حقوق الغير فاستقاموا من تلقاء أنفسهم متى علموا أن لا غاية يجتنبونها من وراء الظلم، فأما متى كان القضاء مختلًّا، فغن للظالم أمنية الانزواء تحت التخفيف، هب أن الجوار كان يقضي أن يشدد على البريّ تارة فغن ذلك لا يرفع المظالم؛ لأن النفوس عند الشهوات تتمسك بالطمع، ولهذا حظرت الشريعة الشفاعة لمن بلغ الإمام في الحدود وغيرها، وجاء بكلمة «تداوي» ترشيحًا للاستعارة وإيماء إلى وجه الشبه؛ إذ كانت الاستعارة من الغرابة بالمكان الذي ربما أبهم أمرهم على السامع.
«فإن كنت تبرئ» طرد الاستعارة، ومن محاسن التشبيه: أن يكون مطردًا في جميع أصوله وفروعه، وأراد بكونه يبرئ المقدرة على إصابة الحق، وحمل الناس عليه بتنفيذه فيهم، وتحمل مصاعب القضاء التي أقل ما فيها أنه يقضي على ذويه وأصحابه وهو كاره وهم كارهون.
قال الباجي: «يريد بالإبراء إصابة الحق ورفع الباطل؛ لأن الباطل هو الداء الذي يسأل عنه المفتي لإزالته».
«فنعمَّا لك»: نعم: فعل غير متصرف عند محققي النحاة، وتدخل عليها (ما) التي هي في الأصل معرفة غير موصولة هي بمعنى الشيء، فتدغم ميم (نعم) في ميم (ما)، والغالب أن يقع بعدها ضمير مخصوص بالمدح نحو قوله تعالى: ﴿فَنِعِمَّا هِيَ﴾ [البقرة: ٢٧١]، فإن وقع فعل بعد (ما) صارت موصولة نحو: ﴿إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ [النساء: ٥٨]، فلا يذكر بعدها مخصوص بالمدح استغناء عنه بما أشعر به من الكلام، وإذا وقع بعد (ما) حرف جر كما هنا صح أن يجعل صلة (ما) أو صفة لها، أي: نعم الشيء لك أو نعم الذي لك، وفي الحديث: «بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كذا وآية كذا» الخ، والمعنى: فنعم الشيء لك القضاء بين الناس لما فيه من إيصال الحق.
«وإن كنت متطببًا فاحذر أن تقتل إنسانًا»، أراد بالمتطبب هنا: المتفعل المتكلف من الطب المراد هناك، أي: غير عالم بوجوه القضاء، ورشح هاته الاستعارة بقوله: «أن تقتل إنسانًا»، وقد شبه بقتل المتطبب مريضه ما يحدثه قضاء القاصر من ضياع الحقوق المفضي إلى الفساد، فيكون الترشيح مستعارًا للازم المشبه من لوازم المشبه به على نحو: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: ١٠٣]، فيفيد الترشيح بلفظه الاستعارة بمعناه وقرينته، وأراد بالمتطبب الذي ليس على بيَّنة من أمره فهو يقصد
1 / 68