Tafsirka Miizaanka
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
Noocyada
ولم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بناؤه على انتخاب الممدوح عند عامة الناس عن المذموم عندهم، والأخذ بما يستحسنه الاجتماع وترك ما يستقبحه، نعم ربما جرى عليه كلامه تعالى فيما يرجع بالحقيقة إلى ثواب أخروي أو عقاب أخروي كقوله تعالى: "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة": البقرة - 150 دعا سبحانه إلى العزم والثبات، وعلله بقوله: لئلا يكون، وكقوله تعالى: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا": الأنفال - 46، دعا سبحانه إلى الصبر وعلله بأن تركه وإيجاد النزاع يوجب الفشل وذهاب الريح وجرأة العدو، وقوله تعالى "ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور": الشورى - 43، دعا إلى الصبر والعفو، وعلله بالعزم والإعظام.
المسلك الثاني: الغايات الأخروية، وقد كثر ذكرها في كلامه تعالى كقوله سبحانه "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة": التوبة - 111، وقوله تعالى: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب": الزمر - 10، وقوله تعالى: "إن الظالمين لهم عذاب أليم": إبراهيم - 22، وقوله تعالى: "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات": البقرة - 257، وأمثالها كثيرة على اختلاف فنونها.
ويلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات كقوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير" فإن الآية دعت إلى ترك الأسى والفرح بأن الذي أصابكم ما كان ليخطئكم وما أخطأكم ما كان ليصيبكم لاستناد الحوادث إلى قضاء مقضي وقدر مقدر، فالأسى والفرح لغو لا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن بالله الذي بيده أزمة الأمور كما يشير إليه قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه" فهذا القسم من الآيات أيضا نظير القسم السابق الذي يتسبب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالغايات الشريفة الأخروية، وهي كمالات حقيقية غير ظنية يتسبب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالمبادىء السابقة الحقيقية من القدر والقضاء والتخلق بأخلاق الله والتذكر بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا ونحو ذلك.
فإن قلت: التسبب بمثل القضاء والقدر يوجب بطلان أحكام هذه النشأة الاختيارية، وفي ذلك بطلان الأخلاق الفاضلة، واختلال نظام هذه النشأة الطبيعية، فإنه لو جاز الاستناد في إصلاح صفة الصبر والثبات وترك الفرح والأسى كما استفيد من الآية السابقة إلى كون الحوادث مكتوبة في لوح محفوظ، ومقضية بقضاء محتوم أمكن الاستناد إلى ذلك في ترك طلب الرزق، وكسب كل كمال مطلوب، والاتقاء عن كل رذيلة خلقية وغير ذلك، فيجوز حينئذ أن نقعد عن طلب الرزق، والدفاع عن الحق، ونحو ذلك بأن الذي سيقع منه مقضي مكتوب، وكذا يجوز أن نترك السعي في كسب كل كمال، وترك كل نقص بالاستناد التي حتم القضاء وحقيقة الكتاب، وفي ذلك بطلان كل كمال.
قلت: قد ذكرنا في البحث عن القضاء، ما يتضح به الجواب عن هذا الإشكال، فقد ذكرنا ثم أن الأفعال الإنسانية من أجزاء علل الحوادث، ومن المعلوم أن المعاليل والمسببات يتوقف وجودها على وجود أسبابها وأجزاء أسبابها، فقول القائل: إن الشبع إما مقضي الوجود، وإما مقضي العدم، وعلى كل حال فلا تأثير للأكل غلط فاحش، فإن الشبع فرض تحققه في الخارج لا يستقيم إلا بعد فرض تحقق الأكل الاختياري الذي هو أحد أجزاء علله، فمن الخطإ أن يفرض الإنسان معلولا من المعاليل، ثم يحكم بإلغاء علله أو شيء من أجزاء علله.
فغير جائز أن يبطل الإنسان حكم الاختيار الذي عليه مدار حياته الدنيوية، وإليه تنتسب سعادته وشقاؤه، وهو أحد أجزاء علل الحوادث التي تلحق وجوده من أفعاله أو الأحوال والملكات الحاصلة من أفعاله ، غير أنه كما لا يجوز له إخراج إرادته واختياره من زمرة العلل، وإبطال حكمه في التأثير، كذلك لا يجوز له أن يحكم بكون اختياره سببا وحيدا، وعلة تامة إليه تستند الحوادث، من غير أن يشاركه شيء آخر من أجزاء العالم والعلل الموجودة فيه التي في رأسها الإرادة الإلهية فإنه يتفرع عليه كثير من الصفات المذمومة كالعجب والكبر والبخل، والفرح والأسى، والغم ونحو ذلك.
Bogga 206