Tarajim Mashahir
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Noocyada
وكان في أثناء إقامته بالمدرسة التجهيزية موضوع إعجاب الأساتذة والتلامذة جميعا، لما امتاز به من حسن الإلقاء وفصاحة اللسان، ولم يكن ناظر المعارف أقل منهم إعجابا به ، فكان ينشطه ويدعوه إلى منزله ويناقشه في المسائل العلمية أو الاجتماعية ويقدمه إلى جلسائه من العلماء والوزراء والكل يعجبون به ويتوقعون له مستقبلا مجيدا، فلما أتم دروسه التجهيزية سنة 1889 دخل مدرسة الحقوق الخديوية على أن يعد نفسه لصناعة المحاماة، لأنها أحوج المهن إلى الخطابة، ورأى في وقته متسعا فالتحق بمدرسة الحقوق الفرنساوية أيضا، فكان يتلقى العلم بالمدرستين حتى نال الكفاية منه، فذهب إلى طولوز بفرنسا أدى فيها الامتحان ونال الشهادة وهو في التاسعة عشرة من عمره.
وتنبه خاطره وهو يدرس الحقوق إلى المسائل السياسية، ومدارها على مصر والاحتلال، وهو وطني حريص على وطنيته مستقل الفكر، شديد الثقة بنفسه، وقد تشرب من أساتذته الفرنساويين الاستهانة بإنكلترا والوثوق بفرنسا، فأصبح همه إنقاذ مصر من الاحتلال، وكان عضوا عاملا في عدة جمعيات أدبية يخطب فيها ويباحث، وأكثر بحثه في مصر والاحتلال والجلاء، وكان يتردد على الجرائد الوطنية ليكتب هذه المواضيع، ولقي إصغاء وتنشيطا فألف رواية فتح الأندلس التمثيلية، وكتابا في حياة الأمم والرق عند الرومان، وألف بعد ذلك كتاب المسألة الشرقية وغيره، وكلها ترمي إلى تحبيب الاستقلال إلى المصريين وإحياء الشعور الوطني فيهم، فالتف حوله جماعة من المريدين والمعجبين وأكثرهم من رفاقه في المدرسة، ومن يرى رأيهم من تلامذة المدارس العالية، فأنشأ لهم مجلة شهرية سماها المدرسة يبث فيها آراءه وأفكاره.
واتفق في أثناء ذلك رجوع المرحوم عبد الله نديم خطيب العرابيين إلى مصر سنة 1892 وسمع بمصطفى كامل فقربه منه، واقتبس صاحب الترجمة بعض أساليبه، واطلع على دخائل الحوادث الماضية وتبين أسباب الفشل، فأصبح قادرا على تجنبها وزاد رغبة في إنقاذ مصر من سلطة الأجانب، ولا يكون ذلك إلا بالالتفاف حول أمير البلاد فاستنبط فكرة الاحتفال بعيد الجلوس الخديوي، فحرض رفاقه التلامذة على ذلك، فاحتفلوا به في الأزبكية في 8 يناير سنة 1893، فقربته المعية، ورضي عنه الجناب العالي، وفي ذلك الاحتفال صرح مصطفى كامل للمرة الأولى بانتقاد حالة الحكومة، ودعا المصريين إلى مطالبة الإنكليز بالجلاء عن بلادهم قياما بوعودهم، وكان في جملة الحضور ناظر مدرسة الحقوق فاستدعى مصطفى إليه في الغد، وعاتبه على تصريحه، فأجابه أنه مصري وله الحق أن يبحث بشئون مصر، وشدد لهجته فرفع الناظر أمره إلى نظارة المعارف، فأصدرت أمرا بمنع التلامذة من الاشتراك في مثل ذلك ومن مكاتبة الصحف، فاعتبر مصطفى هذا الأمر موجها إليه فازداد تمسكا برأيه، وتضاعفت همته على إخراجه إلى حيز العمل.
وجاء مصر في ذلك الحين الموسيو دلونكل وهو فرنساوي كثير التظاهر بالغيرة على المصريين، وكان في مصر يومئذ حزب وطني تألف بطبيعة الحال من أوائل عهد الاحتلال، ولم يكن حزبا منظما له رئيس ونائب وأمين وكاتب مثل أحزاب هذه الأيام، ولكنه ضم نخبة النبهاء والوجهاء الذين يكرهون الاحتلال وينتقدون أعمال الإنكليز إما رغبة في استقلال مصر أو نقمة لذهاب نفوذهم، ولهذا الحزب فضل على أكثر الصحف الوطنية التي نشأت في أوائل الاحتلال؛ لأنهم كانوا يساعدونها ماديا وأدبيا تحت طي الخفاء للاستعانة بها على جرائد الاحتلال، وكان مصطفى كامل طبعا من جملة ذلك الحزب، وكان دلونكل يحضر مجتمعات الوطنيين ويستحثهم على الثبات، فالتقى هناك بصاحب الترجمة وأعجب بذكائه وفصاحته، فرغبه في السفر إلى فرنسا للتبحر في الحقوق، فسافر إلى باريس آخر سنة 1893 وأعجبته حرية القوم وموافقتهم إياه في انتقاد الإنكليز، فعرف كثيرين من رجال السياسة والصحافة فيها، وفي 8 يناير سنة 1894 احتفل بعيد الجلوس الخديوي هناك احتفالا شهده أكثر المقيمين في باريس من المصريين، وهم من التلامذة المرسلين لتلقي العلم على نفقة الحكومة المصرية، فألقى مصطفى فيهم خطابا استحثهم فيه على الثبات في طلب الجلاء، فوافقوه وتواطئوا على استنجاد فرنسا في ذلك الطلب على أن تكون حجتهم وعد إنكلترا الذي صرحت به عام الاحتلال، وبلغ ذلك نظارة المعارف المصرية فأخرجت المشتركين في ذلك العمل من عداد الإرسالية.
وعاد مصطفى في أواسط السنة التالية إلى مصر، وتعاطى المحاماة أشهرا فرآها أضيق من أن تسع مطامعه وفي صدره غرض أصبح جزءا من وجدانه، ولم يكتف بما كان ينشره في الجرائد، فعول على إلقاء الخطب السياسية في المنتديات العمومية، فألقى خطبته الأولى في الإسكندرية ونشرتها الجرائد، فرأى فيها الناس من شدة اللهجة على الاحتلال وطلب الجلاء ما لم يعهدوه من قبل، فأعجبوا بالشاب وشاركوه في إحساسه وفيهم من يرى ذلك الطلب بعيد المنال، ولكن الإنسان يلتذ بالانتقاد على غالبه، فأطروه ونشطوه فازداد رغبة في الخطابة والصحافة، ولذت له الشهرة ووطن النفس على الاستهلاك في طلب الجلاء، وجعل ذلك وجهته وكعبة آماله ومدار أعماله، وهو يعلم عجزه عن تلك الأمنية بنفسه وأهله فرأى أن يستعين بفرنسا وقد جرأه على ذلك ما آنسه في رحلته الأولى من الحفاوة وما سمعه من التأمين والترغيب على عادة الفرنساويين من الانقياد إلى الوجدان، فكف عن صناعته، وانقطع للمطالبة بالجلاء، فشخص سنة 1895 إلى باريس ومعه رسم كبير يمثل مصر والاحتلال الإنكليزي بشكل يرمز عن توسل المصريين إلى فرنسا أن تساعدهم كما ساعدت الأميركان واليونان والبلجيكيين والإيطاليان في نيل حريتهم.
رفع هذا الرسم إلى مجلس النواب الفرنساوي في 4 يونيو من تلك السنة، ومعه عريضة قدمها باسمه ينوب فيها عن مصر في استنجاد ذلك المجلس على الإنكليز، وكان لهذا العمل دوي في فرنسا فضلا عن مصر، وتحدث الناس يومئذ بجرأة هذا الشاب وعلو همته وإقدامه وهو إلى ذلك الحين لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره، فلم يأت هذا المسعى بالنتيجة المطلوبة ولكن الفرنساويين رحبوا بالخطيب المصري، وتقاطر إليه كتاب الصحف يقابلونه وينشرون آراءه في جرائدهم، وتسابق القوم يدعونه إلى إلقاء الخطب في أنديتهم، وكلها ترمي إلى الغرض عينه، وأول خطبة سياسية ألقاها على الإفرنج في طولوز صدرها بتاريخ الاحتلال وعهوده وفصل أحوال النظارات المصرية وسيطرة الإنكليز فيها، وبالغ في استئثارهم بالوظائف والنفوذ واحتقارهم الأهالي، وأخذ يبرهن أن وجود الإنكليز بمصر يخالف كل المعاهدات، وأن إخراجهم منها يوافق مصالح دول أوروبا كافة، ثم ألقى خطبا أخرى وراسل الجرائد وكاتب الوزراء وكلها ترجع إلى انتقاد الاحتلال وطلب الجلاء. أشهرها خطاب بعث به إلى المستر غلادستون من باريس يسأله رأيه في مسألة مصر والاحتلال، فأجابه غلادستون جوابا جاء في جملته قوله : «إننا يجب أن نترك مصر بعد أن نتم فيها - بكل شرف، وفي فائدة مصر نفسها - العمل الذي من أجله دخلناها»، و«إن زمن الجلاء على ما أعلم قد وافى منذ سنين.»
فلا عجب بعد اعتراف أعظم رجال إنكلترا بموافاة زمن الجلاء إذا رأينا مصطفي كامل يزداد ثباتا في دعوته، فرجع إلى مصر في أوائل سنة 1895 وقضى بضع سنوات وهو يخطب ويكتب ويكاتب ويناضل، وكأنه خاف أن تضيق الصحف عن خطبه ومراسلاته، فأنشأ جريدة اللواء اليومية لنشر آرائه السياسية سنة 1899 وهي الآن في سنتها الثانية عشرة، وصوتها في الدفاع عن مصر والمصريين من أعلى الأصوات.
ولما تم الاتفاق بين إنكلترا وفرنسا بشأن مصر والمغرب الأقصى، ولم ينل مصطفى من فرنسا غير المواعيد وجه احتجاجه إلى المراجع الأصلية، إما إلى رجال السياسة بإنكلترا رأسا أو إلى جرائدهم، وسافر إلى بلاد الإنكليز لهذه الغاية، ثم رأى ذلك لا يفي بمراده ولا يحيط بمدى صوته فأنشأ اللوائين الإنكليزي والفرنساوي لينشر فيهما أقواله عن مطالب مصر حتى يصل النداء إلى إنكلترا وسائر أوروبا، وألف لهما شركة مساهمة هي أول مساهمة تألفت لإنشاء الجرائد في هذه البلاد، وذهب بنفسه إلى إنكلترا واستقدم المحررين.
فطار صيته في الآفاق، وأصبح اسمه مرادفا لاحتجاج مصر على إنكلترا، وهو في خلال ذلك لا يضيع فرصة لا يحتج بها، ومن أشهر مواضيع احتجاجه مسألة دنشواي، فقد كان في مقدمة المنادين بظلم الحكومة على أهلها واستكتب الأهلين عرائض لالتماس العفو وقع عليها 12500 من المصريين ورفعها إلى الجناب العالي، وكان في أثناء ذلك يخدم مصلحة الدولة العلية من طرق كثيرة، فأنعم عليه السلطان بالرتب والألقاب حتى بلغ الرتبة الأولى من الصنف الثاني، والنيشان المجيدي الثاني. وتعلقت به قلوب المصريين، وتعشقوه بما لم يسبق له مثيل، فلما تشكل الحزب الوطني في العام الماضي انتخبوه رئيسا له طول حياته، ولكنه رحمه الله كان قصير الحياة، فتوفي في العاشر من فبراير سنة 1908 وهو في الرابعة والثلاثين من عمره. فانتخبوا مكانه رفيقه في جهاده محمد بك فريد رئيسا للحزب، ومديرا للألوية الثلاثة. (2-2) صفاته وأعماله
كان رحمه الله متوسط القامة، قمحي اللون، سريع الحركة، جريئا مقداما، فصيح اللهجة، قوي العارضة، شديد الثقة بنفسه، واسع الآمال، طموحا للعلى، مستقل الفكر، صريح القول، وكان عصبي المزاج، والعصبي يغلب فيه الذكاء وحدة الذهن وسرعة الخاطر، وكانت هذه الطبائع ظاهرة في الفقيد ظهورا واضحا؛ إذ كثيرا ما كنا نراه في أثناء نضاله يكاد يغلب على رأيه لما يظهر لنا من حجة خصمه، فما هو إلا أن يصدر اللواء في اليوم التالي فنراه قد تدرع بدفاع أيده بشواهد تاريخية انتبه لها، وكانت تساعده على ذلك قوة الحافظة.
Bog aan la aqoon