شمل السلام مصر واتهمها من اتهمها أنها باعت القضية بقبضة من الرمال، وعلم الله أن مصر لم تبع القضية، وإنما أقامتها على أسس من المنطق والعقل بعد أن ظلت أعواما لا شيء إلا هتافات وشعارات وصراخا لا معنى له ولا قوام ولا عمق. وعلم الله أن هذه الرمال إنما هي أرض مصرية عزيزة على مصر، ولست أدري لماذا تكون أرض مصر وحدها هي الرخيصة وكل أرض غير أرضها عرض وشرف وكرامة ومستقبل وماض وحاضر وتاريخ؟! لم أذهب إلى الكويت وإن كان مكتبي ظل يعمل به تحت اسمي، وأصبح من بين تلاميذي الذين مرنتهم هناك من يستطيع أن يقوم بالعمل خير قيام، ومن أعتقد أنه نال الثقة في نفسه ومن الزبائن. وتركت أمر المكتب لم أعد أفكر فيه، واستغرقني عمل المكتب في القاهرة، فقد نشطت الحركة الاقتصادية في مصر بصورة لم أر لها مثيلا في حياتي، واتسع مكتبي اتساعا لم أكن أنتظره، ولكن الذي يحيرني هو النظام الذي يقوم عليه الاقتصاد في مصر، فهو نظام فريد في العالم لا شبيه له.
فهو باليقين والقطع ليس نظاما شيوعيا، وهو أيضا ليس نظاما اشتراكيا. وهو أيضا ليس نظاما رأسماليا. إنما هو خليط من هذا جميعه. يأخذ من كل نظام بطرف، والنظريات ليست على استعداد أن تقبل معها نظاما جديدا خلقته الظروف الشاذة في حياة مصر ولم تخلقه التيارات الطبيعية التي تولدت عنها النظريات الأخرى ما نجح وما ثبت فشله. والذي لا شك فيه أن هذا النظام المضطرب الذي كان الاقتصاد المصري يعانيه هو ابن شرعي للنظام السياسي المترجح الذي كان يحكم مصر. فلا كان النظام في مصر ديكتاتوريا كاملا يترأسه حاكم باطش مخيف ليس يبقي لأعدائه من باقية وليس يرعي فيهم حق إله أو كرامة إنسان أو شرف آدمية، ولا كان النظام أيضا ديموقراطيا مطلقا، ومن أين له بالديموقراطية وقد قتلت أصولها منذ ربع قرن ولم تعد لها أدوات ولا أحزاب ولا أشخاص؟!
وبيد الحرية الوليد وآثار الديكتاتورية قتل رئيس النظام، وتغيرت الأوضاع في مصر بعض الشيء فبقيت وجوه على المسرح وأخرى تبدلت بقوم آخرين، إنما الذي عناني بالذات أن شقة عمي قد أقفلت أبوابها، وبدأ عمي يبحث عمن يؤجرها منه إيجارا مفروشا. ولكن أن يكون وجوه القوم الذين كانوا يعمرون شقة عمي قد غابوا عن الواجهة فإن أذنابهم يملئون أرجاء مصر منتشرين في كل مرفق من مرافقها، ما لهم عنها من منصرف.
قلت له: أتقص علي كل هذا وكأنني لا أعرفه؟ - بل أعرف أنك تعرفه، بل وتعرفه كل المعرفة. - ففيم إذن أتعبت نفسك؟ - لا بد من شكري لذي مروءة. - أشكر لك حسن ظنك، ولكن ماذا بعد الشكوى؟ - أما جواب منك أو أظل أنا على حيرتي؟ - وفيم الجواب وأنا لا أعرف بعد ما السؤال؟ - ابني. - ما له. - لقد انتهى من دراسة الطب. - وهذه أيضا أعرفها. - والأطباء فئة فيهم الملائكة، وفيهم الوحوش القاتلة السفاحة السفاكة. - هو ما قلت. - وحلمي ابني يحمل دم جدي. وهذا الدم أخرج أبي وأخرج عمي. فإلى أي فصيلة من الفصيلتين سينتسب حلمي؟ وهل طريقه مسبعة الذئاب الباطشة أم مسابح الملائكة؟ لكم أخاف عليه! إن الذي أشاهده في مصر لا يفرش الطريق إلى مسابح الملائكة، وهو مهيأ كل التهيؤ أن يجعله إلى الوحوش يميل. - أولم يكن الأمر معك أشد عسفا وجورا وظلما؟ - لو كنت واثقا أنه سيصبح مثلي ما احترت. - ومن الذي يستطيع أن يعرف الغد؟ - وأخاف عليه أن تطالعه سمعة عمي حيثما اتجه. - وأي شيء تخشاه من هذه السمعة؟ أتخشى أن تكون عائقا له؟ أم تخشى أن تكون طريقا له مفروشا بالورد والرياحين والزئبق الذي كان يملأ شقة عمك؟ - أخاف عليه من الأمرين كليهما، فكل من الفرضين أشد هوانا من صاحبه. - هل طالعتك أنت سمعة عمك؟ - لست أذكر. - فلماذا تخشاها عليه وهي لم تهددك أنت، وأنت إلى عمك أقرب من ولدك إليه؟ - الحيرة تقتلني. - ألم تشعر أنك أديت واجبك؟ - كل إنسان يطمئن نفسه بهذه الجملة. - أتحس أن هناك شيئا كان أن تصنعه ولم تصنعه؟ - لا أظن. - أفلا تترك الأمر لله الذي ألزم كل إنسان طائره في عنقه. اترك ابنك يلزم طيره، والزم أنت طيرك، وتوكل على الله.
وصمت عدلي، ولكن أكان صمت الطمأنينة وزوال الحيرة؟ لا أظن، بل إني واثق أنه على حيرته ما تزال مسلط عليه ما كتب على الإنسان ألا يعرف ماذا يكسب غدا. ذلك القانون الذي يتمثل فيه عذاب الحياة، وتتمثل فيه متعتها أيضا. (تمت)
Bog aan la aqoon