Tarbiya Fi Islam
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
Noocyada
ومن النتائج التي ترتبت على اضطلاع أهل السنة بالتعليم العام جمود التعليم ووقوفه عند طريقة لا يتطور عنها، والسر في ذلك أن غايتهم القصوى هي حفظ القرآن، وغرضهم هو تلقين أصول الدين، مع الابتعاد عن تعليم أي مسألة من مسائل الدنيا إلا ما قضت به الضرورة. ونقول: إنه انتهى الحال في الكتاتيب بصورة عملية إلى حفظ القرآن والكتابة والقراءة فقط. ولطول العهد بهذه الطريقة التي دارت مع الزمان، واتبعها الناس قرنا بعد قرن، آمنوا أنها الطريقة الوحيدة التي ينبغي اتباعها. ولما كان القرآن ثابتا لا يتغير، ولما كان الصبيان لا يتعلمون في الأغلب إلا القرآن، فإنك قد تدخل الكتاتيب في القرن الرابع، فلا تجد فيها فارقا عن الكتاتيب في القرن الرابع عشر إلا في بعض أمور شكلية. (4) الغرض من التعليم
الغرض من تعليم الصبيان عند القابسي ، وعند فقهاء أهل السنة جميعا هو معرفة الدين، علما وعملا.
والقابسي ينظر إلى الحياة، ولا يبتغي منها إلا وسيلة إلى الآخرة، فهو يسرف في نظرته الدينية، ويجعل الإنسان يستغرق جميع أوقاته، وجميع أعماله في سبيل الدين وباسم الدين.
وليس هذا الموقف غريبا عن القابسي وهو التقي الصالح، الورع الحافظ للقرآن والسنن وأصول الدين وأصول الفقه.
ولم يكن القابسي في حقيقة الأمر إلا مرآة للعصر الذي عاش فيه، يصف ما يفعل الناس ويثبتهم في هذا العمل الصالح. وكان العصر كله عصر دين تغلب على النزعات المادية، وكان الناس قريبي العهد بالزمن الأول الذي عاش فيه الصحابة والتابعون فلم ينسوا ما كانوا عليه من سيرة روحية ترمي إلى ابتغاء مرضاة الله، والعمل للدار الآخرة.
وتمييز الغرض في الذهن ضروري لتحديد وسائل العمل، وكان الغرض من التعليم واضحا في ذهن القابسي، وفي ذهن من تقدموا من قبل منذ عصر النبي. كانوا يقصدون إلى تعليم المسلمين الدين، مما لا يتيسر إلا بمعرفة بعض المبادئ التي تكتسب بالتعليم.
ومن هذه المبادئ القراءة والكتابة، لا على أنها غاية في ذاتها يكمل الإنسان بها نفسه، بل على أنها سبيل إلى سهولة تحصيل عنصر عام من عناصر الدين وهو القرآن، ولذلك افتدى النبي عشرة من أسرى بدر بتعليم أبناء المسلمين القراءة والكتابة. والقرآن هو كتاب المسلمين الذي يجمع في آياته قواعد الدين، وأسرار العقيدة. وإذا كان لأصحاب الديانات المختلفة كتب سماوية أو غير سماوية، فإنها لم تبلغ مبلغ القرآن في تأكيده أنه كلام الله وتنزيل العزيز الحكيم، مما يجعله أكثر قداسة، وأبعد عن الشكوك والريب، وأدعى إلى القبول. ومعرفة القرآن ضرورية لمعرفة الدين، حيث لا تتم الصلاة إلا بقراءة شيء من القرآن فيها. والصلاة مفروضة على المسلمين لأنها ركن من أركان الدين، ولذلك يقول القابسي كما يقول الفقهاء: «وقد أمر المسلمون أن يعلموا أولادهم الصلاة والوضوء لها.» ويقول أيضا: «إن حكم الولد في الدين حكم والده ما دام طفلا صغيرا. أفيدع ابنه الصغير لا يعلمه الدين؟ وتعليمه القرآن يؤكد له معرفة الدين.» وهذا كله واضح الدلالة في أن الغرض الأول من التعليم هو معرفة القرآن والصلاة، أي معرفة الدين علما وعملا. غير أن القابسي لم يبسط الموضوع على الأساليب الحديثة، التي تقدم الأغراض ثم تسوق الوسائل لخدمتها، ولكننا نتلمس الأغراض عنده من خلال ما كتب، ونقول إن تخصيصه فصلا عن الإيمان والإسلام، لم يكن إلا نوعا من تحديد الغرض للتعليم. ونتلمس أيضا غرضه مما كتب عن تعليم البنت، فهو يريد أن يعلمها القرآن والعبادات المختلفة لأنها فرضت على المؤمنين ذكورا وإناثا. ولكنه إذ يقول إن سلامتها من تعلم الخط أنجى لها، يبين لنا أن غرضه من التعليم هو الاقتصار على معرفة الدين ويضحي بتعلم القراءة والكتابة إذا خشي فسادها.
ومن هنا اتصل التعليم بالدين اتصال الوسيلة بالغرض.
ومن النتائج المهمة التي ترتبت على هذه الصلة الضرورية، أن الديانة الإسلامية تسوي بين العباد ولا تفضل عربيا على أعجمي إلا بالتقوى، ولا تقصر معرفة الدين على فئة دون فئة؛ وقد حرص المسلمون من أول الأمر على نشر الدين، والمساواة بين الناس في مقدار إنسانيتهم. فإلى جانب ما هو موجود في القرآن من النص على هذه المساواة، فإن سيرة النبي والصحابة والخلفاء الراشدين تبين بطريقة عملية امتناع التفاوت بين الناس في الأقدار والمنزلة الاجتماعية، على العكس من ذلك ساروا سيرة التواضع والبساطة والإقلال، مما يجعلهم يقتربون من العامة لا من الخاصة أو أوساط الناس. كان النبي يخصف نعله ويرقع ثوبه، وقد ثارت فئة من المسلمين على عثمان بن عفان لأنه ابتنى الدور والقصور مما لم يعهد عن رسول الله، ذلك لأن حرص المسلمين كان على السبق في المنزلة الدينية. فإذا كان الجميع سواء أمام الله، فأفضلهم عند الله أتقاهم. ودار الزمن وأثرى المسلمون، وأسلم كثير من الأعاجم، وأقبلت عليهم الدنيا، وبقي هذا الروح الذي يعبر عنه بالاصطلاح الحديث بالروح الديمقراطي قائما ، لا يجرؤ أحد أن يخالفه. ومما يساعد على انتشار هذا الروح ويمنع من تغيره ويعمل على بقائه وتثبيته، صلاة الجماعة التي يقف فيها الغني إلى جانب الفقير، والأمراء إلى جانب السوقة. لكل هذا لم يستطع أحد من المسلمين أن يدعي احتكار الدين لنفسه، يبيعه بعد ذلك لمن يريد طلبه، أو يكون واسطة بين هؤلاء الطالبين وبين الله؛ ومع ذلك فقد درجت في الإسلام في عصور متقدمة ومتأخرة كثير من النظريات يبغي أصحابها احتكار العلم والدين، مثل بعض فرق الشيعة، وإخوان الصفا، ومتأخري المتصوفة الذين اصطنعوا نظرية الأقطاب والأولياء يتوسطون بين المريدين وبين الوصول إلى معرفة الله. ولكن جميع هذه التيارات وأمثالها لا تنفي أن يتعلم الناس جميعا القرآن والعبادات الشرعية المفروضة كالصلاة والزكاة، وهي مذاهب يتحول إليها المسلمون بعد مرحلة الشباب لا قبلها؛ لأن فهمها يحتاج إلى سعة درك وعمق تفكير. ويبقى بعد ذلك أن الصبيان ينبغي أن يتعلموا القرآن والصلاة، وأن تعليمهم هذه المبادئ لا يتسع معها الخلاف أو الجدل، وأهم من هذا كله أن الإسلام يتوجه إلى الجميع فلا بد أن يتعلم الجميع.
فالديانة الإسلامية في طبيعتها النظرية من حيث العقيدة، وفي روحها الذي درج على تفسيره رجال الدين في عصوره المختلفة، تدعو إلى نزعة ديمقراطية وتنحو ناحية المساواة.
Bog aan la aqoon