Tafsir Al-Sha'rawi

Al-Sharawi d. 1418 AH
73

Tafsir Al-Sha'rawi

تفسير الشعراوي

Noocyada

وكان شوقي يصوغ في أبياته أن كل علم هو منسوب إلى الله وحده.. وهكذا يتضح لنا أن قول الملائكة: { سبحانك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ إنك أنت العليم الحكيم } [البقرة: 32]. يتضمن الاعتراف بأن العلم كله مرجعه إلى الله فالله سبحانه وتعالى هو مصدر العلم والحكمة. وقوله سبحانه وتعالى: " العليم الحكيم " العليم أي الذي يعلم كل شيء خافيا كان أو ظاهرا، والعلم كله منه. وأما الحكمة فتطلق في الأصل على قطعة الحديد التي توضع في فم الفرس لتلجمه حتى يمكن للراكب أن يتحكم فيه. ذلك أن الحصان حيوان مدلل شارد، يحتاج إلى ترويض، وقطعة الحديد التي توضع في فمه تجعله أكثر طاعة لصاحبه. وكأن إطلاق صفة الحكيم على الخالق سبحانه وتعالى هو أنه جل جلاله يحكم المخلوقات حتى لا تسير بغير هدى، ودون دراية. والحكمة أن يوضع هدف لكل حركة لتنسجم الحركات بعضها مع بعض، ويصير الكون محكوما بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والحكيم العليم هو الذي يضع لكل كائن إطاره وحدوده. والحكمة هي أن يؤدي كل شيء ما هو مطلوب منه ببراعة. والحكمة في الفقه هي أن تستنبط الحكم السليم. والحكمة في الشعر أن تزن الكلمات على المفاعيل. والحكمة في الطب أن تعرف تشخيص المرض والدواء الذي يعالجه. والحكمة في الهندسة أن تصمم المستشفى - مثلا - طبقا لاحتياجات المريض والطبيب وأجهزة العلاج ومخازن الأدوية، وغير ذلك، أو في تصميم المنزل للسكن المريح. وحكمة بناء منزل مثلا تختلف عن حكمة بناء قصر أو مكان للعمل. والكون كله مخلوق من قبل حكيم عليم، وضع الخالق سبحانه وتعالى فيه كل شيء في موضعه ليؤدي مهمته.

ووصف الله تعالى بأنه حكيم يتطلب أن يكون عليما لأن علمه هو الذي يجعله يصنع كل شيء بحكمة، وقد أعطى الله سبحانه وتعالى لكل خلقه من العلم على حاجته، فليس من طبيعة الملائكة أن يعرفوا ماذا سيفعل ذلك الإنسان الذي سيستخلفه الله في الأرض. ولكنهم موجودون لمهمة أخرى.. وميز الله الإنسان بالعقل ليستكشف من آيات الله في الكون على قدر حاجة حياته. والحق سبحانه وتعالى يقول:

سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى

[الأعلى: 1-3]. إذن فكل شيء خلق بقدر. وكل مخلوق ميسر لما هداه الله له..

[2.33]

فالحق سبحانه وتعالى أراد أن يرد على ملاحظة الملائكة بالنسبة لخلق آدم وخلافته في الأرض، وأن الله سبحانه وتعالى في حكمته ما يخفي عليهم. ولذلك فهم لم يدركوا هذه الحكمة، وقبل أن يخلق الله آدم ويجعله خليفة في الأرض كان على علم بكل ما سيحدث من آدم وذريته حتى قيام الساعة. وبعد قيام الساعة. أما الملائكة، فهم لم يكونوا على علم بذلك. لأن هذا ليس عملهم. وكما قلنا: كل ميسر لما خلق له. ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطي للملائكة الصورة بأنكم قد حكمتم على آدم إما من تجربة لجنس آخر عاش في الأرض، وإما من ضرب بالغيب، والمقياسان غير صحيحين. ولذلك ميز الله سبحانه في هذه اللحظة آدم على الملائكة فعلمه أسماء المسميات كلها، ثم طلب من الملائكة أن يخبروه بهذه الأسماء. ولكنهم قالوا: إن العلم من الله وحده. وبما أن الله تعالى لم يعلمهم الأسماء فإنهم لا يعرفونها. فطلب الله من آدم أن يخبرهم بأسماء هذه المسميات فأخبرهم بها. ولكنه لم يخبرهم بها بذاته ولا من قانونه. ولا بعلم علمه وحده. ولكنه أخبرهم بتعليم الله سبحانه وتعالى له. وفي ذلك يقول الله تعالى:

نرفع درجات من نشآء وفوق كل ذي علم عليم

[يوسف: 76]. إذن، فعلم آدم للأسماء كان بمشيئة الله سبحانه وتعالى. وهذه المشيئة وحدها هي التي جعلت آدم في ذلك الوقت يعلم ما لا تعلمه الملائكة.. وهنا رد الحق سبحانه وتعالى على قول الملائكة بأن آدم سيفسد في الأرض، فذكرهم الله تعالى بقوله: { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض.. } [البقرة: 33] أي أن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعلم الغيب، والغيب هنا هو الغيب المطلق، فهناك غيب نسبي. قد تسرق حافظة نقودي مثلا وأنا لا أعلم من الذي سرقها فهو غيب عني. ولكنه معلوم للذي سرق، وللذي سهل له طريقة السرقة بأن حرس له الطريق حتى يسرق دون أن يفاجئه أحد. وقد يكون قد صدر قرار هام بالنسبة لي كترقية أو فصل أو حكم. لم يصلني. فأنا لا أعلمه. ولكن الذي وقع القرار أو الحكم يعلمه. هذا الغيب النسبي، لا يعتبر غيبا. ولكن الغيب المطلق هو الذي ليس له مقدمات تنبئ عما سيحدث.. هذا الغيب الذي يفاجئك، ويفاجئ كل من حولك بلا مقدمات.. هذا الغيب لا يعلمه إلا الله وحده. وقوله تعالى: { وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } [البقرة: 33].. تعطينا هنا وقفة. هل الملائكة قالوا لله سبحانه وتعالى:

أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك..

[البقرة: 30] هل قالها الملائكة فعلا وجهرا، أم أنهم قالوها في أنفسهم ولم ينطقوا بها؟ قوله تعالى " وما كنتم تكتمون " تعطينا إشارة إلى أن الملائكة ربما قالوا هذا سرا. ولم يبدوه، وعلى أية حال سواء قالوه جهرا أو قالوه سرا. فقد علمه الله لأن الله جل جلاله بكل شيء محيط. ولا نريد لهذه النقطة أن تثير جدلا.. لماذا؟ لأنه في الحالتين سواء في الجهر أو في الكتمان، فإن الموقف يتساوى عند علم الله سبحانه وتعالى.. فلا داعي للجدل لأنه لا خلاف.

Bog aan la aqoon