Tarajim Mashahir
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Noocyada
وتوفي رشيد باشا سنة 1858 وخلفه عالي باشا فأعطى مدحت إجازة ستة أشهر يقضيها سائحا في أوروبا يتفقد أحوال دولها ويدرس نظام بعض الإدارات الأوربية، فسافر وهو في السادسة والثلاثين من عمره، فزار باريس ولندن وفينا وبروكسل، وامتاز بين رجال الدولة من ذلك الحين بمهارته الخصوصية في تدبير شئون الولايات، فلا تحدث ثورة أو اضطراب أو خلل في ولاية ويحتاجون إلى من يصلحها إلا انتدبوه لذلك.
فانتدب مرة أخرى لتدبير شئون بلغاريا، وكان أهلها المسيحيون قد خافوا على حياتهم وأموالهم فأخذوا يهجرونها بعائلاتهم وأموالهم والجند لا يستطيع منعهم، فعهد بذلك إلى مدحت ومنح رتبة الوزارة (1861) فسافر وفي عزمه أن يصلح الأمور بالمسالمة، فحالما وصل إلى بلغاريا بعث إلى أعيان البلاد وجمعهم في مؤتمر عرضوا فيه شكواهم، فطلب إليهم أن يشتركوا معه في إصلاح الحالة، وكانت تشكياتهم ترجع إلى أمرين رئيسيين:
الأول:
خلو البلاد من وسائل النقل والمخابرات التي تساعد الأهالي، ولا سيما المزارعين على نقل حاصلاتهم وتصريفها.
والثاني:
شيوع اللصوصية والعصابات المتمردة حتى أصبح الناس لا يأمنون على أرواحهم ولا أموالهم.
ولهذين السببين فضل البلغاريون الهجرة إلى بلاد السرب؛ لأنها أقرب إلى الأمن، فرأى مدحت أنهم محقون في شكواهم فأخذ يبحث مع أولئك الأعيان في سبل الإصلاح، وأشار عليهم أن يستخدموا نفوذهم أولا في إيقاف الناس عن المهاجرة، وعاهدهم على إصلاحات وافقوه عليها، وقد بر بوعده فأعاد الجند إلى معسكراتهم وأخذ في تنظيم الطريق الأعظم بين نيس وصوفيا وفروعه الكثيرة، وبذل جهده في مطاردة العصابات وأنشأ الجسور وغيرها، وبالجملة لم يغادر أمنية يحلم بها البلغاريون إلا حققها لهم، وأقام نقطا عسكرية على الحدود تمنع تعدي السربيين، فلما تمت هذه الإصلاحات عادت العائلات البلغارية من مهاجرها إلى مواطنها، وأدخلت إصلاحات كثيرة أثرت في أخلاق القوم وعاداتهم، وألف فرقة الجندرمة، ونظم تحصيل الضرائب، ومنع الاضطهادات الدينية، وأنشأ المدارس والمستشفيات للبلغاريين بلا تمييز بين أديانهم أو طبقاتهم، فاستتب الأمن وتعاقد القوم على السعي في مصلحة بلادهم. (2) تنظيمه أعمال البلقان
إن ما أدخله مدحت باشا من الإصلاح في بلغاريا وفي أيدن وسليسترية وقع وقعا حسنا لدى الباب العالي في صدارة فؤاد وعالي خليفتي رشيد باشا، فاستقدماه إلى الآستانة سنة 1864 للمداولة في نظام جديد يضعونه للولايات وقوانين يجري عليها الولاة، فأعدوا ذلك النظام وقرروا أن يعهد إلى مدحت بتنفيذه في ولايات سيلسترية وأيدن ونيش على أن تتحد كلها باسم ولاية الطونة (1865) رغم مقاومة حزب التقهقر بإيعاز سروري أفندي، ولهذا الرجل شأن في الحكم على مدحت سيأتي ذكره.
وخلاصة النظام المشار إليه قسمة الولايات إلى سبعة سناجق، ويقسم السنجق إلى أقضية، والقضاء إلى نواحي، وفي كل ولاية مجالس خصوصية لوضع الأموال الأميرية وجمعها، وتولى مدحت هذه الولاية على هذا الطراز، وألغى السخرة ومهد 2000 كيلومتر من الطرق وبنى 1400 جسر، وأنشأ سفنا تجري في الطونة (الدانوب) عليها العلم العثماني، وأبطل اللصوصية، ونظم جندرمة، وأنشأ مصارف وطنية لتسليف فقراء المزارعين.
وقاعدة هذا النظام اشتراك الأهالي في تدبير شئون بلدهم مع الحكومة في تقدير الأملاك وتعيين خراجها فلا يحصل فيها حيف، فباتت تلك الولاية بسعادة استلفتت أنظار أهل الآستانة إلى مدحت، فجاءته التهاني من المابين والباب العالي، وصدرت الأوامر إلى سائر الولاة في المملكة العثمانية أن يجعلوا نظامات ولاياتهم مثل نظام مدحت في ولاية الطونة، فتوسم الناس مستقبلا مجيدا لهذه الدولة.
Bog aan la aqoon