قد يخدعه مخادع، ولكن هيهات أن يستطيع المخادع أن يخدع المثقفين منه والمتعلمين، أما الذين لم يتلقوا من التعليم حظا فهم يتقنون من الحياة صنعتهم في الحياة؛ فالفلاح المصري يزرع بأدوات قدماء المصريين وينتج إنتاج القرن العشرين. رأيت فلاحا يمسك بقطعة الطين من الأرض ويضعها على لسانه، ثم يقول وكأنه أستاذ في أعلى الجامعات: هذه الأرض لا تصلح لزراعة القطن.
ورأينا الصانع المصري يجتاز فترة الحرب العالمية وسيارات مصر جميعها تسير بغير قطع غيار من الخارج، والمباني تقوم دون أن يستقدموا لها الحديد أو أدوات السباكة من الغرب الذي كان مشغولا بحربه، ولا عبور بالبحر الأبيض المتوسط الذي كان لا يخدم إلا سفاكي الدماء من الجانبين المتحاربين.
فإذا ظن سياسي أنه يخادع هؤلاء فلأنهم كانوا مشغولين عنه بإتقان صنعتهم وليس يعنيهم أمره في قليل أو كثير، وكأنهم كانوا يريدون أن يقولوا له في تلك الابتسامة الطيبة العذبة: أتريد أن تضحك علينا وماله؟ اضحك ولكن اتركنا نحن لنقوم بواجبنا نحو صنعتنا.
وهكذا أصبح الملك لصا وهو في غير حاجة إلى مال، وحلا له أن يذاع عنه أنه في ميدان النساء صنديد لا يشق له غبار ليخفي بذلك حقيقة أمره. وما كان في حاجة إلى إخفائها، فما يعني الناس عنه في هذا الميدان شيء، ولكنه غباء تمكن منه وخرج به عن طبيعة الأمور، وربما كان له العذر في ذلك بما كان يلقاه في أسرته من أهوال.
حاول الملك أن يعدو على أموال الدولة في الوزارة التي كان يحمل عبئها حلمي باشا. وكان الملك يظن أن إنعامه عليه بالباشوية سيجعله يقبل محاولة الملك أن ينال أموال الدولة، ولكن فأله خاب. ورفض حلمي أن تتنازل وزارته عن حقها في المال العام فيصبح مالا خاصا للملك.
وأصر الملك وأصر حلمي. وأحرج رئيس الوزارة، ولكن حلمي الذي لم يأبه بغضب الملك كان أكثر إهمالا لحرج رئيس الوزراء.
وأوشك رئيس الوزراء أن يستقيل، ولكن الأحداث تلاحقت.
واضطر الملك أن يتراجع ليتظاهر أنه يواكب الأحداث.
فقد حدث في ذلك الحين أن بدأ اليهود في انتهاب دولة فلسطين مؤيدين بالإمبراطورية التي كانت ما تزال حتى ذلك الحين تغطي بشمسها المظلمة العالم أجمع، وأصبحت مصر في موقف غاية في الحرج؛ فهي من ناحية زعيمة العالم العربي والإسلامي، وها هي ذي دولة عربية بأكملها يحاول عدو وقح أن يستولي عليها ويقيم عليها دولة يهودية، ومن ناحية أخرى كانت مصر هذه الزعيمة دولة محتلة بالإمبراطورية البريطانية التي تحمي العدوان اليهودي الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ.
وحاول الملك أن ينتهز الفرصة ليلهي الناس عن فضائحه ويحيي الحلم القديم الذي راود أجداده أن يصبح خليفة على العرب جميعا متناسيا طبيعة التاريخ والدول، ورفض كل دولة أن تكون تابعة في حكمها إلى أي دولة أخرى مهما تكن هذه الدولة حبيبة وصديقة، بل وزعيمة أيضا.
Bog aan la aqoon