149

Tarajim Mashahir

تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)

Noocyada

ولما ارتابت الدولتان إنكلترا وفرنسا في مالية مصر، وعينتا مندوبين لتصفية ديونها شكلوا مجلسا من كبار رجال المالية وفيه رياض باشا نائبا عن الحكومة المصرية، وعينوا بطرس مساعدا، ثم تبدلت الأحوال فصار رياض باشا رئيس المجلس وبطرس وكيلا في الدفاع عن مصالح الحكومة، وقد أتاه هذا المنصب على غير استعداد؛ إذ لم يكن له إلمام في الشئون المالية، ولكنه عول على نفسه، وأكب على دراسة الموضوع فقضى ليلتين وهو يفكر فيه ويدرسه حتى تمكن من خاطره، فوضع تقريرا ومذكرة عن الضرائب والأطيان كأنه درس الموضوع من عدة أعوام، وقد طبعا باللغتين الفرنساوية والعربية، وعول عليهما أكثر الذين كتبوا في مالية مصر وأطيانها بعده، ويقال إن السير ريفرس ولسن مندوب إنكلترا في ذلك العمل لما رأى اقتدار صاحب الترجمة، قال له: «إنك ستكون ناظرا للمالية يوما ما.» ومنحته الحكومة الرتبة الثانية، والرتب يومئذ عزيزة جدا. ولكنه أصيب على أثر ذلك بحمى تيفوسية شديدة حتى يئس الأطباء من شفائه.

وبعد الانقلاب الذي خلع فيه إسماعيل وخلفه المغفور له توفيق باشا عين صاحب الترجمة (بطرس بك غالي) وكيلا لنظارة الحقانية، ولما تشكلت وزارة شريف باشا في أثناء الثورة العرابية عهدت إليه سكرتيرية مجلس النظار مدة، ثم استقل بوكالة الحقانية وأنعم عليه برتبة ميرميران الرفيعة سنة 1882، وهو أول من حازها من الأقباط.

ومن الخدم التي يؤثرونها له في أثناء الثورة العرابية أن العرابيين بعد أن فروا من التل الكبير وأتوا القاهرة عقدوا مجلسا للمفاوضة في ماذا يفعلون، ودعوا إليهم كبار الرجال من الأمراء العسكرية والملكية، وشاوروهم فيما ينبغي عمله، فكان رأي بطرس باشا التسليم للخديوي والرجوع عن العصيان، وكتبوا بذلك عريضة عهدوا إلى صاحب الترجمة ومحمد رءوف باشا بإيصالها إلى أصحاب الشأن في الإسكندرية، فذهبا نائبين عن الأمة المصرية في تقديم الطاعة للحضرة الخديوية.

وظل وكيلا لنظارة الحقانية عدة سنين بعد الاحتلال، وفي سنة 1893 رقي إلى منصب الوزارة فتعين ناظرا للمالية في وزارة رياض باشا، ثم انتخب ناظرا للخارجية سنة 1895 في وزارة مصطفى فهمي باشا، وظهرت مواهبه هنا بحل المشكلات التي تعرض لناظر الخارجية؛ نظرا لكثرة علائق مصر مع الدول من حيث المالية والسياسة وغيرهما، وقد شهد له اللورد كرومر بالاقتدار على حل المشكلات غير مرة، وما زال في هذا المنصب حتى سقطت الوزارة الفهمية فوقع الاختيار عليه لتشكيل وزارة جديدة، فشكلها في 10 نوفمبر سنة 1908 وتولى رئاستها مع نظارة الخارجية، وهو أكبر منصب يرجوه ابن النيل. وفي عهد وزارته همت الحكومة بتوسيع اختصاصات مجلس شورى القوانين، فقررت اشتراك الأمة في النظر بمشروعاتها بعرضها على المجلس، ويحضر الوزراء للمناقشة فيها وأشياء أخرى، وقد انتقدوا عليه بعض أعمال الحكومة التي تمت في عهد وزارته مما يرونه مغايرا لمصلحة مصر أو مخالفا للشعور الوطني، ولكنه أتاه وهو يعتقد نفعه لمصر لأنها وطنه وهو شديد الغيرة عليها، أو أنه لم ير بدا منه، وما زال عاملا مجدا حتى قتل في 20 فبراير سنة 1910، وقاتله شاب اسمه ناصف الورداني أطلق عليه أربع رصاصات من مسدسه في باحة نظارة الخارجية وهو يهم أن يركب عربته، وقد قبض على الجاني واعترف بالجناية بلا تهيب، وقال إنه قتله لأنه أمضى اتفاقية السودان وترأس محكمة دنشواي، وأعاد قانون المطبوعات، وقاوم الجمعية العمومية، ورضي بمشروع القناة. وقد حوكم القاتل وحكم عليه بالإعدام. (3) مناقبه وأخلاقه

قد تبين مما ذكرناه من ترجمة حياته أنه كان عالي الهمة، كبير المطامع، ذكي الفؤاد، قوي الحافظة، شديد العارضة، وكان قوي البنية، ربع القامة، ممتلئ الجسم، ونظرا لثباته وقوة عزيمته لم يكن يصعب عليه عمل، فارتقى من بين العامة إلى أسمى المناصب المصرية بعد الإمارة بجده وقوة عقله وثباته، فيصح أن يكون مثالا لطلاب العلى، وكان واسع الاطلاع في أهم مناهج الحكومة المصرية في المالية والقضاء والسياسة؛ فضلا عن معرفته اللغات فإنه أتقن منها العربية والفرنساوية والإنكليزية والإيطالية والتركية، ويعرف أيضا القبطية والفارسية وبعض الألمانية.

وكان مستقل الفكر يكره الدالة والوساطة، وينظر إلى حقائق الأشياء دون أعراضها. ومما يروى عن تقديره الأشياء حق قدرها أنه لما أخذت الحكومة في إنشاء المحاكم الأهلية، وكان هو وكيلا للحقانية احتاجت الحكومة إلى موظفين لتلك المحاكم، فأعلنت ذلك وتقدم طلاب الخدمة بالعرائض ولكل منهم وسيط من الكبراء على جاري العادة في ذلك العهد؛ إذ كان للدالة والوساطة شأن عظيم، واستخرج كتاب الحقانية أسماء الطالبين في كشف شبه جدول دونوا فيه اسم كل طالب، وذكروا إلى جانبه اسم الكبير الذي توسط له أو أوصى به، ورفعوا ذلك الكشف إليه فقرأه، فرأى اسم أحد الطالبين في آخر الكشف وليس له وسيط، وكان قد تحقق بالفعل أنه كفء للعمل فنقل اسمه إلى أعلى الكشف، وكتب بجانب اسمه في محل اسم الوسيط لسائر الطالبين: «وسيطه الله » يريد أن لا وسيط له غير الله، وقد نال الوظيفة.

وكان واسع الاطلاع في أحكام الشريعة الإسلامية، وقد شهد له أئمتها بالتبحر فيها، وكان لا يزال إلى الأمس يترأس كومسيون المجالس المختلطة، والأولى بذلك رسميا ناظر الحقانية، وكان دقيقا في إنجاز ما عليه لا يبالي بالتعب أو السهر، وكان لحسن أسلوبه ونفوذ كلمته وقوة حجته يكلفونه التوسط في حل ما يعرض من سوء التفاهم بين العناصر المختلفة أو القوات المضادة في هذا القطر؛ فضلا عما يدخل في واجباته من التوسط بين مصر والدول الأخرى وهو ناظر الخارجية، ومما يذكر من مأثره في حل المشكلات أنه اغتنم ذهابه بمعية الجناب العالي إلى الآستانة سنة 1905 وتشرف بالمثول لدى جلالة السلطان وجرى الحديث بينهما بالتركية فحل مسألة دير السلطان بالقدس.

وكان للجناب العالي ثقة فيه يعول عليه في الأمور الهامة؛ ولذلك كان أسف سموه عليه كبيرا حتى تنازل لزيارته وهو مريض في المستشفى، ثم شرف بيته بعد الوفاة لتعزية أبنائه وأخيه، وهذا التفات لم يسمع بمثله في مصر.

وكان يميل إلى المطالعة في ساعات الفراغ، وأكثر مطالعاته في التاريخ، وفيه ميل إلى المواضيع الفلسفية النظرية، وفي داره مكتبة نفيسة، وكان يطالع الصحف كل يوم بسرعة غريبة. (تم الجزء الأول)

الجزء الأول: أركان النهضة العلمية‏

Bog aan la aqoon