ولا شك أن القارئ يرى الآن مدى تأثر هذه الأفكار بفلسفة هيدجر، الذي ظل يردد طوال حياته أن الميتافيزيقا الغربية، من أفلاطون إلى نيتشه، هي ميتافيزيقا الذاتية التي ضلت طريقها ، ولم تسأل أبدا عن الوجود نفسه، ولا فكرت في معناه (راجع إن شئت لكاتب هذه السطور مؤلفه نداء الحقيقة، مع ثلاثة نصوص لهيدجر، القاهرة، دار الثقافة، 1976م).
والملاحظة النقدية الثانية على نقدهم للعقلانية والتنوير، هي أنهم نظروا إليه من منظور غربي وحسب؛ وبذلك وقعوا في التمركز حول الذاتية الغربية، التي تصورت، وما زالت تتصور إلى حد كبير، أن تاريخها هو «التاريخ» العالمي، وأن حضارتها هي «الحضارة» والنموذج المطلق. ولو كانوا موضوعيين حقا لما أسقطوا الشرق من حسابهم، ولأدركوا أن للعقل تاريخا آخر وبناءات أخرى، منذ الحضارات الشرقية القديمة حتى العصر الحديث (عندما دخلت معظم هذه الحضارات في فلك العقلانية الذاتية الغربية، وتبنت مناهجها العقلية وأنساقها العلمية بكل ما نتج عنها، من علم وصفي وتقنية وسيطرة على الطبيعة)، ولعرفوا أخيرا أن موقف هذه الحضارات أو الرؤى الشرقية القديمة للعالم، لم يكن بحال من الأحوال هو موقف التسلط على الطبيعة والأشياء والتحكم فيها، واستغلالها كوسائل للمزيد من التسلط والسيطرة (كما حدث في التاريخ الغربي منذ عصر النهضة الأوروبية، وبصورة أوضح وأفظع منذ بداية العصر الصناعي والاستعماري، ونهب الشعوب والحضارات الأخرى)، بل كان بوجه عام هو موقف التعاطف والرعاية والتوافق والتجانس والمحبة. ولو فعلوا ذلك لتبين لهم أخيرا أن هنالك أشكالا وبنى أخرى للتفكير، وراءها أشكال للحياة والنظر، وبنى وأساليب أخرى للإنتاج لا بد أنهم سمعوا عنها (على الأقل من ماركس وإنجلز وإشارتهما الموجزة إلى نمط الإنتاج الآسيوي ). والمهم من هذا كله أن «تاريخية» العقل والعقلانية لا بد أن تحفزنا على مراجعة ما قالوه عنهما، ووضعه في السياق التاريخي والاجتماعي الخاص به، كما تحثنا من ناحية أخرى على وضعهما في سياقنا التاريخي والاجتماعي الذي يختلف عنه في ظروفه وتحولاته وعوامل تكوينه وتطوره وصراعه ... إلخ، بحيث لا نردد نقدهم لتلك المفاهيم ترديد الببغاوات، ولا نتصور لحظة واحدة أن ضلال العقلانية والتنوير الغربي، وانحرافهما المستمر إلى اللاعقلانية والتعمية الأسطورية والسيطرة اللاإنسانية، يؤدي بالضرورة إلى التشكيك في العقل والتنوير والعلم والتقنية؛ ذلك لأن حظنا من هذا كله ما يزال جد قليل، كما أن القوى التي هددتها وخربتها في تاريخنا العربي والإسلامي، ولم تزل تهددها وتخربها، قوى من نوع آخر، ولها مصالح أخرى (كالاستبداد المطلق من جانب الفرد أو الدولة، وعبادة الأشخاص، والتسلط المتغلغل في حياتنا و«نظمنا»، من قمة هرم الظلم إلى قاعدته المستسلمة الصامتة على مر العصور، بجانب الأشكال المختلفة ل «اللاعقلية» و«اللاعلمية» و«اللاإنسانية»، التي بلغت أشدها في ظل النظم الفردية الطاغية في تاريخنا الحديث والمعاصر بوجه خاص، سواء كانت عسكرية باطشة تدعي التقدمية أو الاشتراكية أو الأصولية، أو رجعية متخلفة تزعم لنفسها حقوقا إلهية مطلقة، أو تتمسح في الشجرة النبوية الطاهرة).
ولا ننسى أخيرا - وهذه مسألة تستحق المزيد من التفصيل - أن تعميم الهجوم على العقلانية وراءه دافع «يهودي» خاص للهجوم على اللاعقلانية النازية، كما يكشف عن تجاهل متعمد للاعقلانية الصهيونية ودولتها المغروسة في قلب الوجود العربي والإسلامي.
والخلاصة أننا أحوج ما نكون إلى الفهم الصحيح للعلم والتقنية والعقلانية والتنوير في ظروف محنتنا التاريخية والحضارية الراهنة، حاجتنا إلى الحياة الديمقراطية الحرة التي لن يتحقق شيء من ذلك كله بغيرها. ولعل محنة العقل والفكر والضمير، التي بلغت أبشع صورها في «أم المحن والكوارث» العربية، التي نعايش اليوم آثارها المدمرة لكل وجودنا وأحلامنا، أن ترينا إلى أي مدى وصل بنا سوء الفهم والاستخدام لتلك المفاهيم والمعاني المضيئة التي لم نتوقف عن ترديد شعاراتها. ولعلها تحثنا على تحليلها تحليلا اجتماعيا نقديا يضعها في سياق تطورنا التاريخي والحضاري والعقلي، فلا نكتفي بدق الطبول لها ادعاء للتقدمية، وسعيا وراء الشهرة، وتلهفا على الأمجاد الزائفة؛ عندئذ يمكن أن يكون نقدنا فلسفيا وعلميا بحق، كما تكون «فلسفتنا» نقدية بالمعنى الصحيح.
ويرتبط بالنقطة السابقة نقد أصحاب النظرية لصور الاغتراب في المجتمعات الرأسمالية والشمولية الغربية، وأكتفي في هذا السياق بالإشارة إلى أن صور الاغتراب التي نعانيها ليست كذلك بالضرورة من نفس النوع الذي وجهوا نقدهم إليه؛ فقد تكون للاغتراب العربي على مدى تاريخه الطويل جذور أخرى وأسباب مختلفة، كما أن صور القمع والإحباط والقهر والتعاسة والاكتئاب ... إلخ - التي صارت بمثابة خبزنا اليومي المر - ربما تكون قد نتجت عن ألوان أخرى من التسلط والهيمنة غير التي يرجعونها إلى السيطرة على الطبيعة والعقلانية العلمية والتقنية (التي لم نزل صفر الأيدي منها كما سبق القول!) ولا يكفي أبدا أن نتتبع صور الاغتراب وتطور مفاهيمه وأبعاده في الفكر الغربي، منذ عهد اليونان والرومان إلى فلاسفة التنوير والعقد الاجتماعي وحتى كانط وهيجل وماركس وفلاسفة مدرسة فرانكفورت أنفسهم، على نحو ما فعل بعض باحثينا مشكورين، وإنما يحتم علينا الواجب والحرص على الهوية جميعا أن نفحص الاغتراب وصوره المختلفة في ثقافتنا وتاريخنا الخاص حتى اليوم الحاضر (ولا أبالغ إذا قلت إن هذه الصور موجودة منذ الحضارة المصرية القديمة وحضارة وادي الرافدين والحضارة الكنعانية، وتكرر نفسها بأشكال مختلفة في غربتنا واغترابنا هنا والآن!) ولا شك عندي أن هذا النقد التاريخي والاجتماعي لم يزل مفتقدا إلى حد كبير في فكرنا وبحوثنا وأدبنا الحديث، وأن من علمائنا ومفكرينا وأدبائنا من يملك القدرة على التصدي له بصورة أصيلة، بدلا من الاقتصار على النقل والترديد غير النقديين، أو الهروب إلى القوالب المذهبية الجاهزة بغير تمحيص، أو اللجوء إلى «الخطاب» الأيديولوجي والبلاغي الصارخ الطنان، الذي يتنكب سبل العلم والنقد جميعا.
ومن جملة الانتقادات التي يمكن أن توجه للنظرية النقدية، تلك النظرة «اليوتوبية» المرتبطة بالمجتمعات «المثالية» البديلة عن المجتمع الصناعي والشمولي بكل سوءاته ومظالمه؛ ففلاسفة النظرية يلحون بصفة مستمرة على ضرورة التغيير الجذري والثوري الشامل للأوضاع القائمة فيه اعتمادا على أفكار غامضة عن الخلاص، وأحلام شبه مستحيلة بقدر ما هي غريبة عن الواقع والممكن معا. صحيح أن بعضهم، مثل ماركوز (في كتابه عن الثورة المضادة والتمرد، فرانكفورت، 1973م، ص67 وبعدها)
17
وهوركهيمر (في مقدمته لكتابه السابق الذكر عن النظرية النقدية)، قد قصروا خطوط أحلامهم اليوتوبية بعد الفشل الذي منيت به ثورة الطلاب في السبعينيات، وبعد تغير الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية، ولكنهم لم يتخلوا عن حلمهم بمجتمع إنساني جديد، ومستقبل مبرأ من القمع والقهر والاغتراب. ولا يعبر هذا في الحقيقة عن تفاؤلهم بقدر ما يعبر عن تشاؤم حضاري عميق، تدخلت في تكوينه عناصر رومانتيكية جديدة ووجودية وحيوية (نسبة إلى فلسفة الحياة)، فضلا عن عناصر أخرى مثالية هيجلية وصوفية قبالية (نسبة إلى الكتابات الصوفية اليهودية)، وكأن فلاسفة النظرية قد اشترطوا التدمير النهائي للعالم الصناعي، القائم قبل ظهور «الصفحة البيضاء» التي ستكتب عليها سطور المجتمع الإنساني الجديد.
والدليل على هذا أنهم عجزوا عن تقديم تصورات محددة عن المجتمعات البديلة «غير المغتربة»، أو عن نظمها ومؤسساتها وفلسفتها ومناهجها الفكرية والعلمية وحاجات البشر «الحقيقية» فيها؛ ولذلك بقيت تأملاتهم الجدلية عن الموضوع ونقيضه مجرد تأملات أو تمنيات غامضة، كما ظلت معايير «الجدل السلبي» و«جدل التنوير» ومثلهما وقيمهما كذلك غامضة غير محددة. ومع أن المشروع اليوتوبي الذي طرحه «ماركوز» يصور مجتمعا خاليا من القهر والقمع والبؤس، ونموذجا جديدا لإنسان مبدع يتمتع بحساسية جديدة، ويتطلع لحاجات جديدة، ويعمل عملا أقرب إلى اللعب الخلاق؛ فقد علق تحقيق هذا المشروع بالثورة الجذرية على المجتمع القائم، ووضع مسئوليته على أكتاف الفئات الهامشية والمنبوذة والمضطهدة، دون الفئات الثورية الواعية بالمعنى الحقيقي الفعال، ولم يخرج في النهاية عن التصورات اليوتوبية التي ربطها ماركس بقيام المجتمع الشيوعي، ولا عن «أرض الأحلام»
18
Bog aan la aqoon