نجلس في أنتريه وثير بجوار الباب. صور عائلية على الجدران. تظهر طنط «زينب» بعد قليل. تقترب في بطء. سمراء قصيرة. تلهث بصورة مستمرة لأنها مريضة بالقلب. - إزيك يا أخويا؟ أعرف أنها ابنة خال أبي. وأنها كانت مخطوبة له وهو شاب قبل أن يتزوج من «أم نبيلة». ولم تتزوج حتى الآن. وتعيش مع أخيها «شمس» الذي لم يتزوج أيضا رغم أنه متقدم في العمر. تنظر إلي باسمة في حنان. تجلس «زهرة» عند قدميها. يسأل أبي عن صحتها. تقول: اللي يجيبه ربنا خير. أخبار «روحية» إيه؟ يقول: مفيش. الباب الحديدي مغلق. أمامه نساء وأطفال من الجيران. يتطلعون من شق كبير في زجاجه المموه. أرى من خلاله أمي واقفة أمام باب الشقة. بجانبها جدتي وبنات صاحب المنزل. أبي بملابسه الكاملة. رأسه عار. تصيح: عايز يسمني. حاطط لي السم هنا. تشير إلى كوب من الزجاج فوق حافة الدرابزين. يقول أبي في صوت هادئ متعب: معلهش. اشربي وانتي تروقي.
تقول وهي تنهج: اتغديت يا خويا؟ إحنا أكلنا و«شمس» دخل يقيل. تنهض بصعوبة. نتبعها إلى الداخل. غرفة منكوشة ليس بها أثاث غير مائدة مستديرة. نجلس حولها. تقدم لنا «زهرة» مكرونة اسباجتي مسلوقة وسلاطة خضراء. تغرف لي. ترش فوق طبقي الجبن الرومي المبشور. آكل بالشوكة في صعوبة. أذوق المكرونة بالجبن لأول مرة. لا أكمل طبقي. تطلب منها طنط «زينب» أن تفتح علبة «كومبوت». تحضر علبة ملونة وتغرف لي منها قطعا من التفاح والكمثرى. تضيف ملعقة من السائل السكري.
أذهب إلى الحمام مع أبي. جهاز معلق في الحائط. على سطحه نقش لشعلة نار فوق عبارة «شل بوتاجاز». يقول أبي إنه لتسخين المياه. ننتقل إلى الأنتريه. تحضر «زهرة» فنجانا من القهوة لأبي. يسأل طنط «زينب» عن ثمن سخان المياه. تقول: 16 جنيه. يتبادلان الأسئلة عن أحوال الأقارب. - بتشوف «نبيلة» يا خويا؟ - أيوه . - وإزيها؟ - والله .. يتوقف وينظر إلي. يطلب من «زهرة» أن تصحبني إلى البلكونة. أرافقها على مضض. أختلس نظرة خلفي. أبي يتكلم بصوت خافت. تبدو عليه الجدية البالغة. ندخل البلكونة الدائرية الصغيرة. من زاويتها اليسرى يمكن رؤية الميدان الفسيح الخالي أمام القصر. يحملني بين ساعديه ويضعني على السور الحديدي. يده القوية فوق ركبتي. أتطلع إلى الحشود المتجمعة في الميدان.
3
أرسم خريطة لتضاريس القارة الأفريقية. أعين المرتفعات والمنخفضات. أخطط الأسهم الدالة على الرياح. يرتفع فجأة صياح من الحارة. أهرع إلى البلكونة. الحارة مظلمة. يأتي الصياح من شقة «سهام» و«سلمى». ألوي رأسي لأرى مدخل الحارة. أنتظر عودة أبي من زيارة الحاج «عبد العليم» بمناسبة خروجه من الحبس. أستدير وأدخل. أقترب من باب الغرفة. أنصت. مصباح الصالة مضاء. أسمع صوت «فاطمة» أمام حوض المياه. تغسل زجاجة مصباح الزيت. تعلقه في مسمار فوق الحوض. تختفي في المطبخ. أخرج إلى الصالة. أقترب في تردد من مدخل طرقة المياه. أسمعها تشعل موقد الكيروسين.
أعود إلى الغرفة. ينطفئ النور فجأة. أنادي عليها. ترد علي. يقترب صوتها. تقول إن علبة الكبريت فرغت. تطلب مني البحث عن واحدة. - فين؟ - عندك. شوف جيب روب أبوك.
أتحسس طريقي في الظلام إلى شماعة الملابس. أمد يدي في جيب الروب. أصيح: مفيش. تصيح: هات ورقة جرنال. أحاول أن أتذكر أين موضع الجرنال. أقطع ورقة من نهاية كراسة الجغرافيا. أزعق: الورقة أهه. - هاتها. - لا، تعالي خديها. - مش شايفة من الضلمة.
أشم رائحة خوف في صوتها: أنا كمان مش شايف.
أقترب من باب الغرفة. أخطو إلى الصالة في رهبة: أنا أهو. أصطدم بها. تنزع الورقة من يدي في عنف. «أم إبراهيم» مقتعدة الأرض وسط الصالة أمام موقد الكيروسين. شعر رأسها مكشوف. أكرت وأحمر بلون الحنة. لون عينيها أقرب من الرمادي. تبدو عليها أمارات الخوف. أمي جالسة أمامها على مقعد. تأمرها بسلق الخيار. تبدي «أم إبراهيم» تعجبها: أسلقه؟ هو الخيار يتسلق يا ستي؟ تصرخ أمي فيها: ملكيش دعوة. اعملي زي ما باقولك. - حاضر يا ستي حاضر. بس متزعقيش. ترمي الخيار في الحلة الموضوعة على النار. أحمل فنجان القهوة في يدي. تنهض أمي. تخرج المفتاح من جيب ردائها. تفتح الغرفة. أدخل حاملا القهوة في حرص. يتناولها أبي. أحكي له ما حدث مع «أم إبراهيم». يضحك: تستاهل. طلعت عيني.
أتبعها إلى الطرقة. أشيح بوجهي عن فوهة الكنيف. تتقدمني إلى المطبخ وتعود بالموقد. ينبعث منه قليل من الضوء. تضعه على الأرض تحت الحوض. تخلع مصباح الزيت من مسماره. تنزع الزجاجة. تشعل الورقة من الموقد. تشعل فتيلة المصباح. تقدم إلي المصباح قائلة: تعالي معايا المطبخ. أقول: نقعد في الصالة أحسن. تقول: عندي غسيل. أحمل المصباح وأتبعها إلى المطبخ مكرها. تضع الموقد على الأرض بجوار طشت مليء بالملابس المتسخة. تتناول مني المصباح وتعلقه في مسمار على الجدار. تضع صفيحة المياه فوق الموقد. تجلس فوق المقعد الخشبي الواطئ أمام الطشت. تمد يدها. تقلب جردل المسح على فوهته. تزيحه بقدمها ليصبح بين الطشت والباب. تشير إلي أن أجلس فوق قاعدته. يصبح الباب خلفي. وهي أمامي. - تفتكري بابا حيتأخر؟
Bog aan la aqoon