حدثت ثورة مايو واسترد شعب مصر قدرا كبيرا من حريته، وبدأ الناس يتنفسون جهرا بعد أن كانوا يتنفسون خفية، وأصبح كل فرد في مصر يحاول أن يذكر الآخرين بنفسه بعد أن كان كل فرد في مصر يتمنى لو ينساه الآخرون.
كان عدلي في مكتبه بالكويت حين طلبته السيدة ألفت حشمت بنت أخي الدكتور فكري لتخبره أن الدكتور فكري قد عاودته الأزمة القلبية، وأنها تكلمه دون علم عمها، ولكنها تدرك العلاقة بينهما، وأحست أنه ينبغي عليها أن تخبره.
ووصل عدلي إلى القاهرة في أول طائرة، ولم يقصد إلى بيته وإنما سارع من فوره ومعه حقائبه إلى بيت أستاذه. وكان الأطباء قد منعوا الدخول إلى حجرته، ولكن السيدة ألفت استثنت عدلي من هذا المنع، وطفرت إلى وجه الرجل فرحة حب لا تطفر إلا على وجه أب يرى ابنه. - كيف أنت يا عدلي؟ - طمأننا الله عليك يا دكتور. - اطمئن. - أرجو ألا تتكلم. - إذا مت ذهبت إلى مكان سعيت عمري أن أذهب إليه، وإن عشت فأنا مطمئن بوجودك إلى جانبي. - أطال الله عمرك. - لا يهم. مصر الآن بخير، وما بنيته أنا سيصبح في يد أمينة. لم أعش عبثا يا عدلي يا بني، وهل هناك أجمل من أن يحس الإنسان أنه لم يعش عبثا! - سأتركك لأنك تتكلم كثيرا. - وما له دعني أتكلم فإنني سأصمت طويلا. - أتركك بخير، هل تأمر بشيء؟ - خذ بالك من نفسك ومن ابنك حلمي، اجعله يصبح مثل أبيك أو مثلك على الأقل. - وهل بيدي؟ - حاول. - أنا سعيد أنني رأيتك. - وستراني دائما. - ربما، وإنما أعتقد أنك أنت لن تراني. - وخرج عدلي وكأنما كان الرجل يطلع على وجه الغيب، فقد كان هذا آخر لقاء بينهما.
واستمرت أعمال المكتبين في مصر والكويت على حالها لم تتغير، فقد كان زبائن المكتب قد عرفوا عدلي واطمأنوا إلى عمله، فلم يترك أحد منهم أيا من المكتبين.
وكانت ألفت ميسورة الحال، وكان زوجها ميسور الحال أيضا، ولكن عدلي أصر أن يكون لها مرتب ثابت من المكتب، فإذا هي تلقاه: ما هذا المبلغ الذي أرسلته إلي؟ - أهو قليل؟ - هو غير مفهوم. - إنه مرتب شهري أعتقد أنك تستحقينه من مكتب عمك. - لم يصبح المكتب مكتب عمي. - هو الذي أنشأه. - ولكنك الآن تقوم بشأنه، وأنت تعلم أنني والحمد لله غير محتاجة. - أعلم ذلك كل العلم، ولكن أنا أقوم بما أراه عدلا. - هل من العدل أن تعمل أنت وأتناول أنا مرتبا؟ - لولا عمك ما عملت. - لقد ورثت كل أمواله، فقد باعها لي منذ سنوات دون أن يتلقى ثمنا لها، أما المكتب فقد كانت إرادته أن يئول إليك. - أعلم ذلك. - فما هذا المرتب الذي تريد أن تجريه علي؟ - أريح به ضميري. - فهل فكرت في ضميري؟ - اسمعي يا ألفت هانم، هذا نقاش أشعر معه بنوع من السعادة انقطعت عن الشعور بها منذ سنوات. - والعجيبة أنني أنا أيضا أشعر بجو أصبح غريبا على زماننا. - فما رأيك أن يكون هذا المبلغ الذي قدرته لك نواة شيء طيب بيننا. - كم هو؟ - ألم تعديه؟ - لا والله، وجدت نقودا في ظرف ومعها بطاقة منك فجئت إليك من فوري. - أنت ست عظيمة. - وأنت رجل عظيم. - المبلغ مائة جنيه. - هذا كثير. - اسمعي، ما رأيك لو أنك ادخرت المبلغ ثم نلتقي كل عام في مثل هذا الشهر ونقرر جهة البر التي نقدمه إليها؟ - موافقة. - عظيم. - ولكن انتظر، باسم من يكون التبرع؟ - باسمك طبعا. - أكون قد ادعيت لنفسي فضلا ليس لي. - وجدتها! - فقلها. - باسم المرحوم الدكتور فكري الدهشان. - هو ما قلت.
الفصل العشرون
إن الذي يبني مجده على أكتاف الآخرين يزول مجده بزوالهم. فمجدك إن لم تصنعه يداك على أساس من الكفاءة والعمل الجاد إنما هو سراب قد يفرح به الرائي، ولكن إذا بلغته الحقيقة وجدته وهما من الوهم، وهباء من الهباء.
ولكن الذين يخدعون أنفسهم مساكين، فهم أول من يصدق أنفسهم حين تخدعهم، وهم في خداعهم هذا يعمون عن الحق ويطيشون عنه، ويظنون أن مجدهم هم صانعوه، وهيهات لهم أن يتبينوا الحقيقة من أنهم نباتات متسلقة على أشخاص آخرين. فإذا شاء حظهم التعس وزال هؤلاء الآخرون طالعتهم الحقيقة صريحة صارخة لا قبل لهم بمواجهتها، ولا قبل لهم بتجاهلها، وويل لهم من أنفسهم حينذاك. فالنفس الممزقة والحقيقة التي تكشف الوهم وتجعل الدجل ينماع إلى زوال ويتهافت إلى تلاش وينهار إلى هباء، تجعل الواهمين الدجالين في سعار من الجنون يتخبطهم الشيطان فيعرف الناس عنهم أعماق الأعماق التي كان يغشيها الوهم ويذود عنها الدجل الرؤية الصادقة.
وقد يغيب الحق عن الظهور بعض الوقت ولكنه في موعده قادم لا شك، وهو في قدومه موكب له طبل وزمر وزفاف كفيل أن يجعل الخداع مهتك الأستار والدجل مفضوحا ليس له من غطاء ولا وقاء.
لهذا لم أعجب وأنا في الكويت حين كنت أقرأ مقالات حسن، فالعهد الجديد يرفض أن يعطيه ما كان يعطيه العهد الماضي . فإذا هو يبالغ في مديح الماضي، وهو في مديحه لا يملك أدلة من واقع؛ فالهزيمة ماحقة والجراح من النفوس والجسوم ما زالت تنزف، وليس هناك نظرية واضحة المعالم يستطيع أن يتخفى وراءها كما كان يتخفى حامد وراء نظرية. وهكذا أصبح موقف حسن مضحكا. وكلما كتب ازداد الناس ضحكا منه، ولكنه ضحك موجع مؤلم كله سخرية من ذلك الذي خدعهم حينا ثم تكشف أمره عن بلياتشو كانت الأصباغ تغطي وجهه ثم أزالتها مياه الحرية، فإذا هم يتبينون أن الوجه لم يكن وجهه وإنما كان وجه الآخرين.
Bog aan la aqoon