الإنسان والمجتمع في مصر
هل خلق الفرد من أجل الجماعة، أو خلقت الجماعة من أجل الفرد؟ وهل الإنسان والنحل والنمل، وسائر الهوام في الحياة الاجتماعية سواء بسواء، أو أن للإنسانية - من حيث هي - معنى أجل خطرا من إنسانية المواطن أو العامل في الإنتاج؟
إننا لو نظرنا إلى طبيعة الإنسان نظرا يحده أفق الحياة الدنيا وحدها، لتحتم علينا أن نقول: إن كل معاني الوجود الإنساني تحصرها دائرة التاريخ، وفي هذه الحالة لا يكون الفرد من بني الإنسان إلا جزءا من ذلك المجتمع الذي هو أحد أعضائه، وفي هذه الحالة كذلك يكون الشيء الذي يهم هو النمو الاجتماعي للجماعات.
ولكننا لو نظرنا - من جهة أخرى - إلى طبيعة الإنسان ومصيره، نظرا مركزا في حياته الآخرة وحدها، لتعين علينا أن نقول: إن كل معاني الوجود الإنساني تقع خارج دائرة التاريخ، وفي هذه الحالة يكون العالم بلا معنى، وكله شر، وينحصر - في هذه الحالة - كذلك سعي الإنسان في حمل المجتمع كرها، وفي الابتعاد عنه. وهكذا نجد المجتمع - حسب النظر الأول - يبتلع الفرد - إن صح هذا التعبير - وحسب النظر الثاني نجده عدوه اللدود؛ فالنظر الأول يغفل أن كل نفس إنسانية لها وجودها الذاتي، أما النظر الآخر فيغفل أن الإنسان - بحكم أنه كائن اجتماعي - لا يستطيع أن يبلغ الكمال الروحي الذي يسمو إليه إلا بعدم الانطواء على نفسه فيخالط الساعين سعيه الروحي، على أساس أن معرفة الله هي - في جوهرها - مسعى اجتماعي.
هذا ولم يتأثر المصريون في أدوار تاريخهم كثيرا بالنوع الأول من النظر في طبيعة الإنسان، ولكنهم - على العكس - غلب عليهم النوع الثاني من النظر، وذلك في ظل وثنيتهم ومسيحيتهم وإسلامهم، فلا نعجب إذن إذا أدركنا أن العقيدة الدينية لم ترجح كفة الفرد كما كان ينبغي لها أن تفعل، ولم ترفع عنه عبء ما أوجبه المجتمع عليه بحكم ضرورات لازمت المجتمع المصري ملازمة تكاد تكون دائمة.
وهذه الضرورات - التي سوف أتناولها الآن بالشرح - أدت إلى نوعين من النتائج: الحط من قدر الفرد وإلزامه بألا يخرج عمله عن التكرار من جهة، وحصر السلطان في قلة متسلطة، كانت الجماعات تشقى وتكدح لتوفير وسائل الراحة والمتعة والرفاهية لها من جهة أخرى.
وترجع الضرورات التي أشرنا إليها إلى عوامل طبيعية معينة مستقرة في أسس الحياة المصرية، وهي عوامل تعمل بانتظام، وتواصل عملها عاما بعد عام دون تغير جوهري فيها - أو على الأقل - دون تغير ملحوظ منذ فجر التاريخ على ما نعرفه، ومداه قصير نسبيا، فتوالي الفصول واختلافها والحرارة والرطوبة، واتجاه الرياح وسرعتها، وفيضان النيل وانخفاضه، كل هذه الظواهر الطبيعية تجري في نسق كامل منتظم الحركة، كما أن ما يحدث من التغيرات يخضع أيضا لنظام دوري رتيب. وإن بيئة هذا شأنها لا بد وأن يجري كدح الإنسان وكده فيها على سنن منتظمة رتيبة، إلا أنه لا بد لهذا الكد من أن يكون ثابتا متواصلا، وأن يجري على نهج نظام تصنعه سلطة عليا واحدة؛ إذ إن كل توقف في الكد والجهد، وكل توان في اليقظة والانتباه ، وكل نزوة من نزوات الفرد، يعقبها الدمار والكوارث.
ويحق لنا إذن أن نقول: إن مصر التي بناها المصريون وشادوها تتقاضى من بناتها ثمن بقائها، وتفرض عليهم نوع الحياة التي يحيونها، وقد بلغ من سيطرة مصر على ساستها وقادة أمرها ورسمها لهم خطط إدارتها واستغلال مواردها، أننا نجد - إذا استعرضنا على سبيل المثال - أعمال أحد سلاطين المماليك أو الولاة الرومان، هي هي أعمال أحد البطالمة نفسها، لم تتغير إلا في الأسماء والأعوام، لقد جعل مؤسسو مصر منها ضيعة، وكان من الضروري من أجل استغلالها أن يخضعوا سكانها لحكم مطلق مركز، فيجنون بذلك ثمرة تنظيمهم لموارد المياه وموارد التربة، فلا تضيع من الماء قطرة، ولا يبقى من الأرض شبر غير منزرع، ويمكن تلخيص مفتاح النظام كله في المبادئ الآتية:
الصلة الوثيقة بين الإدارة العامة وبين الاستغلال الاقتصادي، الأهمية القصوى لعمل الإدارة، الإدارة يجب أن تكون منتظمة يقظة. وما تاريخ مصر إلا مصداق لهذه المبادئ، فلا نعرف بلدا يتأثر أهلوه بالحكم صالحا أو فاسدا كما يتأثر أهل مصر، ولا نعرف بلدا يسرع إليه الخراب إذا ساءت إدارته كمصر، ولا نعرف بلدا تجري فيه العوامل الاقتصادية نحو نتائجها المقدرة دون تمهل ودون انحراف كما هو الحال في مصر، فتستطيع في مصر أن تقدر ما يترتب على رفع ضريبة من ازدياد الإنتاج وازدياد قوة الشراء، وتستطيع - في مصر - أن تحسب ما يساويه مال ينفق على مشروع من مشروعات الري قطنا كان أو قصب سكر.
فمن الجلي إذن أن بيئة مصر الطبيعية والبشرية تنزع نحو إيجاد عاملين، صالحين في الإنتاج، أكثر مما تنزع نحو إيجاد الثروات الفردية المتباينة، والمصري - في التاريخ - إنسان متعلق بقريته أو حقله أو الشارع أو الحي الذي يسكنه أشد تعلق، قريته أو مدينته هي وطنه، يشقى في عمله، ويشق عليه أن يتركه أو يهجره مهما ساءت حاله، ومهما انتابه من كوارث الطبيعة. ولما كانت السنون - في مسالكها - لا تأتي بجديد، فلا معنى للتطلع إلى جديد، وإذا ما امتد البصر إلى ما وراء القرية فما الذي يراه: إما أن يرى قرية أخرى، ولا جديد في ذلك، وإما أن يرى الصحراء، وما الصحراء إلا الجدب والموت، وأهلها رجال نهب وقطع طريق، فلا عجب أن يوليها الفلاح دائما ظهره، ولم يؤثر عن ابن المدينة أنه هام بشيء اسمه الطبيعة، والقروي والحضري كلاهما عرف الأيام الحلوة والأيام المرة، ولكنهما لم يتصورا وجود عصر ذهبي كان فيما مضى من الزمان، ولا يريانه قطعا في حاضرهما، وإن كانا يرجوانه من الله في الآخرة جزاء ما صبرا، ليس العصر الذهبي في الغابر، ولا في الحاضر، فالظاهر أن طيبات الدنيا كانت دائما من نصيب القلة، وكما قال الأستاذ توينبي: «خلال الخمسة أو الستة الآلاف من السنين الماضية استأثر قادة المدنيات المختلفة بثمرة كد الجماعات، وحرموا عبيدهم حقهم فيها دون تردد أو وخز ضمير، كما نفعل بالنحل نسطو على خلاياه وعسله.»
Bog aan la aqoon