غير أن القول بأن المنهج هو العنصر الثابت في العلم قد يفهم بمعنى أن للعلم مناهج ثابتة لا تتغير، وهذا فهم لا يعبر عن حقيقة العلم؛ إذ إن مناهج العلم متغيرة بالفعل؛ فهي أولا تتغير حسب العصور؛ لأن كثيرا من العلوم غيرت مناهجها بتقدم العلم؛ فالكيمياء مثلا تزداد اعتمادا على الأساليب الرياضية بعد أن كانت في بدايتها علما تجريبيا خالصا لا شأن له بالرياضيات، كذلك فإن المناهج تتغير تبعا لنوع العلم ذاته؛ إذ إن المنهج المتبع في علم يدرس الإنسان لا بد أن يكون مختلفا عن ذلك الذي يتبع في علم طبيعي، وهكذا لا يمكن القول بوجود منهج واحد ثابت للمعرفة العلمية على إطلاقها، ومع ذلك يظل من الصحيح أن منهج العلم - لا النظريات أو النتائج التي يصل إليها - هو العنصر الملازم للعلم على الدوام، بمعنى أن وجود منهج معين - أيا كان هذا المنهج - سمة أساسية في كل تفكير علمي؛ فالبحث العلمي هو بحث يخضع لقواعد معينة، وليس بحثا عشوائيا متخبطا، ومع اعترافنا بأن هذه القواعد قابلة للتغيير باستمرار، فإن مبدأ الخضوع لقواعد منهجية هو صفة أساسية تميز المعرفة العلمية.
وعلى أية حال فقد استطاع العلم الحديث - بفضل جهود رواده الأوائل وإضافات العلماء اللاحقين - أن يطور لنفسه منهجا أصبح يرتبط إلى حد بعيد بالدراسة العلمية، ولعله من المفيد - ونحن في معرض الكلام عن صفة التنظيم المنهجي في العلم - أن نقول كلمة موجزة عن هذا المنهج، لا بوصفه المنهج الوحيد الذي يمكن تصوره للعلم، ولكن بوصفه المنهج الذي أصبح غالبا على الدراسة العلمية في ميادين العلم الطبيعي، دون استبعاد أية تطورات أخرى ممكنة في المستقبل. (1)
فالمنهج العلمي يبدأ بمرحلة ملاحظة منظمة للظواهر الطبيعية التي يراد بحثها، ولا شك أن هذه الملاحظة تفترض - كما قلنا من قبل - عملية اختيار وانتقاء وعزل للوقائع التي تهم الباحث في ميدان عمله من بين ألوف الوقائع الأخرى التي تتشابك معها في الطبيعة، بل إن الواقعة أو الظاهرة الواحدة يمكن تناولها من زوايا متعددة وفقا لنوع اهتمام العالم؛ فقطعة الحجر يمكن أن تدرس بوصفها ظاهرة فيزيائية إذا ركزنا اهتمامنا على حركتها أو طريقة سقوطها أو ثقلها، ويمكن أن تدرس كيميائيا بتحليل المعادن أو الأملاح التي يمكن أن تكون موجودة فيها، كما تدرس جيولوجيا بتحديد الطبقة الصخرية التي تنتمي إليها وعصرها الجيولوجي ... إلخ. (2)
ومن الجدير بالذكر أن الملاحظة الحسية المباشرة نادرا ما تستخدم في العلم المعاصر. صحيح أنها في أوائل العصر الحديث كانت هي الوسيلة التي يلجأ إليها العلماء، والتي يدعو إليها فلاسفة العلم مثل بيكون؛ من أجل جمع معلومات عن الواقع، ولكن ذلك كان هو الوضع السائد قبل أن تكتشف أجهزة الملاحظة والرصد الحديثة، وأبسط مثال على ذلك أن ملاحظة الطبيب للمريض في البلاد المتقدمة طبيا أصبحت أقل اعتمادا على اليد أو سماعة الأذن، وازداد اعتمادها على الأجهزة الدقيقة في تسجيل ضربات القلب، أو على التصوير بكاميرات داخلية، أو على الأنواع الجديدة من الأشعة. كذلك فإن ملاحظات عالم الفيزياء لم تعد تعتمد على العينين، بل تتم عن طريق قراءة مؤشرات أو ومضات داخل أجهزة إلكترونية شديدة التعقيد. وبالمثل فإن العالم الفلكي أو الجيولوجي لم يعد يعتمد على ما يراه، بل على الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية؛ أي إن مفهوم الملاحظة ذاته قد تغير، فلم تعد هي تلك المادة الحسية الخام التي عرفها العلم في المراحل الأولى من تطوره الحديث، وإنما أصبحت عملية شديدة التعقيد، تحتاج إلى جهود سابقة ضخمة، وإلى معلومات واسعة من أجل تفسير «القراءات» أو «الصور» التي تنقلها الأجهزة المعقدة؛ أي إن الخطوة الأولى في العلم متداخلة مع خطواته المتأخرة، وهي ليست حسية خالصة، بل فيها جوانب عقلية هامة. (3)
وتأتي بعد الملاحظة مرحلة التجريب؛ حيث توضع الظواهر في ظروف يمكن التحكم فيها، مع تنويع هذه الظروف كلما أمكن، وقد أصبحت التجارب العلمية بدورها أمرا شديد التعقيد في عصرنا هذا، ولكنها مع ذلك لا تمثل المرحلة النهائية في العلم، بل تظل مرحلة أولية؛ ذلك لأن القوانين النهائية التي نتوصل إليها في هذه المرحلة قوانين جزئية، تربط بين ظاهرة وأخرى، وتقدم إلينا معرفة بجانب محدود من جوانب الموضوع الذي نريد بحثه، ومن مجموع التجارب يتكون لدينا عدد كبير من القوانين الجزئية التي يبدو كل منها مستقلا عن الآخر، والتي نظل في هذه المرحلة عاجزين عن الربط بينها؛ لأن التجربة وحدها لا تتيح لنا أن نصل إلى أية «نظرية» لها طابع عام. (4)
وفي المرحلة التالية يستعين العلم بتلك القوانين الجزئية المتعددة التي تم الوصول إليها في المرحلة التجريبية، فيضمها كلها في نظرية واحدة. وهكذا فإن نيوتن قد استعان بكل القوانين التي تم كشفها عن طريق تجارب جاليليو وباسكال وهيجنز وغيرهم من العلماء السابقين عليه؛ لكي يضعها كلها في نظرية عامة هي نظرية الجاذبية (أو قانون الجاذبية بالمعنى العام لهذا اللفظ). (5)
وفي كثير من الحالات يلجأ العلم - بعد الوصول إلى النظرية العامة - إلى الاستنباط العقلي؛ إذ يتخذ من النظرية نقطة ارتكاز أو مقدمة أولى، ويستخلص منها - بأساليب منطقية ورياضية - ما يمكن أن يترتب عليها من نتائج، وبعد ذلك قد يقوم مرة أخرى بإجراء تجارب - من نوع جديد - لكي يتحقق من أن هذه النتائج التي استخلصها بالعقل والاستنباط صحيحة، فإذا أثبتت التجارب صحة تلك النتائج كانت المقدمات التي ارتكز عليها صحيحة، أما إذا كذبتها فإنه يعيد النظر في مقدماته، وقد يرفضها كليا أو يصححها عن طريق إدماجها في مبدأ أعم؛ ومن أمثلة ذلك أن أينشتين - عندما وضع نظرية النسبية بناء على ملاحظات وتجارب جزئية سابقة قام بها هو وغيره من العلماء - استخلص النتائج المترتبة عليها بطريقة «الاستنباط العقلي»، وكان لا بد من تجربة لكي يثبت أن هذه النتائج تتحقق في الواقع، وبالفعل أجريت هذه التجربة في حالة الكسوف الشمسي التي حدثت في عام 1916، وأثبتت صحة النظرية التي اتخذ منها أينشتين مقدمة لاستنتاجاته.
وهكذا يسير المنهج العلمي المعترف به - في ضوء التطور الحاضر للعلم - من الملاحظات إلى التجارب ثم إلى الاستنتاج العقلي وإلى التجارب مرة أخرى؛ أي إن العنصر التجريبي والعنصر العقلي متداخلان ومتبادلان، كما أن الاستقراء - الذي نتقيد فيه بالظواهر الملاحظة - والاستنباط - الذي نستخدم فيه عقولنا متخطين هذه الظواهر الملاحظة - يتداخلان بدورهما، ولا يمكن أن يعد أحدهما بديلا عن الآخر؛ فالتجريبية والعقلية ليسا - في العلم - منهجين مستقلين، بل هما مرحلتان في طريق واحد. وفي أغلب الأحيان يكون العلم في بداية تطوره تجريبيا، وعندما ينضج يكتسب إلى جانب ذلك الصيغة العقلية الاستنباطية؛ ففي المرحلة الأولى يجمع أكبر عدد ممكن من المعارف بطريقة منظمة ، وفي المرحلة الثانية يتوصل إلى المبادئ العامة التي تفسر هذه المعارف وتضعها في إطار موحد. وقد بدأت الفيزياء مرحلتها التجريبية الأولى منذ القرن السادس عشر، وانتقلت بعد قرنين إلى المرحلة الثانية. أما العلوم الإنسانية فربما كانت - في معظم حالاتها - تمر حتى الآن بالمرحلة التجريبية التي تكدس فيها المعارف؛ انتظارا للمرحلة التي تنضج فيها إلى حد اكتشاف القوانين أو المبادئ العامة.
تلك لمحة موجزة عن هذا الموضوع الذي يعد أهم مظاهر التنظيم العلمي، وأعني به البحث المنهجي. ولا بد أن نؤكد مرة أخرى أن هذا المنهج الذي أشرنا إليه ليس ثابتا، وإنما هو يمثل حالة العلم في المرحلة الراهنة، كما أنه لا ينطبق بالضرورة على جميع مجالات البحث العلمي، بل هو تلخيص للطريقة التي يتبعها العلماء في العصر الحديث في أهم ميادين بحثهم.
فهل يعني ذلك أن المرء إذا أراد أن يكون عالما فما عليه إلا أن يتقن هذه القواعد؟ وهل يكفي لتكوين العالم في عصرنا هذا أن نلقنه الخطوط العامة للطرق التي اتبعها العلماء السابقون عليه لكي يصلوا إلى كشوفهم؟ الواقع أن هذا خطأ يقع فيه كثير من غير المتخصصين في العلم؛ ذلك لأن معرفة أية مجموعة من القواعد - مهما بلغت دقتها - لا يمكن أن تجعل من المرء عالما، بل إن هناك شروطا أخرى لا بد من توافرها لتحقيق هذا الهدف، والمسألة ليست مسألة تطبيق آلي لمجموعة من القواعد التي ثبتت فائدتها في أي علم من العلوم، بل إن العلم أوسع وأعقد من ذلك بكثير، ونستطيع أن نقول إن فيلسوفا ذا عقلية علمية جبارة مثل «ديكارت» قد وقع في هذا الخطأ، فنظر إلى إيمانه بأهمية المنهج في الحلم (وهو على حق في ذلك) فقد استنتج أن العلم ليس إلا منهجا، وأكد أن الناس لا يتفاوتون في استعداداتهم العقلية، وإنما يتفاوتون في كيفية استخدامهم لهذه العقلية بالطريقة الصحيحة؛ ولذا ركز ديكارت اهتمامه على وضع مجموعة من القواعد التي يستطيع العقل - إذا ما التزمها بدقة - أن يهتدي بواسطتها إلى حل أية مشكلة في أي ميدان من ميادين العلم.
Bog aan la aqoon