بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
التقية: اسم لاتقى يتقي، والتاء بدل عن الواو كما في التهمة والتخمة.
والمراد هنا: التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق..
والكلام تارة يقع في حكمها التكليفي، وأخرى في حكمها الوضعي.
والكلام في الثاني تارة من جهة الآثار الوضعية المترتبة على الفعل المخالف للحق، وأنها تترتب على الصادر تقية كما تترتب على الصادر اختيارا، أم وقوعه تقية يوجب رفع تلك الآثار، وأخرى في أن الفعل المخالف للحق هل تترتب عليه آثار الحق بمجرد الإذن فيها من قبل الشارع أم لا؟
ثم الكلام في آثار الحق الواقعي قد يقع في خصوص الإعادة والقضاء إذا
Bogga 37
كان الفعل الصادر تقية من العبادات، وقد يقع في الآثار الأخر، كرفع الوضوء الصادر تقية للحدث بالنسبة إلى جميع الصلوات، وإفادة المعاملة الواقعة تقية الآثار المترتبة على المعاملة الصحيحة.
فالكلام في مقامات أربعة:
* * *
Bogga 38
أما الكلام في حكمها التكليفي (1):
فهو أن التقية تنقسم إلى الأحكام الخمسة:
فالواجب منها: ما كان لدفع الضرر الواجب فعلا، وأمثلته كثيرة.
والمستحب: ما كان فيه التحرز عن معارض الضرر: بأن يكون تركه مفضيا تدريجا إلى حصول الضرر، كترك المداراة مع العامة وهجرهم في المعاشرة في بلادهم، فإنه ينجر غالبا إلى حصول المباينة الموجب لتضرره منهم.
والمباح: ما كان التحرز عن الضرر وفعله مساويا في نظر الشارع، كالتقية في إظهار كلمة الكفر على ما ذكره جمع من الأصحاب، ويدل عليه الخبر الوارد في رجلين أخذا بالكوفة وأمرا بسب أمير المؤمنين صلوات الله عليه (2).
والمكروه: ما كان تركها وتحمل الضرر أولى من فعله، كما ذكر ذلك بعضهم في إظهار كلمة الكفر، وأن الأولى تركها ممن يقتدي به الناس، إعلاء لكلمة الاسلام، والمراد بالمكروه حينئذ ما يكون ضده أفضل.
والمحرم منه: ما كان في الدماء.
وذكر الشهيد قدس سره (3) في قواعده:
Bogga 39
أن المستحب: إذا كان لا يخاف ضررا عاجلا ويتوهم ضررا آجلا أو ضررا سهلا، أو كان تقية في المستحب، كالترتيب في تسبيح الزهراء صلوات الله عليها وترك بعض فصول الأذان.
والمكروه: التقية في المستحب حيث لا ضرر عاجلا ولا آجلا، ويخاف منه الالتباس على عوام المذهب.
والحرام: التقية حيث يؤمن الضرر عاجلا وآجلا، أو في قتل مسلم.
والمباح: التقية في بعض المباحات التي ترجحها العامة ولا يصل (1) بتركها ضرر (2)، انتهى.
وفي بعض ما ذكره قدس سره تأمل.
ثم الواجب منها يبيح كل محظور من فعل الواجب وترك المحرم.
والأصل في ذلك: أدلة نفي الضرر (3)، وحديث رفع عن أمتي تسعة أشياء، ومنها: " ما اضطروا إليه " (4)، مضافا إلى عمومات التقية، مثل قوله في الخبر: " إن التقية واسعة، ليس شئ من التقية إلا وصاحبها مأجور " (5)، وغير ذلك من
Bogga 40
الأخبار المتفرقة في خصوص الموارد. (1).
وجميع هذه الأدلة حاكمة على أدلة الواجبات والمحرمات، فلا يعارض بها شئ منها حتى يلتمس الترجيح ويرجع إلى الأصول بعد فقده، كما زعمه بعض في بعض موارد هذه المسألة.
وأما المستحب من التقية فالظاهر وجوب الاقتصار فيه على مورد النص، وقد ورد النص: بالحث على المعاشرة مع العامة، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، والصلاة في مساجدهم، والأذان لهم (2)، فلا يجوز التعدي عن ذلك إلى ما لم يرد فيه النص من الأفعال المخالفة للحق، كذم بعض رؤساء الشيعة للتحبب إليهم.
وكذلك المحرم والمباح والمكروه، فإن هذه الأحكام على خلاف عمومات التقية، فيحتاج إلى الدليل الخاص.
* * *
Bogga 41
وأما المقام الثاني:
فنقول: إن الظاهر ترتيب آثار العمل الباطل على الواقع تقية وعدم ارتفاع الآثار بسبب التقية إذا كان دليل تلك الآثار عاما لصورتي الاختيار والاضطرار، فإن من احتاج لأجل التقية إلى التكتف في الصلاة، أو السجود على ما لا يصح السجود عليه، أو الأكل في نهار رمضان، أو فعل بعض ما يحرم على المحرم، فلا يوجب ذلك ارتفاع أحكام تلك الأمور بسبب وقوعها تقية.
نعم، لو قلنا بدلالة حديث رفع التسعة (1) على رفع جميع الآثار، تم ذلك في الجملة.
لكن الانصاف ظهور الرواية في رفع المؤاخذة، فمن اضطر إلى الأكل والشرب تقية أو التكتف في الصلاة، فقد اضطر إلى الافطار وإبطال الصلاة، لأنه مقتضى عموم الأدلة، فتأمل.
Bogga 42
المقام الثالث: في حكم الإعادة والقضاء إذا كان المأتي به تقية من العبادات.
فنقول: إن الشارع إذا أذن في إتيان واجب موسع على وجه التقية - إما بالخصوص كما لو أذن في الصلاة متكتفا حال التقية، وإما بالعموم كأن يأذن بامتثال أوامر الصلاة أو مطلق العبادات على وجه التقية، كما هو الظاهر من أمثال قوله عليه السلام: " التقية في كل شئ إلا في النبيذ والمسح على الخفين " (1) ونحوه (2) - ثم ارتفعت التقية قبل خروج الوقت، فلا ينبغي الاشكال في إجزاء المأتي به وإسقاطه، للأمر، كما تقرر في محله: من أن الأمر بالكلي كما يسقط بفرده الاختياري كذلك يسقط بفرده الاضطراري إذا تحقق الاضطرار الموجب للأمر به، فكما أن الأمر بالصلاة يسقط بالصلاة مع الطهارة المائية كذلك يسقط مع الطهارة الترابية إذا وقعت على الوجه المأمور به.
أما لو لم يأذن في امتثال الواجب الموسع في حال التقية خصوصا أو عموما على الوجه المتقدم، فيقع الكلام في أن الوجوب في الواجب الموسع هل يتعلق بإتيان هذا الفرد المخالف للواقع بمجرد تحقق التقية في جزء من الوقت، بل في مجموعه؟ وبعبارة أخرى: الكلام في أنه هل يحصل من الأوامر المطلقة بضميمة أوامر التقية أمر بامتثال الواجبات على وجه التقية أو لا؟ بل غاية الأمر سقوط الأمر عن المكلف في حال التقية ولو استوعب الوقت.
والتحقيق: أنه يجب الرجوع في ذلك إلى أدلة تلك الأجزاء والشروط المتعذرة لأجل التقية.
Bogga 43
فإن اقتضت مدخليتها في العبادة من دون فرق بين الاختيار والاضطرار، فاللازم الحكم بسقوط الأمر عن المكلف حين تعذرها لأجل التقية ولو في تمام الوقت، كما لو تعذرت الصلاة في تمام الوقت إلا مع الوضوء بالنبيذ، فإن غاية ذلك سقوط الأمر بالصلاة رأسا لاشتراطها بالطهارة بالماء المطلق المتعذرة في الفرض، فحاله كحال فاقد الطهورين.
وإن اقتضت مدخليتها في العبادة بشرط التمكن منها دخلت المسألة في مسألة أولي الأعذار: في أنه إذا استوعب العذر الوقت لم يسقط الأمر رأسا، وإن كان في جزء من الوقت - مع رجاء زواله في الجزء الآخر، أو مع عدمه - جاء فيه الخلاف المعروف في أولي الأعذار، وأنه هل يجوز لهم البدار أم يجب عليهم الانتظار.
فثبت من جميع ما ذكرنا أن صحة العبادة المأتي بها على وجه التقية تتبع إذن الشارع في امتثالها حال التقية.
والإذن متصور بأحد أمرين:
أحدهما: الدليل الخارجي الدال على ذلك، سواء كان خاصا بعبادة أو كان عاما لجميع العبادات.
والثاني: فرض شمول الأوامر العامة بتلك العبادة لحال التقية.
لكن يشترط في كل منهما بعض ما لا يشترط في الآخر:
فيشترط في الثاني كون الشرط أو الجزء المتعذر للتقية من الأجزاء والشرائط الاختيارية، وأن لا تكون للمكلف مندوحة: بأن لا يتمكن من الاتيان بالعمل الواقعي في مجموع الوقت، أو في الجزء الذي يوقعه مع اليأس من التمكن منه فيما بعده أو مطلقا على التفصيل والخلاف في أولي الأعذار، وهذان الأمران غير معتبرين في الأول، بل يرجع فيه إلى ملاحظة ذلك الدليل الخارجي، وسيأتي أن الدليل الخارجي الدال على الإذن في التقية في الأعمال لا يعتبر فيه شئ
Bogga 44
منهما.
ويشترط في الأول أن تكون التقية من مذهب المخالفين، لأنه المتيقن من الأدلة الواردة في الإذن في العبادات على وجه التقية، لأن المتبادر التقية من مذهب المخالفين، فلا يجري في التقية عن الكفار أو ظلمة الشيعة، لكن في رواية مسعدة بن صدقه (1) الآتية ما يظهر منه عموم الحكم لغير المخالفين (2)، مع كفاية عمومات التقية في ذلك، بعد ملاحظة عدم اختصاص التقية في لسان الأئمة صلوات الله عليهم بالمخالفين، لما يظهر بالتتبع في أخبار التقية التي جمعها في الوسائل (3).
وكذا لا إشكال في التقية عن غير مذهب المخالفين، مثل التقية في العمل على طبق عمل عوام المخالفين الذين لا يوافق مذهب مجتهدهم، بل وكذا التقية في العمل على طبق الموضوع الخارجي الذي اعتقدوا تحققه في الخارج مع عدم تحققه في الواقع، كالوقوف بعرفات يوم الثامن والإفاضة منها ومن المشعر يوم التاسع موافقا للعامة إذا اعتقدوا رؤية هلال ذي الحجة في الليلة الأخيرة من ذي القعدة.
Bogga 45
فإن الظاهر خروج هذا عن منصرف أدلة الإذن في ارتفاع الأعمال على وجه التقية لو فرضنا هنا إطلاقا، فإن هذا لا دخل له في المذهب، وإنما هو اعتقاد خطأ في موضوع خارجي.
نعم، العمل على طبق الموضوعات العامة الثابتة على مذهب المخالفين داخل في التقية عن المذهب، فيدخل في الاطلاق لو فرض هناك إطلاق، كالصلاة عند اختفاء الشمس، لذهابهم إلى أنه هو المغرب.
ويمكن إرجاع الموضوع الخارجي أيضا في بعض الموارد إلى الحكم، مثل ما إذا حكم الحاكم بثبوت الهلال من جهة شهادة من لا تقبل شهادته إذا كان مذهب الحاكم القبول، فإن ترك العمل بهذا الحكم قدح في المذهب، فيدخل في أدلة التقية.
وكيف كان ففي هذا الوجه لا بد من ملاحظة إطلاق دليل الترخيص لإتيان العبادة على وجه التقية وتقييده والعمل على ما يقتضيه الدليل.
وأما في الوجه الثاني، فهذا الشرط غير معتبر قطعا، لأن مبناه على العمل المخالف للواقع من جهة تعذر الواقع، سواء كان تعذره للتقية من مخالف أو كافر أو موافق، وسواء كان في الموضوع أم في الحكم.
كل ذلك لأن المناط في مسألة أولي الأعذار العذرية، من غير فرق بين الأعذار.
بقي الكلام: في اعتبار عدم المندوحة الذي اعتبرناه في الوجه الثاني.
فإن الأصحاب فيه بين غير معتبر له، كالشهيدين (1) والمحقق
Bogga 46
الثاني (1) في البيان (2) والروض (3) وجامع المقاصد (4).
وبين معتبر له، كصاحب المدارك (5).
وبين مفصل، كما عن المحقق الثاني: بأنه إذا كان متعلق التقية مأذونا فيه بخصوصه كغسل الرجلين في الوضوء والتكتف في الصلاة، فإنه إذا فعل على الوجه المأذون فيه كان صحيحا مجزيا، وإن كان للمكلف مندوحة، التفاتا إلى أن الشارع أقام ذلك مقام المأمور به حين التقية، فكان الاتيان به امتثالا، وعلى هذا فلا تجب الإعادة وإن تمكن من فعله على غير وجه التقية قبل خروج الوقت.
قال: ولا أعلم خلافا في ذلك بين الأصحاب.
وأما إذا كان متعلقها مما لم يرد فيه نص بالخصوص، كفعل الصلاة إلى غير القبلة والوضوء بالنبيذ ومع الاخلال بالموالاة فيجف الوضوء كما يراه بعض
Bogga 47
العامة، فإن المكلف يجب عليه إذا اقتضت الضرورة موافقة أهل الخلاف فيه وإظهار الموافقة لهم، ثم إن أمكن له الإعادة في الوقت وجب، ولو خرج الوقت ينظر في دليل يدل على القضاء، فإن حصل الظفر به أوجبناه، وإلا فلا، لأن القضاء إنما يجب بفرض جديد، انتهى.
ثم نقل عن بعض أصحابنا القول بعدم وجوب الإعادة، لكون المأتي به شرعيا.
ثم رده: بأن الإذن في التقية من جهة الاطلاق لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقة مع الحاجة (1)، انتهى.
أقول: ظاهر قوله في المأذون بالخصوص لا تجب فيه الإعادة وإن تمكن من فعله قبل خروج الوقت، أن عدم التمكن من فعله على غير وجه التقية حين العمل معتبر، وأن من كان في سوق وأراد الصلاة وجب عليه مع التمكن الذهاب إلى مكان مأمون فيه.
وحينئذ فمعنى قوله قبل ذلك: وإن كان للمكلف مندوحة عن فعله، ثبوت المندوحة بالتأخير إلى زمان ارتفاع التقية، لا وجودها بالنسبة إلى زمان العمل.
وحينئذ يكون هذا قولا باعتبار عدم المندوحة على الاطلاق كصاحب المدارك، إذ ليس مراد صاحب المدارك بعدم المندوحة عدم المندوحة في مجموع الوقت، إذ الظاهر أنه مما لم يعتبره أحد، لما سيجئ من مخالفته لظواهر الأخبار، بل لصريح بعضها.
ومراد القائل بعدم اعتباره عدم اعتباره في الجزء الذي يقع الفعل فيه، فمن تمكن من الصلاة في بيته مغلقا عليه الباب لا يجب عليه ذلك، بل يجوز له الصلاة تقية في مكانه ودكانه بمحضر المخالفين.
Bogga 48
نعم، لو كان الخلاف في اعتبار عدم المندوحة في تمام الوقت وعدمه، كان ما ذكره المحقق تفصيلا في المسألة.
وعلى أي تقدير فيرد على ما ذكره المحقق في القسم الثاني:
أنه إن أراد من عدم ورود نص بالخصوص في الإذن في متعلق التقية: عدم النص الموجب للإذن في امتثال العمل على وجه التقية.
ففيه: أنه لا دليل حينئذ على مشروعية الدخول في العمل المفروض امتثالا للأوامر المطلقة المتعلقة بالعمل الواقعي، لأن الأمر بالتقية لا يستلزم الإذن في امتثال تلك الأوامر، لأن التحفظ عن الضرر إن تأدى بترك ذلك العمل رأسا - بأن يترك الصلاة في تلك الحال - وجب، ولا يشرع الدخول في العمل المخالف للواقع بعد تأدي التقية بترك الصلاة رأسا، وإن فرضنا أن التقية ألجأته إلى الصلاة ولا تتأدى بترك الصلاة كانت الصلاة المذكورة واجبة عينا، لانحصار التقية فيها، فهي امتثال لوجوب التقية عينا لا للوجوب الموسع المتعلق بالصلاة الواقعية.
وإن أراد به: عدم النص الدال على الإذن في هذه العبادة بالخصوص، وإن كان هناك نص عام دال على الإذن في امتثال أوامر مطلق العبادات على وجه التقية.
ففيه: أن هذا النص كما يكفي للدخول في العبادة امتثالا للأمر المتعلق بها، كذلك يوجب موافقة الأجزاء وعدم وجوب الإعادة في الزمن الثاني إذا ارتفعت التقية.
والحاصل: أن الفرق بين كون متعلق التقية مأذونا فيه بالخصوص أو بالعموم لا يفهم (1) له وجه، كما اعترف به بعض، بل كلما يوجب الإذن في
Bogga 49
الدخول في العبادة امتثالا لأوامرها كان امتثاله موجبا للاجزاء وسقوط الإعادة، سواء كان نصا خاصا أو دليلا عاما، وكلما لا يدل على الإذن في الدخول على الوجه المذكور لم يشرع بمجرده الدخول في العبادة على وجه التقية امتثالا لأمرها، بل إن انحصرت التقية في الاتيان بها كانت امتثالا لأوامر وجوب التقية لا لأوامر وجوب تلك العبادة.
اللهم إلا أن يكون مراده من الأمر العام أوامر التقية، ومن وجوب العمل على وجه التقية إذا اقتضت الضرورة هو هذا الوجوب العيني لا الوجوب التخييري الحاصل من الوجوب الموسع، فيكون حاصل كلامه الفرق بين الإذن في العمل امتثالا للأوامر المتعلقة بالعبادة وبين الإذن في العمل امتثالا لأوامر التقية.
لكن ينبغي حينئذ تقييده بغير ما إذا كانت التقية في الأجزاء والشروط الاختيارية، وإلا فتدخل المسألة في مسألة أولي الأعذار، ويصح الاتيان بالعمل المذكور امتثالا للأوامر المتعلقة بذلك العمل مع تعذر تلك الأجزاء والشرائط لأجل التقية، على الخلاف والتفصيل المذكور في مسألة أولي الأعذار.
ومما ذكرنا يظهر أن ما أجاب به بعض عن هذا التفصيل - بأن المسألة مسألة ذوي الأعذار، وأن الحق فيها سقوط الإعادة بعد التمكن من الشرط المتعذر - لا وجه له على إطلاقه.
ثم إن الذي يقوى في النظر في أصل مسألة اعتبار عدم المندوحة:
أنه إن أريد عدم المندوحة بمعنى عدم التمكن حين العمل من الاتيان به موافقا للواقع - مثل أنه يمكنه عند إرادة التكفير للتقية من الفصل بين يديه:
بأن لا يضع بطن أحدهما على ظهر الأخرى، بل يقارب بينهما، وكما إذا تمكن من صبه الماء من الكف إلى المرفق لكنه ينوي الغسل عند رجوعه من المرفق إلى الكف - وجب ذلك ولم يجز العمل على وجه التقية، بل التقية على هذا الوجه غير
Bogga 50
جائزة في غير العبادات أيضا، وكأنه مما لا خلاف فيه.
وإن أريد به عدم التمكن من العمل على طبق الواقع في مجموع الوقت المضروب لذلك العمل - حتى لا يصح العمل تقية إلا لمن لم يتمكن في مجموع الوقت من الذهاب إلى موضع مأمون - فالظاهر عدم اعتباره، لأن حمل أخبار الإذن في التقية في الوضوء والصلاة على صورة عدم التمكن من إتيان الحق في مجموع الوقت مما يأباه ظاهر أكثرها، بل صريح بعضها، ولا يبعد أيضا كونه وفاقيا.
وإن أريد عدم المندوحة حين العمل من تبديل موضوع التقية بموضوع الأمن - كأن يكون في سوقهم ومساجدهم، ولا يمكن في ذلك الحين من العمل على طبق الواقع إلا بالخروج إلى مكان خال أو التحيل في إزعاج من يتقي منه عن مكانه لئلا يراه - فالأظهر في أخبار التقية عدم اعتباره، إذ الظاهر منها الإذن بالعمل على التقية في أفعالهم المتعارفة من دون إلزامهم بترك ما يريدون فعله بحسب مقاصدهم العرفية، أو فعل ما يجب تركه كذلك مع لزوم الحرج العظيم في ترك مقاصدهم ومشاغلهم لأجل فعل الحق بقدر الامكان ، مع أن التقية إنما شرعت تسهيلا للأمر على الشيعة ورفعا للحرج عنهم، مع أن التخفي عن المخالفين في الأعمال ربما يؤدي إلى اطلاعهم على ذلك، فيصير سببا لتفقدهم ومراقبتهم للشيعة وقت العمل، فيوجب نقض غرض التقية.
نعم، في بعض الأخبار ما يدل على اعتبار عدم المندوحة في ذلك الجزء من الوقت وعدم التمكن من رفع موضوع التقية.
مثل رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر (1) عن إبراهيم بن
Bogga 51
شيبة (1) قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام عن الصلاة خلف من يتولى أمير المؤمنين عليه السلام وهو يرى المسح على الخفين، أو خلف من يحرم المسح على الخفين وهو يمسح؟ فكتب عليه السلام: " إن جامعك وإياهم موضع لا تجد بدا من الصلاة معهم، فأذن لنفسك وأقم، فإن سبقك إلى القراءة فسبح " (2).
فإن ظاهرها اعتبار تعذر ترك الصلاة معهم.
ونحوها ما عن الفقه الرضوي (3) من المرسل عن العالم عليه السلام قال:
" ولا تصل خلف أحد إلا خلف رجلين: أحدهما من تثق به وبدينه (4) وورعه، وآخر من تتقي سيفه وسوطه وشره وبوائقه وشنيعته (5)، فصل خلفه على سبيل التقية والمداراة، وأذن لنفسك وأقم واقرأ فيها فإنه غير مؤتمن به " (6) إلى آخره.
وفي رواية معمر بن يحيى (7) الواردة في تخليص الأموال عن أيدي
Bogga 52
العشار (1): " أنه كلما خاف (2) المؤمن على نفسه فيه ضرورة، فله فيه التقية " (3).
وعن دعائم الاسلام (4) عن أبي جعفر الثامن صلوات الله عليه: " لا تصلوا خلف ناصب ولا كرامية (5)، إلا أن تخافوا على أنفسكم أن تشهروا ويشار إليكم، فصلوا في بيوتكم ثم صلوا معهم، واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا " (6).
ويؤيده العمومات الدالة على أن التقية في كل شئ يضطر إليه ابن آدم (7)، فإن ظاهرها حصر التقية في حال الاضطرار، ولا يصدق الاضطرار مع التمكن من تبديل موضوع التقية بالذهاب إلى موضع الأمن مع التمكن وعدم الحرج.
نعم، لو لزم من التزام ذلك حرج أو ضيق، من تفقد المخالفين وظهور حاله في مخالفتهم سرا، فهذا أيضا داخل في الاضطرار.
وبالجملة فمراعاة عدم المندوحة في الجزء من الزمان الذي يوقع فيه الفعل
Bogga 53
أقوى، مع أنه أحوط.
نعم، تأخير الفعل عن أول وقته لتحقق الأمن وارتفاع الخوف مما لا دليل عليه، بل الأخبار بين ظاهر وصريح في خلافه كما تقدم.
بقي هنا أمور:
الأول: أنك قد عرفت أن صحة العبادة واسقاطها للفعل ثانيا تابع لمشروعية الدخول فيها والإذن فيها من الشارع.
وعرفت أيضا أن نفس أوامر التقية الدالة على كونها واجبة من جهة حفظ ما يجب حفظه لا يوجب الإذن في الدخول في العبادة على وجه التقية، من باب امتثال الأوامر المتعلقة بتلك العبادة، إلا فيما كان متعلق التقية من الأجزاء والشروط الاختيارية، كنجاسة الثوب والبدن ونحوها، أما ما اقتضى الدليل ولو باطلاقه مدخليته في العبادة من دون اختصاص بحال الاختيار، فمجرد الأمر بالتقية لا يوجب الإذن في امتثال العبادة، فيضمن الفعل الفاقد لذلك الجزء أو الشرط تقية كما هو واضح.
ثم إن الإذن المذكور قد ورد في بعض العبادات، كالوضوء مع المسح على الخفين أو غسل الخفين (1)، والصلاة مع المخالف حيث يترك فيها بعض ماله مدخلية فيها وتوجد بعض الموانع مثل التكفير ونحوه (2).
والغرض هنا بيان أنه هل يوجد في عمومات الأمر بالتقية ما يوجب الإذن في امتثال العبادات عموما على وجه التقية - بحيث لا يحتاج في الدخول في كل عبادة على وجه التقية امتثالا للأمر المتعلق بتلك العبادة إلى النص
Bogga 54
الخاص، لتفيد قاعدة كلية في كون التقية عذرا رافعا لاعتبار ما هو معتبر في العبادات وإن لم يختص اعتباره بحال الاختيار، مثل الدخول في الصلاة مع الوضوء بالنبيذ أو مع التيمم في السفر بمجرد عزة الماء ولو كان موجودا - أم لا؟
الذي يمكن الاستدلال به على ذلك أخبار:
منها: قوله عليه السلام: " التقية في كل شئ يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله " (1).
بناء على أن المراد ترخيص الله سبحانه في كل فعل أو ترك يضطر إليه الانسان في عمله.
فنقول: مثلا أن الانسان يضطر إلى استعمال النبيذ أو المسح على الخفين أو غسل الرجلين في وضوئه، وإلى استعمال التراب للتيمم في صلاته، وإلى التكفير وترك البسملة، وغير ذلك من الأفعال والتروك الممنوعة شرعا في صلاته، فكل ذلك مرخص فيه في العمل، بمعنى ارتفاع المنع الثابت فيها لولا التقية وإن كان منعا غيريا من جهة التوصل بتركها إلى صحة العمل وأداء فعلها (2) إلى فساد العمل.
والحاصل أن المراد بالاخلال رفع المنع الثابت في كل ممنوع بحسب حاله من التحريم النفسي كشرب الخمر، والتحريم الغيري كالتكفير في الصلاة والمسح على حائل واستعمال ماء نجس أو مضاف في الوضوء.
فإن قلت: الاضطرار إلى هذه الأمور الممنوعة تابع للاضطرار إلى الصلاة التي تقع هذه فيها، وحينئذ فإن فرض عدم اضطرار المكلف إلى الصلاة مع أحد هذه الأمور الممنوعة فهي غير مضطر إليها، فلا ترخصها التقية، وإن فرض
Bogga 55
اضطراره إلى الصلاة معها فهي مرخص فيها، لكن يرجح الترخيص فيها بملاحظة ما دل على كونها مبطلة إلى الترخيص (1) في صلاة باطلة، ولا بأس به إذا [اقتضته] (2) الضرورة، فإن الصلاة الباطلة ليست أولى من شرب الخمر الذي [سوغته] (3) التقية.
قلت: لا نسلم توقف الاضطرار إلى هذه الأمور على الاضطرار إلى الصلاة التي تقع فيها، بل الظاهر أنه يكفي في صدق الاضطرار إليها كونها لا بد من فعلها مع وصف إرادة الصلاة في تلك الوقت لا مطلقا.
نظير ذلك: أنهم يعدون من أولي الأعذار من لا يتمكن من شرط الصلاة في أول الوقت مع العلم أو الظن بتمكنه منه فيما بعده، فإن تحقق الاضطرار ثبت الجواز الذي هو رفع المنع الثابت فيه حال عدم التقية، وهو المنع الغيري.
ومنها: ما رواه في أصول الكافي (4) بسنده عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: " التقية في كل شئ إلا في شرب المسكر والمسح على الخفين " (5).
دلت الرواية على ثبوت التقية ومشروعيتها في كل شئ ممنوع لولا التقية، إلا في الفعلين المذكورين، فاستثناء المسح على الخفين مع كون المنع فيه
Bogga 56