147

Tafsir Al-Sha'rawi

تفسير الشعراوي

Noocyada

ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما

[النساء: 164]. إذن هناك رسل وأنبياء أرسلوا إلى بني إسرائيل لم نعرفهم.. لأن الله لم يقصص علينا نبأهم.. ولكن الآية الكريمة التي نحن بصددها لم تذكر إلا عيسى عليه السلام.. باعتباره من أكثر الرسل أتباعا.. والله تبارك وتعالى حينما أرسل عيسى أيده بالآيات والبينات التي تثبت صدق بلاغه عن الله.. ولذلك قال جل جلاله: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } [البقرة: 87].. وعيسى ابن مريم عليه السلام جاء ليرد على المادية التي سيطرت على بني إسرائيل.. وجعلتهم لا يعترفون إلا بالشيء المادي المحسوس فعقولهم وقلوبهم أغلقت من ناحية الغيب.. حتى إنهم قالوا لموسى:

أرنا الله جهرة

[النساء: 153].. وحين جاءهم المن والسلوى رزقا من الله.. خافوا أن ينقطع عنهم لأنه رزق غيبي فطلبوا نبات الأرض.. لذلك كان لابد أن يأتي رسول كل حياته ومنهجه أمور غيبية.. مولده أمر غيبي، وموته أمر غيبي ورفعه أمر غيبي ومعجزاته أمور غيبية حتى ينقلهم من طغيان المادية إلى صفاء الروحانية. لقد كان أول أمره أن يأتي عن غير طريق التكاثر المادي.. أي الذي يتم بين الناس عن طريق رجل وأنثى وحيوان منوي.. والله سبحانه وتعالى أراد أن يخلع من أذهان بني إسرائيل أن الأسباب المادية تحكمه.. وإنما هو الذي يحكم السبب. هو الذي يخلق الأسباب ومتى قال: " كن " كان.. بصرف النظر عن المادية المألوفة في الكون.. وفي قضية الخلق أراد الله جل جلاله للعقول أن تفهم أن مشيئته هي السبب وهي الفاعلة.. واقرأ قوله سبحانه:

لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشآء يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشآء عقيما إنه عليم قدير

[الشورى: 49-50]. فكأن الله سبحانه وتعالى جعل الذكورة والأنوثة هما السبب في الإنجاب.. ولكنه جعل طلاقة القدرة مهيمنة على الأسباب.. فيأتي رجل وامرأة ويتزوجان ولكنهما لا ينجبان.. فكأن الأسباب نفسها عاجزة عن أن تفعل شيئا إلا بإرادة المسبب . والله سبحانه وتعالى يقول: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } [البقرة: 87].. لماذا قال الحق تبارك وتعالى: { وأيدناه بروح القدس } [البقرة: 87].. ألم يكن باقي الرسل والأنبياء مؤيدين بروح القدس؟ نقول: لقد ذكر هنا تأييد عيسى بروح القدس لأن الروح ستشيع في كل أمر له.. ميلادا ومعجزة وموتا.. والروح القدس هو جبريل عليه السلام لم يكن يفارقه أبدا.. لقد جاء عيسى عليه السلام على غير مألوف الناس وطبيعة البشر مما جعله معرضا دائما للهجوم.. ولذلك لابد أن يكون الوحي في صحبته لا يفارقه.. ليجعل من مهابته على القوم ما يرد الناس عنه.. وعندما يتحدث القرآن أنه رفع إلى السماء.. اختلف العلماء هل رفع إلى السماء حيا؟ أو مات ثم رفع إلى السماء؟ نقول: لو أننا عرفنا أنه رفع حيا أو مات.. ما الذي يتغير في منهجنا؟ لا شيء.. وعندما يقال إنه شيء عجيب أن يرفع إنسان إلى السماء، ويظل هذه الفترة ثم يموت.. نقول إن عيسى ابن مريم لم يتبرأ من الوفاة.. إنه سيتوفى كما يتوفى سائر البشر.. ولكن هل كان ميلاده طبيعيا؟ الإجابة لا.. إذن فلماذا تتعجب إذا كانت وفاته غير طبيعية؟ لقد خلق من أم بدون أب.. فإذا حدث أنه رفع إلى السماء حيا وسينزل إلى الأرض فما العجب في ذلك؟ ألم يصعد رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى السماء حيا؟ ثم نزل لنا بعد ذلك إلى الأرض حيا؟ لقد حدث هذا لمحمد عليه الصلاة والسلام.. إذن فالمبدأ موجود.. فلماذا تستبعد صعود عيسى ثم نزوله في آخر الزمان؟ والفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى هو أن محمدا لم يمكث طويلا في السماء، بينما عيسى بقى.. والخلاف على الفترة لا ينقض المبدأ. عن ابن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد "

وهذا الحديث موجود في صحيح البخاري.. فقد جعله الله مثلا لبني إسرائيل.. واقرأ قوله سبحانه:

إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل

[الزخرف: 59]. قوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } [البقرة: 87].. البينات هي المعجزات مثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله وغير ذلك من المعجزات.. وهي الأمور البينة الواضحة على صدق رسالته. لكننا إذا تأملنا في هذه المعجزات.. نجد أن بعضها نسبت لقدرة الله كإحياء الموتى جاء بعدها بإذن الله.. وبعضها نسبها إلى معجزته كرسول.. ومعروف أنه كرسول يؤيده الله بمعجزات تخرق قوانين الكون.. ولكن هناك فرق بين معجزة تعطي كشفا للرسول.. وبين معجزة لابد أن تتم كل مرة من الله مباشرة.. واقرأ الآية الكريمة:

Bog aan la aqoon