دَرس في موطأ الإمَام مالك ﵁ جامع القضاء وكراهيته
«مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي أن هَلُمَّ إلى الأرض المقدسة فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدًا وإنما يقدس الإنسانَ عملُهُ، وقد بلغني أنك جُعِلْتَ طبيبًا تداوي فإن كنت تبرئ فنعمَّا لك، وإن كنت متطببًا فاحذر أن تقتل إنسانًا فتدخل النار، فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما، وقال: ارجعا إلي أعيدا قصتكما. متطببٌ، والله».
لم يترك الإمام رحمه الله تعالى في تبوبيه هذا حقًّا من المناسبة في التبويب إلا قضاه؛ إذ أخر التحذير من القضاء إلى آخر كتاب الأقضية، واستهل كتاب الأقضية بالترغيب في القضاء بالحق، آثر بذلك التقديم وهذا التأخير ترتبًا طبيعيًّا من وجهين:
أولهما: أن الناس لو سلك بهم مسلك الاقتصار على الترهيب من القضاء ثم تمشي ذلك في عقول العلماء العدول، فعافت نفوسهم القضاء وتمالؤوا على التقصي منه لكان من أثر ذلك أن يصبح الناس فوضى ويرجعوا إلى الهمجية الأولى يقتصون لأنفسهم تلك الهمجية التي كان من جهد الشريعة إبعاد الناس عنها، قال الحماسي:
فلسنا كما كنتم تصيبون سلة ... فنقبل ضيمًا أو نحكم قاضيا
ولكن حكم السيف فينا مسلط ... فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا
من أجل ذلك جاء بالترغيب في القضاء بالحق، كأنه يأخذ بيد الخائف الوجل من هذا الأمر، ويطل به عليه يبين له أن إكباره خيال كبير، وأن المرء إذا شاء إجراء العدل كان يلي بولايته القضاء أكبر خطة وأصلحها للكون، ثم جاء الإمام في آخر كتاب الأقضية بالترهيب منه؛ إيقاظًا لنفوس ربما خامرها الذهول فاستهونت أمره بعد استكباره ولم ترقب حق الله من الاحتياط فيه وأخْرج في هذا الأخير هاتيكم الكلمة الفذة كلمة سلمان ﵁.
وثانيهما: يناسب حال المرء الذي يلي القضاء أي أن يكون مكتوبًا على هذا
1 / 62