قوله عز وجل: { وفتناك فتونا } [40]
حديث الفتون
346- أنا عبد الله بن محمد، نا يزيد بن هارون، أنا أصبغ بن زيد، نا القاسم بن أبي أيوب، أني سعيد بن جبير، قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عز وجل لموسى عليه السلام: { وفتناك فتونا } ، فسألته عن الفتون ما هو؟ قال: استأنف النهار يا ابن جبير، فإن لها حديثا طويلا، فلما أصبحت غدوت على ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله عز وجل وعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك، ما يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب عليهما السلام، فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه السلام، فقال فرعون: فكيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون ، قالوا: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا أن تباشروا من الأعمال والخدمة الذي كانوا يكفونكم. فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فيقل نباتهم، ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا، فينشأ الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون/ منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك. فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية آمنة. فلما كان من قابل حملت بموسى فوقع في قلبها الهم والحزن - وذلك من الفتون يا ابن جبير - ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به. فأوحى الله جل ذكره إليها أن
ولا تخافي ولا تحزني إنا رآدوه إليك وجاعلوه من المرسلين
[القصص: 7] فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت وتلقيه في اليم. فلما ولدت فعلت ذلك. فلما توارى عنها ابنها، أتاها الشيطان فقالت في نفسها: ما فعلت بابني؟ لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه، فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون. فلما رأينه أخذنه فهممن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن: إن في هذا مالا، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه. فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلاما، فألقي عليها منه محبة لم يلق منها على أحد قط، وأصبح فؤاد أم موسى فارغا من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى.
فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه - وذلك من الفتون يا ابن جبير -، فقال لهم: أقروه، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، حتى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت فرعون فقالت: قرة عين لي ولك، فقال فرعون: يكون لك فأما لي فلا حاجة لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها، ولكن الله حرمه ذلك "
فأرسلت إلى من حولها؛ إلى كل امرأة لها لبن/ تختار له ظئرا، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها، فلم يقبل. فأصبحت أم موسى والها، فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكرا، أحي ابني أم أكلته الدواب، ونسيت ما كان الله وعدها فيه، فبصرت به أخته عن جنب - والجنب: أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد وهو إلى ناحية لا يشعر به - فقالت من الفرح حين أعياهم الضؤورات: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون. فأخذوها، فقالوا: ما يدريك ما نصحهم؟ قل تعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك - وذلك من الفتون يابن جبير - فقالت: نصيحتهم له، وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر الملك ورجاء منفعة الملك. فأرسلوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر. فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها، ثوى إلي ثديها، فمصه حتى امتلأ جنباه ريا، وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا، فأرسلت إليها فأتت بها وبه، فلما رأت ما يصنع، قال: امكثي ترضعي ابني هذا، فإني لم أحب شيئا حبه قط، قالت أم موسى: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلي بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا فعلت، فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله منجز موعوده. فرجعت إلى بيتها من يومها، فأنبته الله نباتا حسنا، وحفظ لما قد قضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أزيريني/ ابني، فوعدتها يوما تزيرها إياه فيه.
وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤورها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة، لأرى ذلك فيه، وأنا باعثة أمينا يحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم.
فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته وفرحت به، ونحلت أمه بحسن أثرها عليه ثم قالت: لآتين فرعون فلينحلنه وليكرمنه، فلما دخلت به عليه جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون، فمدها إلى الأرض. قال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه، إنه زعم أن يربك ويعلوك ويصرعك؟! فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، - وذلك من الفتون يا ابن جبير - بعد كل بلاء ابتلي به وأريد به فتونا. فجاءت امرأة فرعون [تسعى إلى فرعون] فقال: ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي، فقال: ألا ترينه، إنه يزعم سيصرعني ويعلوني، قالت: اجعل بيني وبينك أمرا يعرف فيه الحق، ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤ، واجتنب الجمرتين، عرفت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين، علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل. فقرب ذلك إليه فتناول الجمرتين فنزعوهما منه مخافة أن يحرقا يديه، فقالت المرأة: ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به، وكان الله بالغا فيه أمره. فلما بلغ أشده، وكان من الرجال، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع.
Bog aan la aqoon