أما الحادث الثالث فهو رؤية السلطان عبد الحميد وهو يقصد من قصره إلى المسجد لصلاة الجمعة، وكنا نحن المتفرجين قد اصطففنا على الطريق وأمامنا الجنود الأتراك في صف عسكري. وكانت المدافع تطلق قنابلها والنواقيس تدق في المسجد، على غير مألوفنا في مصر. والمؤذن يهتف باللغة العربية، ويدعو إلى الصلاة. وخرج عبد الحميد في عربته وكان قد تجاوز الشيخوخة إلى الهرم المتحطم، فكان منحنيا يكاد رأسه يلمس ركبتيه. وكانت العربة تسير على مهل وهتاف القائد: «بادي شاه شوك يشا.» يبعث في كل منا حماسة تاريخية وإن تكن غير ديمقراطية. ولكن أفسد علينا هذه الحماسة التاريخية منظر آخر هو ضابط شركسي كان واقفا قريبا منا، وكان غاية في جمال الوجه وفتنة القوام، وزادت هذا الجمال شكته العسكرية الزاهية. وكان إلى جنبي وخلفي سيدات أجنبيات فأخذت عيناي تتجسس عليهن كي أرى وقع هذا المنظر فيهن، وكان ما توقعت؛ فقد تركت أعينهن عبد الحميد وتجمعت نظراتهن في بؤرة مفردة هي هذا الضابط الشركسي. وهكذا انتصر عرش الجمال والشباب على عرش السلاطين الأتراك.
وقطعت الطريق من إستامبول إلى باريس على مراحل قصيرة كي أرى العواصم الأجنبية حتى استقررت في باريس. وسأروي في فصل آخر ماذا رأيت في فرنسا. وكنت قد تركت مصر عقب خروج كرومر الطاغية الإنجليزي الذي عاث وعربد في كياننا الاقتصادي والسياسي، وعطل بلادنا من التطور، وكان السبب لخروجه فظيعة دنشواي التي فضحت الاستعمار البريطاني في جميع أنحاء العالم المتمدن.
ولم يكتب إلى الآن في اللغة العربية تاريخ كرومر؛ فقد كان هذا الرجل جاهلا يتشدق بعبارات لاتينية أو إغريقية قديمة، ولا يعرف شيئا من العلوم العصرية الجديدة. ولما ترك مصر استخدمته مجلة «اسبكتاتور» في لندن لكتابة النقد للكتب السياسية الجديدة. وكنت أقرأ مقالاته هذه وأنا في لندن فلا أجد نورا أو معرفة، ولكن حذلقة لغوية جوفاء وآراء سخيفة مغرضة. وكان استعماريا مسرفا في الاستعمار، فمنع التعليم، وخاصة تعليم المرأة، وقتل الصناعة المصرية، وأحال القطر المصري إلى عزبة للقطن. ولما أصر السر هنري كامبل بانرمان رئيس وزارة الأحرار على طرده من مصر عقب فظيعة دنشواي وقف في دار الأوبرا يودع أصدقاءه الإنجليز وأعداءه المصريين فقال هذه الكلمات التالية التي تدل على حنقه وعجزه، وذلك في 4 مايو من 1907:
أخاف أن أكون قد أتعبتكم أيها السادة بطول الكلام، ولكن ما قلته إلى الآن كان عن الماضي، فإذا تكرمتم علي بالإصغاء فإني أقول شيئا عن المستقبل.
ما هي حقائق الحال المصرية الآن؟ أولها أن الاحتلال البريطاني سيدوم إلى ما شاء الله. وقد قالت لنا حكومة صاحب الجلالة الملك ذلك رسميا . والثاني أنه ما دام الاحتلال البريطاني باقيا فالحكومة البريطانية تكون بالضرورة مسئولة عن الخطة التي تجري عليها الحكومة المصرية. ولا يكونن عند أحد أقل ريب في هذه الحقيقة الثابتة. والنتيجة التي أستخلصها من هذه المقدمة أن نظام الحكم الحاضر دائم.
وإذا كانت هذه الكلمات تدل على حنقه فإنها أيضا توضح سياسته التي اتبعها في مصر.
وجاء بعد كرومر من يدعى جورست، وكان قد أدرك أن الخديوي عباس يرأس الحركة الوطنية ويؤيد مصطفى كامل في جهاده الوطني، وأراد أن يجتذب الخديوي إلى الإنجليز، فاخترع ما كان يسمى «سياسة الوفاق»؛ أي إن الإنجليز يجدون المحالفة مع الخديوي أسوس له وأنفع لمصالحهم من الخلاف المستمر والتصادم بينهم وبينه. وكان ما أراد جورست؛ فإن الخديوي تنكر لمصطفى كامل بعدما أطلقت يد الخديوي في «نظارة» الأوقاف، بل أصبح يناوئ حزب الأمة الذي كان يطالبه بالدستور. وكان أحمد لطفي السيد قد أصدر - بمعاونة بعض الأعيان - «الجريدة»، وجعل رسالتها الأولى الدعوة إلى الدستور. وكان من وقت لآخر يحمل على الخديوي لأنه تتاح له الفرصة لمنح الدستور ولكنه لا يمنحه. ووقعت البلاد من هذا «الوفاق» بين عميد الاستعمار البريطاني وأمير البلاد في هاوية من اليأس. وتوطدت الصداقة بين عباس باشا وجورست حتى إنه عندما مرض هذا سافر إليه الخديوي وزاره في لندن وهو في فراش الموت كما سبق أن ذكرت.
ثم كان هذا الانبعاث الوطني الجديد في الأمة، فعمد جورست إلى مناورة استعمارية أخرى هي إيجاد الخلاف والشقاق بين المسلمين والأقباط. فكان الموظفون الإنجليز يحرضون الأقباط من ناحية على المسلمين ثم يعودون فيحرضون المسلمين من ناحية أخرى على الأقباط. وشرعت المصالح الحكومية تخرج إحصاءات غير مطلوبة كي تبين عدد الموظفين من القبط والمسلمين. وشرع كل فريق يعقد المؤتمرات ويطالب بطلبات كأن مصر لم يعد لها طلبات قبل الإنجليز المعتدين علينا جميعا، وإنما صار كل ما نطمع فيه أن يطلب المسلمون من الأقباط ترك هذه الوظائف أو تلك، ويطلب الأقباط من المسلمين هذا الحق أو غيره. وهكذا انتهى جورست إلى «تهنيد» مصر. وسعد الإنجليز وشقينا نحن ونسينا الدستور ونسينا الاستقلال. وخيم الشر على الأمة؛ حتى إن كاتبا يدعى عبد العزيز جاويش كتب في اللواء جريدة الحزب الوطني يقول في رعونة إن المسلمين كانوا يستطيعون أن يصنعوا نعالا من خدود الأقباط ...
وعاشت مصر أياما سودا اغتبط فيها العدو وابتأس الصديق. وقتل بطرس غالي باشا رئيس الوزراء فحمل قتله على أنه ثمرة التعصب الديني. وهكذا تحققت الأسطورة التي اخترعها إدوارد جراي وزير الخارجية البريطاني كي يبرر بها فظيعة دنشواي وهي أن التعصب الإسلامي قد فشا في مصر وعم أفريقيا الشمالية. واستغل المستعمرون هذه الأسطورة.
ومات جورست قبل أن ينال جميع الثمرات التي كانت ينتظرها من الوقيعة التي غرسها بين الأقباط والمسلمين. وجاء بعده كتشنر - وكان عسكريا فظا غليظ العقل يحمل حقدا قديما على الخديوي - وبقي إلى 1914، وكانت غايته محو الحركة الوطنية وضم مصر إلى الممتلكات البريطانية. وسار سيرة الضغط والعداء للأمة والخديوي، وأفشى التجسس في الحكومة، وأرسل بعثة مصرية إلى موسكو كي يتعلم رجالها طرق التجسس التي كانت تستعملها حكومة القيصر نيقولا في مكافحة الأحرار الروس حتى تصل إلى شنقهم أو نفيهم إلى سيبريا. وأقام قلعة تحت ستار ثكنة في ميدان باب الحديد لا تزال قائمة إلى الآن وعلى كل زاوية منها مزاغل من الحديد. وكنت أقرأ هذه الأخبار في الجرائد التي واظبت على الاشتراك فيها وأنا بفرنسا وكلي يأس واغتمام. وكانت تصل إلي أيضا خطابات خاصة من أقاربي وأصدقائي الأقباط وهم حانقون على إخوانهم المسلمين، وخاصة لهذا المقال البذيء الذي كتبه ذلك الكاتب الشاطح عبد العزيز جاويش عن خدود الأقباط تصنع نعالا، في نقاش صحفي بين جريدتي اللواء والوطن.
Bog aan la aqoon