وعادوا ينادون الرجل فترتطم أصواتهم بالجدران الصماء، بحت حناجرهم، وكلت قبضاتهم من دق الحيطان، وأطبق عليهم اليأس في الظلام، ما عسى أن نفعل؟ هل ننتظر إلى ما لا نهاية؟ نستسلم حتى يتقرر مصيرنا؟ وما مصيرنا؟ هل جن الرجل؟ استكانوا إلى مقاعدهم فوق الشلت وهم في نهاية من الإعياء، كأنهم جروا شوطا قطع منهم الأنفاس، أو خاضوا معركة مزقت الأوصال، حتى الخوف باخ تحت وطأة التلبد الذي أخلفه الوهن. وتثاءب شخص بصوت مسموع فجرى التثاؤب من فم إلى فم. وتساءل صوت: ترى هل سرقت علب الثقاب وحدها؟
وفتشت الأيدي الجيوب حتى صاح أحدهم: بطاقة الشخصية! لا أثر للبطاقة.
وتتابعت الأصوات : وبطاقتي أيضا! - النقود موجودة أما البطاقة فلا أثر لها. - ما معنى هذا اللغز؟
وأكثر من شخص أراد معاودة النداء فخذله صوته، وعاد التثاؤب يتردد في نغمة ممطوطة مسترخية، ثم ساد في الظلام صمت ثقيل كأنه النوم أو الموت.
وإذا بصوت يشق الظلام متسائلا في هدوء: كيف حالكم؟
تردد الصوت في الظلام وحده ولكن دون رد فعل، فعاد يتساءل مرتفعا درجات: هوه .. كيف حالكم؟
وندت حركة ضعيفة في الظلام أعقبها صوت يقول بنبرة فازعة للأمل: المعلم! .. من؟ .. المعلم؟
واستبقت الأصوات مرددة: المعلم .. المعلم .. فعاد الصوت يتساءل متهكما: كيف حالكم؟ - تسأل عن حالنا! .. أنت! .. أي دعابة سمجة؟ - كيف حالكم، هذا ما أسأل عنه. - أين كنت يا رجل؟ - أنا لم أبرح مكاني. - ألا زلت مصرا على العبث بنا؟ - صدقوني فأنا لم أبرح مكاني طيلة الوقت. - كذاب .. تحسسنا موضعك فلم نجد لك أثرا. - لم يحرك أحد منكم ساكنا. - أيها المكابر .. لقد ناديناك حتى بحت أصواتنا، ودققنا الجدران حتى كلت أيدينا. - لم يحرك أحد منكم ساكنا، صدقوني، وكنت طيلة الوقت بينكم. - ما زلت متوهما أنك قادر على العبث بنا! - صدقوني .. لم أفعل شيئا سوى أن أخذت بطاقاتكم وعلب الثقاب. - ها أنت تعترف .. كف عن العبث .. لم نكن نعرف أنك نشال ماكر. - بل أخذتها وأنتم نيام. - نيام! - أجل وأنتم نيام. - لم يغمض لأحد منا جفن. - بل نمتم ساعة كاملة على الأقل، أنجزت فيها مهمتي. - أنت مطالب بأن تفسر لنا سلوكك الشاذ. - طيب .. خطر لي أن أقوم بتجربة فذة .. خدرتكم بخلطة عجيبة من ابتكاري! - إنك تهذي! - ستفقدون ذاكرتكم قبل طلوع الفجر. - رد إلينا مسروقاتنا، وافتح الباب. - واستغرقتم في النوم ساعة كاملة تبعا للخطة، ثم استيقظتم، وتثاءبتم، وندت عنكم همسات لا معنى لها، ثم تكلمت أنا. - لن يجدي خداعك. - نمتم ساعة بدليل أنني أخذت ما أردت أخذه منكم وأنتم لا تشعرون. - لكنني تحسست مكانك بيدي فلم أجدك. - لم يكن باستطاعتك أن تحرك يدك. - ودققنا الجدار، ونادينا بأصوات كالرعد. - عجزتم عن ذلك كما تعجزون عنه الآن، ولكنكم توهمتم أفعالا لم تخرج في حقيقتها عن نطاق رءوسكم، كانت أفعالكم كالظلام الذي يلفكم لا وجود حقيقيا لها. - ألا ترى أننا غير مستعدين للهزل؟ - ستفقدون الذاكرة قبل الفجر، لن يعرف أحدكم نفسه، فضلا عن الآخرين! - ألا ترى؟ - لذلك استوليت على بطاقاتكم، لن يعرف أحدكم نفسه، وهيهات أن يعرفه أحد. - اغسل رأسك بماء بارد .. أسرع! - غدا صباحا لن يوجد منكم أحد، ستختفون كما اختفت بطاقاتكم! - هل جننت يا رجل؟ - ليكن، ماذا جنيتم من عقلي؟ فلتجربوا جنوني، وسوف أخدر نفسي بابتكاري العجيب، ومن حسن الحظ أنني لا أملك بطاقة من الأصل، فلنشكر للظلام والصمت والليل أياديها. - يا مجنون! يا مخرف! - ستفقدون القدرة على الكلام كما فقدتم القدرة على الحركة، سوف ألحق بكم، أعدكم بذلك. انطرحوا جثثا فوق الشلت فغدا سيستقبلكم الخلاء أجسادا فتية مبللة بندى الحقول.
وساد الصمت. لم ينبس أحدهم بكلمة، وترددت أنفاس نوم عميق. وجعل ينقل بصره من واحد لآخر، ثم تنهد بارتياح متمتما: مبللة بندى الحقول.
الوجه الآخر
Bog aan la aqoon