Dib u cusboonaysiinta fikirka Carabta
تجديد الفكر العربي
Noocyada
ومن هذه العجينة البشرية التي تجانست أجزاؤها جهلا وخرافة، أردنا - ونريد - للمواطن العربي أن يولد من جديد ولادة يتخطى بها تلك الفترة المنكودة، إلى حيث أسلاف تركوا على درب الحضارة مواقع أقدام لن تمحوها رياح، ثم يجاوز هؤلاء الأسلاف أنفسهم، بجديد يساير به ركب العصر الذي يعيش فيه ... كلام هو أيسر اليسر حين يكتب أو يقال، لكنه أعسر العسر حين يراد له أن ينتقل من مداد منثور على الورق ليصبح كائنات بشرية تنشط في فجاج الأرض وتسعى. •••
على أن عملية الولادة الجديدة هذه، قد بدأت بالفعل منذ قرن ونصف قرن، ومع ذلك فهي ما زالت بعيدة عن مرحلة اكتمالها؛ إذ هي لم تزل - بعد قرن ونصف قرن - في حالة من العثار والفوضى، تحجب عن الأعين الفاحصة وضوح الرؤية، فلا تدري ماذا تكون بعد عشرة أعوام أخرى أو عشرين، ذلك أن نقطة البداية كانت هي الشرارة التي انقدحت عند التقاء الثقافة العربية بعد بيات شتوي دام ثلاثمائة عام، بالثقافة الأوروبية الحديثة، فعندئذ اضطربت صفوفنا، وانقسمنا مجموعات أشتاتا، كل منها ترى الخطأ فيما تراه الأخرى صوابا، وهي مجموعات ما تزال إلى يومنا هذا - بعد قرن ونصف قرن - مشتتة الفكرة مفرقة الرأي، تتباين - وهي متجاورة - تباين الألوان في الطيف.
فهنالك طرفان متطرفان: طرف منهما يجزع من الثقافة الأوروبية الحديثة أشد الجزع، ويعدها ثقافة دخيلة تستهدف التسلط والسيطرة، ويلوذ منها بمكمن التراث العربي الصرف، حتى ليكتب الكاتب من هذه الجماعة وكأن عشرة قرون أو اثني عشر قرنا لم تذهب من عمر الزمان، وكأنما الأرض لم تزل هي الأرض والسماء هي السماء. وأما الطرف المتطرف الآخر فيفرح بالثقافة الأوروبية الجديدة فرحة الأطفال باللعب والهدايا، يقلبونها ولا يحللونها، ويلمسونها من السطح ولا يتعمقونها، كما يفعل الذين لا يجيدون السباحة فيكتفون ببضعة أمتار يبعدون بها عن الشاطئ، ثم يأخذون في الضرب على الماء بالأذرعة والأرجل. هؤلاء - في فرحتهم الغامرة باللعبة الجديدة - يفزعهم أن تذكر لهم شيئا عن تراث عربي ينبغي له أن يبعث ليحيا بنا ولنحيا به. وبين هذين الطرفين المتطرفين تجد صنوفا شتى من الأمزجة التي تأخذ بطرف من هنا وطرف من هناك بنسب متفاوتة.
فمنهم من يقبل الغرب كله والتراث كله ويحسب أن الجمع بينهما أمر ممكن، كما صنع العقاد. ومنهم من يقبل الغرب كله وبعض التراث دون بعض، كما صنع طه حسين. ومنهم من يقبل التراث كله وبعض الغرب دون بعض، كما صنع محمد عبده. ومنهم من يجري تعديلا في التراث وفي الغرب معا، كما صنع أحمد أمين وتوفيق الحكيم.
ومنهم من يكاد يرفض الجانبين معا، فلا هو قد تعلم شيئا من التراث العربي ليعرفه، ولا هو يرضى بقبول الثقافة الغربية خشية أن يقال عنه إنه من توابع المستعمرين، وأمثال هؤلاء تراهم هذه الأيام بكثرة بين كتاب الشعر والقصة والمسرحية، ومن هنا سر سطحيتهم، ولكن من هنا أيضا سر الإبداع الذي يحاولونه ولو بدرجات يسيرة.
خليط عجيب، وهو خليط يدل على أننا لم نفق بعد من هول الصدمة التي اصطدم بها الفكر العربي بالفكر الأوروبي الحديث، كما يدل على أن فترة المخاض قد امتدت بنا هذا الزمن كله دون أن تلد المواطن العربي الجديد الذي لا ينكره أحد ولا يتنكر له أحد والذي نقدمه إلى العالم المعاصر قائلين: ها نحن أولاء قد تمثلنا في هذه السحنة والملامح ... نعم هو خليط فكري عجيب، هذا الذي يحيط بنا اليوم، حتى لترى نفسك في غير حاجة إلى «آلة الزمان» - التي تخيلها ه. ج. ولز - لتسير بك راجعة إلى الوراء أو متقدمة إلى أمام، فتنعم بالماضي إذا شئت، وتطير إلى المستقبل إذا شئت. أقول إنك لن تجد نفسك في حاجة إلى هذه الآلة التي تنتقل بك في تيار الزمن؛ لأنك واجد حولك من نماذج المفكرين من يمثلون لك أي عصر شئت. ولن يقتضيك الأمر أكثر من حركة يسيرة تذهب بها من منزل إلى منزل يجاوره، أو من شارع إلى شارع يحاذيه، لتجد أنك قد انتقلت من العصر الجاهلي إلى أواخر القرن العشرين، فنحن نعيش العصور كلها في وقت راهن واحد، ونحن نجسد الحضارات كلها في مدينة واحدة، فأين من هؤلاء جميعا من يستحق أن يوصف بأنه المواطن العربي الجديد؟ •••
لن يكمل للمواطن العربي الجديد كيانه، إلا إذا أضاف إلى نفسه صفات، وتخلى عن صفات. وليس الجانب السلبي هنا بأقل قيمة من الجانب الإيجابي، بل قد يكون التخلي عن الصفات المعوقة أبلغ أثرا من إضافة الصفات المرغوب في إضافتها، كالعليل الذي يهمه أن يطرد من بدنه جراثيم المرض، قبل أن يهمه نوع الطعام الصحي الذي ينبغي بأن يقتات به ليسترد العافية. وعلى أي الحالين فكثيرا ما يتشابك الجانب السلبي مع الجانب الإيجابي، بحيث يقترن الطرد بالجذب، والتخلي بالإضافة، اقترانا لا تدري معه أين انتهى الأول ليبدأ الثاني.
وإني لأنظر فأرى سلسلة الخصائص التي يراد لها أن تقتلع جذورها من تربتنا الثقافية، قبل أن يتاح لنا استنبات زرع جديد، إنما تترابط حلقاتها، فإذا سلمت بالأولى كان لزاما أن تسلم بالثانية فالثالثة فالرابعة ... وأولى هذه الحلقات وأعمقها جذورا وأكثرها فروعا، هي نظرة العربي إلى العلاقة بين الأرض والسماء، بين المخلوق والخالق، بين الواقع والمثال، بين الدنيا والآخرة، بين المعقول والمنقول. هذه كلها ظلال من موقف واحد وحقيقة واحدة، ونظرة العربي في صميمها هي أن السماء قد أمرت وعلى الأرض أن تطيع، وأن الخالق قد خط وخطط وعلى المخلوق أن يقنع بالقسمة والنصيب، وأن المثال سرمدي ثابت وعلى الواقع أن يقسر نفسه على بلوغه، وأنه إذا ما تعارضت الآخرة والدنيا، كانت الآخرة أحق بالاختيار، وأن المنقول إذا ما تناقض مع المعقول، ضحينا بالمعقول ليسلم المنقول.
تلك هي وقفة العربي في صميمها، لك أن تقول إنها وقفة أفلاطونية أكثر منها أرسطية؛ إذ هي وقفة من يجعل الثبات للسماء والفناء للأرض، ففي السماء الأصول وعلى الأرض الأشباح والظلال. إنها ثنائية حادة بين الغيب والشهادة، بين الروح والجسد، بين الإنسان والله. العلاقة بين الطرفين ليست هي التبادل بالأخذ والعطاء، بل هي علاقة الحاكم بالمحكوم، والحاكم هنا مطلق السلطان، والمحكوم معدوم الحول والحيلة. ولا يغير من الصورة أن يكون الحاكم المطلق عادلا، وأن يكون المحكوم ملاقيا جزاءه وفاقا؛ إذ ما يزال طريق السير في اتجاه واحد، يهبط الأمر من أعلى فيصدع به الأسفل، مهما تكن ظروف الواقع وتفصيلاته التي تحيط بهذا الأسفل إذ هو يؤدي الفعل على الأرض بكل خشونة سطحها وحزونته سهلا ووعرا.
تلك هي الحلقة الأولى من السلسلة، تلزم عنها حلقة ثانية، وهي أن قوانين الأشياء والظواهر في الطبيعة، قد تطرد أو لا تطرد، بحسب ما يشاء لها الحكم السماوي المطلق. فليقل العلم ما أراد، ليقل إن قوانين المطر هي كذا وكذا، وإن قوانين هبوب الرياح هي كيت وكيت. ليقل إن الجرثومة الفلانية قاتلة، وإن العلة الفلانية تستلزم معلولها. نعم، ليقل العلم ما أراد أن يقوله في أشياء الطبيعة وظواهرها - بما في ذلك الإنسان - وسيظل الحكم الحاسم للمشيئة الإلهية آخر الأمر، فتتوافر الظروف التي يقول العلم عنها إنها تقتضي نزول المطر، ومع ذلك لا ينزل، أو لا تتوافر تلك الظروف الضرورية ولكن يشاء الله فتنفجر السماء بمدرار من الماء. إنه - في ظل ثقافة كهذه - تبتر الروابط بين الأسباب ومسبباتها، بين الوسائل وغاياتها، فقد تسلك الوسيلة المؤدية لكنها برغم ذلك لا تؤدي، وقد توفر الأسباب المنتجة ثم تفاجأ بأنها عقيم لا تلد. والعكس صحيح كذلك، أي أن الغاية المنشودة قد تفجؤك وأنت قابع في عقر دارك لم تتخذ لها وسيلتها، وأن النتائج المرجوة قد تمثل بين يديك صاغرة برغم أنك لم تحرك من أجلها ساكنا، ولم تسكن متحركا، العلاقة مبتورة بين الغرس والثمر.
Bog aan la aqoon