من بين الأدوار التي قام بها أرسطو، دور المنظم الكبير الذي وضع نظاما للعديد من التخصصات التي درسها هو وغيره من المفكرين. والحق أن العديد من المجالات الأكاديمية في الوقت الحاضر مثل علم الأحياء وعلم السياسة، لم تصبح تخصصات منفصلة إلا عندما حللها أرسطو ونظمها.
وقد تمثل نهجه الذي كان فريدا حينذاك، في جمع الأدلة والأمثلة، ومن ثم استخدامها لإنشاء الأنظمة التي تحدد تعريف مجال محدد. فعلى سبيل المثال، أدت دراسة أرسطو للنباتات والحيوانات (وكانت بعض العينات قد أحضرت من الأراضي التي غزاها تلميذه الإسكندر الأكبر)، إلى تطوير نظام تصنيفي يقوم على السمات المادية، وهو الذي مهد الطريق للتصنيف الأحيائي المستخدم اليوم لتصنيف الكائنات الحية. وفي كتاب «السياسة» أيضا، صنف أرسطو دساتير الكيانات السياسية المعاصرة له بصفتها «نماذج» للتنظيم السياسي، ثم دمج نظامه التصنيفي في بنية هي التي وضعت تعريفا لمجال العلوم السياسية.
إضافة إلى ذلك، كتب أرسطو أعمالا أصلية عن علم المنطق قدم فيها نظما لتصنيف المعلومات، وطرقا لتنظيم الحجج المنطقية وتحليلها، وأنواع أخطاء الاستنتاج (المغالطات)، والعديد من المفاهيم الأخرى التي نتناولها في مناقشة الفصل التالي عن موضوع التفكير المنهجي. وفي مؤلفاته عن اللغة التي تأتي تحت عنوان «البلاغة»، يوضح أرسطو أيضا إمكانية اختيار الكلمات والعبارات المستخدمة لطرح الأفكار والحجج وتنظيمها من أجل الإقناع. وسوف نناقش دور اللغة في التفكير النقدي في الفصل الثاني أيضا.
ظل العديد من أعمال أرسطو طي النسيان على مدار قرون. لكنها اكتشفت من جديد في عصور مختلفة؛ ومن ثم استخدمت هي وغيرها من الأعمال الكلاسيكية للمساعدة في تدشين عصور جديدة من الاستكشاف الفكري. ومع ذلك، فحتى حينما لم تكن كلماته المحددة محل الدراسة، فإن الأفكار التي استنبطها، لا سيما الأفكار المتعلقة بالمنطق والبلاغة، كانت هي اللبنات الأساسية للتعليم على مدار قرون.
فعلى سبيل المثال، كان التعليم لدى القدماء من اليونانيين والرومانيين يبدأ بدراسة ما يسمى ب «تريفيوم» («الفنون الثلاثة»، وهي المنطق والبلاغة والقواعد (اللغة وتراكيبها)). وحالما يتقن الطلاب تلك المواد الدراسية، كان الطلاب ينتقلون إلى دراسة «كوادريفيوم» («الفنون الأربعة» وهي الحساب والهندسة والفلك والموسيقى). كانت تلك التخصصات الأربعة إضافة إلى الفنون الثلاثة تشكل الفنون الحرة السبعة في العالم القديم. وعلى الرغم من أن فني المنطق والبلاغة لم يندرجا دوما في إطار الفنون الثلاثة أو الفنون الأربعة؛ فقد ظلت تحدد تعريف «الشخص المتعلم» على مدار العصور الوسطى وحتى فترة كبيرة من العصر الحديث.
عندما كنت في المرحلة الجامعية في ثمانينيات القرن العشرين، كان أحد الأساتذة يقدم دورة دراسية بعنوان «الفنون الأربعة» وكانت بمثابة نهج حديث لتدريس المجموعة الثانية من مواد الفنون الحرة السبعة. وعلى الرغم من وجود تجارب مماثلة في العديد من مدارس الفنون الحرة، فإن الاهتمام بالتعلم على طريقة الفنون الثلاثة، يتضح بالدرجة الكبرى في العصر الحالي في بعض شرائح حركة التعليم المنزلي بالولايات المتحدة؛ إذ يمكن الجمع بين التعليم الكلاسيكي والتعليم الديني بحرية. تلك الإشارات الصغيرة إلى عناصر الفكر القديم، إضافة إلى دور المنطق في كل مناقشة عن التفكير النقدي، توضح جاذبية «حب الحكمة» أو الفلسفة لدى من يسعون إلى غرس ما هو أكبر من المعرفة لدى المتعلمين. (2) عصر النهضة والثورة العلمية وعصر التنوير
اندلعت سلسلة أخرى من الاضطرابات السياسية والفكرية في أوروبا، بدءا من القرن الرابع عشر، وأدت إلى مزيد من الثورات في التفكير قد أسهمت بعناصر أساسية فيما سيعرف بعد ذلك بالتفكير النقدي.
تعرف النهضة الأوروبية التي امتدت من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر بأنها فترة من ازدهار الفن والعمارة والهندسة. في تلك الحقبة، لم يقتصر ابتكار «رجال النهضة» أمثال مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي على الروائع الفنية فحسب، بل توصلوا أيضا إلى إنجازات هندسية عظيمة؛ مثل التحصينات الحضرية والتصاميم المبكرة لآلات الطيران. إن مصطلح النهضة «رينيسانس» يعني «إعادة الإحياء»، وقد كان أحد المحفزات الأساسية لبعث هذا الاستقلال الفكري هو إعادة اكتشاف كتب الفلسفة الكلاسيكية اليونانية والرومانية التي اكتشفت في الأديرة الأوروبية، أو هربت إلى الغرب من الإمبراطورية البيزنطية المتداعية.
3
ويشير مصطلح «الثورة العلمية» إلى الفترة التي بدأت في القرن الخامس عشر حين أدت التطورات المذهلة في الرياضيات والعلوم الطبيعية، التي اكتشفت من خلال تبني مناهج جديدة في البحث، إلى اكتشافات عظيمة ومثيرة للجدل؛ مثل اكتشاف أن الأرض ليست مركز الكون.
Bog aan la aqoon