Tafsir Al-Sha'rawi

Al-Sharawi d. 1418 AH
51

Tafsir Al-Sha'rawi

تفسير الشعراوي

Noocyada

بعد أن بين الحق سبحانه وتعالى لنا أن هؤلاء الذين يتخذون من دون الله أندادا لا يعتمدون على منطق ولا عقل. ولكنهم يعتمدون على شهوات دنيوية عاجلة. أراد أن يأتي بالتحدي بالنسبة للقرآن الكريم - المعجزة الخالدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى يثبت لهم أن الله سبحانه وتعالى إذا كان قد جعل خلق الكون إعجازا محسا.. فإن القرآن منهج معجز إعجازا قيما.. قال الله جل جلاله: { وإن كنتم في ريب.. } [البقرة: 23] الخطاب هنا لكل كافر ومنافق وغير مؤمن، لأن الذين آمنوا بالله ورسوله ليس في قلوبهم ريب، بل هم يؤمنون بأن القرآن موحى به من الله، مبلغ إلى محمد صلى الله عليه وسلم بالوحي المنزل من السماء. والريب: هو الشك. وقوله تعالى: { وإن كنتم في ريب } [البقرة: 23] أي: إن كنتم في شك. من أين يأتي هذا الشك والمعجزة تحيط بالقرآن وبرسوله صلى الله عليه وسلم؟ ما هي مبررات الشك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب ولم يعرف بالبلاغة والشعر بين قومه حتى يستطيع أن يأتي من عنده بهذا الكلام المعجز الذي لم يستطع فطاحل شعراء العرب الذين تمرسوا في البلاغة واللغة أن يأتوا بآية من مثله. هذه واحدة. والثانية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكذب أبدا ولم يعرف عنه كذب قبل تكليفه بالرسالة بل كانوا يلقبونه صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين. والذين كانوا يلقبون رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين اتهموه بأن هذا القرآن ليس من عند الله.. أيصدق رسول الله عليه الصلاة والسلام مع الناس.. ويكذب على الله؟!.. هذا مستحيل. الكلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القرآن لم يكن أحد ليستطيع أن يأتي به من فطاحل علماء البلاغة العرب. والعلم الذي نزل في القرآن الكريم لم يكن يعرفه بشر في ذلك الوقت. فكيف جاء النبي الأمي بهذا الكلام المعجزة، وبهذا العلم الذي لا يعلمه البشر؟! لو جلس إلى معلم أو قرأ كتب الحضارات القديمة لقالوا ربما استنبط منها، ولكنه لم يفعل ذلك. فمن أين دخل الريب إلى قلوبهم؟ لا شك أنه دخل من باب الباطل.. والباطل لا حجة له. وبلا شك لقد فضحوا أنفسهم بأنهم لا يرتابون في القرآن، ولكنهم كانوا يريدونه أن ينزل على سيد من سادة قريش. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:

وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم

[الزخرف: 31]. وهؤلاء المرتابون لم يجدوا حجة يواجهون بها القرآن، فقالوا: ساحر، وهل للمسحور إرادة مع الساحر؟ إذا كان ساحرا فلماذا لم يسحركم أنتم؟ وقالوا: مجنون.

والمجنون يتصرف بلا منطق.. يضحك بلا سبب. ويبكي بلا سبب، ويضرب الناس بلا سبب!. ولذلك رد الحق سبحانه عليهم بقوله تعالى:

ن والقلم وما يسطرون * مآ أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لأجرا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم

[القلم: 1-4]. فهل يكون المجنون على خلق عظيم؟ إذن: فأسباب الريب كلها أو الأسباب التي تثير الشك غير موجودة. وغير متوافرة. ولا يوجد سبب حقيقي واحد يجعلهم يشكون في أن القرآن ليس من عند الله. ولكنهم هم القائلون كما يروي لنا الحق تبارك وتعالى:

وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم

[الأنفال: 32]. إذن، فكل أسباب الشك غير موجودة وأسباب اليقين هي الموجودة، ومع ذلك ارتابوا وشكوا. وقوله سبحانه وتعالى: { مما نزلنا على عبدنا.. } [البقرة: 23]. فالقرآن الكريم وجد في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الإنسان، وعندما جاء وقت مباشرته لمهمته في الكون نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا دفعة واحدة، ثم أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بقدر ما احتاجت إليه المناسبات والأحداث. إذن فقوله " نزلنا " أي نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا دفعة واحدة. وقوله تعالى " أنزل " أي أنزله آيات على محمد صلى الله عليه وسلم بحسب اقتضاء الأحداث والمناسبات. الحق سبحانه وتعالى يقول: " على عبدنا " وهذه محتاجة إلى وقفة. فالله جل جلاله. له عبيد وله عباد. كل خلق الله في كونه عبيد لله سبحانه وتعالى، لا يستطيعون الخروج عن مشيئة الله أو إرادته. هؤلاء هم العبيد. ولكن العباد هم الذين اتحدت مراداتهم مع ما يريده الله سبحانه وتعالى.. تخلوا عن اختيارهم الدنيوي، ليصبحوا طائعين لله باختيارهم، أي أنهم تساووا مع المقهورين في أنهم اختاروا منهج الله وتركوا أي اختيار يخالفه. هؤلاء هم العباد، وإذا قرأت القرآن الكريم تجد أن الله سبحانه وتعالى يشير إلى العباد بأنهم الصالحون من البشر فيقول الحق تبارك وتعالى:

وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون

[البقرة: 186]. هذا ليس لكل خلق الله، ولكنه للعباد الذين إذا قال الله تعالى لهم افعلوا فعلوا وإذا قال الله لا تفعلوا لم يفعلوا. أي: أنهم لا يخالفون - بقدرتهم على الاختيار - منهج الله سبحانه وتعالى. ولذلك في الجهاد لا يقول الحق سبحانه وتعالى عن المجاهدين أنهم عبيد. بل يقول جل جلاله:

Bog aan la aqoon