سمعت عليه تصانيف كثيرة، وأجازني وكتب لي بخطه، وكان ﵀ إمام هدى وعدالة، ووحيد معارف وجلالة، حالي الرواية، كامل المعرفة والدراية، رصين العقل، إماما في التحديث والنقل، متفاوت الكرم، بعيد الهمم زكي الشيم، حسن المفازع، مليح المبادئ والمقاطع، واقعا من النفس أحلى المواقع، ذكر لي: قال ذكر لي الشيخ القاضي أبو العباس الرندى قال: كنا جلوسا بحضرة تونس مع القاضي بها أبى العباس ابن الغماز لارتقاب شهر شوال، وإذا بطفل صغير وسيم قد نظر ورآه قبلنا فقال القاضي ابن الغماز: كنا جلوسا مع الشيخ أبى الربيع بن سالم الكلاعى بمدينة بلنسية لارتقاب هلال شوال فأول من رآه غلام وضئ الوجه من قرابة الشيخ، فارتجل الشيخ ساعتئذ:
توارى هلال الأفق عن أعين الورى ... وغطى بسجف الغيم زهوا محياه
فلما أتى) شقيقه (ليزوره ... تبدى له دون الأنام فحياه
ومما أنشدته فاستغربه وحفظه وكتبه، ما أنشدني الشيخ الخطيب المحدث الحاج الفاضل أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد إجازة قال أنشدني ناصر الدين نصير بن أحمد بن علي المصري المناوي الحمامي بحمامة بمصر لنفسه في فتى اسمه فرج الله على طريق التورية.
أقول لقلبي وقد ذاب في ... هوى شادن حاز حسنا غريبا
تصبر إذا كنت في شدة ... عسى فرج الله يأتي قريبا
وأنشدني لبعضهم عند الوداع:
يا راحلا ودموع العين تسبقه ... هل من سبيل إلى لقياك تتفق
ما أنصفتك جفوني وهي دامية ... ولا وفى لك قلبي وهو محترق
وقد أفادني من فرائد الفوائد، ما لا يفيده إلا فرائد العلماء إلا ما جد، كانت مجالستي إياه ببجاية آخر العهد به فأنه توفي بعد انفصالي منها ونزوحي عنها على أحسن ما أجرى الله حاله عليه من حسن السيرة وخلوص السريرة، جدد الله عليه من الرحمة والمغفرة، وجعله من الذين قال الله فيهم وجوه يومئذ مسفرة، ثم لقيت بها جملة من الفضلاء وجلة من العلماء قد ضمهم الولاء في فلكه:
لهم همم كما شمخت جبال ... وأخلاق كما هشت بطاح
ترى بهم النجوم، ولا ظلام ... واوضاح النهاو ولا صباح
قصدت الرؤية لهم والرواية عنهم، فنحوا نحوه، وحذوا حذوه، واقتدوا بفعله، وان لم يدركوا شأوه:
يا بارقا بأعالي الرقمتين بدا ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
ثم أخذت في حركة الخروج من ذلك القطر الذي هو حاضرة البحر ونادرة الدهر، وموطن الفضلاء من أهل العصر الذين طبق ذكرهم تطبيق الغمائم ونم كما نمت بأزاهرها الكمائم، ولهم مآثر بتعاطي الركب حمياها، ويتعاطى نوافح رياها:
وما أراني بمستوف مناقبهم ... ولو نظمت لهم زهر النجوم حلا
ففارقت الصبر عند مفارقة تلك المنازع، وودعت الجلد عند وداعي لذلك المسجد الجامع. وسرت وقلبي في تلك التلاع وتلك الاجارع، وقد خامرني الفرق، واستولى على جفني الأرق، وأولعت بما يولع به المشفق. وأنفقت دمعي وكل امرئ مما عنده ينفق، ورحم الله زهيرا المهلبي، فعن حالي عبر بقوله:
إلى كم جفوني بالدموع قريحة ... وحتى م قلبي بالتفرق خافق
ففي كل يوم لي حنين مجدد ... وفي كل أرض لي حبيب مفارق
ومن خلقي أني ألوف وانه ... يطول التفاتي للذين أفارق
وأقسم ما فارقت في الأرض موضعا ... ويذكر إلا والدموع سوابق
فيممت خير ميمم وفارقت غير مذمم، وخرجت منها في صبيحة يوم الأحد الحادي عشر لرجب الفرد، من العام المذكور، على ضفة الوادي الكبير بين المنازل والقصور:
يا وادي القصر نعم القصر والوادي ... من منزل حاضر ان شئت أو بادي
ترى قرى قرة والعيس واقفة ... والضب والنون والملاح والحادي
فعبرت من الوادي الصغير بمثل ما أجرته جفوني من الدموع، وخطرت من الرشة على ما أبرزته من الربيع والربوع، واجتزت على الربيع الرفيع، وحررت بالبديع البديع، وسلكت على تلك المرابع الرائقة بالنزهة والتوديع.
ولقد وقفت بها وكف ربيعها ... في نسج حلة نورها يتأنق
وسدا خيوط المزن يرسلها الحيا ... أبدا وأكمام النبات تفتق
والروض تولاه الولي ووسمه الوسمى وجشمته نسمات الرياح، وأظللته رايات الصباح، وغازلت كواكب الفجر عيون نرجسه الوقاح، وباكرت الصبا تقبيل ثنايا غوره الوضاح:
1 / 6