي الباريسي أسبوعا أو شهرا في الريف كما يقضي أحدنا مثل هذه المدة في الإسكندرية أو رأس البر.
وفي الحرب الكبرى الثانية أشار الماريشال بيتان شبهات وشكوكا بشأن المجتمع الفرنسي أوهمت كثيرا من القراء المصريين أن هذا المجتمع مريض قد تفككت فيه العائلة وتزعزع الإيمان. والواقع أن كل هذا وهم؛ فإنه ليس في أوروبا عائلة متماسكة كالعائلة الفرنسية. ولا يزال نظام هذه العائلة بطريركيا لا تخرج فيه السلطة عن الأب. وليس في كل أوروبا الغربية أمة تحترم الكنيسة كما يحترمها الفرنسيون. وحسب القارئ أن يعرف أن جميع الكنائس في فرنسا - وبعضها ينفرد في ريف ناء - تترك مفتوحة ليلا ونهارا، ومع ذلك لا يسرق ما فيها من الأثاث الغالي الذي يقدر أحيانا بمئات أو ألوف الجنيهات. وهذا على الرغم من حرية الفكر المستفيضة. لا بل على الرغم من الدعايات النشيطة ضد الدين والكنيسة. وما زلت أذكر منظرا كان له أثر الصدمة الموجعة لأول شهر كنت فيه في باريس في 1908؛ فقد رأيت جنازة تسير في أحد الشوارع تتقدمها راية قد كتب عليها «لا رب ولا سيد!»
Bog aan la aqoon