95

Tafsir Al-Sha'rawi

تفسير الشعراوي

Noocyada

فالناس يتفاوتون في القيم والمواهب، وكل واحد يحاول أن يفاخر بعلوه ومواهبه ، ويقول: أنا خير من فلان، أو أنت خير من فلان. إذن فمن الممكن أن يستكبر الإنسان بما عنده. ولكن الإنسان يخضع لمن كانت له حاجة عنده لأنه لو تكبر عليه أتعبه في دنياه. ولذلك أعطى الله سبحانه وتعالى للناس المواهب على الشيوع والخشوع على الشيوع. فكل إنسان منا محتاج للآخر. هذا خشوع على الشيوع. وكل إنسان منا مميز بما لا يقدر عليه غيره. هذه مواهب على الشيوع. هذا في البشر، أما بالنسبة لله سبحانه فإنه خشوع لمن خلق ووهب وأوجد. والخشوع يجعل الإنسان يستحضر عظمة الحق سبحانه ويعرف ضآلة قيمته أمام الحق سبحانه وتعالى ومدى عجزه أمام خالق هذا الكون. ويعلم أن كل ما عنده يمكن أن يذهب به الله تعالى في لحظة.. ذلك أننا نعيش في عالم الأغيار. ولذلك فلنخضع للذي لا يتغير. لأن كل ما يحصل عليه الإنسان هو من الله وليس من ذاته، والذين يغترون بوجود الأسباب نقول لهم: اعبدوا واخشعوا لواهب الأسباب وخالقها، لأن الأسباب لا تعمل بذاتها. والله سبحانه وتعالى يجعل الأيام دولا.. أي متداولة بين الناس. إنسان يفاخر بقوته، يأتي من هو أقوى منه فيهزمه. إنسان يفاخر بماله، يضيع هذا المال في لحظة.. واقرأ قوله تعالى:

إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهدآء والله لا يحب الظالمين

[آل عمران: 140]. ولذلك لابد أن نفهم أن الإنسان الذي يستعلي بالأسباب سيأتي وقت لا تعطيه الأسباب. فالإنسان إذا بلغ في عينه وأعين الناس مرتبة الكمال اغتر بنفسه. نقول له: لا تغتر بكمالات نفسك. فإن كانت موجودة الآن، فستتغير غدا. فالخشوع لا يكون إلا لله. والحق سبحانه وتعالى يقول: { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } [البقرة: 45] من هم الخاشعون؟ الخاشع هو الطائع لله. الممتنع عن المحرمات. الصابر على الأقدار الذي يعلم يقينا داخل نفسه أن الأمر لله وحده، وليس لأي قوة أخرى.. فيخشع لمن خلقه وخلق هذا الكون كله.

[2.46]

بعد أن أوضح لنا الحق سبحانه وتعالى أن الصبر والصلاة كبيرة إلا على كل من خشع قلبه لله. فهو يقبل عليها بحب وإيمان ورغبة. أراد أن يعرفنا من هم الخاشعون. فقال جل جلاله: { الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم } [البقرة: 46]. ما هو الظن؟ سبق أن تحدثنا عن النسب. وقلنا هناك نسبة أنا جازم بها والواقع يصدقها. عندما أقول مثلا: محمد مجتهد. فإذا كان هناك شخص اسمه محمد ومجتهد. أكون قد جزمت بواقع. فهذه نسبة مجزوم بها بشرط أن أستطيع أن أدلل على صدق ما أقول. فإذا كنت جازما بالنسبة على صدق ما أقول.. فهذا تقليد. مثلما يقول ابنك البالغ من العمر ست سنوات مثلا: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ولكن عقله الصغير لا يستطيع أن يدلل على ذلك، وإنما هو يقلد أباه أو مدرسيه. فإذا كنت جازما بالشيء وهو ليس له وجود في الواقع، فهذا هو الجهل. والجاهل شر من الأمي. لأن الجاهل مؤمن بقضية لا واقع لها. ويدافع عنها. أما الأمي.. فهو لا يعلم، ومتى علم فإنه يؤمن. ولذلك لابد بالنسبة للجاهل أن تخرج الباطل من قلبه أولا ليدخل الحق. وإذا كانت القضية غير مجزوم بها ومتساوية في النفي والوجود، فإن ذلك يكون شكا. فإذا رجحت إحدى الكفتين على الأخرى يكون ذلك ظنا. والحق سبحانه وتعالى يقول: { الذين يظنون } [البقرة: 46] ولم يقل: الذين تيقنوا أنهم ملاقوا ربهم.. لماذا لم يستخدم الحق تعالى لفظ اليقين وأبدله بالظن؟ لأن مجرد الظن أنك ملاق الله سبحانه وتعالى.. كاف أن يجعلك تلتزم بالمنهج. فما بالك إذا كنت متيقنا. فمجرد الظن يكفي. وإذا أردنا أن نضرب لذلك مثلا - ولله المثل الأعلى - نقول: هب أنك سائر في طريق. وجاء شخص يخبرك بأن هذا الطريق فيه لصوص وقطاع طرق. فمجرد هذا الكلام يجعلك لا تمشي في هذا الطريق إلا إذا كنت مسلحا ومعك شخص أو اثنان. فأنت تفعل ذلك للاحتياط. إذن فمجرد الظن دفعنا للاحتياط.. إذن فقوله تعالى: { يظنون أنهم ملقوا ربهم } [البقرة: 46] فمجرد أن القضية راجحة، هذا يكفي لاتباع منهج الله . فتقي نفسك من عذاب عظيم. ويقول المعري في آخر حياته:

زعم المنجم والطبيب كلاهما

لا تحشر الأجساد قلت إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر

أو صح قولي فالخسار عليكما

فكل مكذب بالآخرة خاسر. والنفس البشرية لابد أن تحتاط للقاء الله. وأن تعترف أن هناك حشرا وتعمل لذلك. والحق سبحانه وتعالى يقول: { الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم وأنهم إليه راجعون } [البقرة: 46] والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى أمر يقيني.

Bog aan la aqoon