يقال جوابا عن هذا السؤال إن سبب ذلك الظن السيئ هو أن آمال فرنسا الاستعمارية تشبه كثيرا آمال إنكلترا، فكأن الدولتين فرسا رهان أو فتيان يستبقان، وقد شاع هذا الظن ولكنه يدل على جهل القائلين به بتاريخ فرنسا السياسي؛ بل بتاريخ سياسة أوروبا كلها.
فإن فرنسا لا تود أن تكون مزاحمة لإنكلترا في سياستها الخارجية لأن مركزها في قارة أوروبا لا يسمح لها بذلك، ولا يمكن القول بأن فرنسا صحت عزيمتها يوما من الأيام على فتح مصر؛ لأن أول بديهيات السياسة الفرنسوية هي أن لا تكلف نفسها في فتح المستعمرات أكثر مما تتحمل من مال ورجال. وقد علمتها الحوادث أن شر افتتاح المستعمرات البعيدة أكثر من خيرها، وقد أبنا ذلك فيما تقدم عندما ذكرنا حملتي مصر والمكسيك.
وقد أسهبنا الكلام فيما مضى من هذا الكتاب عن الصعوبات والعقبات الداخلية التي تعترض الدول الأوروبية عندما تريد إحداها أن تتوسع في سياستها الخارجية، ونحن متحققون من أن فرنسا تحققت من سخافة تلك الأحلام الاستعمارية، ويظهر ذلك لمن يعرف تاريخ فرنسا بالتدقيق ويرى بعينه الفرص العديدة التي سنحت لها لتتوسع في الاستعمار، فلم تنتهزها وضحتها جميعا لأجل سيادة السلام في داخليتها.
وغني عن البيان أن حياة الأمم كحياة الأفراد، والدليل على ذلك وجود وجه الشبه بين سياسة الأسرة وسياسة الأمة، فلو كانت الأسرة في شقاق داخلي فإن رب الدار لا يستطيع أن يتناول من الأعمال الخارجية ما يضمن لأسرته رزقا وعيشة راضية، فما بال ذلك الرجل لو كانت داخليته في شقاق وهو في الخارج مهدد من أعدائه ومبغضيه، وما أصدق ذلك المثل على فرنسا لو نظرنا لحادثة أملاكها في قارة أمريكا الشمالية، وهي «دومينيون أوف كندا» التي سلمتها فرنسا لإنكلترا ثمنا للحرب المشئومة، فإننا نتذكر أن فرنسا لم تعتن بهذه المستعمرة قبل أن تنازعها إنكلترا إياها ولا بعد ذلك، حتى إنها لم تعد مركبا ولم ترسل جنديا بل ولم تحرك لسانا أو ترفع يدا لنجاة بطلها العظيم مونتكام الذي ذهب شهيدا في وقعة «جبل إبراهام» بعد أن جاهد الجهاد الحسن، وكم بطل فرنسوي من رجال البحر ورجال البر مات كسير القلب جريح الفؤاد من إهمال دولته أمره وغضها النظر عن آماله وأمانيه. نعم لقد مات هؤلاء الأبطال كافة وفي نفوسهم أماني لم تتم وآمال لم تتحقق، فضاعت حياتهم هباء وضحيت في سبيل الاختلافات الداخلية. ويحق لنا ألا ننسى في هذا المقام حادثة 1783، وهي أوضح برهان على صدق ما نقول، وقد اخترنا هذه الحادثة لأن أغلب الكتاب لم يذكروها، ولأن المؤرخين الذين ذكروها أشاروا إليها إشارة خفية ولم يفصلوها.
وتفصيل الخبر هو أن أمير البحر «ببلي دي سوفرين» الأميرال الفرنسوي الشهير بقوة عقله وبراعته في فنون البحرية وضع يده على شاطئ الكارنتيك بعد أن لاقى ما لاقى من الأهوال الصعبة التي وضعها الإنكليز في طريقه ليعوقوه عن التقدم. وبعد أن أوشك أن يتنفس الصعداء بعد ذلك الفوز المبين بلغه رسول من فرنسا يحمل إليه خبرا أسود من القار وأشأم من نعيق البوم، وهو أن يسلم للإنكليز شاطئ الكارنتيك وكل ما عداه مما افتتحه عنوة بناء على اتفاقية عقدت بين دولته ودولة إنكلترا، فلم ير سوفرين أمامه إلا الطاعة العمياء، فأذعن وهو يكاد يموت حدقا وغيظا وبإقلاعه من المياه الهندية اختفت أثار الدولة الفرنسوية من تلك البقاع وذهبت أماني «دوبليه» هباء في الهواء. على أن فرنسا لم تطلق الاستعمار مرة واحدة لأنها في حاجة إليه؛ ولذلك نراها إذا عثرت بأرض طيبة لا تبعد عنها كثيرا وتستطيع أن تستمد منها رزقا بشرط أن تضيف هذه الأرض إلى فرنسا في وقت ضعفها قوة، فإن فرنسا تفرغ كل وسعها وتعمل جهد طاقتها لتضم هذه البلاد إليها، وعلى هذا كان احتلال جزيرة كورسيكا من أهم الأمور لفرنسا؛ لأنه من المستحيل عليها أن تترك جزيرة ككورسيكا المتمكنة كل التمكن من شواطئها الجنوبية؛ ولأن هذه الجزيرة إذا وقعت في يد الإنكليز فإنهم لا محالة يخلقون منها جبل طارق آخر ويحصرون مواني فرنسا في أقرب فرصة، فلما قر رأي الفرنسويين على أخذ هذه الجزيرة تقدموا إلى أهل جنوه وابتاعوها منهم على أنهم تعبوا تعبا شديدا في كسر شوكة أهل الجزيرة.
و«الجزائر» هي أهم مستعمرة فرنسوية بعد كورسيكا، فإنها لا تبعد عن ثغر طولون إلا بضع ساعات وقد كلفت فرنسا ما كلفتها من مال ورجال، ولكنها كانت تستحق ما أنفق من المال وما أزهق من النفوس في سبيلها؛ لأنها زيادة عن قربها من فرنسا فإنها بلا شك مورد رزق ومركز حربي لا مثيل له، وعلاوة على ذلك فإن فرنسا تستطيع أن تحشد من جنود الجزائريين في وقت الحرب ما شاءت الأعداء، نقول إننا ذكرنا فيما مضى بإسهاب وشرح طويل المسائل الداخلية والمشاكل الأهلية التي تعوق الدول الأوروبية عن الاندفاع في تيار الاستعمار، وقلنا هناك إن عدم وجود هذه العقبات وتلك الصعوبات في سبيل إنكلترا هو الذي سهل عليها سياسة الاستعمار وجعل نجاح سياستها الخارجية أمرا محققا، وقد أفضنا البحث في هذا الموضوع وأطلنا الكلام في أن دول أوروبا لا تستطيع أن تسابق إنكلترا في سياستها الاستعمارية لأنهن لو حاولن ذلك قضين على حياتهن السياسية، وما أسهبنا الكلام في تلك المسألة إلا دفعا للوهم السائد من أن هذه الدول كلها تنظر إلى إنكلترا بعين الحسود الحاقد لأنها لم تنل سعيها ولم تبلغ شأوها، ولقد يندهش القارئ عندما تذكر له أن الدول الأوروبية الصغرى هي التي تسعى لمسابقة إنكلترا أو سياستها الاستعمارية؛ لأن هؤلاء الدول يؤسسن من المستعمرات ما يقرب مما أسست مالكة البحار، ولا يغيب عن ذهن القارئ أن ألمانيا - وهي تلك الدولة الضخمة ذات الأساطيل والجيوش - ليست قادرة على كبح جماح مستعمراتها الصغيرة في أفريقيا عندما تكون البورتغال - وهي هذه المملكة الحقيرة التي لا يسمع اسمها في العام مرة - قادرة على سياسة مستعمراتها الأفريقية الواسعة بدون أن يشعر بها أحد.
نعم! إن ألمانيا بما لها من العظمة والسلطة لا تستطيع أن ترد قبائل «الهروروس» إلى حظيرة طاعتها، مع أن هولاندا على ما هي عليه من حقارة الشأن وصغر القدر قابضة بيد من حديد على مستعمرات «آشين» على ما عليه أهل تلك المستعمرات من العصيان الدائم، وما ذلك إلا لأن هولاندا مطمئنة في داخليتها.
فكأن حياد هولاندا هو سبب نجاحها، وقد جعلها ذلك الحياد جزيرة سياسية، كما جعل البحر إنكلترا جزيرة جغرافية، ولو أن ثروة هولاندا ليست عظيمة ولكن كل منابعها في يدها وتحت تصرفها، فهي تستطيع أن تحصر كل قواها في مكان الضعف من جسمها، ولكن ألمانيا على ضخامتها وقوتها لا تستطيع أن تجهز أسطولا كبيرا لأعمالها الحربية وراء البحار، ولا تستطيع أن تبعث إلى «الهروروس» بجيش عرمرم يعيدهم إلى فناء الولاء ويعلمهم درسا في الأدب.
ومثل هولاندا كمثل البورتغال، فإن حياد إسبانيا قد ضمن للبورتغال السلامة في بلادها فهي أبدا آمنة مطمئنة فلا من يقلقها من الداخل ولا من يزعجها من الخارج؛ ولذا فهي تستطيع أن تحصر قواها لتحقق أمانيها الاستعمارية.
وعندما نضم هذه الحقائق إلى بعضها يتضح لنا بأجلى بيان أن دولة كفرنسا مهددة من كل حد من حدودها ومحاطة بأعداء أشداء من كل جهاتها، وفي داخليتها ما في جسم العليل من السقام من قبل الكنيسة الكاثوليكية والأحزاب السياسية المختلفة، لا تستطيع أن تعرض نفسها لكل تلك الأخطار لأجل مستعمرة بعيدة مهما كانت تلك المستعمرة غنية عظيمة.
Bog aan la aqoon