Tafsir Al-Uthaymeen: Az-Zumar
تفسير العثيمين: الزمر
Daabacaha
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
١٤٣٦ هـ
Goobta Daabacaadda
المملكة العربية السعودية
Noocyada
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ بالله مِن شُرور أَنْفُسنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ بالهُدَى ودِين الحَقِّ؛ فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في الله حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ اليَقينُ، فصَلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ:
فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيْمِين - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيْزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أَثْناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة؛ حَلقاتٌ فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدايتُها مِن سُورة النُّور وما بَعدَها؛ حتَّى بلَغ قَولَه تَعالَى في سُورة الزُّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَيِ الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ، المُتوفَّى سَنَةَ (٨٦٤ هـ) (١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد
_________
(١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 5
ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (١). تغمَّدهما الله بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجَزاءِ.
وسَعْيًا - بإِذْنِ اللهِ تَعالَى - لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ مُحمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْريَّةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللهَ تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجَزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعليَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
وَصَلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ
فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْريَّةِ
٢٠ جُمَادَى الآخِرَة ١٤٣٦ هـ
_________
(١) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
سورة الزمر
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ عَلَى نبيِّنَا مُحمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ. وبَعد:
هذه السُّورة تُسمَّى: سورة الزُّمَر؛ لقول الله ﵎ فيها: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾ [الزمر: ٧٣]. وقوله: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾ [الزمر: ٧١].
وتَسْمِيَة السُّور تكون لِأَدْنى ملابَسَة وأدنى مُناسَبَة؛ ولهذا سُمِّيَت: سورة البقرة دون أن تُسمَّى: سورة الدَّيْنِ مثلًا، أو سورة العِدَدِ، مع أنَّ ذِكر الدَّيْن وما يتعلَّق به قد يكون كآيات البَقَرَة.
قال المفسر (١) ﵀: [مَكِّيَّة] يعني: أنَّها من السُّور المَكِّيَّة، وأصحُّ ما يُقال في السُّور المَكِّيَّة: أنَّها ما نزل قبل الِهجْرَة؛ فما نزل قبل الِهجْرة فهو مَكِّيٌّ، وما نزل بعدها فهو مَدَنِيٌّ، حتى لو نزل في مكَّة وهو بعد الهجرة فإنه يُسمَّى: مَدَنِيًّا؛ ولهذا نقول: إنَّ قوله ﷾: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: ٣] نقول: إنَّها مدنِيَّة، مع أنَّها نزلت في عَرَفَةَ.
قال المُفَسِّر ﵀: [إلَّا ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ إلخ] هذا الاستثناءُ يحتاج إلى دليلٍ.
_________
(١) المقصود بـ (المفسر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفى سنة (٨٦٤ هـ) ﵀، ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 7
والقاعدة: أنَّ كلَّ مَن استثنى آياتٍ من سور مَكِّيَّة وقال: إنَّها مَدَنِيَّة فعليه الدَّليل، والعكس بالعكس، فمن استثنى آياتٍ من سورَةٍ مَدَنِيَّةٍ، وقال: إنَّها مَكِّيَّة فعليه الدَّليلُ؛ لأنَّ الأصلَ أنَّ السُّورةَ إذا كانت مَكِّيَّةً فهي مَكِّيَّة بجميع آياتِها، هذا هو الأصل حتى يقوم دليل على الاستثناء، ولا أعلم لهذا الاستثناء الذي ذكره المُفَسِّر ﵀ دليلًا.
بل إنَّ ظاهِرَه من حيث المعنى يقتضي أن يكون من المَكِّيَّات ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الزمر: ٥٣]، إلخ؛ إذْ كُلُّه يتعلَّق بالتَّوْحيدِ والتَّوْبة.
وقوله ﵀: [وهي خمسٌ وسبعون آية] مُقسَّمة إلى هذا التَّقسيم تقسيمًا توقيفيًّا؛ يعني: أنَّ الذي يُحدِّد الآياتِ هو الرَّسولُ ﵊، فهو يُحدِّد الآياتِ ويُحدِّد مكانَها وتَرْتيبها.
ولهذا نقول: إنَّ ترتيبَ الآيات توقيفِيٌّ، وترتيب السُّوَر؛ منه توقيفيٌّ، ومنه اجتهادِي من الصَّحابة ﵃:
فمثلًا: (الجمُعة)، و(المنافقون)، ترتيبها توقيفيٌّ؛ لأنَّ الرَّسول ﷺ كان يقرأ في صلاة الجُمُعة بالجُمُعَة والمنافقون (١). و(سبَّح)، و(الغاشية) كذلك، و(البقرة، وآل عمران) كذلك ترتيبها توقيفيٌّ.
ومنه شيءٌ اجتهاديٌّ ثبَت باجتهادِ الصَّحابة، قد تختلف فيه مصاحِفُ الصَّحابة؛ لأنَّه عن اجتهادٍ.
أمَّا ترتيب الآياتِ فحيث قلنا: إنَّه توقيفي لا يجوز الإخلالُ به، فلا يجوز أن تُقدِّم آيةً على آيةٍ في التِّلاوَة؛ لأنَّ الذي وضع الآيات في مكانِها هو الرَّسولُ ﷺ.
_________
(١) أخرجه مسلم: كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، رقم (٨٧٧)، من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 8
وكذلك ترتيب الكَلِمات أيضًا توقيفيٌّ، فلا يجوز أن تُقدِّم كلمةً مكان كلمة، وترتيب الحروف توقيفيٌّ، لا يجوز أن تُقدِّمَ حرفًا في كلمة على حرف.
فها هنا الآن ترتيبات:
١ - تَرْتيب الحُروف.
٢ - تَرْتيب الكَلِمات.
٣ - تَرْتيب الآياتِ.
وكلُّه توقيفيٌّ لا يجوز الإخلالُ به.
وأمَّا ترتيب السُّوَر؛ فمنه توقيفيٌّ، ومنه اجتهاديٌّ.
قال المُفَسِّر ﵀: [بسم الله الرَّحمن الرَّحيم] البَسْمَلَة آيةٌ مُستقِلَّة في كتاب الله ﷿ ليست من الفاتِحَة، ولا من غير الفاتِحَة؛ على القول الرَّاجح، فهي آيةٌ مُستَقِلَّة يُؤْتى بها للبَداءَةِ بالسُّورة؛ لأنَّنا لو قلنا: للفَصْلِ بين السُّورتين أُورِدَ علينا سورةُ الفاتِحَة؛ لأنَّها ليس قبلها سورَةٌ، إِذَنْ للبدء بالسورة، وسَقَطَت بين الأنفالِ والتَّوْبة؛ لأنَّها لم تَرِدْ عن النَّبِيِّ ﷺ، ولو ثبتت ما أَهْمَلَها الصَّحابة ﵃.
والبسملة كما نشاهد ونقرأ شِبه جُمْلة، وليست بِجُملة؛ لأنَّها جارٌّ ومجرور، والجارُّ والمجرور والظَّرف يُسمَّى: شبه جملة، ولا يسمى: جُملة؛ لأنَّه لم توجد فيه أركان الجُملة، ولكن الجملة مُقَدَّرةٌ فيه، فلا بدَّ من تقديرٍ تَتِمُّ به الجملة.
فـ[بسم الله الرَّحْمن الرحيم] جارٌّ ومجرور ومضافٌ إليه وصِفَة، متعلِّقة بمحذوف ولا بُدَّ؛ ولهذا قال في نظم الجُمَل:
1 / 9
لَا بُدَّ لِلْجَارِّ مِنَ التَّعَلُّقِ ... بِفِعْلٍ أوْ مَعْنَاهُ نَحْوُ مُرْتَقِ
وَاسْتَثْنِ كُلَّ زائِدٍ لَهُ عَمَلْ ... كالْبَاءِ وَمِنْ وَالْكَافِ أَيْضًا وَلَعَلّ
فلا بدَّ للجارِّ من التَّعلُّق: (بفعلٍ أو معناه نحو مُرْتَق)، (مُرْتَقٍ) بمعنى الفِعْل؛ لأنَّه اسم فاعل.
و(استثن كلَّ زائدٍ له عمل، كالباء ومِن والكاف أيضًا ولَعَل)؛ وذلك لأنَّ الذي فيه حروف جر زائِدَة يُقدَّر كأنه لا حَرْفَ فيه، فلو قلتَ: ليس زيدٌ بقائِمٍ، فإنك تقول: قائِم: خبر ليس، ولا تقول: مجرور بالباءِ، والجارُّ والمجرور متعلِّق بالمحذوف، ويقال: إنَّه خبر ليس.
على كلِّ حال: البَسْمَلَة متعلِّقة بمحذوفٍ، أحسن ما يُقدَّر به هذا المحذوفُ أن يُقدَّر فعلًا متأخرًا مناسِبًا للمبدوءِ به، فمثلًا: إذا كنْتَ تريد أن تَقْرَأَ فتقول: التَّقديرُ (بسم الله أَقْرَأُ)، وإذأ أَرَدْتَ أن تَتَوَضَّأ فالتَّقْديرُ (بسم الله أتوضَّأ)، وإذا أردْتَ أن تدخل: (بسم الله أَدْخُلُ)، وهكذا.
وقد قدَّرْناه فعلًا؛ لأنَّ الأَصْل في العمل الأفعال؛ واسمُ الفاعل واسم المفعول والمصْدَرُ العاملُ مُلحَقٌ بالفعل؛ ولذلك اخْتَرْنا أن نُقدِّرَهُ (فِعلًا) لا اسْمًا.
كما اخترنا أن يكون (متأخِّرًا) لوجهينِ:
الوجه الأول: التَّبَرُّكُ بالابتداءِ باسم الله، فنجعل أوَّلَ الجملة (بسم الله) تبرُّكًا.
والثاني: إفادة الحَصْر؛ لأنَّ تأخيرَ العامِلِ يفيد الحَصْر.
كما اخْتَرْنا أن يكون (مناسِبًا) لما ابتدئ به؛ لأنَّه أدَلُّ على المقصودِ؛ حيث يُعيِّن أنَّ البَسْمَلَةَ لِهذا الشَّيْء؛ فلو قلنا: بسم الله أبتدئ، لفاتنا أنَّه غيرُ مناسِبٍ للمقام
1 / 10
أو للموضوع، ولو قدَّرنا: أَقْرَأُ بسم الله فاتَ التَّأخيرُ، لكنْ فائِدَةُ التَّأخيرِ هي الحَصْر والتَّبَرُّك بالبداءة باسم الله؛ ولو قلنا: بسم الله قِراءَتي فات أن يكون فِعْلًا.
[بسم الله الرَّحمن الرَّحيم] اسم: مفرد مضافٌ، والمفرد المضاف للعُمُوم، وعلى هذا فيكون المعنى: بكلِّ اسْمٍ من أَسْماء الله؛ لأنَّ المُفْرَدَ المُضافَ يكون للعُمُومِ.
والدَّليلُ على أنَّ المُفْرَدَ المضافَ يكون للعموم قولُه تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل: ١٨]؛ فـ (نِعْمَة) مُفرد، ومع ذلك قال: تَعُدُّوا، لا تُحْصوا، فدلَّ هذا على أنها عامَّة في كلِّ نِعْمَة.
و(الباء) في قوله: [بسم الله] للاستعانَةِ والمصاحَبَة والمُلابَسَة يعني مُسْتَعينًا مُصْطَحِبًا مُتَلَبِّسًا باسم الله.
و(الله) عَلَمٌ على ذاتِ الله ﷾، خاصٌّ به، لا يسمَّى به غيْرُه، واختلف العلماء هل هو مُشْتَقٌّ أو جامِدٌ؟
والصَّحيح: أنَّه مُشْتَقٌّ، لقول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف: ١٨٠] ولو جعلناه اسمًا جامِدًا لكان غيرَ دالٍّ على الوصف، بل كان عَلَمًا مَحْضًا، وحينئذ لا يكون دالًّا على الأَحْسَنِ، بل لا يكون دالًّا على الحُسْن فضلًا عن الأَحْسَن.
فالصَّحيح الذي لا شَك فيه: أنَّه مُشْتَقٌّ من الأُلوهِيَّة، وهي: التَّقَرُّب والتَّعَبُّد للمَأْلوهِ على وجه المَحَبَّة والتَّعظيم.
وأما قوله: [الرَّحْمن] فهو أيضًا عَلَمٌ على الله ﷿ لا يُسَمَّى به أحدٌ غيره، فهو من أسماء الله الخاصَّة به، ولا يوصف به غيرُه، وهو مُشْتَق من الرَّحمة، وكان بصيغة: فعلان لدلالة هذه الصِّيغة على السَّعَة والامتلاء، فهو دالٌّ على سَعَةِ رحمة الله ﷿ وشمولها لكلِّ شيء.
1 / 11
وأما: [الرَّحيم] فهو اسم من أسماء الله، لكن يوصَفُ به غيرُه؛ قال الله تعالى عن النَّبِيِّ ﷺ: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨] وهو مُشْتَقٌّ من الرحمة، لكنه إذا قُرِنَ بـ (الرَّحْمن) أي: إذا ذُكِرَا جميعًا كانت الرَّحْمنُ دالَّة على الوَصْف، والرحيم دالةً على الفعل؛ أي إنه يَرْحَم برحمته ﷿ مَن يشاء.
1 / 12
الآية (١)
* قَالَ اللهُ ﷿: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الزمر: ١].
قوله: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾ الكتابُ: هو القرآن، وسُمِّيَ كتابًا؛ لأنَّه مكتوب في اللَّوْح المحفوظ، ومكتوب بالصُّحُف التي بأيدينا، ومكتوب في الصُّحُف التي بأيدي الملائكة؛ قال الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ [عبس: ١١ - ١٦] وعلى هذا فـ (فِعَال) بمعنى مفعول، وهذه الصيغة - أعني فِعَالًا - تأتي بمعنى مفعولٍ في اللُّغَة العَربيَّة كثيرًا؛ ومنه: غِراسٌ بمعنى مغروس، بِناء بمعنى مبنِيٍّ.
قال المُفَسِّر ﵀: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾: القُرآنِ، مبتدأٌ] المبتدأ: تنزيلُ، قال: [﴿مِنَ اللَّهِ﴾ خَبَرُه].
إِذَنْ: معنى الآية: أنَّ الله يُخْبِر ﷿ بأن تنزيلَ الكتاب مِنْ عنده؛ مِن الله، أي إنه نازلٌ من عند الله لا من جبريل ولا من محُمَّد ولا من أيِّ مَصْدرٍ كان، بل هو نازل من الله ﷾، تكلَّم به، وألقاه إلى جبريل.
ثم إنَّ جبريل ﵇ نزل به على قلْبِ النَّبِيِّ ﷺ، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: ١٩٢ - ١٩٤] ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ وتأمَّل قوله: ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ لتَعْلَمَ أنَّ الرَّسول ﷺ وعَى القرآن وَعْيًا تامًّا؛ لأنَّ ما نزل
1 / 13
على القَلْب لا بُدَّ أن يَعِيَه القَلْب.
قال ﵀: [﴿الْعَزِيزِ﴾ في مُلكه، ﴿الْحَكِيمِ﴾ في صُنْعِه] ﴿الْعَزِيزِ﴾ لها معانٍ:
الأوَّل: عزيز بمعنى: غالِب.
ومنه قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: ٨] قاله الله تعالى جوابًا على قول المنافقين: ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ [المنافقون: ٨] فسَلَّم الله ذلك: أنَّ الأَعَزَّ يُخْرِجُ الأَذَلَّ، لكن قال: العِزَّةُ لله ولرسوله وللمؤمنين، أما المنافقون فلا عزَّة لهم حتى يستطيعوا أن يُخرجوا المؤمنين منها.
ومنه قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨].
الثاني: عزيز بمعنى: قَوِيٍّ، شديد القوة؛ ومنه قولهم: أرض عَزَازٌ؛ يعني: صُلْبة قويَّة؛ ومن المعلوم: أنَّ الله تعالى في صفاته كُلِّها شديدٌ قويٌّ، فكل الصفات كامِلَة ليس فيها نَقْصٌ ولا وهَنٌ ولا ضَعْفٌ.
الثالث من معنى العِزَّة: الامتناع. فالامْتِناعُ يعني: أنَّه مُمْتَنِعٌ عن أن ينالَه سوءٌ.
فهذه ثلاثة معانٍ للعزيز: غالب، قوي، ممتنِع عن كل نَقْص.
وأما قول المُفَسِّر ﵀: [في مُلْكِه] فإنه قاصر في الحقيقة جدًّا؛ لأنَّه إذا قُيِّدَتِ العِزَّة في الملك فإنَّها لا تتناول إلا العزيز بمعنى: الغالب أو القوي.
وأما: ﴿الْحَكِيمِ﴾ فيقول ﵀: ﴿الْحَكِيمِ﴾ في صُنْعِه] أي فيما صَنَع، وهل يُوصَف الله تعالى بأنه صانِعٌ وأنَّ له صُنعًا؟
الجواب: نعم، يُوصف الله بأنه صانع، وأنَّ له صنعًا، قال الله ﵎: ﴿صُنْعَ
1 / 14
اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٨٨]؛ لكن يجب أن نعلم أننا إذا وصَفْنا الله بالصُّنْع فليس كصِفَتِنا للمخلوق بالصُّنع؛ فالمخلوق إذا كان صانعًا يحتاج إلى أدواتٍ؛ فإن كان نجَّارًا يحتاج إلى منشار، قدوم، مخراق، وما أشبه ذلك، لكن الله ﷿ لا يحتاج، فلما قال الله ﷿: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [الذاريات: ٤٧]، فليس بناءُ الله ﷿ كبناء المَخْلوق يحتاج إلى زِمبيل وإلى لَبِن وإلى طينٍ، فالبناء غيرُ البناء والصُّنع غير الصُّنع، وقد يتوهَّم الإنسانُ أنه إذا وصف الله بالصُّنع، وأنه صانِعٌ قد يتوهَّمُ أنه يحتاج إلى آلاتٍ يَصْنَع بها، ولكن هذا خطأ؛ لأنَّ صُنْعَ الله ليس كصنع البَشَر.
وقول المُفَسِّر ﵀: ﴿الْحَكِيمِ﴾ في صنعه] تقييدها بالصُّنْع فيه قصور؛ والصواب: أنَّه (حكيمٌ في صُنْعِه وفي شَرْعِهِ)؛ ولهذا يَخْتِم الله أحيانًا آيات التشريع بالحِكْمَة، كما في قوله تعالى في سورة الممتحنة: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الممتحنة: ١٠].
فهو حكيم في صُنعه حكيم في شَرْعِه؛ (في صُنْعِه) يعني: جميع مصنوعاته كلِّها مُحْكَمةٌ؛ قال الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾ قلِّب، فَكِّر: ﴿هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ يعني: كَرَّةً بعد أخرى، وفي النِّهايةِ: ﴿يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: ٤] وهذا من الإحكام في الصُّنع.
أما في الشَّرْع فيقول الله ﷾: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] وتناقضًا؛ فالقرآن لا يمكن أنْ يتناقَضَ أبدًا؛ وإذا رَأَيْتَ آيةً ظاهِرُها يُناقِضُ الآيةَ الأخرى فاعلم أن ذلك: إمَّا من سوء فَهْمِك، أو من قُصُور عِلْمِك.
1 / 15
(إمَّا من قصور علمك) بأن تكون الآيَةُ هذه ناسِخَةً للآيَةِ، وأنت لا تَعْلَم، أو (من سوء فَهْمِك) بأن تكون كلتا الآيتينِ مُحْكَمَة، ولكن لم تَفْهَمِ الجَمْع بينهما، وإلا فلا يمكن أبدًا أن يكون في كلام الله تناقُضٌ، ولا فيما صَحَّ عن رسول الله ﷺ تناقض أبدًا؛ فهذا لا يُمْكِن؛ لأنَّه شَرْع الله، والله تعالى قد أحكم شَرْعَه.
إِذَنْ: فالله تعالى حكيم في صُنْعه وفي شَرْعِه؛ وبناءً على هذا: تكون حكيمٌ بمعنى: مُحْكِم، وعلى هذا التفسير؛ أن معنى الحكيم المُحْكِم لشَرْعه وصنعه، فهنا نسأل هل تأتي فَعيلٌ في اللُّغَة العَربيَّة بمعنى مُفْعِل؟
والجواب: نعم، تأتي فعيلٌ بمعنى مُفْعِل؛ ومنه قول الشاعر:
أَمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقُني وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
(أمِنْ ريحانة الدَّاعي السَّميع) السَّميع بمعنى المُسْمِع، فحينئذٍ تكون حكيم بمعنى مُحْكِم.
وهل يمكن أن تكون بمعنى حاكِمٍ؟
الجواب: نعم، يُمْكِنُ أن تكون بمعنى حاكم، وعلى هذا فتكون حكيمٌ بمعنى: أنَّ له الحُكْمَ.
والحُكْمُ المضاف إلى الله ﷿ يَشْمَلُ: الحكم الكونِيَّ، والحكم الشَّرْعِيَّ:
الحكم الكوني: هو إيجادُهُ للأشياء وخَلْقُه الأَشْياءَ، والحُكْم عليها بالفناء والبقاء والتَحَوُّل والتَّغَيُّر، وما أشبه ذلك، كلُّ هذا (حُكم).
الحكم الشَّرْعِيُّ: هو ما جاءت به الرُّسُل عليهم الصَّلاة والسَّلامُ من أحكام الله
1 / 16
التي يُلْزَم بها المُكَلَّف؛ فقوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ [الإسراء: ٧٨] هذا شَرْعِيٌّ؛ وقوله تعالى: ﴿كُونُوا قِرَدَةً﴾ [البقرة: ٦٥] هذا كوني، وقوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا﴾ [المائدة: ٥٠] شرعي؛ وقوله: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الممتحنة: ١٠] شَرْعِي؛ وقوله: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ [يوسف: ٨٠] كونِي.
فقوله تعالى: ﴿الْحَكِيمِ﴾ سبق أنَّه من الإِحْكام ومن الحُكْم، فالإحْكامُ يعني الإتقان، والإتقانُ هو الحِكْمَة، وهي وَضْع الشَّيْء في مَوْضِعِه.
قال العلماء: والحِكْمَة تكون في صُورَةِ الشَّيءِ وهيئَةِ الشَّيء وذاتِ الشَّيء وتكون في غايَتِه؛ فالحِكْمَة في نفس الشَّيْء: يعني أنَّ الشَّيءَ نَفْسَه مشتَمِلٌ على الحكمة، فإذا تأمَّلْتَ الشَّرائِعَ وجَدْتَ أنها مُشْتَمِلة على الحِكْمة، وإذا تأمَّلْتَ الغاية منها وجدْتَها أيضًا في غاية الحِكْمة، كذلك أيضًا إذا تأمَّلْت الصنائع التي صنعها الله ﷿ وهي الحكمة التي تكون في الكون وجَدْت أنها مُشْتَمِلَة على الحكمة، وإذا تأملت الغاية منها وجَدْتَها أنها حِكْمَة أيضًا.
فالعبادات المقصودُ بها: إصلاحُ الخَلْق، وهي مَوْضوعَة على وَفْق الحِكْمة؛ الصلوات كونُها على هذه الهيئة هو الحِكْمة، الزَّكاة والحَجُّ وبقيَّة العبادات، الكون، السَّماء، الأرض، الشَّمس، القمر، كونُها على هذا النظام البديع فهذا حِكْمة، والغاية منها أيضًا حِكْمَة؛ قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: ٢٧]
1 / 17
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: في هذه الآيَةِ يُخبِرُ الله ﷿ أنَّ تنزيل الكتاب مِن عنده، وعلى هذا فتفيد الآيَةُ الكريمة أنَّ القُرآنَ مُنزَّلٌ غير مخلوقٍ، أمَّا إفادتها لكونه منزَّلًا فظاهر: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾، لكن كيف تفيد أنه غير مَخْلوقٍ؛ فإن هذه الفائِدَة قد يعارِضُ فيها معارِضٌ، ويقول: ليس كلُّ مُنَزَّلٍ غيرَ مَخْلوقٍ بل في المُنَزَّل ما هو مخلوق؛ قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ [ق: ٩] والماء مَخْلوقٌ؛ وقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر: ٦]؛ وهذه الأنعام مخلوقَةٌ، فلا يلزم من الإنزال أو التَّنْزيل أن يكون المُنَزَّل غير مخلوق، فما هو الجواب عن هذا الإيراد؛ لأن هذا إيرادٌ قوِيٌّ يُورده الجَهْمِيَّة الذين قالوا: إنَّ كلامَ الله مخلوقٌ؟
الجواب على هذا الإيراد سَهْل؛ بأن يقال: إنَّ الإنزالَ إذا أُضيفَ إلى عَيْنٍ قائمةٍ بنفسها فهذه العَيْن مخلوقة، وإذا أُضيف إلى وَصْف كان هذا الوصف حَسَب الموصوف، والكلامُ وَصْف، فإذا كان الله أنزل القرآن وهو كلام وأضافه إلى نفسه فهو ﷿ هو بصفاته أزلِيٌّ أبديٌّ ليس بمخلوق، واجبُ الوجود.
إِذَنْ: فيتِمُّ الاستدلال؛ أن نقول: في قوله: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ﴾ [الزمر: ١] دليلٌ على أنَّ القرآن مُنزَّل غير مخلوق.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فيه دليل على عُلُوِّ الله؛ وَجْهُه أنه قال: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ ومِنْ للابتداء، فإذا كان ابتداء الكتاب من عند الله وهو مُنَزَّل، دلَّ على علوِّ مَن كان مِن عنده، وهو الله ﷿.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: تعظيم القرآن؛ وَجْهُه: أنَّه نازِلٌ من عند الله، وأنه كلام الله، فيكون عظيمًا كعِظَمِ المُتَكَلِّم به.
1 / 18
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: إثباتُ ثلاثَةِ أسماءٍ من أسماء الله، وهي: (الله، العزيز، الحكيم).
ويتفرَّع على هذه الفائِدَةِ: إثباتُ أَرْبَعِ صفات من صفات الله: (الأُلوهِيَّة، العِزَّة، الحِكْمة، الحُكْم).
فإذا قيل: كيف استَفَدْنا أرْبَعَ صِفات؟
فنقول: لأنَّ لدَينا قاعدةً، وهي: أنَّ الأَسْماءَ الحسنى كلُّ اسمٍ منها مُتَضَمِّنٌ لصِفةٍ.
1 / 19
الآية (٢)
* قَالَ اللهُ ﷿: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: ٢].
ثم قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ لمَّا بيَّن أنَّ تنزيل الكتاب من الله بيَّنَ إلى مَن أنزل؛ فقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ يا محمدُ، ﴿أَنْزَلْنَا﴾ ضميرُ جَمْع، لكنه إذا كان عائدًا إلى الله فليس للجَمْع قطعًا بل هو للتَّعْظيم، وقد اشتبه على النصرانِيِّ مثلُ هذا الجمع، وقال: إنَّ الله ثالثُ ثلاثةٍ؛ لأنَّ الله تعالى يذكر الضَّميرَ عائدًا إليه بصيغة الجمع، وأقل الجمع ثلاثة!
فنقول في الرَّدِّ عليه: إنَّ هذا من زَيْغِ النَّصارى؛ ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥]، فاتبعوا المتشابِهَ من القرآن، ولو أنهم ردوا هذا المتشابِهَ إلى المُحْكَم لعلموا أنهم مُخْطِئون غايَةَ الخطأ، وذلك أنَّ الله صرَّح في آياتٍ كثيرة بأنه إلهٌ واحِدٌ، فقال: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣].
وهذا نصٌّ صريح مُحْكَم، وأما (نا) التي هي ضمير جَمْع فإنها في اللُّغَة العَربيَّة التي نزل بها القرآن صالِحةٌ للجمع وللمُعَظِّم نَفْسَه.
إِذَنْ: هي من المتشابِهِ؛ لأنَّ اللَّفْظ إذا احتمل مَعْنَيينِ فإنه يقال فيه متشابِهٌ، والمتشابه يجب أن يُرَدَّ إلى المُحْكَمِ.
1 / 20
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾: ﴿إلَيْكَ﴾ هذا الغاية، والخطاب للرسول ﷺ.
وقوله: ﴿الْكِتَابَ﴾ أي: المكتوبَ، وهو القرآن، وسبق وَجْهُ كَوْنِه كتابًا.
وقوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ مُتَعَلِّق بـ (أنْزَل)، ﴿بِالْحَقِّ﴾ الباء هنا للمُلابَسَة وللتَّعْدِيَة، يعني أنَّ الكتاب نفسه نزل حقًّا من عند الله لا مِن عند غيره، أنزلناه بالحَقِّ يعني: بالتَّأكيد أنَّنا أنزلناه إليك من عندنا.
وقلنا أيضًا: (للتَّعْدِية) بمعنى: أنَّ الكتابَ نزَلَ بالحَقِّ، أي: إنَّ ما اشتملَ عليه القرآنُ فهو حَقٌّ.
فعلى الوجه الأول يكونُ المرادُ بقوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ تأكيدًا أنه نزل من الله؛ وعلى الوَجْه الثاني: يكون المعنى: أنَّ كُلَّ ما اشتمل عليه القرآن من أخبارٍ وأوامِرَ ونواهٍ وغيرِها، فهو حَقٌّ.
إذن: قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ له معنيان:
المعنى الأول: أنَّ القرآنَ نزَلَ مِن عند اللهِ حقًّا لا باطلًا.
المعنى الثاني: أنَّ ما اشتَمَل عليه القرآنُ فهو حَقٌّ؛ أوامر، نواهٍ، أخبار، قَصص؛ كلُّها حَقٌّ.
قال المُفَسِّر ﵀: [﴿الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ مُتَعَلِّقٌ بأنزل]، ولم يقل: مُتَعَلِّق بأَنْزَلنا؛ لأنَّ المُتَعَلِّق إنما يتعلَّق بالفعل، أما (نا) فهي ضمير، خارجة عن الفعل.
قال تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ الفاءُ للتَّفْريع، وعلامة فاء التَّفْريع أنَّ
1 / 21
ما بعدها يكون مُرَتَّبًا على ما قَبْلها، فالمعنى: فلإِنْزَالِنا إليك الكتابَ اعْبُدِ الله مُخْلِصًا له الدين؛ (اعْبُد) الخطاب للنَّبيِّ ﷺ.
وقوله تعالى: ﴿مُخْلِصًا﴾ حالٌ من فاعل (اعبُد) وإخلاص الشَّيْء تَنْقِيَتُه من الشَّوائِب، وإزالة ما يخالِطُه، فإذا كان: ﴿مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ فالمعنى: أنْ تُنَقِّيَ دينَكَ مِن كُلِّ شِرك؛ ولهذا قال المُفَسِّر ﵀: [﴿مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ من الشرك؛ أي: موحِّدًا له] أي: لله ﷿.
وقوله تعالى: ﴿لَهُ الدِّينَ﴾: ﴿الدِّينَ﴾ يعني: العَمَل، والمراد به هنا: العمل المخصوصُ، وهو: العبادة؛ لقوله: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ ولم يَقُل: مخلصًا له العبادَةَ؛ لأنَّ الدِّين هو العمل الذي يريد العامِلُ عليه مكافأةً؛ هذا الدين، ومنه قولهم: كما تدين تُدانُ، واعلم أنَّ الدِّينَ يُطْلَق على العمل الذي يُرادُ به المكافأةُ، ويُطلَق على نفس المكافَأَة، وهي الثَّواب على العمل.
فمِن الأوَّل مِثْلُ هذه الآية ﴿مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: ٦]، وقوله تعالى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣]؛ أي: عملًا تتعبَّدون به.
ومثال الثاني قوله ﵎: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤]، يعني: يوم الجزاء على العَمَل، ومثل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الانفطار: ١٧، ١٨]؛ أي: يوم الجزاء على العمل.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: فضيلَةُ رسولِ الله ﷺ وعُلُوُّ مَرْتَبَتِه، وذلك بإنزال كتاب الله إليه؛ لقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾. وهل إنزالُ القرآنِ إلى الرَّسول إنزالٌ إلينا؟
1 / 22
الجواب: نعم، إنزالٌ إلينا؛ لأنَّه رسولُنا، وقد قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء: ١٧٤] فالنَّازِلُ إلى رسول الله نازلٌ إلينا، ولكنه هو المباشِر لهذا الإنزال ويُبَلِّغُه لنا.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: ما سبق من أنَّ القرآن نازلٌ من عند الله فيكون كلامَه.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: عُلُوُّ الله ﷿؛ لأنَّ النُّزول إنما يكون من أعلى، دلَّ عليه (الكتاب والسُّنَّة والإجماع والعقل والفِطْرَة) خَمْسَةُ أنواع من الأدلَّة، كلُّها تُثْبِت علوَّ الله ﷿ على خَلْقِه.
وقد خالف في هذا طائفتان:
الطائفة الأولى: طائِفةُ الحُلُولِيَّة الذين قالوا: إنَّ الله بذاتِهِ في كلِّ مكانٍ. يقولون: إنَّ الله بذاتِهِ نَفْسِه ﷾ في كلِّ مكانٍ؛ في المسجد، في السوق، في البيت، في السَّطْح، في الحجرة، في أقبح مكان - والعياذ بالله - وهؤلاء أقول: إنَّهم كفَّار، لكن من كان متأوِّلًا وجب إعلامُه وبيان الحقيقة له، فإن أصَرَّ فهو كافِرٌ.
الطائفة الثانية المخالِفَة: المُعَطِّلَة الجاحِدَة، الذين يقولون: إنَّ الله تعالى ليس فوقَ ولا تحتَ، ولا يَمين ولا شمالَ، ولا متَّصل ولا مُنْفَصل؛ فهؤلاء وصَفوا الله بالعَدَمِ، كما قال محمود بن سُبُكْتِكِينَ ﵀ لابن فَوْرك لمَّا قال: إنَّ الله لا موجود ولا معدوم .. إلخ، قال له محمود بن سُبُكتِكِينَ: إنَّكَ وصفْتَ الله تعالى بالعَدَم (١).
وصدق؛ لو أردنا أن نصف معدومًا ما وجدنا أشدَّ إحاطَةً من هذا الوَصْفِ بالمعدوم.
_________
(١) انظر: درء تعارض العقل والنقل (٦/ ٢٥٣).
1 / 23
هدى الله الذين آمنوا لِمَا اخْتَلَفوا فيه من الحَقِّ بإذنه، وقالوا: إنَّ الله تعالى نَفْسَه فوقَ كلِّ شيء؛ كما دل على ذلك الكتابُ والسُّنَّة والإجماع والعقْل والفطرة.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ الكتاب حقٌّ مِن عند الله، لم يتقَوَّلْه النَّبِيُّ ﷺ على ربِّه، بل هو من عند الله؛ لقوله: ﴿أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ يعني: أنَّه حَقٌّ مِن عند الله ﷿.
وقد قال الله ﷾: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقة: ٤٤ - ٤٦]؛ فقال: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا﴾ بعد أن قال: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا﴾ [الحاقة: ٤٠ - ٤٤] لئلَّا يتوهَّم واهِمٌ أنه لما قال: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ صار القرآن من عند الرَّسول ﵊، وأنه هو الذي قاله؛ فقال: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٥ - ٤٧].
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن جميع ما في القرآن حَقٌّ؛ على الوجه الثاني؛ أخبارُه وقَصَصه وأوامره ونواهيه؛ إِذَنْ: أخبارُهُ ليس فيها كَذِب لوَجْهٍ من الوجوه، وقَصَصُه ليس المراد منها: إمضاءَ الوقتِ وإتلاف الوقت، بل هي قَصَص نافعة.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ القرآن حجَّةٌ على النَّاس، يُلْزِمهم بعبادة الله؛ لقوله: ﴿فَاعْبُدِ﴾ والفاء هذه للتَّفْريع؛ أي: لأجل إنزال الكتاب إليك: اعْبُدِ الله.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أن من لم يَبْلُغْه القرآنُ لم تَلْزَمْه العبادة؛ ويدلُّ لهذا آيات أخرى؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] ومثل قوله: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥] ومثل قوله
1 / 24