قلت وبالله التوفيق: قوله عليه السلام: فيومئذ، أي: يدخل الظلم بيوت المدر والوبر الترحة، ويولجون فيه النقمة، والتنوين في لفظ إذ عوض عن هذا المحذوف، والمراد بقوله عليه السلام:(لا يبقى لهم في السماء عاذر)، أهل بيوت المدر والوبر، بدليل قوله عليه السلام: (ولا في الأرض ناصر)؛ لأن الظلمة يتغلبون في ذلك الوقت وأنصارهم في الأرض موجودون، وإلا لم يقدروا على إدخال بيوت المدر والوبر شيئا من الترح والنقم، فكان أهل السماء غير عاذرين لهم أعني: أهل بيوت المدر والوبر مع ما بهم من الترح والنقم، وما ذاك إلا لأنهم قد عصوا بتسليم الحق إليهم من أموال الله من الزكوات والخراج، وغيرهما الذي عناه أمير المؤمنين عليه السلام في آخر الكلام، حيث قال: (أصفيتم بالحق غير أهله) أي: جعلتموه لهم صافيا عن كدر الاشتراك، فلم يخالطهم فيه من أهله مخالط، وأوردتموه غير ورده، أي: جلبتموه إلى غير موضعه الذي كان يجب أن يرد إليه، وجاء عليه السلام بلفظ أصفيتم، ولفظ أوردتموه للخطاب بعد أن سبقه للغيبة قوله عليه السلام: (لا يبقى لهم في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر) لما فيهما أي في لفظ: أصفيتم، ولفظ أوردتموه من التوبيخ واللوم على فعل ذلك ، ويسمى هذا التفاتا، وذلك من الفصاحة بمكان، وقد جاء في الكتاب العزيز كثير، كأول سورة الحمد إلى قوله تعالى: {مالك يوم الدين} فإنه للغيبة، وقوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} للخطاب، والسر في ذلك في سورة الحمد: أن أول الحمد مدح لله تعالى، وتمجيد له، وأبلغ المدح والتمجيد ما كان في الغيبة عند العرب لسلامته مما يتهم به ذي الوجهين الذي يمدح في الوجه، ويذم في الغيبة، ولبعده عن الكذب لانتفاء ما يحمل عليه مما يرتجى في الممدوح إذا كان غائبا في الأغلب، فأجراه الله على الوجه البليغ المحبوب عندهم ليفيد كون ذلك حقا لا مثل ما يفعله من يكذب في مدحه، وإلا فهو سبحانه وتعالى حاضر لا يغيب، وقوله سبحانه وتعالى مرشدا لعباده: {إياك نعبد وإياك نستعين} مؤديا لمعنى خضوع العبد لله سبحانه وتعالى واستكانته في الحاجة إليه، وطلب الإعانة منه على طريق الهدى المبلغ إلى النعيم المقيم، والسلامة من العذاب الدائم الأليم، وتلك حاجة كل حاجة غيرها كالعدم، وأبلغ الخضوع والاستكانة والترفق لطلب الحوائج عند العقلاء كافة لا تقع من الدليل للقاهر القادر في الشاهد إلا إذا كان حاضرا، والله سبحانه وتعالى حاضر غير غائب، فأجراه الله تعالى على ذلك ليكون اللفظ مطابقا للمعنى، فالمعنى بالغ النهاية التي لا وراها واللفظ بالغ الغاية في البلاغة التي لا وراها، وما قاله صاحب (التلخيص) مما يخالف هذا ليس بسديد عندي؛ لأنه مؤد إلى أن العبد لم يكن مقبلا على ربه حتى ينتهي إلى خاتمة صفاته تعالى المحمودة، وهو قوله تعالى: {مالك يوم الدين}.
ومن المعلوم أن المخلصين من عباد الله تعالى يقبلون على الله تعالى ويخضعون له بالاستكانة من عند أن يقوموا بين يديه ويشرعون في صلاتهم، فيكون هذا المعنى منتف في حقهم.
Bogga 324