ولا تزال ذكريات الصداقة والرفقة بيني وبين ميخائيل عذبة في ذهني. ولم أعرف صديقا بعد ذلك لازمني وتناسقت معه في الصداقة المنيرة المربية سوى عزمي الدويري الذي عرفته في 1930 وفقدته في 1944. وكان في بداية صداقتنا خاما أخضر في ثقافته يقرأ الكتب العربية ويستضيء بمصابيح خافتة. ولكنه بعد أن عرف المؤلفين الأوروبيين انغمس في المذاهب الأوروبية والسياسية الجديدة واستضاء ذهنه بها وصار يمتاز بالعقلية العالمية. وجر عليه هذا النور الجديد عسفا من البوليس السياسي لم يباله. وكنت كثيرا ما أذكره بإعجابه القديم بأدباء البهرجة البلاغية ثم احتقاره لهم بعد ذلك فيضحك كثيرا. بل الحق أنه استحال بعد أن عرف الآداب الأوروبية خصما لهم يعد وجودهم عائقا لتطورنا الثقافي والسياسي. وظني أن هذا هو اختبار جميع المنتقلين من الأدب العربي إلى الأدب الأوروبي حين يقرءونه في لغاته الأصلية غير مترجم. وقد ترك موت عزمي في نفسي لوعة لما تنطفئ.
وقد رأيت أخواتي يمتن واحدة إثر الأخرى. والموت يفقد لذعته عندما تكون السن متقدمة؛ لأن الرحلة الأخيرة إلى الليل الطويل تسير هونا والموت يأتي على ترقب. ولكن عندما كان الموت يفجأ إحداهن وهن لا يزلن في بداية العقد السادس أو السابع كان وقعه في القلب ووطأته على العقل يحدثان جمودا كأنه كابوس اليقظة، ولكن السنين تحيل بكيمياء الزمن هذه الكوارث، حتى إني عندما أذكرهن الآن أحس الحزن عليهن في حنان ورقة وليس في ألم وغضب.
وأستطيع الآن أن أعرض لجميع الشخصيات البارزة في عائلتنا، سواء أكان هذا البروز للفضيلة أم للرذيلة، وهذه الشخصيات هي الآن فوق الخمسين أو الستين. وعندما أرجع بذاكرتي إلى أيام طفولتهم وإلى الظروف البيئية الأولى التي سعدوا أو تعسوا بها أجد التعليل الكافي لسلوكهم الحاضر. وأستطيع أن أقول - في ضوء ما أعرف من سيرتهم، بل أحيانا سيرتهم الحميمة - إن التعاسة الأولى التي ينكب بها أي إنسان في حياته إنما هي التدليل، وإن التعاسة الثانية هي الاضطهاد. فجميع أولئك الذين لقوا تدليلا أو اضطهادا في عائلتنا أيام طفولتهم فسدوا. ومعنى «الفساد» هنا ليس العجز عن الكسب أو حتى العجز عن الانتصار المألوف في معركة الحياة. ولكني أعني ذلك الفساد الاجتماعي الذي يقارب الإجرام بل هو إجرام تخفيه رفاهية العيش؛ فإن الشخصية السيكوباتية التي وصفها صديقي الدكتور صبري جرجس في كتابه واضحة في عائلتنا في جميع أولئك الذين لقوا تدليلا أو اضهادا أيام طفولتهم. وقد يقع الاضطهاد لأن زوجة الأب أساءت إلى ابن زوجها في المعاملة وميزت عليه أطفالها دونه فعلمته المكر والخبث والكذب والغش؛ فنشأ على هذه الأخلاق التي صار يعامل بها المجتمع. ولكن في ذهني زوجة أب أخرى عاملت ابن أختي الدكتور رزق الله موسى في طلخا بالنزاهة والرفق والحب، فنشأ قديسا. وفي ذهني آخر في الخامسة والستين من عمره دلله أبواه فنشأ وكل حياته جرائم. ولكن أولئك الذين وجدوا النزاهة والإنصاف في التربية أيام الطفولة هم إلى الآن - في شيخوختهم - مثال الطيبة والإحساس الاجتماعي السامي.
القاهرة فيما بين 1903 و1907
في عام 1903 اجتزنا امتحان الشهادة الابتدائية، وكنا في القطر كله لا نزيد على ثلاثمائة أو أربعمائة تلميذ. وعقد الامتحان في القاهرة. ولم يكن بالقطر كله سوى ثلاث مدارس ثانوية كانت في نظامها ثكنات يتسلط عليها الإنجليز بالأوامر العسكرية والعقوبات العسكرية. والتحقت بالمدرسة التوفيقية ثم بالمدرسة الخديوية، وكان شمال المدرسة التوفيقية وشرقها وغربها أرضا زراعية لا يباع الفدان فيها بأكثر من مائتي جنيه وقد ارتفع سعر الفدان الآن 1947 في هذه الأرض بالذات إلى نحو عشرين ألف جنيه. ولم يكن للمالكين أي فضل في هذا الثراء ولم يتعبوا لإيجاده؛ إذ إن الفضل لسكان القاهرة وتقدم المدنية.
وكان الإنجليز يحاربون شيئين في الأمة لا ثالث لهما. وكانوا يكفلون بقاءنا في ظلام الجهل وذلة الفقر بهذين الشيئين، وهما التعليم والصناعة، ونجحوا في ذلك نجاحا عظيما؛ فلم يسمحوا طوال إشرافهم على وزارة المعارف بإنشاء مدرسة ثانوية للبنات في أي مدينة من مدن القطر. وكانوا يعلموننا أن بلادنا زراعية لا تلائمها الصناعة، كأن القدر قد قضى علينا بالفقر الأبدي. وكانوا يصرون على المحافظة على «تقاليدنا». فكانت المدرسة السنية الإبتدائية في القاهرة - وكانت ناظرتها إنجليزية - تصر على اتخاذ البرقع للتلميذات وهن في العاشرة أو الثانية عشرة من العمر، وكان معلم اللغة العربية يفصل من وزارة المعارف إذا نزع عمامته وقفطانه واتخذ البنطلون والجاكتة. وتقدمت الآنسة نبوية موسى لامتحان الشهادة الثانوية في سنة 1907 من بيتها، فرفض دنلوب المستشار الإنجليزي لوزارة المعارف قبولها في الامتحان. ولكنها استمرت على الكفاح وأحدثت ضجة في الجرائد، وتقدمت في السنة التالية فقبلت ونجحت. ولكن الإنجليز تنبهوا، فلم تفز فتاة مصرية بالشهادة الثانوية منذ 1908 إلى 1929 حين تقدمت الفتيات اللاتي أنشأت لهن وزارة المعارف مدرسة ثانوية في 1925 أي بعد إعلان الاستقلال بسنتين.
وكانت التلمذة في المدرسة الخديوية فيما بين 1903 و1907 سلسلة من التعذيب. فكان أحدنا يعاقب طوال العام الدراسي بالحضور يوم الجمعة في المدرسة حتى لا يهنأ بالإجازة الإسبوعية. وكان من العقوبات المألوفة أن يحضر أحدنا في منتصف الساعة السابعة صباحا أي في الظلام مدة الشتاء، ثم لا يترك المدرسة آخر النهار إلا بعد الحبس ساعة أو أكثر. وقد يكون السبب الوحيد لكل هذه العقوبات أن المعلم الإنجليزي قد طلب من التلميذ أن يقعد فوقف، أو يقف فقعد. وقد تكون هذه المخالفة محض التباس لا أكثر. ثم يتأخر المسكين في الحضور في الساعة السادسة والنصف صباحا، فيزداد عقوبة والزيادة تتراكم. وهذا إلى عقوبات أخرى مهينة مثل حرمانه من الغداء إلا برغيف يأكله وهو واقف أمام زملائه.
وكان ناظر المدرسة يدعى شارمان، وكان يتأنق في تعذيبنا. وحدث أن الجمعية الخيرية الإسلامية أرسلت على نفقتها بعض تلاميذها من مدارسها الابتدائية. وكانت تشتري لهم ملابسهم في شكة صفراء واحدة. وكان هؤلاء المساكين يخجلون من هذه الملابس الرخيصة. واشتروا غيرها من الملابس المألوفة، حتى لا يتميزوا بفقرهم أمام زملائهم. ولكن شارمان أصر على أن يلبسوا ملابسهم التي تصمهم بالفقر؛ فلبسوها وكانوا ينزوون منا في خجل.
ولست أشك أنه حين أعلنت الجرائد وفاة شارمان هذا غرقا في أواخر الحرب الكبرى الأولى، عم الفرح جميع القارئين الذين كانوا تلاميذه. وقد يستنكر القارئ هذه العاطفة منا. ولكني أؤكد أن التلمذة في تلك السنين كانت عذابا لا يطاق. وكان للمعلمين الإنجليز لذة في تعذيبنا. وكانت العلاقة بيننا وبين هؤلاء المعلمين خالية من الإحساس البشري، حتى لقد كنا أحيانا نجهل اسم المدرسين طوال العام الدراسي.
وقضيت ثلاث سنوات بالمدرسة الخديوية لا أكاد أعد أسبوعا واحدا فيها هنئت به. ولذلك تخلفت في الدراسة. وكان من أسباب هذا التخلف أيضا أني مرضت بعيني واحتجت إلى إجراء عمليتين لا يزال أثرهما المشوه باقيا. كما أني أعزو إلى عذاب المدرسة هذه العربدة الجنسية الذاتية التي انغمست فيها للترفيه عن نفسي. وإزالة الكمد الذي كانت تحدثه هذه الحياة المدرسية المرهقة.
Bog aan la aqoon