[ مسند عبد الله بن عباس ]
[ 1 من حديث خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ]
[ ... ]
قال أبو جعفر : وفيه البيان البين أن خلى مكة حرام اختلاؤه
واختلف السلف من أهل العلم في الرعي في خلاها وهل ذلك من الاختلاء الذي دخل في نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم ذلك غير داخل فيه
فقال بعضهم : ذلك غير داخل في نهيه عن اختلاء خلاها ولا بأس بالرعي فيها
Bogga 7
ذكر من قال ذلك
1 حدثنا ابن حميد قال حدثنا هرون بن المغيرة عن عنبسة عن ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد قالوا لا بأس بالرعي فيها غير أنهم قالوا لا يخبط
2 حدثنا ابن حميد قال حدثنا هرون عن عنبسة عن ابن أبى ليلة قال لا بأس بالرعى فى الحرم
وعلة قائل هذه المقالة أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن اختلاء خلى مكة دون الرعى فيها والراعى فيها غير مختل فيها لأن المختلى هو الذي يقطع الخلى بنفسه فأما إذا رعى ماشيته فيها فغير مختل
وقال آخرون غير جائز الرعى فى خلاها فإن الرعى فيه أكثر من الاختلاء
Bogga 8
ذكر من قال ذلك
3 قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا يرعى إنسان في حشيش الحرم لأنه لو جاز أن يرعى فيه جاز أن يحتش إلا الإذخر
وعلة قائل هذه المقالة تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهى عن احتشاش حشيش مكة بقوله ولا يجذ خلاها واختلاء الخلى استهلاك له وإماتة وإرعاء المواشى فيه حتى ترعاه أكثر من احتشاشه في الاستهلاك والإماتة
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال غير جائز لأحد أن يرسل ماشيته في خلى الحرم لترعاه فأما إن أفلتت ماشيته فرعت فلا حرج عليه لأن إرعاء الماشية فيه تسبيب لاستهلاكه كما قطع ما فيه من الحشيش تسبيب لاستهلاكه وهو منهى عن ذلك فكذلك إرعاء الماشية فيه
وقالوا جميعا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اختلاء خلاها هو اختلاء ما نبت مما أنبته الله فلم يكن لآدمي فيه صنع فأما ما نبته المنبتون فلا بأس باختلائه وقد ذكر ذلك عن جماعة من السلف
Bogga 9
ذكر من انتهى منهم إلينا قوله في ذلك
4 حدثنى سعيد بن يحيى الأموي قال حدثنا عيسى بن يونس قال حدثنا ابن جريج عن عطاء قال ما أنبت على مائك فهو لك حل
5 حدثنا ابن بشار قال حدثنا مؤمل قال حدثنا سفيان عن ابن جريج عن عطاء قال ما أنبت ماؤك في الحرم من البقل وأشباهه فكل ومالم ينتبه ماؤك من الشجر فلا تأكل
6 وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كل شيء أنبته الناس فلا شيء على قاطعه وكل شيء مما أنبته الناس فقطعه رجل فعليه قيمته
والصواب من القول في ذلك عندنا ما قالوه وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى أن يختلى خلاها والمعقول في متعارف الناس بينهم إذا نسبوا حشيشا إلى موضع فقالوا هذا حشيش بلدة كذا أنه يعنى به الحشيش الذي ينبته الله جل ثناؤه مما لا صنع فيه لبني آدم فأما ما ينبته الناس ويزرعونه لمنافعهم فإنهم يخصونه بأسماء معروفة لها فلذلك قلنا إن الخلى الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختلائه هو ما أنبته الله جل ثناؤه مما لا صنع فيه للآدميين من الأحشة دون ما نبته الآدميون مع إجماع الجميع على أن ذلك كذلك فخلى مكة حرام اختلاؤه على الحلال والحرام خلا الإذخر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناه مما حرم اختلاءه من خلاها
فإن قال لنا قائل فما أنت قائل في اجتناء الكمأة منها
قيل لا بأس
Bogga 10
فإن قال أو ليس ذلك مما أحدثه الله تعالى ذكره مما لا ينبته بنو آدم ولا صنع لهم فيه
قيل بلى ولكنا لم نشرط فيما أوجبنا تحريم إتلافه مما في الحرم كل ما أحدثه الله تعالى ذكره فيه مما لا صنع للآدميين فيه وإنما حرمنا من ذلك ما كان حشيشا أو شجرا مما ينبت أصله في الأرض
فأما عدا ذلك فغير حرام ولو وجب أن يكون كل ما أحدثه الله فيه مما لا صنع فيه لبني آدم حراما استهلاكه لوجب أن يكون حراما شرب ما في آباره التي أحدثها الله فيه وكسر أحجاره والانتفاع بترابه
وفي إجماع الجميع على أن لا بأس بشرب مياه آباره الظاهرة والانتفاع بترابه الدليل الواضح على أن مما أحدث الله خلقه في حرمه مما لا صنع لآدمي فيه ما هو مطلق أخذه والانتفاع به واستهلاكه ومن ذلك الكمأة فإنها غير مستحقة اسم خلى ولا شجر وهو كبعض ما خلق فيها من الحجر والمدر والمياه وبالذى قلنا قال بعض السلف
7 حدثنى محمد بن عمر بن على المقدمى قال حدثنا أبو بحر البكرواي عن الحجاج عن عطاء قال لا بأس بأن تجتنى الكمأة من الحرم
8 حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد قال أخبرنا أبو بحر البكراوى عن الحجاج عن عطاء مثله
Bogga 11
9 وحدثنى عمرو بن عبد الحميد الآملى قال حدثنا عبد الرحمن بن عثمان البكراوى عن الحجاج بن أرطأة قال كان عطاء لا يرى بأسا أن تجتنى الكمأة من الحرم
10 وحدثنى يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا هشيم قال أخبرنا حجاج عن عطاء أنه كان لا يرى بأسا أن تجتنى الكمأة من الحرم
وقد خالف الحجاج ابن جريج في روايته عن عطاء هذا الخبر
11 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا أبو أحمد الزبيري قال حدثنا سفيان عن ابن جريج أنه كره أن تجتنى الكمأة من الحرم
غير أنا ألحقنا الكمأة إذ كان لا أصل لها في الأرض ثابت بنظيرها مما أجمع المسلمون على أنه جائز استهلاكه والانتفاع به من المياه وأشباهها
Bogga 12
وفيه أيضا البيان البين أنه غير جائز قطع أغصان شجر مكة وفروعها لقول النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعضد شجرها وإذا لم يكن جائزا قطع أغصان شجرها التى أنشأ الله خلقها فيها مما لا صنع فيه لبنى أدم فقطع شجرها التى هى كذلك أحرى أن يكون النهى فيه أوكد والحظر فيه أثبت وإذ كان ذلك كذلك وكان الشجر عند العرب كل ما قام على ساق فثبت من نبات الأرض كان صحيحا قول القائل غير جائز لأحد قطع شجر الحرم الذى أنبته الله مما لا صنع فيه لأحد من بنى آدم
12 فإن قال قائل فإذ كان الأمر كالذى وصفت فى شجر الحرم الذى لم ينبته بنو آدم فما أنت قائل فيما
حدثكم به ابن حميد قال حدثنا هرون عن عنبسة عن ابن أبى نجيح قال كان عطاء لا يرى بأسا أن يؤخذ من شجر الحرم ما عفا للسواك والعود
13 حدثنى على بن الحسن بن سالم الأبى الأزدى قال حدثنا المعافى ابن عمران الموصلي عن الربيع عن الحسن أنه لم ير بأسا أن يقطع الشجر اليابس من الحرم
قيل قد خالف من ذكرت في قولهم هذا من نظرائهم من قوله أولى بالصحة من قولهم وذلك ما
14 حدثنا ابن حميد قال حدثنا هرون عن عنبسة عن ابن أبى نجيح عن مجاهد أنه كره أن يؤخذ من شجر الحرم لدواء ولا لغيره
15 حدثنا عبدا لحميد بن بيان الواسطى قال أخبرنا إسحق يعنى الأزرق عن شريك عن العلاء بن المسيب عن عبد الرحمن بن الأسود أنه قال لا يؤخذ من شجر مكة إلا ما سقط منها فيبس وذرته الريح
16 حدثنا ابن حميد قال حدثنا هرون عن عنسبه عن أبى سهل محمد بن سالم عن الشعبى قال لا يحل للحلال أن يقطع من شجر الحرم إلا الإذخر
Bogga 13
وإن قال هل على من قطع من شجر الحرم شيئا شىء
قيل قد اختلف السلف قبلنا في ذلك فنذكر ما قالوا فيه ثم نتبع جميعه البيان إن شاء الله
فقال بعضهم على من قطع من ذلك شيئا جزاء
وقد اختلف قائلو ذلك في ذلك الجزاء فقال بعضهم في الدوحة العظيمة من شجر الحرم إذا قطعها قاطع بقرة أو بدنة وفي الصغيرة منها طعام يطعمه المساكين
ذكر من قال ذلك
17 حدثنا أبو كريب قال حدثنا ابن أبى زائدة قال أخبرنا ابن جريج عن عطاء في الدوحة تقطع في الحرم بقرة
18 حدثنى يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا هشيم قال أخبرنا بعض أشياخنا قال سمعت عطاء يقول فيمن قطع شجرة من شجر الحرم الدوحة ونحوها قال عليه بدنة وما دون ذلك على قدر ذلك
19 حدثنا تميم بن المنتصر الواسطى قال أخبرنا إسحق قال أخبرنا شريك عن العلاء بن المسيب عن عطاء قال في الشجرة الضخمة يقطعها المحرم بقرة وفي الشجر الصغار طعام يطعمه
20 حدثنا أبو كريب قال حدثنا ابن يمان عن ابن جريج عن عطاء قال في الدوحة يصيبها المحرم بقرة وقال الدوحة الشجرة العظيمة
Bogga 14
وعلة قائلى هذه المقالة القياس على إجماع الجميع على أن في أعظم ما أصاب المصيب من الصيد في الحرم البدنة من البدن إذ كان ذلك مما نهى الله تعالى ذكره عن إصابته فيه فكذلك في أعظم ما أصاب المصيب من شجره فيه البدنة ثم فيما هو أصغر منه على قدره كما ذلك كذلك في الصيد يصيبه المصيب فيه على قدر كبر المصاب وصغره
وقال آخرون منهم إذا أصاب المصيب شيئا من شجر الحرم فإنه يحكم عليه في ذلك ذوا عدل
ذكر من قال ذلك
21 حدثنا ابن حميد قال حدثنا هرون عن عنبسة عن محمد بن سالم أبى سهل عن الشعبى في الرجل يقطع من شجر الحرم قال يحكم عليه فى ذلك ذوا عدل
22 وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا قطع رجل من شجرة من شجر الحرم فعليه قيمتها بالغة ما بلغت
فإن بلغت هديا كان عليه هدى وإلا قوم طعاما فأطعم كل مسكين نصف صاع من حنطة
قالوا والهدى بمكة والصدقة حيث شاء
وقالوا إذا لم يجد الهدى أو الطعام فلا يجزى فيها صيام
وقالوا إن أصابها القارن فقيمة واحدة وكذلك إن قطع ذلك رجلان فعليهما قيمة واحدة
وعلة قائلى هذه المقالة على إجماع الجميع فيما لا مثل له من الصيد من النعم يصيبه المصيب في الحرم أن عليه قيمته يحكم بذلك ذوا عدل
Bogga 15
فكذلك الواجب في الشجرة يصيبها المصيب في الحرم أن يحكم فيها ذوا عدل إذ كان لا مثل لها من النعم
23 وقال آخرون لا شىء على من قطع الشجرة من شجر الحرم إلا الاستغفار والتوبة
ذكر من قال ذلك
حدثنا يعقوب بن إبرهيم قال حدثنا هشيم عن حجاج قال سألت عطاء بعد ذلك مرارا يعنى بعد ما قال فيمن قطع شجرة من شجر الحرم الدوحة ونحوها عليه بدنة وما دون ذلك على قدر ذلك فقال يستغفر الله ويتوب ولا يعود ولا شىء عليه
24 حدثنى يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال قال مالك ابن أنس وذكر الذى ذكر فى قطع الشجر في الحرم وما ذكره أهل مكة فى الدوحة بقرة وفي كل غصن شاة فقال لم يثبت عندنا ولا نعلم فى قطع الشجر شيئا معلوما غير أنه لا يجوز لمحرم ولا حلال أن يعقر شيئا من شجر الحرم ولا يقطع شيئا منه
وقد روى عن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه فى ذلك خبر يدل على أنه لم يكن يوجب فيه شيئا وذلك ما
25 حدثنى يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا هشيم قال أخبرنا حجاج وعبد الملك عن عطاء عن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه رأى رجلا يقطع من شجر الحرم ويعلفه بعيرا له قال فقال على بالرجل
Bogga 16
فأتى به فقال يا عبد الله أما علمت أن مكة حرام لا يعضد عضاهها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمعرف قال فقال يا أمير المؤمنين لا والله ما حملنى على ذلك إلا أن معى نضوا لى فخشيت ألا يبلغنى أهلى وما معى من زاد ولا نفقة قال فرق له بعدما هم به قال وأمر له ببعير من إبل الصدقة موقر طحينا فأعطاه إياه وقال لا تعودن أن تقطع من شجر الحرم شيئا
فهذا الخبر ينبىء عن أن عمر رضي الله عنه إنما تقدم إلى الذى رآه يقطع من شجر الحرم ويعلفه بعيرا له بالنهى عن العود لمثل ما فعل من قطعه ذلك ولم يأمره بجزاء ولا كفارة لما قطع منه
والصواب من القول فيما على من قطع من شجر المنهى عن قطعه أن يقال عليه قيمة ما قطع منه وذلك لصحة الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهى عن قطعه نظير صحة الخبر عنه بالنهى عن تنفير صيده وقتله
وقد أجمع الجميع من سلف الأمة وخلفهم على أن على قاتل صيده المنهى عنه جزاء فكذلك الواجب من الحكم على قاطع شجره المنهى عن قطعه أن يكون عليه جزاؤه نظير ما على قاتل صيده المنهى عن قتله لا فرق بين ذلك
ومن فرق بين ذلك سئل البرهان على الفرق بين ذلك من أصل أو نظير فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله
فإن اعتل بالإجماع في الصيد والاختلاف في الشجر
Bogga 17
قيل فرد حكم ما اختلف فيه من قطع الشجر على ما أجمع عليه من حكم قتل الصيد فيه إذ كلاهما إتلاف ما قد نهى عن إتلافه وفعل ما قد حظر فعله وإن اختلفا في أن أحدهما صيد والآخر شجر
وإذ كان صحيحا ما قلنا من إيجاب قيمة ما قطع من شجر الحرم على من قطعه بالغا ذلك ما بلغ فبين أن على من قطع من فروع شجرة من شجر الحرم فرعا أو من أغصانها غصنا قيمة ذلك الغصن كما على من جرح صيدا من صيد الحرم ولم يتلفه ذلك الجرح فعليه قيمة ما نقص ذلك الصيد إذ كان عليه غرم جزائه إذا أتلف جميعه فكذلك ذلك في حكم قاطع بعض فروع شجر الحرم وأغصانها عليه قيمة ما أفسد منها بالقطع يحكم بذلك ذوا عدل كما عليه قيمة جميعها إذا قطع جميعها
وفيه أيضا البيان البين على أن صيد الحرم حرام اصطياده وذلك أنه صلى الله عليه وسلم إذ كان صحيحا عنه النهى عن تنفير صيده فاصطياده أوكد في التحريم من تنفيره
فإن قال لنا قائل فإنك اعتللت في إيجابك الجزاء على من قطع شيئا من شجر الحرم الذى لا ينبته بنو آدم بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قطعه وأنه لما صح النهى عنه بذلك وكان مجتمعا على قاتل صيده أن عليه جزاءه كان نظيرا له قاطع بعض أشجاره فيما يجب عليه من جزائه بقطعه وقد صححت نهيه عن تنفير صيده أفتقول فيما يجب على منفره من الجزاء مثل ما على قاطع شجره وقاتل صيده
Bogga 18
قيل أوجب ذلك إن أداه تنفيره إياه إلى هلاكه وكان تنفيره ذلك سبب عطبه كما أوجب عليه قطعه في شجره الجزاء إذ كان قطعه إياه سببا لموته وهلاكه فأما إن لم يكن تنفيره إياه سببا لهلاكه وعطبه أو هلاكا لشىء منه لم يكن بتنفيره شىء غير التوبة والندم
وقد حكى عن عطاء أنه كان يقول يطعم شيئا
26 وحدثنا ابن حميد قال حدثنا هرون عن عمرو عن الحجاج عن عطاء فيمن أخذ طائرا في الحرم ثم أرسله قال يطعم شيئا لما نفره
فإن فعل فاعل ما ذكرت ما قاله عطاء فمحسن مجمل غير أن ذلك غير واجب عليه عندنا
وقد روى عن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه نحو القول الذى قلناه
27 حدثنا ابن المثنى قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن الحكم عن شيخ من أهل مكة أن حماما كان على البيت فخرى على يد عمر رضى الله عنه فأشار بيده فطار فوقع على بعض بيوت مكة فجاءت حية فأكلته فحكم عمر كرم الله وجهه على نفسه بشاة
فلم ير عمر رحمه الله لما نفر الحمامة الواقعة على البيت بتنفيره إياها عليه شيئا حتى تلفت فلما تلفت وكان عنده أن سبب تلفها كان من تنفيره إياها ألزم نفسه جزاءها فجزاها
وذلك هو الحق وإنما استجاز عمر رضوان الله عليه تنفيره من الموضع الذى كان واقعا عليه مع علمه أن تنفير صيده غير جائز لأن الطائر الذى نفر ذرق على يده فكان له طرده عن الموضع الذى يلحقه أذاه في كونه فيه
Bogga 19
وكذلك كان عطاء يقول في نحو معنى ذلك
28 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا أبو عاصم قال أخبرنا ابن جريج قال قلت لعطاء كم في بيضة من بيض حمام الحرم قال في بيضة نصف درهم وفي البيضتين درهم ويحكم فيه قال وقال إنسان لعطاء بيضة وجدتها على فراشى أميطها عن فراشى قال نعم قلت لعطاء بيضة وجدتها فى سهوة أو فى مكان من البيت قال فلا تمطها
فرأى عطاء أن المميط عن فراشه بيضة من بيض حمام الحرم في الحرم غير حرج ولا لازمه في إماطته إياها شىء لأن في تركه إياها على فراشه عليه أذى ولم ير جائزة إماطتها عن الموضع الذى أذى عليه في كونها فيه فكذلك كان مما كان من فعل عمر رضى الله عنه في إطارته الحمامة التي طيرها إذ ذرفت على يده من الموضع الذى كانت واقعة عليه
وأما قوله ولا تلتقط لقتطها إلا لمعرف فإنه يقول القائل فيه وهل لملتقط غير الحرم التقاط لقطة لغير التعريف فيخص الحرم بأن لقطتها لا تحل إلا لمعرف
فيقال له إن معنى ذلك بخلاف ما ظننت
وإنما معنى ذلك ولا يحل التقاط لقطتها إلا للتعريف خاصة دون الانتفاع بها
Bogga 20
وذلك أن اللقطة فى غيرها لواجدها الانتفاع بها بعد تعريفها حولا على أن ضامنها لصاحبها إذا حضر وليس ذلك لملتقطها فى الحرم إنما له إذا التقطها فيه تعريفها أبدا من غير أن يكون له الانتفاع بها أو بشىء منها في وقت من الأوقات حتى يأتيه صاحبها
وقد حكى شبيه بهذا المعنى فى هذا الخبر عن عبد الرحمن بن مهدي
29 حدثنى أحمد بن يوسف قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال سألت عبد الرحمن بن مهدى عن قوله لا تحل لقطتها إلا لمنشد فقال إنما معناه لا تحل لقطتها كأنه يريد البتة
فقيل له إلا لمنشد فقال إلا لمنشد وهو يريد المعنى الأول قال أحمد قال أبو عبيد ومذهب عبد الرحمن في هذا التفسير كالرجل يقول والله لا فعلت كذا وكذا ثم يقول إن شاء الله وهو لا يريد الرجوع عن يمينه ولكن لقن شيئا فلقنه فمعناه أنه ليس يحل للملتقط منها إلا إنشادها فأما الانتفاع بها فلا
Bogga 21
وهذا الذى رواه أبو عبيد عن عبد الرحمن في قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف والتفسير الذى فسره كما حكى عنه فى ذلك وإن كان قد أصاب المعنى المراد من الخبر فلم يصب معنى الكلمة وذلك أن القائل إذا قال والله لا فعلت كذا وكذا ثم قال إن شاء الله وهو لا يريد الرجوع يمينه ولكن لقن قوله إن شاء الله فلقنه استثناءه وقوله إن شاء الله عند من يقول لا يصح الاستثناء فى اليمين إلا أن يكون المتكلم به قاصدا الاستثناء مريدا به الثنيا عن يمينه لا معنى له وإنما هو عنده بمنزلة الكلمة تجرى على لسان المتكلم به لعادة جرت بلسانه
وإذا كان ذلك كذلك لم يكن له معنى فى الكلام وكان لغوا
وليس كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا يلتقط لقطتها إلا لمعرف بل لاستثناء المعرف من ملتقطى لقط الحرم بإباحته له التقاطه دون غيره معنى مفهوم وفائدة ليست في قوله ولا تلتقط لقطتها عظيمة أدركت بقوله إلا لمعرف
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لو كان قال لا تلتقط لقطتها ولم يقل إلا لمعرف لم يكن لأحد من الناس التقاط لقطة مكة لا للتعريف ولا لغيره
فلما قال إلا لمعرف أبان بذلك من قوله أن لواجدها التقاطها للتعريف
غير أنه لما كان من سنته عليه السلام في اللقطة يلتقطها الملتقط فى غير الحرم أن لملتقطها الاستمتاع بها بعد تعريفها حولا وكان الحرم مخصوصا بما خص به بتحريم ما أطلق فى غيره من سائر البلاد غيره كتحريمه عضد شوكه وشجره وعضاهه وتنفير صيده كان فى الأغلب من نهيه عن لقطتها أن يلتقطها إلا المعرف أنه قد خصه من ذلك بما لم يعم سائر البلاد غيره كما خصه في صيده وشجره وشوكه بما لم يعم به غيره من البلاد
فلم يكن له وجه يوجه إليه يصح معناه غير الذى قلناه من أنه صلى الله عليه وسلم إذ أباح للمعرف التقاط لقطته ولم يطلق له الاستمتاع بها بعد تعريفه إياها مدة موقتة كما أطلق ذلك فى لقط سائر البلاد غيره أنه لا شىء له من التقاطها إلا التعريف وأنه إن أخذها ليسلك سبيل غيره لقط سائر البلاد وغيرها فى أنه إذا عرفها سنة أو ثلاث سنين أو أكثر من
Bogga 22
ذلك استمتع بها إن لم يأت صاحبها كان آثما متقدما على نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لها بأخذه إياها كذلك ضامنا إن هلكت فى يده كان عليه غرمها لصاحبها متى جاء عرفها بعد أخذه إياها كذلك أو لم يعرفها لأن أخذه إياها مريد بها الاستمتاع بعد مدة تأتى من تعريفه إياها أخذ منه لها بخلاف ماأذن له بأخذها فحكمه فى ذلك حكم أخذ لقطة في غيرها للاستمتاع بها لا لتعريفها المدة التى أمر بتعريفها إليها
وحكى عن آخر غير عبد الرحمن بن مهدى فى ذلك أنه قال يعنى صلى الله عليه وسلم بقوله لا تحل لقطتها إلا لمنشد الا للطالب الذى يطلبها وهو ربها وقال يقول فليست تحل إلا لربها
ثم قال أبو عبيد وهذا حسن فى المعنى ولكنه لا يجوز فى العربية أن يقال للطالب منشد إنما المنشد المعرف والطالب الناشد يقال منه نشدت الضالة أنشدها نشدا إذا طلبتها فأنا لها ناشد ومن التعريف أنشدتها إنشادا فأنا منشد
قال ومما يبين لك أن الناشد هو الطالب حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فقال أيها الناشد غيرك الواجد قال ومعناه لا وجدت كأنه دعا عليه قال وأما قول أبى داود وهو يصف الثور فقال
ويصيخ أحيانا كما استمع
المضل لصوت ناشد
Bogga 23
فإن الأصمعى أخبرنى عن أبى عمرو بن العلاء أنه كان يعجب من هذا
قال وأحسبه قال هو أو غيره أنه أراد بالناشد أيضا رجلا قد ضلت دابته فهو ينشدها يطلبها ليتعزى بذلك
وهذا الذى استشهد به أبو عبيد على فساد قول من وجه قول النبي صلى الله عليه وسلم إلا لمنشد إلا لطالب على لفساد موضحه لو لم يكن عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك رواية بغير اللفظ الذى رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن أكثر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم فى ذلك أنه قال ولا يلتقط لقطتها الا معرف أو لمعرف أو لمن عرفها ففى ذلك مستغنى عن الاستشهاد على فساد قول القائل فى تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم إلا لمنشد إلا لطالب لأن الطالب لا يقال فى لغة من اللغات معرف
وقد أبان قول النبي صلى الله عليه وسلم إلا لمعرف أنه عنى به الملتقط المعرف دون الطالب وأن لا وجه لقول القائل عنى بقول النبي صلى الله عليه وسلم إلا لمنشد الطالب يعقل
Bogga 24
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه قبل زيادة معنى ليس في حديث ابن عباس وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ولى قتيل العمد مخيرا بين القود من قاتل وليه وأخذ الدية منه بقوله ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما أن يقاد
وفي ذلك من قوله عليه السلام تحقيق قول القائلين بإيجاب الخيار لولي قتيل العمد بين القود والدية أحب ذلك القاتل أو كرهه وبطول قول المنكر الخيار له في ذلك إلا عن اصطلاح من القاتل وولى القتيل عليه الزاعمين أن لا شيء لولى قتيل العمد غير القود إذا لم يرض القاتل بإعطائه دية قتيله
Bogga 25
فإن سألنا سائل فقال إن الخبر بتخيير ولى قتيل العمد بين القود وأخذ الدية إنما رويته لنا عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رويت عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وغير عكرمة عنه من وجوه شتى وعن ابن عمر وأبي شريح عن النبي صلى الله عليه وسلم خطبته في اليوم الذي روى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فيه فذكر تخييره فيها ولى القتيل عمدا فلم يذكر أحد منهم ذلك عنه في خطبته في ذلك اليوم
وروى أيضا عن أبي سلمة محمد بن عمرو عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فلم يذكر في حديثه عنه من ذلك ما ذكر يحيى بن أبي كثير في حديثه عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهل من خبر تأثره لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير حديث يحيى بن أبي كثير أو حجة يعتمد عليها سواه
قيل إن يحيى بن أبي كثير أمين على ما انفرد به من رواية خبر ثقة غير متهم على ما نقل من أثر وفيه فيما روى من ذلك كفاية
غير أن الأمر وإن كان كذلك فإن الذي روى من معنى ذلك لم ينفرد به دون جماعة من الثقات روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى ما روى من ذلك
فإن قال فاذكر لنا بعض ذلك لنعرفه
قيل
Bogga 26