Tafsir Al-Sha'rawi

Al-Sharawi d. 1418 AH
35

Tafsir Al-Sha'rawi

تفسير الشعراوي

Noocyada

[العلق: 6-7]. ذلك أن الإنسان يحرث الأرض فتعطيه الثمر.. فيعتقد أنه هو الذي أخضع الأرض ووضع لها قوانينها لتعطيه ما يريد.. يضغط على زر الكهرباء فينير المكان فيعتقد أنه هو الذي أوجد هذه الكهرباء! يركب الطائرة.. وتسير به في الجو فيعتقد أنه هو الذي جعلها تطير.. وينسى الخصائص التي وضعها الله سبحانه وتعالى في الغلاف الجوي ليستطيع أن يحمل هذه الطائرة.. يفتح التليفزيون ويرى أمامه أحداث العالم فيعتقد أن ذلك قد حدث بقدرته هو.. وينسى أن الله تبارك وتعالى وضع في الغلاف الجوي خصائص جعلته ينقل الصوت والصورة من أقصى الدنيا إلى أقصاها في ثوان معدودة.. وهكذا كل ما حولنا يظن الإنسان أنه أخضعه بذاته.. بينما كل هذا مسخر من الله سبحانه وتعالى لخدمة الإنسان.. وهو الذي خلق ووضع القوانين.. نقول له: إنك لو فهمت معنى ذاتية الأشياء ما حدثتك نفسك بذلك.. الشيء الذاتي هو ما كان بذاتك لا يتغير ولا يتخلف أبدا.. إنما الأمر الذي ليس بذاتك هو الذي يتغير. وإذا نظرت إلى ذاتيتك تلك التي أغرتك وأطغتك.. ستفهم أن كلمة ذاتية هي ألا تكون محتاجا إلى غيرك بل كل شيء من نفسك.. وأنت في حياتك كلها ليس لك ذاتية.. لأن كل شيء حولك متغير بدون إرادتك، وأنت طفل محتاج إلى أبيك في بدء حياتك.. فإذا كبرت وأصبح لك قوة واستجابت الأحداث لك، فإنك لا تستطيع أن تجعل فترة الشباب والفتوة هذه تبقى، فالزمن يملك ولكن لفترة محدودة.

. فإذا وصلت إلى مرحلة الشيخوخة فستحتاج إلى من يأخذ بيدك ويعينك.. ربما على أدق حاجاتك وهي الطعام والشراب. إذن: فأنت تبدأ بالطفولة محتاجا إلى غيرك.. وتنتهي بالشيخوخة محتاجا إلى غيرك.. وحتى عندما تكون في شبابك قد يصيبك مرض يقعدك عن الحركة.. فإذا كانت لك ذات حقيقية فادفع هذا المرض عنك وقل: لن أمرض.. إنك لا تستطيع. الله سبحانه وتعالى أوجد هذه المتغيرات حتى ينتهي الغرور من نفس الإنسان.. ويعرف أنه قوي قادر بما أخضع الله له من قوانين الكون.. لنعلم أننا جميعا محتاجون إلى القادر، وهو الله سبحانه وتعالى، وأن الله غني بذاته عن كل خلقه.. يغير ولا يتغير.. يميت وهو دائم الوجود.. يجعل من بعد قوة ضعفا وهو القوي دائما.. ما عند الناس ينفد وما عنده تبارك وتعالى لا ينفد أبدا.. هو الله في السماوات والأرض. إذن: فليست لك ذاتية حتى تدعي أنك أخضعت الكون بقدراتك.. لأنه ليس لك قدرة أن تبقى على حال واحد وتجعله لا يتبدل ولا يتغير.. فكيف تكفر بالله تبارك وتعالى وتستر وجوده.. كل ما في الكون وما في نفسك شاهد ودليل على وجود الحق سبحانه وتعالى. قلنا: إن الكافرين صنفان: صنف كفر بالله وعندما جاء الهدى حكم عقله وعرف الحق فآمن.. والصنف الآخر مستفيد من الكفر.. ولذلك فهو متشبث به مهما جاءه من الإيمان والأدلة الإيمانية فإنه يعاند ويكفر.. لأنه يريد أن يحتفظ بسلطاته الدنيوية ونفوذه القائم على الظلم والطغيان.. ولا يقبل أن يجرد منهما ولو بالحق.. هذا الصنف هو الذي قال عنه الله تبارك وتعالى: { إن الذين كفروا سوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [البقرة: 6]. فهم لم يكفروا لأن بلاغا عن الله سبحانه وتعالى لم يصلهم.. أو لأنهم لم يلفتهم رسول أو نبي إلى منهج الله.. فهؤلاء اتخذوا الكفر صناعة ومنهج حياة.. فهم مستفيدون من الكفر لأنه جعلهم سادة ولأنهم متميزون عن غيرهم بالباطل.. ولأنهم لو جاء الإيمان الذي يساوي بين الناس جميعا ويرفض الظلم، لأصبحوا أشخاصا عاديين غير مميزين في أي شيء. هذا الكافر الذي اتخذ الكفر طريقا لجاه الدنيا وزخرفها.. سواء أنذرته أو لم تنذره فإنه لن يؤمن.. إنه يريد الدنيا التي يعيش فيها، بل إن هؤلاء هم الذين يقاومون الدين ويحاربون كل من آمن.. لأنهم يعرفون أن الإيمان سيسلبهم مميزات كثيرة، ولذلك فإن عدم إيمانهم ليس لأن منهج الإيمان لم يبلغهم، أو أن أحدا لم يلفتهم إلى آيات الله في الأرض، ولكن لأن حياتهم قائمة ومبنية على الكفر.

[2.7]

وكما أعطانا الحق سبحانه وتعالى أوصاف المؤمنين يعطينا صفات الكافرين.. وقد يتساءل بعض الناس إذا كان هذا هو حكم الله على الكافرين؟ فلماذا يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان منهم وقد ختم الله على قلوبهم؟! ومعنى الختم على القلب هو حكم بألا يخرج من القلب ما فيه من الكفر.. ولا يدخل إليه الإيمان. نقول إن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين.. فإن استغنى بعض خلقه عن الإيمان واختاروا الكفر.. فإن الله يساعده على الاستغناء ولا يعينه على العودة إلى الإيمان.. ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي:

" أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ".

وقد وضح الحديث القدسي أن الله تبارك وتعالى يعين المؤمنين على الإيمان، وأن الله جل جلاله كما يعين المؤمنين على الإيمان.. فإنه لا يهمه أن يأتي العبد إلى الإيمان أو لا يأتي.. ولذلك نجد القرآن دقيقا ومحكما بأن من كفروا قد اختاروا الكفر بإرادتهم. واختيارهم للكفر كان أولا قبل أن يختم الله على قلوبهم.. والخالق جل جلاله أغنى الشركاء عن الشرك، ومن أشرك به فإنه في غنى عنه. إن الذين كفروا.. أي ستروا الإيمان بالله ورسوله.. هؤلاء يختم الله بكفرهم على آلات الإدراك كلها.. القلب والسمع والبصر. والقلب أداة إدراك غير ظاهرة.. وقد قدم الله القلب على السمع والبصر في تلك الآية لأنه يريد أن يعلمنا منافذ الإدراك.. وفي القرآن الكريم يقول الحق تبارك وتعالى:

والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون

[النحل: 78]. وهكذا يعلمنا الله أن منافذ العلم في الإنسان هي: السمع والأبصار والأفئدة، ولكن في الآية الكريمة التي نحن بصددها قدم الله القلوب على السمع والأبصار. إن الله يعلم أنهم اختاروا الكفر.. وكان هذا الاختيار قبل أن يختم الله على قلوبهم.. والختم على القلوب.. معناه أنه لا يدخلها إدراك جديد ولا يخرج منها إدراك قديم.. ومهما رأت العين أو سمعت الأذن.. فلا فائدة من ذلك لأن هذه القلوب مختومة بخاتم الله بعد أن اختار أصحابها الكفر وأصروا عليه.. وفي ذلك يصفهم الحق جل جلاله:

صم بكم عمي فهم لا يرجعون

[البقرة: 18]. ولكن لماذا فقدوا كل أدوات الإدراك هذه؟.

Bog aan la aqoon