أقول ل «ماهر» إن قريبا لي يملك سيارة. يختطف «جلال» مسدسي ويرفض إعادته لي. يجذبني من ياقة سترتي فيمزق طرفها. أتوعده بأن أبي سيشكوه إلى الناظر. يقول: طظ.
ننتقل إلى المدرج الكبير لنشاهد فيلم «طرزان في نيويورك». أسير بجانب «لمعي». أطول مني. وجهه متورد وفوق ساقيه زغب أصفر. أدعوه لأن يجلس بجواري. يفضل الجلوس في صف آخر. أخلع نظارتي وأمسح عدستيها بالمنديل. أتابع الفيلم مبهورا. نعود إلى الفصل. نحمل حقائبنا وننزل إلى قاعة الرسم. المدرس يرتدي سترة من الشامواه. هادئ وصموت. يرسم أي شيء بسهولة وسرعة. طاولات الرسم مصفوفة في مربع من ثلاثة أضلاع. يقتصر الضلع الرابع على طاولته أسفل السبورة.
ألقي بحقيبتي فوق الأرض. أجلس إلى إحدى الطاولات. أضع الكراسة على سطحها المائل. يكتب المدرس على السبورة: «شاهدت موكب المحمل في شهر أكتوبر الماضي.» يجلس إلى طاولته. يفتح كراسا عريضا من الورق السميك. ينهمك في الرسم.
أخرج القلم الرصاص والبراية وأفتح كراستي. ننحدر في الطريق حتى بائع الورد ثم ندلف إلى الميدان. نعبره ونقف على الرصيف بين الحشود في انتظار موكب المحمل. ولو كنا محظوظين سنرى الملك في سيارته الحمراء.
أرسم جملا. يشبه الحمار. أزيله بممحاتي. يتبقى أثره واضحا في الصفحة. أتطلع بحثا عن «ماهر» فلا أجده. المدرس منهمك في الرسم. لا يبدو عليه أنه يشعر بوجودنا. يقترب منه أحد التلاميذ طالبا مساعدته. يستجيب ويملأ له الصفحة بخطوط سريعة. يعود التلميذ إلى مقعده. يضع الكراسة في حقيبته. يحملها ويتجه إلى باب القاعة. يتسلل خارجا.
أضع البراية في طرف القلم وأديرها عدة مرات. يبرز السن ثم ينكسر. أبري القلم مرة ثانية. يلجأ تلميذ آخر إلى المدرس. يتبعه واحد ثالث. رابع وخامس. يغادرون القاعة بعد أن يرسم لهم. يتضاءل عددنا بالتدريج. أجد نفسي وحيدا. أحمل كراستي وأذهب إليه. أضعها أمامه دون كلمة. لا ينظر إلي أو يكلمني. يرسم لي جملا باركا بجرة واحدة من القلم. أختلس النظر إلى كراسته. بيوت ريفية متلاصقة. واجهاتها دقيقة التفاصيل. أعود إلى مقعدي. أضع الكراسة في حقيبتي. أحملها وأتجه إلى الباب. ألتفت خلفي. منهمك في الرسم.
نتفرق أمام باب المدرسة. السماء غائمة تنذر بالمطر. رائحة جميلة في الهواء. رصيف الحصى الملون. جدار مدرسة اليهود. إعلان ملون عن فيلم «العقل في أجازة». «محمد فوزي»، «ليلى فوزي»، «بشارة واكيم»، «عبد السلام النابلسي». فيلم «بلبل أفندي» في سينما «الكورسال». «صباح» و«فريد الأطرش».
أدور مع جدار المدرسة عند الناصية. النوافذ الطويلة مفتوحة. أطل على موائد صفت بغير نظام وتناثرت فوقها بقايا حبات قمح. رائحة غريبة. خطوات وأصبح في مواجهة منزلنا القديم. تتراجع السحب وتظهر شمس باهتة. الباب الحديدي مغلق. النوافذ مغلقة. تنهض أمي وتنصرف إلى رضاعة أختي. يرتدي أبي روبا فوق جلبابه ويستبدل الطاقية بالطربوش. يصحبني معه إلى الطريق. نتمشى في الشارع الساكن. نلتقي براهب في ملابس بيضاء. وجهه أبيض شديد الحمرة. يومئ أبي له محييا ويتمتم بالفرنسية: كومنتاليه فو؟ نصعد في الشارع حتى منتصفه ثم نعود. أقترب من سور حديقة مدرسة الراهبات المكون من أشجار كثيفة. أتلصص النظر داخلها. يتوقف أبي في انتظاري. أعرف أنه يراقبني. أتظاهر بالانهماك في الفرجة. يبدأ ضوء الغروب في الانحسار. يناديني بصوته الآمر.
أعبر الطريق. أقف تحت إحدى النافذتين. واحدة لغرفة النوم والأخرى لمائدة الطعام. بجوارها الحارة التي تطل عليها نافذة حجرة الضيوف ونافذة المطبخ المسورة بالقضبان الحديدية. تنتهي الحارة بمخزن لقدور العسل الأسود؛ لهذا تتجمع به الزنابير ذات الأشرطة الصفراء. أحد الأولاد ينجح في اصطياد أحدها. يربط زبانه بفتلة.
تقترب سيارة ملاكي ذات سقف مقوس صاعدة من طرف الشارع المؤدي إلى الميدان. تدلف في الشارع الجانبي الذي يؤدي إلى منطقة العشش. تقف أمام الفيلا التي تبعد عن منزلنا بعدة بيوت. ينزل منها رجل ممتلئ في ملابس ريفية أسفل عباءة سوداء فضفاضة. الرجل نفسه في جاكت أبيض وبنطلون أزرق وحذاء أبيض بصحبة امرأة رائعة الجمال في فستان أخضر. بقعة غائرة في جبهتها بجوار أذنها. يقول أبي إنه من أثر وشم أخضر. يخرجان من باب الفيلا. أقف أنا والأولاد على الرصيف المقابل. نختلس النظر داخل الفيلا. حديقة صغيرة دائرية ترتفع منها نباتات صبار.
Bog aan la aqoon