هكذا تكون علاقة المشاركة هي العلاقة الأساسية بين الإنسان والعالم وأهم علاقاته به، بل يصل الأمر بالفيلسوف إلى حد أن يجعل أولوية فعل الحب وتقدمه على المعرفة والإرادة قانونا أو ما يشبه القانون. هذا المسلك المحب من العالم هو في تصور شيلر مسلك انفعالي محمل بالقيمة، ومن شأن المسالك أو الأفعال المحملة بالقيم والمحددة بالمصالح أو الاهتمامات، أن تكون سابقة ومتقدمة على جميع أفعال التصور والإدراك والتذكر. ولما كانت الأفعال التي وصفناها بأنها محملة بالقيم لا تستغني في وجودها عن القيم، كان الأساسي الذي تقوم عليه فلسفة شيلر يعتمد بالتبادل على نظرية في الفعل ونظرية في القيمة. ويمكن القول بأن هذا الأساسي المزدوج يمثل القلب النابض لفلسفة شيلر عن الإنسان؛ ومن ثم يكون من الطبيعي أن يشترك تراتب القيم وتراتب الأفعال المحملة بالقيم في تكوين «نظام الحب»، الذي يقول عنه: «من يمتلك نظام الحب الخاص بأي إنسان فإنه يمتلك الإنسان نفسه، ويمكن القول أيضا بأن ترتيب القيم عنده بمثابة النجم القطبي الذي يهتدي به الإنسان في الظلام، وهو في نفسه صميم نظام العالم أو نواته الباطنة.»
ويقابل هذا النظام المرتب للقيم وللأفعال المحملة بالقيم، نظام من «النماذج» أو الأنماط المثالية التي جسدت تلك القيم والأفعال، واقترب منها الناس قليلا أو كثيرا في الدافع الحي المعيش لأي عصر وأي مجتمع، فحددوا من خلاله موقعهم من العالم، ولكن كيف يبدو «نظام الحب» الذي يتوقف عليه تحديد وضع الإنسان وعصره وواقعه، أو تحديد قدره في مسيرة الكون؟
لا بد لتحقيق هذه الغاية من معرفة نظام القيم التي يتكون منها نظام الحب. ولا بد أن تنظر الآن في ترتيب القيم أو تراتبها، الذي يحكمه قانون صارم دقيق.
ويفترض الحديث عن تراتب القيم أن تقدم له بهذه الحقائق الأربع التي تتحكم في تكوين البنية الدقيقة لنظام الحب: (أ)
عالم القيم وتراتبها. (ب)
أنماط الشخصيات ونظام النماذج التي تجسد عالم القيم تجسيدا حيا. (ج)
الأفعال أو المسالك التي يقوم بها الأشخاص، وتتحقق فيها القيم بالفعل. (د)
الحالات التي يستشف منها وجود القيم.
واللافت للنظر أن شيلر في معظم أعماله لا يمل الحديث عن هذا التراتب القبلي للقيم مهما اختلفت أشكال حديثه وصياغاته؛ فهو في بعض الأحيان يقسمه إلى أربعة أقسام، وفي أحيان أخرى إلى خمسة، ثم يعود فيقصره في بحوثه الأنثروبولوجية والميتافيزيقية المتأخرة على اثنين. والترتيب الأول والأدنى في سلم القيم يتألف من قيم السار وغير السار أو الملائم وغير الملائم والنافع، وهي التي تشعر بها من خلال الحواس، ونجربها في اللذة والألم الحسيين، وكلها كما نرى وشيجة الصلة بطبيعتها الحسية، ولا توجد إلا حيث يكون ثمة حس وإحساس. والنموذج أو نمط الشخصية الذي يضع هذه القيم هو فنان المتعة أو التذوق، أو «فنان الحياة» الذي يسير في حياته، هي مبدأ واحد هو تفضيل السار على غير السار. أما الشكل الاجتماعي الذي يطابقه فهو «الجمهور». وأما قيم النفع أو المنفعة فتمثلها في المجتمع المدني شخصيات العلماء، وخبراء التقنية، والمقاولون للمشروعات المختلفة.
ويتكون الترتيب الثاني لمنظومة القيم من قيم النبيل والوضيع، ونتعرف عليهما في الشعر الحيوي، كما نجربهما تجربة حية في إحساساتنا بالصحة والمرض والشيخوخة والموت، وهكذا يتعلقان بالحياة التي يعتبرها شيلر ماهية مستقلة.
Bog aan la aqoon