Tarjamada Masaarida iyo Galbeedka
تراجم مصرية وغربية
Noocyada
وكما أثر العصر في شكسبير من ناحية حرية تفكيره فقد أثرت فيه هذه الخرافات من إيمان بالسحرة وبالجن حتى لنرى كثيرا منها في رواياته، ثم إن هذا العصر الطليق المجاور للعصور الوسطى كان عصر اضطرابات ومجازر، وكان القتل أمرا شائعا فيه حتى لترى الرجل تقطع عنقه لغير سبب إلا أنه أنكر على الملك سلطانه الديني أو أنه أغضب رجلا ذا سلطان بإشارة أو بكلمة، أضف إلى ذلك ذيوع عادة المبارزة وانتهاءها في أحيان كثيرة إلى قتل أحد المبارزين، وهذا الاستهتار بالحياة الإنسانية هو سر ما نرى في أكثر روايات شكسبير من مجازر فظيعة تنتهي أغلب الأمر إلى موت أشخاص الرواية جميعا.
ثم إن التمثيل على النحو الذي نعرفه اليوم كان في ذلك العصر ما يزال في دور نشأته حتى لم يكن معروفا في كثير من البلاد ومن بينها فرنسا، فلم تكن قد تقررت له قواعد كالتي تقررت بعد ذلك من وحدة الزمن والمكان والحادث، ولذلك أنت ترى في شكسبير مناظر مختلفة في الفصل الواحد قد لا يكون بينها أية صلة، وقد يفصل بين المنظر والمنظر مئات الأميال، ثم إنك ترى كذلك في هذه الروايات خلطا عجيبا من أحط ما تنزل إليه الجماعة في حياتها العادية التافهة، ورفعة لا تدانيها رفعة في سمو الحيال وتصوير فعل الشهوات في النفوس.
وهذه الظواهر التي تجدها سائدة في دول أوربا كلها في ذلك العصر، بانت أكثر وضوحا في إنجلترا، ومرجع ذلك أن الخلق الإنجليزي بطبيعته خلق ثائر طموح للحرية يفتديها بالدماء، وكان كذلك في تلك العصور الماضية أكثر مما هو اليوم، ولذلك كانت إنجلترا أسرع من غيرها إلى الأخذ بالمذهب الديني الجديد، ولذلك كانت مظاهر القسوة وما تلده من قتل وتعذيب أكثر تفشيا بين هؤلاء السكسونيين، وكان من شأن السحرة عندهم ما لا تعجب بعده لطيف هملت ولا لساحرات مكبث، ثم كان من استهتار الناس بالحياة ما ترى آثاره في شعر شكسبير مما يجعل المتقشفة والمتصوفة أشد على الحياة حرصا من أهل هذا الزمن، فليس عجيبا إذا هذا الذي نرى في شعر شكسبير من مجازر وخرافات وإن خيل لبعضهم بادئ الأمر أن فيه شيئا من العجب يدعو إلى عدم تصديقه.
وإذ كان علم شكسبير راجعا إلى ملاحظة الطبيعة أكثر من رجوعه إلى دراسة الكتب وكانت معلوماته التي استند إليها في تأليف رواياته لا تزيد على معارف سطحية في التاريخ والفلسفة والاجتماع، فإن كثيرا من رواياته لا تعتمد على أكثر من أساطير سمعها أو قرأها في الكتب التي يتناولها الناس جميعا، وفي مقدمتها تاريخ العظماء لبلوتارك، فرواية هملت تعتمد على أسطورة دانمركية ينكرها أكثر المؤرخين ، ورواية روميو وجولييت أحدوثة إيطالية يغلب أن يكون شكسبير قد سمعها في أثناء سياحاته في شمال إيطاليا أو قرأها ولم يستتمها في بعض الكتب، ذلك أن هذه الأحدوثة تنتهي بأن روميو لما بلغه موت جولييت حضر إلى قبرها وبلغ من ألمه أن طعن نفسه بالخنجر، ولما كانت جولييت لم تتناول السم بل تناولت مخدرا فقد استيقظت وروميو ما يزال في النزع، فبث كل منهما لصاحبه لاعج غرامه، وطعنت الفتاة نفسها بالخنجر الذي زج به محبها أعماق قلبه، ولم يشر شكسبير إلى هذه الواقعة الجديرة بأن تجري على أوتار ربة شعره بأرق أنغام الحب والألم، فدل بذلك على أنه لم يعرفها.
هذا التحليل للمحيطات التي وجد فيها شكسبير قد يفسر طريقة وضعه رواياته، وقد يهدي إلى أسرار ما ترى فيها اليوم مما نعتبره عند عدم وقوفنا على هذه المحيطات خرافة غير لائقة بعبقرية فذة كعبقرية شكسبير، لكنه مع ذلك لا يدلنا على شيء من سر عظمته ولا يهدينا إلى كثير من سر شعره، والحق أن البيئة والزمن وحدهما لا يفسران نبوغ النابغة ولا عبقرية الشاعر وإن بينا مراميه وكشفا عن أغراضه، فأما العبقرية فلازمة ذاتية وهبة قدسية تنفح بها الطبيعة شخصا من الناس على حساب مواهب أخرى، وعبقرية شكسبير كانت في ملاحظته وفي خياله وفي شاعريته، وكانت في ثاقب نظره إلى حد يستطيع معه أن يرى دخيلة النفس الإنسانية وأن يصفها وصفا حسبه الناس بادئ الأمر غواية شاعر، ثم أثبت العلم أنه الحقيقة العلمية التي لا تقبل نزاعا ولا جدلا.
وكانت مظاهر الطبيعة في أرق صورها وأجملها أول ما فاجأ خيال شكسبير، فأنت لا تقرأ له رواية ولا مقطوعة إلا وجدت من وصف هذه المظاهر وصفا وديعا يدلك على مبلغ تأثيرها في أعصاب هذا الشاعر الدقيق الحس تأثيرا يجعله يندفع إلى الإعجاب بالجمال وتقديسه إلى أقصى حدود الإعجاب والتقديس، فيظهر أثر ذلك في شعره، ويظهر في رعشة موسيقية قوية رقيقة في قوتها، متجاوبة ثائرة في تجاوبها، تهز نفسك هزا وتسحرك عما حولك وتصل بك حتى ترى أمام خيالك ما رسمه خيال شكسبير ماثلا واضحا، وقد بلغ من تأثير هذه الصور في نفس الشاعر العظيم أن حلت منه محل التفكير حتى في شأن الحياة الإنسانية، فالرجل الغاضب كالطبيعة الثائرة، وما يترتب على ثورة الطبيعة من آثار هو بعينه عند شكسبير ما يترتب على غضب الإنسان من آثار، والطبيعة في سيرتها العادية تافهة حتى إذا ملكتها الثورة أبرقت وأرعدت وعصفت وأهلكت الحرث والنسل، كذلك الإنسان في سيرته العادية تافه حتى إذا ملكته الشهوة أسرف في الحب أو في البغض أو في الإيثار أو في التشفي والانتقام، والطبيعة خاضعة لظروف لا سلطان لها عليها، والإنسان خاضع مثلها لظروف لا سلطان له عليها، وكما تسير الغرائز الطبيعية تسير غرائز الإنسان، فكل صورة للطبيعة لها مثلها في الإنسان، ولذلك كان أسلوب شكسبير وكان خياله خيالا تصويريا في وصفه وفي إحساسه وفي شهواته وفي تفكيره، اقرأ مكبث حين يصف آثار جريمته وكيف لا تستطيع البحار أن تمحو ما خلفت من دم على يديه، واقرأ هملت في ثورته على أمه وفي سائر هذياناته الحكيمة، بل اقرأ قيصر واقرأ في قيصر خطاب أنطوني، اقرأ ما شئت من شكسبير تر هذا التقديس لصور الطبيعة وهذا التفكير المصوغ في قالب تلك الصور.
وكما يندفع شكسبير إلى تقديس مظاهر الطبيعة ويتخذ من صورها صور تفكيره، فهو لا يرى في غرائز الحياة غير الاندفاع لا يقوم على أساس من روية ولا تفكير، وإنما يقوم على الغرائز الإنسانية البسيطة هي التي توجهه وتصرفه؛ فالحب عنده لا يحتاج إلى تحضير ولا سعي من جانب الرجل لكسب المرأة، بل هو اندفاع من جانب شابين كل منهما نحو صاحبه، اندفاع رقيق كل الرقة قوي كل القوة، اندفاع شعري عذب يتغنى فيه كل من المحبين بأهازيج الهوى على نغمة موسيقية حلوة كأنما كوبيدون إذ رمى عن قوسه فأوصد القلب رمى مع القوس الوتر، فأخرج هذا الوتر من أعصاب كل من المحبين أنات وآمالا وأحلاما لذيذة ويأسا فاجعا لا يعرف الشعر في كل الأمم شيئا منه مثل ما عرف على لسان شكسبير، استمع إلى أنغام أوفليا في حبها هملت وتوجعاتها حين اليأس الذي أدى بها إلى الموت، واسمع هذا التجاوب الحلو بين روميو وجولييت يجعل من الحب جنة نعيم ليس بعدها جنة نعيم، ثم اقرأ ثوران الغيرة وضجيجها والتهابها في نفس أوتللو مما لا مثيل له في أقوى ما تصل إليه موسيقى فاجنر، وخيال شكسبير يصل من ذلك في بعض الأحايين إلى حدود يعجز أقوى خيال عن تصورها.
وكما تحرك الغرائز المحبين تحرك الناس جميعا في كل تجارة الحياة، فليس الملك على خلاف الناس جميعا لأنه ملك، بل هو يحب أهله وأبناءه ويدللهم ما دام بعيدا عن مباشرة شئون الدولة، وهو في هذه الشئون يتأثر بغرائز الإنسان وشهواته كما يتأثر أي إنسان سواه، والرجل السيئ الذي خلقه شكسبير في شخص ياجو وفي شخص شيلوك تاجر البندقية ينقاد للغرائز الإنسانية انقياد الوحش أوتللو، والناقم هملت، وإن كانت صورة هذه الغرائز تختلف من شخص إلى شخص حسب مزاجه، وهذا الاختلاف هو الذي جعل من أبطال شكسبير أشخاصا ذوي حياة إنسانية صحيحة تشعر وإياها إذ ترى تمثيل الروايات على المسرح، في حين أنك إذ ترى روايات راسين وكورني مثلا - وهما من أكابر كتاب فرنسا في القرن السابع عشر - تحس المؤلف هو الذي يتكلم وترى أفكارا تروح وتجيء على المسرح، وكل وظيفة الممثل أن يقوم بإلقاء الألفاظ التي تؤديها من غير أن تظهر له شخصية حية تنسيك أنه ممثل وتنسيك أنه يقوم بدور تمثيلي.
ولقد أقر النقاد جميعا لشكسبير بهذه الميزة وإن رأى بعضهم أنه يسرف في تصوير أشخاصه إسرافا يجاوز المعقول، ناسيا أن هؤلاء الأشخاص هم من عصر شكسبير، وأنهم من أبناء خياله الشعري المتوقد، وكما اتهم بالإسراف ظلما في هذا فقد اتهم بتهمة أخرى أثبت العلم خطأ اتهامه بها، فقد ذهب بعضهم في وقت من الأوقات إلى القول بأن شكسبير يخالف الطبيعة والمعقول فيما يقرره لبعض أشخاص من تصرفات، من ذلك مثلا أنك ترى مكبث يرتكب جريمة القتل فتتلوث يداه بالدماء، ثم هو مع ذلك يظهر في أماكن لا يأمن أن يراه الناس فيها ويصيح بأن مياه البحار لا تغسل جريمته، وعلى الرغم من إلحاح لادي مكبث فإنه يظل يتحدث عن جريمته ولا يداري شيئا من آثارها، فهذا في رأي النقاد الذين أشرنا إليهم تصرف غير معقول، أليس أول ما يصنع المجرم أن يعمل ليداري جريمته؟ لكن العلم الجنائي أثبت أن شكسبير على حق وأن الطبيعة الإنسانية تدفع بالمجرم إلى مكان جريمته وتكرهه أكثر الأحايين على الاعتراف بها.
وليس مثل مكبث إلا واحدا من أمثال كثيرة في ثقوب نظر شكسبير واستشفافه حقيقة الغريزة الإنسانية. •••
Bog aan la aqoon