التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول
تأليف
السيد العلامة محمد صديق حسن خان القنوجي البخاري
المولود سنة ١٢٤٨ هـ والمتوفى سنة ١٣٠٨ هـ - رحمه الله تعالى -
إصدارات
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية - دولة قطر
Bog aan la aqoon
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 3
حُقُوق الطَّبْع مَحفُوظَة
لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية
دولة قطر
الطبعة الأولى ١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة إدارة الشؤون الإسلامية
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
عودًا على بدء
نواصلُ المسيرةَ في ظل قيادة حكيمة، ترى تراث الأمة أمانة، وجديرة بالعناية والرعاية، كانت هذه المجموعة من
مطبوعات الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني ﵀
حيث طبعت متلاحقة على نفقته الخاصة، كسائر مطبوعاته التي أتحف بها العالم الإسلامي كله، وها نحن نقدمها متوافقة، تجديدًا للصلة، في مساراتها الأربعة:
الأول: "الدين الخالص".
معالم التوحيد، مؤسسةٌ على النصوص الخالدة من الكتاب والسنة، إنه الدين في صورته الحقيقية.
الثاني: "التاج المكلل من مآثر الطراز الآخر والأول".
تراجم جملة من علماء الإسلام الأعلام الهداة الأئمة، مآثر واضحة، فضائل لائحة، مناقب سائرة.
الثالث: "الموعظة الحسنة بما يُخطب في شهور السنة".
نماذج فاعلة بكلماتها الجميلة للخُطب كافة، بدايةً من خُطبة الجمعة،
1 / 5
والعيدين، والاستسقاء، والكسوف والخسوف، حيث المناسبة، مع ذكر الأحكام الشرعية المتعلقة، فجاء الكتاب حافلًا مهمًا في بابه.
الرابع: "رحلة الصديق إلى البلد العتيق".
صورة شائقة لهذه الرحلة المباركة، من الهند على ظهر سفينة، وصولًا إلى جدة، ومن ثم إلى مكة المكرمة، مع ذكر الأحكام الخاصة بالحج والعمرة والزيارة، وأحكام وفضائل مكة والمدينة، جامعة بين المتعة بذكر جملة مما وقع له من حوادث أثناء الرحلة، وتلك الروح العلمية. لهذا كله وقع الاختيار عليها بعد نصف قرنٍ من نشرتها الأولى.
حيثُ عهدت إدارة الشؤون الإسلامية إلى دار النوادر لصاحبها نور الدين طالب للعمل عليها لإخراجها في حلتها الجديدة، وفق خطة علمية، تلخصت في الآتي:
١ - إعادةُ تنضيد الكتب على أفضل وأرقى البرامج الطباعة الحالية.
٢ - تصحيح الكتب بما ورد فيها من أخطاء مطبعية سابقة، وقد بلغت مئات الأخطاء.
٣ - كتابةُ الآيات القرآنية بالرسم العثماني، منقولة من المصحف الشريف، إضافة إلى عزوها عقب الآية بين معكوفتين.
٤ - ضبطُ النصوص المهمة والمشكلة بالشكل الضروري، كالأحاديث النبوية الشريفة، وأبيات الشعر، وغريب اللغة.
٥ - إعادةُ تقسيم الكتاب، وتفصيل فقراته، بما يتناسب مع سهولة تناوله وقراءته.
٦ - وضعُ علامات الترقيم المناسبة للنص، حتى يخرج نصًا صحيحًا من حيث اللغة والإعراب.
وإنا لنرجو الله تعالى أن يكون في عملنا هذا الإفادةَ لطلبة العلم وأهله.
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
إدارة الشؤون الإسلامية
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله على سوابغ نعمائه، وضوافي آلائه، حمدًا يملأ مكان الإمكان، وأركان الأمكنة، ويعطر شذاه خياشيم العصور والأزمنة.
والصلاة والسلام على عبده ورسوله، محمدٍ أكرمِ رسله، وأفضل أنبيائه صلاة تبلغ قائلَها والآتي بها مَأْمَنَه؛ وسلامًا يحله بشفاعته في جنة الفردوس الأعلى وأسكنه.
وعلى آله وصحبه سادة نجبائه، وأهل الحديث قدوة علمائه، وحفاظ هديه قادة أصفيائه، الذين استمعوا القول فاتبعوا أصوبه وأحسنه، ودعوا إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ونستغفره سبحانه من حصائد الألسنة.
وبعد: فهذا تذكارُ عصابة مباركة من أهل العلم بالحديث الشريف النبوي، وذوي العمل بالأثر المصطفوي، ومآثرهم الجليلة التي يحتاج إليها طلبة العلم في معرفة ما كان عليه سلف هذه الأمة وخلفُها الأئمةُ من العمل بالدليل، وطرح التقليد ورفض القال والقيل، وتحريرُ بعض فوائدهم الجميلة التي لا مندوحة عنها لمريد سلوك سبيلهم السوي الجليل؛ من كتب طبقات المحدِّثين الحفاظ المجتهدين، وصحائف زبر العلماء المتقدمين والمتأخرين، على غير ترتيب لذكر ذوي الباقيات الصالحات، وتبويب لسنين مواليدهم والوفيات، كما هو صنيع بعض أهل العلم والأدب؛ كالعلامة ابن رجب؛ لأني لم أرد استيعاب جميع ذلك، ولا جمع جملة ما هنالك؛ فإن الدواوين المبسوطة المؤلفة في هذا الشأن تغني عن الإطناب والإطالة، وطولُ الكلام يفضي بالناظر الناقد البصير إلى السآمة والملالة.
1 / 7
وقد قال رسول الله ﷺ فيما روينا عنه: "ما قَلَّ وكفى خيرٌ مما كثير وألهى"، فهم - وإن كانوا في هذا الكتاب قليلين في العدد -؛ فإنهم كثيرون بسبب أنهم ذريعة للمَدَد في كل المُدَد.
وقد يقال: إن أعداد الكبار الشم الأنوف ربما عدلت عشراتها بالمئين، ومئوها بالألوف، وأضفت إليهم: أخبار بعض الملوك والشعراء والزهاد، من أعيان الأعيان وأمجاد الأمجاد.
ولما كان الشروع ملزمًا، وإتمام ما شرعت فيه متحتمًا، لم أر بدًا من إلحام ما أسديتُه، وإصماء ما أنميته، فتذكرت من الكلام أوائلَه، وألحقت بكل منه ما شاكَلَه، وما أقدمني على هذا الشأن إلا تخلُّفُ أبناء الزمان، عن إحراز فضيلة السبق في هذا الميدان.
وليس غرضي إلا أداءَ بعض حقهم المفترض، وأبرأ إلى الله من تهمة الغرض، وإني وإن قصرت في مواضع من تراجمهم، فما قصرت وإن طولت في مجال، فما تطولت، وغاية النصفة في هذا المقام هو الاعتراف بقصوره، والإقرار بعدم شعوره؛ فإن المرء ولو بلغ جهده، فالإحاطةُ بهذا الشان وتراجم أهله لله وحده.
ولا أعتقد أني وفيتُ بالمقصود، أو أتيت بالمراد على الوجه الموعود، بل كل ما آمل من هذا الصنيع هو نيل ثواب في المبدأ ونجاة في اليوم المشهود.
فقد ذكر غير واحد من العلماء؛ كابن فهد المكي وغيره، أن الاشتغال بنشر أخبار الأخيار، من أهل العلم والآثار، من علامات سعادة الدنيا وسيادة الآخرة؛ إذ هم شهود الله في أرضه، ولهم المراتب الفاخرة.
والذين ذكرتهم في هذا المختصر - إنما هم بالنسبة إلى من تركتُ ذكرهم من الحفاظ العالمين بالكتاب والسنة، العاملين بهما من بين الأمة، كحركات العوامل، أو عدد الأنامل.
فهاك - أيها المتفضل عليّ - كتابًا لطيفًا يحاكي في حسنه وجماله غصنَ البان، وفنن الجِنان، ويرد ورودَ ماء عذب بارد فراتٍ على الظمآن، ودونك أيها
1 / 8
المحسن إليّ - خطابًا شريفًا يرد ما شاع على ألسنة جماعة من الرعاع؛ من اختصاص سلفِ هذه الأمة بإحراز فضيلة البلوغ إلى ذروة الاجتهاد والتجديد، وتعذُّر وجودِ المجتهدين بعد المئة السادسة أو السابعة على التعيين والتحديد، وكانت هذه المقالة بمكان من الجهالة، لا تخفى على مَنْ له أدنى حظ من علم، وأنزرُ نصيب من عرفان، وخصر حصة من فهم وجلالة؛ لأنها كما قال العلامة الرباني، مجتهدُ القطر اليماني، مجددُ المئة الثالثة عشرة في إحياء الأمر الإيماني، شيخُنا وبركتنا قاضي القضاة شيخُ الإسلام، وحسنةُ الليالي والأيام، محمدُ بنُ علي بن محمدٍ الشوكاني ﵁: قصرٌ للفضل الإلهي والفيض الرباني على بعض العباد دون البعض، وعلى أهل عصر دون عصر، وعلى أبناء دهر دون دهر، بدون برهان ولا قرآن، على أن هذه المقالة المخذولة، والحكاية المرذولة، تستلزم خلو هذه الأعصار المتأخرة عن قائم بحجج الله، ومترجم عن كتابه العزيز، وسنة رسوله المطهرة، ومبين لما شرعه الله لعباده.
وذلك هو ضياع الشريعة الحقة بلا مِرْية، وذهاب الدين المتين بلا شك، وهو تعالى قد تكفل بحفظ دينه القويم، وليس المراد به حفظه في بطون الصحف والدفاتر، بل إيجاد من يبينه للناس في كل وقت وعند كل حاجة، فليعلم صاحب تلك المقالة: أن الله تعالى - وله المنة - قد تفضل على الخلف كما تفضل على السلف، بل ربما كان في العصور المتأخرة من العلماء المحيطين بالمعارف العلمية، والمدارك الشرعية، على اختلاف أنواعها، من يقل نظيرُه من أهل العصور المتقدمة، انتهى.
وسوق هذا الكلام منه - أعلى الله منزلته في دار السلام - فيمن يعرف الكتاب والسنة وعلومهما، دون من لم يرفع رأسه إليهما، بل أضاع عمره في الفروع سرمدًا، فإنه لا يكون مجتهدًا ولا مجددًا للدين أبدًا.
وسيقف على ذلك من أمعن النظر في هذا "الكتاب"، وحل من عنقه عرا التقليد والارتياب، والمذكورون في هذا "المختصر" هم صميم الكرام، الذين
1 / 9
هم صميم الكرام من العلماء وأكابر الزمان، من أهل القرون الأولى ومَنْ بعدهم إلى الآن، مع ذكر فوائد نافعة غريبة، وبيان عوائد نفيسة عجيبة.
ومن أمعن النظر في مطالعة كتب القوم: ١ - كتاريخ الإسلام، ٢ - وتذكرة الحفاظ، ٣ - والنبلاء، ٤ - وكامل ابن الأثير، ٥ - وتاريخ القاضي ابن خلكان، ٦ - وفوات الوفيات، ٧ - وتاريخ ابن الوردي، ٨ - وطبقات ابن رجب، ٩ - ونفح الطيب للمَقَّري، ١٠ - والدرر الكامنة، ١١ - والنور المسافر، ١٢ - وخلاصة الأثر، ١٣ - والضوء اللامع، ١٤ - والبدر الطالع، ونحو ذلك، علم أن الفيض الإلهي لم ينقطع، وأن اللطف الرباني لم يتم، وأن الرحمة العامة لم تنصرم، وأن التفضل الرحماني لم يختم، وأن الجود المهيمني لم يبخل، وسميت هذا المختصر:
التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول
وما أنا فيما أوردت فيه من التراجم والأخبار بمعتقد كمالي، ولا معتصم من إخلالي، على أني بجسارة أقول: إنه حوى صفوة أقوال الرواة العدول، ونخبة أحوال الأعلام الفحول، دون عدول يجيء به تعصب ديني، أو ميل غرضي.
ولقد سلكت في هذا الكتاب مسلك أبناء العصر، ومهيع أولاد الدهر؛ فإن الناس بزمانهم، أشبهُ منهم بآبائهم.
ولو أخذت فيه أخذ الأدباء، وألبسته من براعة الكلام وبلاغة المعاني الإزار والرداء، فأبرزت فيه من المعاني الجزلة كلَّ بديع، في قوالب مبان فحلة ولفظ رفيع، لما عرف أحد قدره، ولا التفت إليه، ولا عوّل لقصور الأفهام والهمم عليه.
ولما كانت المجازات خيرًا من الحقائق، والغلط المستعمَل أولى من الصواب في الدقائق، حررته في عبارات يسيرة، وإشارات رقيقة غير عسيرة، ولنعم ما قيل شعرًا:
إذا أحسستَ في لفظي قُصورًا ... وحظي والبراعةِ والبيانِ
1 / 10
فلا ترتَبْ لفهمي إنَّ رقصي ... على مقدار إيقاعِ الزمانِ
وقد انقلب الآن بأهله الزمان، فصار حاملُ الأدب والفضل من رهطه، والمنسلك من العلم في نظمه وسمطه، وصار فيه باقلٌ جريرًا، وجريرٌ جاهلًا كبيرًا، وليتني كنت في هذا وذاك كفافا، ومن خير الزمان وشره معافى. وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، من الحسنات والسيئات.
وقد جعلت هذا الكتاب خدمة لأحبابي، ونصيحة لأخلافي - الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويحبون العمل بالكتاب والسنة، والإتيان بالموعظة الحسنة، ملتمسًا من ذوي الانتقاد أن يُقيلوا العِثار، ويقبلوا الأعذار، فيشدوا أسره، ويجبروا كسره، ويرقعوا خلَلَه، ويحققوا أملَه، متوسلًا إليه ﷾ أن ينفع به قارئه من الفحول، فإنه أكرم مسؤول، وخير مأمول، حرسنا الله تعالى من التمادي في مهاوي الغواية، وجعل لنا من العرفان بأقدارنا أمنعَ وقاية، وسلك بنا مسلك أهدى هداية، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد عبده ورسوله وآله وصحبه - ما ذَرَّ شارِق، ولمع بارِق.
***
1 / 11
١ - الإمام أَبو عبد الله، أحمد بن محمد بن حنبل ابن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان الشيباني، المروزي الأصل
هذا هو الصحيح في نسبه، وقيل: إنه من بني مازن بن ذهل بن شيبان، وذهل بن ثعلبة المذكور: هو عم ذهل بن شيبان، فليعلم ذلك، والله أعلم.
خرجت أمه من مرو وهي حاملٌ به، فولدته في بغداد، في شهر ربيع الأول سنة ١٦٤، وقيل: إنه ولد بمرو، وحُمل إلى بغداد وهو رضيع.
وكان إمام المحدثين، صنف كتابه "المسند"، وجمع فيه من الحديث ما لم يتفق لغيره، وقيل: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث، وكان من أصحاب الإمام الشافعي وخواصه، ولم يزل مصاحبَه إلى أن ارتحل الشافعي إلى مصر، وقال في حقه: خرجتُ من بغداد، وما خلفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل.
وادعي إلى القول بخلق القرآن، فلم يجب، فضُرب وحُبس وهو مصرٌّ على الامتناع، وكان ضربه في العشر الأخير من شهر رمضان سنة ٢٢٠ عشرين ومئتين، وكان حسن الوجه، ربعة، يخضِب بالحناء خضبًا ليس بالقاني، في لحيته شعيرات سود.
أخذ عنه الحديث جماعةٌ من الأماثل، منهم: محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، ولم يكن في آخر عصره مثله في العلم والورع.
توفي ضحوة نهار الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وقيل: بل لثلاث عشرة ليلة بقين من الشهر المذكور، وقيل: من ربيع الآخر سنة ٢٤١ ببغداد، ودفن بمقبرة باب حرب. وباب حرب: منسوب إلى حرب بن عبد الله أحدِ أصحاب أبي جعفر المنصور، وإلى حرب هذا، تُنسب المحلة المعروفة بـ "الحربية".
1 / 12
وقبر أحمد بن حنبل مشهور بها يزار - رحمه الله تعالى - وحُرز من حضر جنازته من الرجال، فكانوا ثمانمئة ألف ٨٠٠٠٠٠، ومن النساء - ستين ألفًا ٦٠٠٠٠.
وقيل: إنه أسلم يوم مات عشرون ألفًا من النصارى واليهود والمجوس. وذكر أَبو الفرج بن الجوزي في كتابه الذي صنفه في أخبار بشر بن الحارث الحافي ﵁ في الباب السادس والأربعين ما صورته: حدث إبراهيم الحربي، قال: رأيت بشر بن الحارث الحافي في المنام؛ كأنه خارج من باب مسجد الرصافة، وفي كمه شيء يتحرك، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وأكرمني، فقلت: ما هذا الذي في كمك؟ قال: قدم علينا البارحةَ روح أحمد بن حنبل فنثر عليه الدرر والياقوت، فهذا مما التقطتُ، قلت: فما فعل يحيى بن معين وأحمد بن حنبل؟ قال: تركتهما وقد زارا ربَّ العالمين، ووضعت لهما الموائد، قلت: فلمَ لم تأكل أنت؟ قال: قد عرف هوانَ الطعام عليَّ، فأباحني النظر إلى وجهه الكريم.
وفي أجداده: حيان - بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعد الألف نون -، وبقية الأجداد لا حاجة إلى ضبط أسمائهم لشهرتها وكثرتها، ولولا خوف الإطالة لقيدتها، ورأيت: في نسبه اختلافًا، وهذا أصح الطرق التي وجدتها.
وكان له ولدان عالمان، وهما: صالح، وعبد الله، فأما صالح: فتقدمت وفاته في شهر رمضان سنة ٢٦٦، وكان قاضي أصبهان، فمات بها، ومولده في سنة ٢٠٣.
وأما عبد الله، فإنه بقي إلى سنة تسعين ومئتين، وتوفي يوم الأحد لثمان بقين من جمادى الأولى، وقيل: الآخرة، وله سبع وسبعون سنة، وكنيته: أَبو عبد الرحمن، وبه كان يكنى الإمام أحمد ﵏ أجمعين -، انتهى ما في "وفيات الأعيان".
وذكر ابن رجب في "طبقاته" في جملة ترجمة الحافظ يحيى المعروف بابن
1 / 13
مَنْدَهْ ما لفظه: صنف "مناقبَ" الإمام أحمد ﵁ في مجلد كبير، وفيه فوائد حسنة، وقال في أوله: ومن أعظم جهالاتهم - يعني: المبتدعة -، وغلوهم في مقالاتهم، وقوعُهم في الإمام المرضي، إمام الأئمة، وكهف الأمة، ناصر الإسلام والسنة، من لم تر عين مثله علمًا وزهدًا وديانة وأمانة، إمامِ أهلِ الحديث: أحمدَ بن محمد بن حنبل الشيباني - قدس الله سره، وبرد عليه ضريحه -، الإمامِ الذي لا يُجارى، والبحر الذي لا يُبارى، ومن أجمع أئمةُ الدين في زمانه، على تقدمه في شأنه ونبله وعلو مكانه، والذي له من المناقب ما لا يعد ولا يحصى، قام لله تعالى مقامًا، لولاه لتجهم الناس، ولمشوا على أعقابهم القهقرى، ولضعف الإسلام واندرس العلم.
ولقد صدق الإمام أَبو رجا، قتيبةُ بن سعيد البغلاني حيث قال: إن أحمد في زمانه بمنزلة أبي بكر وعمر في زمانهما، وأحسنَ من قال: لو كان أحمد في بني إسرائيل، لكان آية، أعاشنا الله تعالى على عقيدته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته -.
وحين وقفت على سرائر هؤلاء، وخبثِ اعتقادهم في هذا الإمام، قصدت لمجموع نبهت فيه على بعض فضائله، ونبذة من مناقبه؛ وذكرت طرفًا مما منحه الله تعالى من المنزلة الرفيعة، والرتبة العلية في الإسلام والسنة، مع أني لست أرى لنفسي أهلية لذلك، وأن المشايخ الماضين قد عنوا بجمعه فشفوا؛ لكني أردت أن يبقى لي بجمع مناقبه ذكر، وأن أكون متشرفًا فيما بين أهل العلم من أهل السنة بانتسابي إليه، وتحلي مذهبه وطريقته.
قال فوران: ماتت امرأة لبعض أهل العلم، فجاء يحيى بنُ معين والدَّورقي، قال: فلم يجدوا امرأة تغسلها إلا امرأة حائضًا، فجاء أحمد وهم جلوس، فقال: ما شأنكم؟ فقال أهل المرأة: ليس نجد غاسلة إلا امرأة حائضًا، فقال أحمد: أليس تروون عن النبي ﷺ: "يا عائشة! ناوليني الخمرة"، قالت: إني حائض، فقال: "إنّ حيضتك ليست في يدك"، يجوز أن تغسلها، قال: فحجلوا. ومن أقواله ﵀: الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، فمن لم يعمل هنا، ندم هناك.
1 / 14
وسئل عن الفتوة؟ فقال: تركُ ما تهوى لما تخشى. وكان يقول: إن القلنسوة لتقع من السماء على رأس مَنْ لا يحبها. وقال ابنه عبد الله: قلت لأبي: يقولون إنك تتوضأ مما مست النار، قال: ما فعلته قط، ولم يثبت عندي في ذا خبر.
ولقد ذكر له رجل من أهل العلم: كانت له زلة، وأنه تاب من زلته، فقال: لا يقبل ذلك منه حتى يظهر التوبة والرجوع عن مقالته، ليعلنْ أنه قال مقالته كيت وكيت، وأنه قد تاب إلى الله تعالى عن مقالته، ورجع عنها، فإذا ظهر ذلك منه، فحينئذ تقبل، ثم تلا: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾ [البقرة: ١٦٠]، وروى عنه أنه قال: طلب إسناد العلوم من السنة، وقال أيضًا: كنا نرى السكوت عن هذا قبل أن يخوض فيه هؤلاء، فلما أظهروه، لم نجد بدًا من مخالفتهم.
وقيل له: إن ها هنا رجلًا يفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية بن أبي سفيان، فقال أحمد: لا تجالسه، ولا تؤاكلْه ولا تشاربه، وإذا مرض فلا تعدْه. وكان يقول: سبحانك ما أغفلَ هذا الخلقَ عما أمامهم، الخائف منهم مقصر، والراجي منهم متوانٍ. وسئل عن رجلٍ عليه تحريرُ رقبة مؤمنة، فكان عبدٌ يقول بخلق القرآن، فقال: لا يجزي عنه عتقُه؛ لأن الله ﵎ أمره بتحرير رقبة مؤمنة، وليس هذا بمؤمن، هذا كافر.
وقال عبد الله: سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى ﵇ لم يتكلم بصوت، فقال: بل تكلم ﷿ بصوت، هذه الأحاديث نمرها كما جاءت - يعني: حديث ابن مسعود: إذا تكلم الله ﷿، سمع له صوت كممر السلسلة على الصفوان، قال: وهذه الجهمية تنكره، قال: وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله ﷿ لم يتكلم، فهو كافر، إنا نروي هذه الأحاديث كما جاءت.
وقال أحمد: أصولُ الإيمان ثلاثة: دالٌّ، ودليلٌ، ومستدلٌّ، فالدالُّ: الله تعالى، والدليل: القرآن، والمستدل: المؤمن، من طعن على حرف من القرآن؛ فقد طعن على الله ﷿، وعلى كتابه، وعلى رسوله.
1 / 15
وقال: ثلاثة كتب ليس لها أُصول: ١ - المغازي، ٢ - والملاحم، ٣ - والتفسير.
وقال: من لم يجمع علم الحديث وكثرَة طرقها واختلافها، لا يحل له الحكم على الحديث، ولا الفتيا به.
وقال: إذا روينا عن رسول الله ﷺ في الحلال والحرام، والسنن والأحكام، تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عنه ﷺ في فضائل الأعمال، وما لا يضيع حكمًا، ولا يرفع، تساهلنا في الأسانيد. وسئل عن هذه الكتابة متى العمل بها؟ قال: أخذها العمل بها. وقال: ما الناسُ إلا من يقول حدثنا وأخبرنا، وسائر الناس لا خير فيهم.
قال أَبو رجا، قتيبة: أحمد إمام، ومن لا يرضى بإمامته، فهو مبتدعٌ ضال.
قال يحيى بن منده: نقول وبالله التوفيق: إن أحمد بن حنبل إمام المسلمين، وسيد المؤمنين، وبه نحيا، وبه نموت، وبه نبعث إن شاء الله تعالى، فمن قال غير هذا، فهو عندنا من الجاهلين.
وحدث شيخ من أهل سجستان بمكة ذُكر عنه فضل ودين، قال: رأيت رسول الله ﷺ في المنام، فقلت: يا رسول الله! من تركت لنا في عصرنا هذا من أمتك نقتدي به في ديننا؟ قال: "أحمد بن حنبل" قال: من فما قال رسول الله ﷺ في نومه ويقظته، فهو حق، وقد ندب ﷺ إلى الاقتداء به، فلزمنا جميعًا امتثالُ مرسومه، واقتفاء مأموره، انتهى كلامه - رحمه الله تعالى -.
٢ - أَبو بكر، أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى، البيهقي، الخُسْرَوْجِردي
الفقيه الشافعي، الحافظ الكبير المشهور، واحدُ زمانه، وفرد أقرانه في الفنون، من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله بنِ البَيِّع في الحديث، ثم الزائد عليه في أنواع العلوم.
أخذ الفقه عن أبي الفتح ناصرِ بنِ محمد العمري المروزي، غلب عليه الحديث، واشتهر به، ورحل في طلبه إلى العراق والجبال والحجاز، وسمع
1 / 16
بخراسان من علماء عصره، وكذلك ببقية البلاد التي انتهى إليها.
وشرع في التصنيف، فصنف فيه كثيرًا، حتى قيل: تبلغ تصانيفه ألف جزء، وهو أول من جمع نصوص الإمام الشافعي ﵁ في عشر مجلدات، ومن مشهور مصنفاته "السنن الكبير" (١)، "والسنن الصغير"، و"دلائل النبوة"، و"السنن والآثار"، و"شعب الإيمان"، و"مناقب الشافعي المطلبي"، و"مناقب أحمد بن حنبل"، وغير ذلك.
وكان قانعًا من الدنيا بالقليل، وقال إمام الحرمين في حقه: ما من شافعي المذهب، إلا وللشافعيِّ عليه مِنَّة إلا أحمد البيهقي، فإن له على الشافعي منة، وكان من أكثر الناس نصرًا لمذهب الشافعي، وطلب إلى نيسابور لنشر العلم، فأجاب، وانتقل إليها.
وكان على سيرة السلف، وأخذ عنه الحديث جماعةٌ من الأعيان، منهم: زاهر الشحامي، ومحمد الفراوي، وعبد المنعم القشيري، وغيرهم.
وكان مولده في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاث مئة ٣٨٤، وتوفي في العاشر من جمادى الأولى سنة ٤٥٨ بنيسابور، ونقل إلى بيهق - رحمه الله تعالى -، ونسبته إلى بيهق - بفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحته وبعد الهاء المفتوحة قاف -، وهي قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخًا منها، وخُسْرَوْجِرد، من قراها، وهي - بضم الخاء المعجمة وسكون السين وفتح الراء المهملتين وسكون الواو، وكسر الجيم ثم راء ودال مهملتين -، هكذا في "تقويم البلدان" نقلًا عن "اللباب".
٣ - أَبو عبد الرحمن، أحمد بن علي بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر النسائي الحافظ
كان إمام عصره في الحديث، وله كتاب "السنن"، وسكن بمصر، وانتشرت بها تصانيفه، وأخذ عنه الناس.
_________
(١) السنن الكبير= "السنن الكبرى" طبع بمطبعة دائرة المعارف بحيدر آباد الدكن في ١٠ أجزاء سنة (٣٧ - ١٣ هـ - ١٩٢٥ م).
1 / 17
قال محمد بن إسحاق الأصبهاني: سمعت مشايخنا بمصر يقولون: إن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره، وخرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية، وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسًا برأس حتى يفضل؟! وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا: لا أشبع الله بطنك، وكان يتشيع، فما زالوا يدفعون في حضنه حتى أخرجوه من المسجد، وفي رواية أخرى: يدفعون في خصيته وداسوه، ثم حُمل إلى الرملة، فمات بها.
وقال الحافظ أَبو الحسن الدارقطني: لما امتُحن النسائي بدمشق، قال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها، فتوفي بها، وهو مدفون بين الصفا والمروة.
وكانت وفاته في شعبان من سنة ٣٠٣.
وقال الحافظ أَبو نعيم الأصفهاني: لما داسوه بدمشق، مات بسبب ذلك الدوس، وهو منقول، قال: وكان قد صنف كتاب "الخصائص" في فضل علي بن أبي طالب ﵁ وأهلِ البيت، وأكثر رواياته فيه عن أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -، فقيل له: ألا تصنف كتابًا في فضائل الصحابة ﵃؟ فقال: دخلت دمشق والمنحرفُ عن علي ﵁ كثير، فأردت أن يهديهم الله تعالى بهذا الكتاب، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان موصوفًا بكثرة الجماع.
قال الحافظ أَبو القاسم المعروف بابن عساكر الدمشقي: كان له أربع زوجات يقسم لهنَّ، وسراري.
وقال الدارقطني: امتحن بدمشق، فأدرك الشهادة، وتوفي يوم الاثنين لثلاثَ عشرةَ ليلة خلت من صفر سنة ٣٠٣ بمكة - حرسها الله تعالى -، وقيل: بالرملة من أرض فلسطين.
وقال أَبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس صاحب "تاريخ مصر" في تاريخه: إن أبا عبد الرحمن النسائي قدم مصر قديمًا، وكان إمامًا في الحديث، ثقة حافظًا ثبتًا، وكان خروجه من مصر في ذي القعدة سنة ٣٠٢.
1 / 18
قال ابن خلكان: ورأيت بخطي في مسوداتي أن مولده: بنَساء، في سنة ٢١٥، وقيل: سنة ٢١٤، والله تعالى أعلم. ونسبته إلى نَساء - بفتح النون وفتح السين وبعدها همزة -، وهي مدينة بخراسان، خرج منها جماعة من الأعيان.
٤ - الحافظ أَبو نعيم أحمدُ بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني، الحافظ المشهور، صاحب كتاب "حلية الأولياء".
كان من الأعلام المحدثين، وأكابر الحفاظ، أخذ عن الأفاضل، وأخذوا عنه، وانتفعوا به، وكتابه "الحلية" من أحسن الكتب، وله كتاب "تاريخ أصبهان"، نقلتُ منه في ترجمة والده عبد الله نسبتَه على هذه الصورة.
وذكر أن جده مهران أسلم إشارة إلى أنه أولُ من أسلم من أجداده، وأنه مولى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ﵁، وذكر أن والده توفي في رجب سنة ٣٦٥، ودفن عند جده من قبل أمه.
ولد في رجب سنة ٣٣٦، وقيل: سنة ٣٣٤، وتوفي في صفر، وقيل: يوم الاثنين الحادي والعشرين من المحرم سنة ٤٣٠ بأصبهان، وأصبهان: - بكسر الهمزة وفتحها، وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة، ويقال: - بالفاء أيضًا، وفتح الهاء بعد الألف نون -، وهي من أشهر بلاد الجبال، وإنما قيل لها هذا الاسم؛ لأنها تسمى بالعجمية: سباهان، وسباه: العسكر، وهان: الجمع، وكانت جموع عساكر الأكاسرة تجتمع إذا وقعت لهم واقعة في هذا الموضع؛ مثل عسكر فارس، وكرمان، والأهواز، وغيرها، فعرِّب، فقيل: أصبهان، وبناها: إسكندر ذو القرنين، هكذا ذكره السمعاني هكذا في "وفيات الأعيان" تاريخ ابن خلكان.
٥ - الحافظ أَبو بكر، أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي بن ثابت البغدادي، المعروف بـ "الخطيب"، صاحب "تاريخ بغداد" وغيره من المصنفات
كان من الحفاظ المتقنين، والعلماء المتبحِّرين، ولو لم يكن له سوى التاريخ، لكفاه؛ فإنه يدل على اطلاع عظيم، وصنف قريبًا من مئة مصنف،
1 / 19
وفضله أشهر من من أن يوصف، وأخذ الفقه عن أبي الحسن المحاملي، والقاضي أبي الطيب الطبري، وغيرهما، وكان فقيهًا، فغلب عليه الحديث والتاريخ. ولد في جمادى الآخرة سنة ٣٩٢ يوم الخميس لست بقين من الشهر، وتوفي يوم الاثنين سابع ذي الحجة سنة ٤٦٣ ببغداد.
وقال السمعاني: توفي في شوال، وسمعت أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي كان من جملة من حمل نعشه؛ لأنه انتفع به كثيرًا، وكان يراجعه في تصانيفه، والعجب أنه كان في وقته حافظ المشرق، وأبو عمرو يوسفُ بنُ عبد البر صاحبُ كتاب "الاستيعاب" حافظُ المغرب، وماتا في سنة واحدة كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.
وذكر محب الدين بن النجار في "تاريخ بغداد": أن أبا البركات إسماعيل بن سعد الصوفي، قال: إن الشيخ أبا بكر بن زهراء الصوفي، كان قد أعد لنفسه قبرًا إلى جانب قبر بِشْر الحافي، وكان يمضي إليه في كل أسبوع مرة، وينام فيه، ويقرأ فيه القرآن كله، فلما مات أَبو بكر الخطيب، وكان قد أوصى أن يدفن إلى جانب قبر بشر الحافي، فجاء أصحاب الحديث إلى أبي بكر بن زهراء، وسألوه: أن يدفن الخطيب في القبر الذي كان قد أعده لنفسه، وأن يؤثره به، فامتنع من ذلك امتناعًا شديدًا، وقال: موضع قد أعددته لنفسي منذ سنين، يؤخذ مني!.
فلما رأوا ذلك، جاؤوا إلى والدي الشيخ أبي سعد، وذكروا له ذلك، فأحضر الشيخ أبا بكر بن زهراء، وقال له: أنا لا أقول لك أعطهم القبر، ولكن أقول لك: لو أن بشرًا الحافي في الأحياء، وأنت إلى جانبه، فجاء أَبو بكر الخطيب يقعد دونك، أكان يحسن بك أن تقعد أعلى منه؟ قال: لا، بل كنت أقوم وأُجلسه مكاني، قال: فهكذا ينبغي أن يكون الساعة، قال: فطاب قلب الشيخ أبي بكر، وأذن لهم في دفنه، فدفنوه إلى جانبه بباب حرب، وقد كان تصدق بجميع ماله، وهو مئتا دينار فرقها على أرباب الحديث والفقهاء والفقراء في مرضه، وأوصى أن يتصدق عنه بجميع ما عليه من الثياب، ووقف جميع كتبه على المسلمين، ولم يكن له عقب.
1 / 20
وصنف أكثر من ستين كتابًا، وكان الشيخ أَبو إسحق الشيرازي أحدَ من حمل جنازته، وقيل: إنه ولد سنة ٣٩١، والله أعلم. ورُئيت له منامات صالحة بعد موته، وكان قد انتهى إليه علمُ الحديث، وحفظه في وقته، هذا آخر ما نقلته من كتاب ابن النجار - رحمه الله تعالى رحمة واسعة -، ذكره ابن خلكان.
٦ - أَبو عبيد، أحمد بن محمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي المؤدب الهروي الفاشاني، صاحب كتاب "الغريبين"، هذا هو المنقول في نسبه
قال ابن خلكان: ورأيت على ظهر كتابه "الغريبين": أنه أحمد بن محمد بن عبد الرحمن، والله أعلم. كان من العلماء الأكابر، وما قصر في كتابه المذكور، ولم أقف على شيء من أخباره لأذكره، سوى أنه كان يصحب أبا منصور الأزهريَّ اللغويَّ، وعليه اشتغل، وبه انتفع وتخرّج، وكتابه المذكور جمع فيه: بين تفسير غريب القرآن الكريم، والحديث النبوي، وسار في الآفاق، وهو من الكتب النافعة.
وقيل: إنه كان يحب البذلة، ويتناول ... في الخلوة، ويعاشر أهل الأدب في مجالس اللذة والطرب، عفا الله عنه وعنا، أشار الباخرزي في ترجمة بعض أدباء خراسان إلى شيء من ذلك، والله أعلم.
وكانت وفاته في رجب سنة ٤٠١ ﵀.
والهروي - بفتح الهاء والراء - نسبة إلى هراة، وهي إحدى مدن خراسان الكبار، فتحها الأحنف بن قيس صلحًا من قبل عبد الله بن عامر.
والفاشاني - بفتح الفاء وبعد الألف شين معجمة وبعد الألف الثانية نون - نسبة إلى فاشان، وهي قرية من قرى هراة، ويقال لها: باشان - بالباء الموحدة أيضًا -، ذكره السمعاني.
٧ - الحافظ أَبو طاهر، أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم سلفة الأصبهاني، أحد الحفاظ المكثرين
رحل في طلب الحديث، ولقي أعيان المشايخ، وكان شافعي المذهب، ورد
1 / 21