57

Tijaarib Falsafi

تجارب فلسفية

Noocyada

أولى هذه الملاحظات أن صاحب الذكرى العطرة الطيبة لم يقدم إلا الجيل الأول لهذه المدرسة، التي انطلق أعضاؤها مما يعرف بحلقة فيينا، ومن فلسفة فتجنشتين الأول في رسالته المنطقية الفلسفية الشهيرة، ومن فلسفة رسل ومور التحليلية، كما اعتمد في البداية على كتاب «آير» المعروف «اللغة والصدق والمنطق»، الذي تعرف عليه وعلى صاحبه - كما يقول في «قصة عقل» - أثناء عمله في رسالته للدكتوراه عن الجبر الذاتي (التي تفضل بترجمتها للعربية الزميل الدكتور إمام عبد الفتاح إمام). ومعلوم أن الوضعية أو التجريبية المنطقية تطورت بعد ذلك تطورا كبيرا عند أصحابها أنفسهم - لا سيما كارناب في فلسفته اللغوية والمنطقية المتأخرة - كما تخلى عنها بعض أنصارها القداس من خلال مناقشتهم لمبدأ التحقق، مثل رايشنباخ وكارل بوبر. وغني عن الذكر أن المعرفة الدقيقة بهذه المدرسة أو غيرها مطلب علمي ضروري، مهما رفضنا الأسس التي تقوم عليها أو اتجه بنا الطبع أو الاقتناع وجهة أخرى؛ لذلك فإن من واجب الوفاء أن يواصل الأبناء دراستها في أدق تفاصيلها، ومن حقهم المشروع أيضا أن ينقدوها ويتجاوزوها. ولن يسعد المعلم الحقيقي شيء قدر سعادته باختلاف تلاميذه عنه، بل ونقدهم وتجاوزهم له، على أن يلتزم النقد بالشروط الموضوعية وبأخلاقية العلم وآداب الحوار، وهو أمر شديد الندرة في حياتنا النظرية والعملية.

وثاني هذه الملاحظات أن هدف الراحل الكريم الدعوة لمقولات هذه المدرسة، كان في المقام الأول هدفا تنويريا وإصلاحيا، تنوير «العقل العربي»؛ لكي يميز عبارات تستخدم في مجال العلم أو المعرفة الضرورية العامة الصدق - سواء كانت طبيعية وتركيبية تقوم أو يمكن أن تقوم على التحقق من صدقها بالتجربة، أو رياضية ومنطقية تحليلية تعتمد على صحة الاستنباط من المقدمات وفق قواعد محكمة ومتفق عليها - وعبارات أخرى تتعلق بالوجدان أو العاطفة، ولكنها في رأيهم فارغة من الإشارة إلى مدلول حسي؛ ومن ثم فليست صادقة ولا كاذبة، كالعبارات المستخدمة في مجال الأخلاق والدين والميتافيزيقا والأدب. والخلاصة أن الهدف من هذا التشدد الوضعي المبسط - الذي طالما تعرض للنقد، وثبت بعد ذلك خطؤه من وجوه لغوية ومنهجية وعلمية عديدة - لم ينفصل في النهاية عن هدف حياته ورسالتها الكبرى التي تمثلت منذ البداية في مقالاته الثورية المبكرة، ولم تخمد جمرات غضبها الكظيم في مقالاته وكتبه المتأخرة، بعد تراجع الحماس المبكر للوضعية المنطقية إلى الدعوة للتفكير العلمي وحضارة العلم ومنطقه وعقلانيته، مع التوسع في استخدام منهج التحليل اللغوي-المنطقي لتوضيح الكثير من مفاهيمنا وألفاظنا الغامضة المضطربة.

وثالث هذه الملاحظات أنه يحمد للمعلم الكبير - برغم ثقافته الموسوعية التي تأثر فيها بجيل الرواد وبخاصة العقاد، وبرغم اهتماماته المتنوعة بالفن والشعر والنقد والتاريخ والحضارة - يحمد له التركيز على مدرسة واحدة، والإخلاص العميق لدعوتها. وقد كان المأمول أن تتكون من ذلك مدرسة علمية تواصل جهود الرائد، لكن الرجل كان أكبر من أن يفرض معتقده الفلسفي على أحد من تلاميذه، كما يبدو أن حياتنا العلمية (مع استثناءات معدودة على أصابع اليد الواحدة في بعض العلوم الإنسانية والطبيعية) قد فشلت فشلا ذريعا في تأسيس مدارس واتجاهات محددة مستمرة، وانقطع الموجود منها أو انفرط عقده وهو لم يكد يتخطى مرحلة التأسيس. أقول هذا بعد أن رحل عن دنيانا أقرب وأخلص تلميذين لزكي نجيب محمود، وهما المرحومان عزمي إسلام ومحمود فهمي زيدان. كلاهما تعب في صمت وذهب، وكلاهما عاش متعففا في صمت وذهب، وكلاهما عاش متعففا عن إثارة الغبار والضجيج، مترفعا عن قرع الطبول والنفخ في الأبواق. وليتنا نتوقف هنا قليلا لنتساءل: أهي لعنة خرافية تحكم علينا بألا نواصل بناء أو نتضافر لإنجاز عمل مشترك؟ أم هو مرض قديم، تحمله مورثات خفية وخبيثة ربما منذ حرب البسوس، وتجعلنا نسيء لكل الأفكار العظيمة بمجرد أن تهبط على أرضنا، وتحاول أن تجد لها مكانا فوقها؟ (الاشتراكية حولناها إلى استبداد وتعذيب ونفخ وسجون ومعتقلات وطوابير محرومين مقهورين، والديمقراطية صارت لصوصية وسمسرة وشطارة وثرثرة إعلامية وفسادا وانتهازية على كل الأصعدة، حتى ما كان يعد حتى وقت قريب مقدسا لا يمكن أن تلوثه أو تمس طهارته تلك السموم والظلمات، والفلسفة استحالت لدى البعض سفسطة كاذبة وتجارة رخيصة وزعامة جوفاء وترديدا وتكرارا أعمى أو تخبطا عشوائيا وصياحا غوغائيا بكلمات وشعارات متضخمة تنتمي لأزمنة و«أيديولوجيات» وأفكار تخضع اليوم في العالم كله للمراجعة الشاملة، ويتم تجاوزه بمنهجيات وتقنيات ومقاربات علمية جديدة لم نكد نعرف حتى إلقاءها، حتى التدين السمح العميق الجذور لم يتورع ضعاف النفوس وطلاب الشهرة والسلطة، إما عن استغلاله في نفاق النظم وتبرير وتثبيت الأوضاع الفاسدة، وإما عن تشويهه بالتعصب والتطرف والتخبط في ظلمات الجريمة، والاندفاع المجنون إلى هاوية الكوارث الجماعية، حتى «الحداثة» في السنوات القليلة الماضية، وباستثناء قلة محدودة لا تزال لديها بقية من الضمير العلمي والتمكن المعرفي، صارت استعراضا مربكا للاتجاهات والأسماء والمصطلحات دون تأسيس فلسفي، أو علم بالجذور والأصول، أو محاولة حقيقية للنقد والتأصيل.)

إن ما جرى للوضعية المنطقية - التي انقصف عودها قبل أن تنضج وتثمر - قد ألم باتجاهات ومدارس وتيارات أخرى كانت حرية أن تنمو وتتطور، وينشأ بينها حوار يندي «أرضنا الخراب »، وينعش جونا الخانق المختنق بالسأم والركود والإحباط والجمود. (ولننظر ماذا آل إليه مصير البدايات المخلصة للظاهراتية والوجودية والشخصانية والحدسية أو الجوانية والماركسية والعقلانية النقدية والأرسطية والرشدية والمثالية المعتدلة. ألم تصبح اليوم كتبا تطل علينا من فوق الرفوف كبقايا أطلال، أو جذوع أشجار مقطوعة ومتناثرة في وحشة الخلاء والخواء؟!)

والملاحظة الرابعة والأخيرة هي أن الوضعية بأشكالها التقليدية أو الحديثة، قد ساءت سمعتها وقلت قيمتها في ساحة الفلسفة المعاصرة (وبخاصة في الظاهريات والفلسفات التي خرجت من معطفها)، لكن هل يعني هذا أنها فقدت الحق في دراستها، أو أنها اختلفت من الوجود؟ لا شيء يختفي في الفلسفة - كما علمنا هيجل - بل كل شيء يتحول إلى مستوى آخر أكثر غنى ونضجا. والدارس الجاد يحتاج لمعرفة الوضعية حاجته لمعرفة غيرها من المذاهب والمدارس والاتجاهات. والمهم أن يعمل في صبر ودأب على تربية حسه النقدي الذي لا تستقيم بغيره فلسفة ولا علم ولا حياة واعية، ويبقى النقد بمعناه الشامل هو روح الفلسفة، إذا خلت منه أصبحت جثة هامدة بلا روح، وتلقينا وركاما من المعلومات التاريخية والحقائق المذهبية ترددها الببغاوات الكبيرة والصغيرة ، ويرزح فوق صدور الجميع فيحبس عنهم أنفاس الحياة والتجربة العقلية الحية، ويزيد اغترابهم عن واقعهم واغتراب واقعهم عنهم. ويمكن للوضعية بأشكالها المختلفة أن تكون إحدى المدارس التي نتعلم منها النقد - أي التفلسف الحر - بممارسة التحليل المنطقي للقضايا والمفاهيم والقيم والأوضاع السائدة بغية توضيحها؛ ومن ثم تغييرها عن وعي (كما فعل الراحل العظيم مع كثير جدا من المفاهيم الشائعة في حياتنا)، كما يمكن أن تكون قيدا ونيرا يشل حريتنا ووعينا وتقدمنا؛ فالأمر يتوقف في النهاية علينا نحن. والمهم في هذا كله أن زكي نجيب محمود قد حقق بفلسفته العلمية والتحليلية قدرا لا يستهان به من المهمة التي ننتظرها وينتظرها كل حريص على حاضرنا ومستقبلنا؛ من «توظيف» الفلسفة في نقد واقعنا وتنبيه وعينا وتوطين العقل في حياتنا، بجانب متابعتها لتخصصاتها الدقيقة، وتطوير البحث في نظمها المعرفية المتنوعة؛ وبهذا تكون قد أدت دورها الاجتماعي على يديه «هنا» في مكاننا و«الآن» في لحظتنا التاريخية، وواجهت - بغير ترد في الإعلامية الفجة أو الغوغائية المرتفعة الصوت، وبغير أن نتنكر لحظة واحدة لعلمية الفلسفة ومنهجيتها الصارمة - أشكال «اللاعقل» و«اللامعقول» التي أدت في الماضي وتؤدي في الحاضر إلى تزييف العقل والمعقول، وإهداره وتغييبه أو سحقه وطمسه في بعض الأحيان. ولست أقصد بهذا ما جرى في تاريخنا القريب، في ظل نظم القهر والطغيان، للعقل والحرية والإنسان بوجه عام، بل أعني كذلك ما جرى للفلسفة نفسها على يد نفر تسللوا إلى حرم معبدها العريق بعقليات اللصوص والسماسرة والمسفسطين الجوف الذين أفرزهم زمن العسكر الأغبر، ثم عصر الانفتاح الفاسد واقتصاديات السوق المسعورة، التي تكتسح اليوم كل القيم التي تربت عليها وتشربتها أجيال يهال عليها التراب اليوم، وترجم بكل الأحجار، ولكن يقيني الذي لا يهتز في أقسى ساعات الشك واليأس، يؤكد لي أن آلاف المخلصين العاملين في صمت في كل أركان عالمنا العربي، سيعيدون الزمن المعوج إلى محوره، ويساعدون في صبر وصدق على تكوين الضمير الثقافي العام، الذي يضع «العلمية» الدقيقة والأمانة والجدية الصامتة كما وضعت «معات» ريشتها في كفة الميزان، فخسفت جبال الكذب والإثم والضحالة والغثاثة في الكفة الأخرى. ولا ننسى أبدا ما أكده أفلاطون في «الجمهورية» وفي غيرها من المحاورات، من أن عدم وجود فلسفة على الإطلاق أفضل بكثير وأكرم من وجود فلسفات أو بالأحرى سفسطات كاذبة.

ومع إنني لا أومن بأن الأخلاق وحدها تكفي لتفسير التاريخ، فإن الجميع يتألمون اليوم لغياب «القدوة» على كل المستويات. ومعلمنا الكبير - رحمه الله - قد كان - ولا يزال بعلمه وسيرته وتأثيره - هو «الضمير المجسد» لكل حريص على أن تكون لنا ثقافة تستحق الاحترام. وكلما ذكرت الضمير تذكرت حسرتي الدائمة على عجز جراحينا الممتازين عن إجراء عمليات زرع للضمير الغائب، بمثل ما مكنتهم براعتهم الفائقة من نقل القلب والكبد والكلى وبعض الأعضاء. إن عصور الانبعاث والتغيير الحقيقي قد حمل تبعاتها الجسام وجسدها رجال عظام. حدث هذا في فجر الإسلام وعصر الفتوح، كما حدث في بدايات المسيحية وغيرها من الديانات الشرقية القديمة، وفي بواكير عصر النهضة الأوروبية ومطالع نهضتنا الحديثة. وزكي نجيب محمود - في تقديري المتواضع - يستمد قيمته الباقية وإشعاعه الحقيقي من تجسيده للضمير العلمي والإنساني الحي الأمين. أقول هذا وأعتقد أنه لا بد أن يقوله كل من أسعده الحظ بالتتلمذ على يديه والاتصال به عن قرب (مهما يكن من الاختلاف بينهم وبينه في وجهات النظر الفلسفية والأمزجة الفنية والأدبية كما سبق القول).

وفي الختام يخيل إلي أن شخصية المفكر والأديب «المنقذ»؛ أي شخصية المعلم والمفكر والكاتب المنذر والمحذر والموقظ والمتنبئ والمنبه، تتمثل فيه، ولا تقل أهمية عن شخصية الأديب البليغ والمعلم الفذ والعالم المتمكن والمترجم الرائع والداعية، في إطار الثنائية العلمية والتنويرية التي تسود كل جهوده، وتتغلغل في كل كتاباته، كما سبقت الإشارة، إلى حركة أو مدرسة فلسفية بعينها. صحيح أن شخصية المفكر والأديب «المنقذ» التي أعتقد أنها تتمثل فيه صراحة أو ضمنا، لم تعبر عن نفسها في صورة شعرية (كما فعل على سبيل المثال لا الحصر شاعر مثل صلاح عبد الصبور على لسان النبي الذي يحمل قلما في مسرحيته ليلى والمجنون، أو كما فعل شعراء آخرون مثل خليل حاوي والبياتي وأمل دنقل في بكائه بين يدي زرقاء اليمامة)، ولا في صور قصصية وروائية (كما نجد لدى نجيب محفوظ في تحت المظلة والشحات والثرثرة وغيرها من روائعه)، أو أشكال مسرحية (مثل سعد الله ونوس في رأس المملوك جابر والمنمنمات التاريخية، ومثل كاتب هذه السطور في بعض قصصه ومسرحياته التي اكتشف في كهولته أن أحدا لم يكلف نفسه بقراءتها ولا نقدها، فحق عليه ألا يكلف نفسه بذكرها). والرأي عندي أنها (أي شخصية المفكر والأديب «المنقذ») قد عبرت عن نفسها في العديد من مقالاته المبكرة والمتأخرة، التي سيرد ذكرها في تضاعيف الحديث، كما أنها مبثوثة في ثنايا أعماله العلمية ودعوته التنويرية والإصلاحية، من خلال المدرسة الوضعية الحديثة والمنهج التحليلي اللذين تبناهما وطبقهما بصورة شاملة متسقة وشديدة الوضوح والقوة والصدق مع النفس. إن مهمة «المنقذ» - أي الكاتب والمفكر المحذر، والمبشر أيضا بمستقبل لن يقوم بناؤه إلا على عمودي العلم والعمل الصامت الجاد - تظل مهمة ملحة ومطلبا مستمرا، لا مجرد أمل رومانسي أو «يوتوبي» حالم يحركه التمني أو الغفلة، وحسن النية. ولا شك عندي أن قراءة تراث زكي نجيب محمود العلمي والأدبي، ومعاودة قراءته والتعلم منه، ثم نقده وتجاوزه أيضا، مع كل الاحترام له والاعتراف بفضله، يمكن من هذا المنظور، الذي حاولت تحديد معالمه وأبعاده، أن يعيد إلينا الثقة المفتقدة بالنفس - بلا غرور ولا تطاول على الآخرين - وأن يساعدنا على اكتشاف طريق الخلاص، وتحقيقه بالفعل المبدع لا بالكلام والأصوات العالية. وخطوات هذا الطريق تتلخص باختصار في الرجوع إلى رحاب العلمية الدقيقة، وإلى حمى الضمير الصادق الأمين.

في الطريق شعرت بالخشوع والرهبة التي تكاد أن تشل قدمي العابد قبل دخول المحراب، كما شعرت في الوقت نفسه بجناحين ينبتان في كتفي ويطيران شوقا ولهفة إليه. لم تكن هذه هي أول مرة أزوره فيها؛ فلقد طالما فتح لي أبواب بيته وعقله وقلبه، وأعطاني فأجزل في العطاء من نبع حكمته وفهمه وتعاطفه، لكن هذه المرة تختلف عن المرات الأخرى؛ فعلي اليوم أن أسأله وأدون إجاباته، وهو عمل لم أتعود عليه من قبل، ولعلي لن أحاوله أبدا من بعد.

قلت لنفسي: أيها العصفور التائه في سماء مصرية وعربية تلبدت بسحب المحنة، وحومت فيها غربان التمزق والضياع وتدمير الذات، إلى الحد الذي يذكرنا بالانقراض والانتحار الجماعي لبعض القبائل والجماعات القديمة أو لبعض فصائل الحيوان، وبالانتحار الحضاري لكثير من الشعوب والحضارات المنهارة؛ اذهب إلى النسر الشامخ الحكيم، واحمل إليه همومك القومية والفردية وجراحك الفلسفية. وعند من تلتمس الدواء إن لم تلتمسه عند «حكيم العرب»؟ ها هو ذا المفكر الجاد والمعلم الأمين - منذ أكثر من خمسين سنة من حياته الخصبة المنتجة - لا يتوقف عن الدعوة إلى الأخذ بحضارة العلم ومنهجه ومنطقه، والمشاركة في ثقافة العصر التي يرتفع بناؤها منذ عصر النهضة على أعمدة العقل والفعل، وحرية الفرد وكرامته وحقه المطلق في التساؤل والبحث والنقد، دون إهمال لقيم تراثنا «المعقولة» التي لا يستغني عنها الوجدان والإيمان، إلا إذا تخلينا عن ركن راسخ من أركان هويتنا، ولا تزدهر بغيرها شجرة العقل المنتج المستنير إلا إذا أمكننا أن نتصور شجرة معلقة في الفراغ بغير جذور. ها هو ذا في مقالاته التي نتابعها هذه الأيام يجدد وعينا بحرية الإنسان وقيمته ومسئوليته - على نحو ما فعل في مقالاته الفنية التي بدأ نشرها في منتصف الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات - دون أن تخبو جذوة ثوريته، التي لم تفلح قسوة الزمن والبشر، وتسلل العلل والوهن للجسد الفارع المتين البنيان، وشحوب الضوء في مصباح العين الوحيدة، في أن تنال من دفء حرارتها ونورها وصدقها. وها هو ذا يعيد نشر بعض جهوده العلمية التي كانت وما تزال علامات على طريق الفلسفة ب «نظرة علمية» والفكر التحليلي والمنطقي الدقيق، ويثبت لنا مع كل جديد يقوله أو يكتبه أن أعوص المشكلات الفلسفية يمكن أن تمر بقلب الأديب وقلمه فتخرج منه وهي تنبض بالحياة والذوق والجمال، والقدرة على التأثير في وعي العامة والخاصة على السواء.

وعدت أسأل نفسي: ما بالنا اليوم لم نتقدم خطوة واحدة على درب العقل والمنهج والحرية؟ كيف نحتمل الحياة في ظل شجرتنا العربية - التي تخنقها أعشاب التخلف، وتجففها رياح القهر، ويزحف عليها الجراد المتطفل - ناعمين بالغيبوبة في كهف كئيب تتلاطم على جدرانه أمواج العصر الزاخر بالحرجة والوعي والابتكار المتجدد؟ لماذا لم نتجمع حتى اليوم على طريق أو منهج أو نظرية أو مشروع أو ميثاق ... إلخ، يمكن أن ننطلق منه للخروج من المحنة، مع أن الرجل قد قدم «صيغة فلسفية عربية» تستحق الاهتمام مهما اختلفت حولها الآراء؟ وما بال جهودنا الفلسفية تفتقر في كثير من الأحوال إلى الأمانة والدقة المنهجية واللغوية، وتكاد أن تنعدم فيها الرؤية والتجربة والقضية والمشكلة، ويغلب على أغلبها النقل والخطف والقص واللصق من هنا ومن هناك؟ ولا يخرج - إلا في القليل النادر - عن كتب ركيكة ومذكرات رخيصة، تلقن أو تلقم لطلاب مساكين (لم يقبلوا على دراسة الفلسفة عن وعي واختيار، بل حشرهم «التنسيق» في متاهاتها كما يحشر المساجين معصوبي الأعين في مركبات مظلمة تتجه بهم إلى مصير مظلم!) ثم ما بال أعرق أقسام الفلسفة، الذي وهبه عرق ربع قرن من كفاحه العلمي والتعليمي، لا يجني منه بعض أبنائه إلا ما حصده هو نفسه في رجولته وكهولته من أشواك التآمر والافتراء والتجني والمرارة؟

Bog aan la aqoon