Tafsirka Miizaanka
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
Noocyada
وأما المسلك الثالث المتقدم بيانه فيفارق الأولين بأن الغرض فيه ابتغاء وجه الله لا اقتناء الفضيلة الإنسانية ولذلك ربما اختلف المقاصد التي فيه مع ما في المسلكين الأولين فربما كان الاعتدال الخلقي فيه غير الاعتدال الذي فيهما وعلى هذا القياس، بيان ذلك أن العبد إذا أخذ إيمانه في الاشتداد والإزدياد انجذبت نفسه إلى التفكير في ناحية ربه، واستحضار أسمائه الحسنى، وصفاته الجميلة المنزهة عن النقص والشين ولا تزال تزيد نفسه انجذابا، وتترقى مراقبة حتى صار يعبد الله كأنه يراه وأن ربه يراه، ويتجلى له في مجالي الجذبة والمراقبة والحب فيأخذ الحب في الاشتداد لأن الإنسان مفطور على حب الجميل، وقد قال تعالى: "والذين آمنوا أشد حبا لله": البقرة - 165، وصار يتبع الرسول في جميع حركاته وسكناته لأن حب الشيء يوجب حب آثاره، والرسول من آثاره وآياته كما أن العالم أيضا آثاره وآياته تعالى، ولا يزال يشتد هذا الحب ثم يشتد حتى ينقطع إليه من كل شيء، ولا يحب إلا ربه، ولا يخضع قلبه إلا لوجهه فإن هذا العبد لا يعثر بشيء، ولا يقف على شيء وعنده شيء من الجمال والحسن إلا وجد أن ما عنده أنموذج يحكي ما عنده من كمال لا ينفد وجمال لا يتناهى وحسن لا يحد، فله الحسن والجمال والكمال والبهاء، وكل ما كان لغيره فهو له، لأن كل ما سواه آية له ليس له إلا ذلك، والآية لا نفسية لها، وإنما هي حكاية تحكي صاحبها وهذا العبد قد استولى سلطان الحب على قلبه، ولا يزال يستولي، ولا ينظر إلى شيء إلا لأنه آية من آيات ربه، وبالجملة فينقطع حبه عن كل شيء إلى ربه، فلا يحب شيئا إلا لله سبحانه وفي الله سبحانه.
وحينئذ يتبدل نحو إدراكه وعمله فلا يرى شيئا إلا ويرى الله سبحانه قبله ومعه، وتسقط الأشياء عنده من حيز الاستقلال فما عنده من صور العلم والإدراك غير ما عند الناس لأنهم إنما ينظرون إلى كل شيء من وراء حجاب الاستقلال بخلافه، هذا من جهة العلم، وكذلك الأمر من جهة العمل فإنه إذا كان لا يحب إلا لله فلا يريد شيئا إلا لله وابتغاء وجهه الكريم، ولا يطلب ولا يقصد ولا يرجو ولا يخاف، ولا يختار، ولا يترك، ولا ييأس، ولا يستوحش، ولا يرضى، ولا يسخط إلا لله وفي الله فيختلف أغراضه مع ما للناس من الأغراض وتتبدل غاية أفعاله فإنه قد كان إلى هذا الحين يختار الفعل ويقصد الكمال لأنه فضيلة إنسانية، ويحذر الفعل أو الخلق لأنه رذيلة إنسانية.
وأما الآن فإنما يريد وجه ربه، ولا هم له في فضيلة ولا رذيلة، ولا شغل له بثناء جميل، وذكر محمود، ولا التفات له إلى دنيا أو آخرة أو جنة أو نار، وإنما همه ربه، وزاده ذل عبوديته، ودليله حبه.
روت لي أحاديث الغرام صبابة.
بإسنادها عن جيرة العلم الفرد.
وحدثني مر النسيم عن الصبا.
عن الدوح عن وادي الغضا عن ربى نجد.
عن الدمع عن عيني القريح عن الجوى.
عن الحزن عن قلبي الجريح عن الوجد.
بأن غرامي والهوى قد تحالفا.
على تلفي حتى أوسد في لحدي.
وهذا البيان الذي أوردناه وإن آثرنا فيه الإجمال والاختصار لكنك إن أجدت فيه التأمل وجدته كافيا في المطلوب وتبين أن هذا المسلك الثالث يرتفع فيه موضوع الفضيلة والرذيلة، ويتبدل فيه الغاية والغرض أعني الفضيلة الإنسانية إلى غرض واحد، وهو وجه الله، وربما اختلف نظر هذا المسلك مع غيره فصار ما هو معدود في غيره فضيلة رذيلة فيه وبالعكس.
بقي هنا شيء وهو أن هاهنا نظرية أخرى في الأخلاق تغاير ما تقدم، وربما عد مسلكا آخر، وهي أن الأخلاق تختلف أصولا وفروعا باختلاف الاجتماعات المدنية لاختلاف الحسن والقبح من غير أن يرجع إلى أصل ثابت قائم على ساق، وقد ادعي أنها نتيجة النظرية المعروفة بنظرية التحول والتكامل في المادة.
Bogga 216