قال: وظاهر أيضا مما قيل من مقصد الأقاويل الشعرية أن المحاكاة التى تكون بالأمور المخترعة الكاذبة ليست من فعل الشاعر، وهى التى تسمى أمثالا وقصصا، مثل ما فى كتاب «كليلة ودمنه». لكن الشاعر إنما يتكلم فى الأمور الموجودة أو الممكنة الوجود، لأن هذه هى التى يقصد الهرب عنها أو طلبها أو مطابقة التشبيه لها، على ما قيل فى فصول المحاكاة. وأما الذين يعملون الأمثال والقصص فان عملهم غير عمل الشعراء — وإن كانوا قد يعملون تلك الأمثال والأحاديث المخترعة بكلام موزون. وذلك أن كليهما، وإن كانا يشتركان فى الوزن، فأحدهما يتم له العمل الذى قصده بالخرافة، وإن لم تكن موزونة، وهو التعقل الذى يستفاد من الأحاديث المخترعة. والشاعر لا يحصل له مقصوده على التمام من التخييل إلا بالوزن. فالفاعل للأمثال المخترعة والقصص إنما يخترع أشخاصا ليس لها وجود أصلا ويضع لها أسماء. وأما الشاعر فانما يضع أسماء لأشياء موجودة. وربما تكلموا فى الكليات، ولذلك كانت صناعة الشعر أقرب إلى الفلسفة من صناعة اختراع الأمثال. — وهذا الذى قاله هو بحسب عادتهم فى الشعر الذى يشبه أن يكون هو الأمر الطبيعى للأمم الطبيعية.
قال: وأكثر ما يجب أن يعتمد فى صناعة المديح أن تكون الأشياء المحاكيات أمورا موجوة، لا أمورا لها أسماء مخترعة، فان المديح إنما يتوجه نحو التحريك إلى الأفعال الإرادية. فاذا كانت الأفعال ممكنة، كان الإقناع فيها أكثر وقوعا، أعنى التصديق الشعرى الذى يحرك النفس إلى الطلب أو الهرب.
وأما الأشياء الغير موجودة فليس توضع وتخترع لها أسماء فى صناعة المديح إلا أقل ذلك، مثل وضعهم الجود شخصا، ثم يضعون أفعالا له ويحاكونها ويطنبون فى مدحه. وهذا النحو من التخييل، وإن كان قد ينتفع به منفعة غير يسيرة لمناسبة أفعال ذلك الشىء المخترع وانفعالاته للأمور الموجودة، فليس ينبغى أن يعتمد فى صناعة المديح. فان هذا النحو من التخييل ليس مما يوافق جميع الطباع، بل قد يضحك منه ويزدريه كثير من الناس. ومن جيد ما فى هذا الباب للعرب، وإن لم يكن على طريق الحث على الفضيلة، قول الأعشى PageV01P21 4
وإذا كان هذا هكذا، فظاهر أن الشاعر إنما يكون شاعرا بعمل الخرافات والاوزان بقدر ما يكون قادرا على عمل التشبيه والمحاكاة. وهو إنما يعمل التشبيه للأمور الإرادية الموجودة، وليس من شرطه أن يحاكى الأمور التى هى موجودة فقط، بل وقد يحاكى الأمور التى يظن بها أنها ممكنة الوجود، وهو فى ذلك شاعر ليس بدون ما هو فى محاكاة الأمور الموجودة، من قبل أنه ليس مانع يمنع أن توجد تلك الأشياء على مثل حال الأشياء التى هى الآن موجودة. فليس يحتاج فى التخيل الشعرى إلى مثل هذه الخرافات المخترعة، ولا أيضا يحتاج الشاعر المفلق أن تتم محاكاته بالأمور التى من خارج، وهو الذى يدعى نفاقا وأخذا بالوجوه. فان ذلك إنما يستعمله المموهون من الشعراء، أعنى الذين يراؤون أنهم شعراء وليسوا شعراء. وأما الشعراء بالحقيقة فليس يستعملونه إلا عندما يريدون أن يقابلوا به استعمال شعراء الزور له. وأما إذا قابلوا الشعراء المجيدين فليس يستعملونه أصلا. وقد يضطر المفلقون فى مواضع أن يستعينوا باستعمال الأشياء الخارجة عن عمود الشعر، من قبل أن المحاكاة ليس تكون فى كل موضع للأشياء الكاملة التى تمكن محاكاتها على التمام، بل لأشياء ناقصة تعسر محاكاتها بالقول، فيستعان على محاكاتها بالأشياء التى من خارج، وبخاصة إذا قصدوا محاكاة الاعتقادات، لأن تخيلها يعسر، إذ كانت ليست أفعالا ولا جواهر. وقد تمزج هذه الأشياء التى من خارج بالمحاكيات الشعرية أحيانا كأنها وقعت بالاتفاق من غير قصد، فيكون لها فعل معجب، إذ كانت الأشياء التى من شأنها أن تقع بالاتفاق معجبة.
Bogga 215