قلت ضاحكا ومعتذرا عن مقاطعته: حتى تحليلاتكم الأخيرة لمعاني الحرية؟ إنني لا أجاملكم، وربما لا أعدو الصواب إذا قلت إنه سيكون لنا منها فلسفة في الحرية، كما كان للإنجليز فلسفتهم التي قدمها أمثال «لوك» و«مل» وغيرهما. رد على ضحكتي بتقطيبة حفرت خطوطها العميقة على جبهته، وشدت عضلات وجهه، ولم يلبث الصمت أن لفها في سحبه الكابية، فقلت مؤكدا اقتناعي بالضغط على كل كلمة أسدد حروفها إلى قلب الصمت: معذرة يا أستاذي إذا قلت - دون أن أخشى مظنة التملق الذي تعلمون أنني أبعد الناس عنه - إن التحليلات التي ذكرت القليل منها لا تستحق هذا الظلم. وأنا أعتقد مخلصا أنها تزيد عن كونها مجرد قفزات أو طرقات عابرة؛ فوراءها ركائز فكرية مغروسة في شتى جهودكم الفلسفية وكتاباتكم الأدبية والفنية، وهي كغيرها ما تزال تنتظر العقل الفلسفي الذي يستخرج مبادئها وأصولها، ويؤلف بين عناصرها في وحدة متسقة، ثم إنه الزمن وال... ولكنني وجدت أن صمته الذي طال وتكاثف يكاد ينطق بأن أتوقف، ولم أجد مناصا من الانتقال إلى آخر موضوع من الموضوعات التي كنت قد دونتها في ورقة أمامي:
دعوتم طوال أكثر من نصف قرن من حياتكم المباركة إلى الأخذ بمنطق العلم ومنهجه وحضارته، وكان ارتباطكم بالتجريبية أو الوضعية المنطقية وبفلسفة التحليل الإنجليزية تأكيدا لهذه الدعوة، التي ابتغت تخليص العقل العربي من الارتجال والفوضى، وتجنيبه الخلط بين مجال العقل ومجال الوجدان، وبين لغة العلم ولغة الدين، وحثه على الانتقال من عالم السكون والثبات والمطلقات الوهمية إلى عالم الحركة والفعل والإنجاز العلمي والعملي. هل ترون اليوم أن هذه الدعوة قد أتت بعض ثمارها؟ وهل تقدمنا على طريق التفكير العلمي والمنهجي في مواجهة مشكلاتنا وأزماتنا، أو حتى طريقة استخدام الكلمات التي لا ننفك نكررها ليل نهار بغير تمحيص ولا تحليل؟ وإذا كنا قد خطونا خطوة واحدة على هذا الطريق، أو عزمنا على وضع أقدامنا عليه، فلماذا تغص حياتنا العقلية واليومية بشتى صور اللاعقل واللاعلم؟ لا أكتمكم أنني أحس نغمة الحزن والحسرة والإحباط في بعض مقالاتكم الأخيرة، مثل «رسالة في زجاجة»، «أدرك السفينة يا ربانها»، و«مجتمع جديد أو الكارثة»، وغيرها. هل تعب الثائر الذي لم يكف عن تجديد ثورته من محاولة تغيير «أنوال الفكر العربي»، والخروج من عصورنا الوسطى إلى ثقافة عصرية تحترم العقل، وتتسلح بمنهج العلم، وتضع فردية الإنسان وكرامته وحريته في منزلة المبادئ والبديهيات والمسلمات؟ وهل يكفي في نظركم أن نطبق منهج التحليل المنطقي ونؤسس الفلسفة العلمية لتحقيق التغيير الذي نشدتموه، أم لا بد أن تؤازرها ثورة اجتماعية تقتلع جذور الفساد، وتحطم أصنام الاستبداد والتسلط والكذب والخرافة والتخلف؟
قال بعد أن سكت حتى خلت أنه غاب مني بعقله، وربما بسمعه أيضا: يؤسفني أن أقرر أننا لم نتقدم لا كثيرا ولا قليلا في الطريق الذي نتحول به إلى شعب يستخدم منطق العقل في المسائل التي هي بحاجة إلى منطق عقلي؛ فعلى الرغم من كوننا نقلنا كثيرا من علوم الغرب وأجهزة الغرب ونظم الغرب، إلا أننا نقلناها نقلا دون أن نتشرب التفكير والمنهج العقلي الذي أدى إلى إنتاج تلك العلوم والنظم عند أصحابها. لقد قطفنا الثمرة، ورفضنا أن نأخذ الشجرة بجذورها كي نزرعها نحن بأنفسنا ونجني منها ثمرتها. وسؤالك «ما الذي جعلنا نقبل ثمرات العصر ونرفضه من حيث المنهج العقلي الذي أنتج هذه الثمرات»، جوابه عندي أننا عندما رأينا أنفسنا خاضعين لمستعمر أجنبي أوروبي، تصورنا أن النهضة لا تكون إلا إذا استرددنا لأنفسنا هويتها العربية الإسلامية، ثم توهمنا أن هذه الهوية الأصيلة لن تتحقق لنا إلا إذا رفضنا المستعمرين جسدا وروحا؛ أي إلا إذا رفضناهم فكرا ووجودا وحضارة.
من هنا نجد التعليل لما حدث في منتصف القرن التاسع عشر وما بعدها، من حركات الإصلاح التي اتجهت نحو البدء بإحياء التراث والتراث الديني بصفة خاصة. كل هذا كان يصبح لا غبار عليه، بل ضرورة ملحة عند أي شعب يريد أن ينهض، لولا أننا لم نربط ربطا واعيا بين رغبتنا في أن نسترد هويتنا، وحاجتنا لأن نستبقي من ثقافة المستعمر ومن أصوله الحضارية ما يمكن أن يشتد به عود الهوية التي نحن بصدد إحيائها وحمايتها. لقد سرنا على العكس من ذلك تحت وهم أن استرداد الهوية يقتضي رفض الغرب. وعندما رأينا أنفسنا في الوقت نفسه مضطرين اضطرارا إلى الأخذ بعلوم الغرب وأسلحته وأجهزته ونظمه في التعليم والسياسة والاقتصاد وغيرها، نقلناها من حيث الصورة والقالب، ولم ننقلها من حيث الروح والمنهج؛ فنتج عن هذا كله الموقف الذي نحن فيه الآن من إحياء للتراث، وبجانبه قطوف قطفناها من ثقافة الغرب وحضارته، وأصبحنا في الواقع مثلا فريدا نستطيع أن نوضحه بالآية الكريمة:
كمثل الحمار يحمل أسفارا .
إن المفارقة هنا لا تكمن في أن الحمار يحمل ما ليس من طبعه حمله من أسفار كبيرة، ولكن في أن يحمل أيضا ما كان مضطرا إلى حمله. وكذلك نحن نحمل علوما وأفكارا نظرية اضطررنا اضطرارا إلى أخذها من الغرب، ورحنا نعلمها في جامعاتنا ومدارسنا، ونبني نظامنا السياسي وكثيرا جدا من بنائنا الاقتصادي على أساسها، بل الأغرب من ذلك كله نرفض أن نبث في أنفسنا روح الثقافة الغربية، وهو المنهج، والمنهج يعني المنهج العلمي بصفة عامة، بخصائصه النوعية ومقوماته الأخلاقية.
ولكي أزيد الأمر توضيحا أقول إننا عندما أحيينا تراثنا بالصورة التي أحييناه بها، وهي صورة من يحفظ هذا التراث حفظا أصم، كنا بالضرورة أمام ثقافة كلمة. أما حين نقلنا الغرب بغير منهج فقد نقلنا نوعا آخر من الثقافة، أوجد الحضارة بالفعل لا بالكلمة. فلو كنا نقلنا الغرب بمنهجه لتم لنا تطوير تراثنا في الوقت نفسه؛ لأننا كنا سننقل محورا جديدا هو محور الفعل لا محور الكلمة. من كل هذا نتج لنا الموقف الشاذ الذي نحياه اليوم. إنه مرة أخرى موقف إنسان يعيش في صميمه كلمات، ويستخدم في حياته العملية نتائج نتجت عن حضارة فعل، فأصبحنا نرتدي ثوبا مرقعا هو في نهاية التحليل ثوب لم نصنعه بأيدينا، وإنما استعرنا رقعا من ماضينا الذي لم نحسن فهمه ودرسه، ورقعا من حاضر الآخرين الذي لم نحسن كذلك استيعابه. ومن أجل هذا كان من الطبيعي ألا يكون لما كتبت أصداء ذات تأثير ملحوظ؛ لأنه يتلخص في الدعوة إلى منهج العلم. وطالما كان منهج العلم مرفوضا بالرغم من قبول نتائج العلم، فمن الطبيعي أن ترفض دعوتي. أما عن بقية السؤال الخاصة بحالة التدهور وعدم الجدية إلى آخر هذا الخط، فهي أيضا نتيجة طبيعية لإنسان يشتري العصر بماله، ثم يرفض أن يعيش هذا العصر نفسه في حياته، فيحدث بالطبع انفصام في الشخصية هو الذي نراه بكل وضوح في الازدواجية الرهيبة التي نعيشها، فلا مانع عندنا من أن تكون الواجهة نتاجا غربيا صرفا، ثم ندعي أنها ليست هناك كأنها ليست موجودة في حياتنا.
والعكس أيضا صحيح، وهو أن ندعي أننا إنما نعيش على قيم آبائنا التي ورثناها، ثم نكتفي من ذلك بمجرد القول. أما حقيقة حياتنا نفسها فلا هي من التراث ولا هي من العصر. إنها تتلخص في فردانية انتهازية. كل منا يشعر بأن البيت ينهار، فيخطب ما استطاعت يده أن تخطف لينجو به وبنفسه، وعلى الدنيا بعد ذلك السلام!
فكرت بعد هذا البيان المبين أن أطرد شبح اليأس أو الحزن الذي كاد أن يلقي ظله الثقيل علينا، وأن أقول إن دعوته لم تكن أبدا بلا ثمرة، لا على المستوى الجامعي ولا بالنسبة للقراء العاديين الذين يتابعونه بشغف، ويشعرون نحوه بالامتنان والاحترام. ولكنني رأيت أن أفضل ما أختم به الحديث هو أن أفتح باب الأمل على المستقبل رغم كل شيء، وأن أدعوه لتوجيه كلمة للشباب الذين عاش معهم ولهم طوال حياته. قلت له وأنا أهم بالقيام مستأذنا وشاكرا: من الطبيعي أن يشعر الشباب في هذا الجو الشاذ الذي وصفتموه بالتمزق والضياع والاغتراب، بصورة أفدح مما لاحظتموه على بعض الشباب من جيلنا، فهل أطمع في النهاية أن توجهوا إليه كلمة أخيرة؟
قال في صوت هادئ عميق، ومفعم بالثقة والرضا: أقول للشباب ما قلته طوال حياتي المنتجة: أن يعيش حياته في خطين ليشبع بهما جانبي الحياة الإنسانية. عليه أن يتقبل ما هو قائم على التفكير العلمي ثمرة ومنهجا؛ بمعنى أن يحاول أن يكون ذا منهج علمي، بالإضافة إلى تمتعه بثمرات العلم الغربي. ولكن عليه كذلك ألا ينسى لحظة أن هناك جانبا آخر لا ينبغي أن يغفله في أي لحظة، وهو الجانب الذي يتعلق بالذات أو بالهوية العربية المتدينة. في هذا الجانب لا مجال لمنهج علمي، ولكن المجال للإيمان كل الإيمان بالعقيدة التي نؤمن بها. ويصاحب هذا الاهتمام بجوانب خاصة كاللغة العربية، وصور البطولات العربية، وأركان الهوية الثقافية التي هي في الحقيقة جوهر العروبة. والحقيقة أن حياتي الوجدانية قد حافظت على الدوام على هذه الهوية، بقدر ما تمسكت في حياتي العقلية بالمنهج العلمي فيما لا يمس الهوية.
Bog aan la aqoon