فهل يعني ذلك أن التضاد القديم بين محبي الحقيقة ومحبي الكسب قد اختفى؟ الواقع أن هذا التضاد لا يزال قائما، ولا يمكن القول إن العالم الحقيقي إنسان يصلح للاشتغال بالتجارة (حتى في عمله) أو يجعل من تكديس الأموال هدفا لحياته. قد نجد استثناءات قليلة هنا أو هناك، ولكن معظم هذه الاستثناءات تتعلق بأناس لا تسري في عروقهم روح العلم بمعناها الحقيقي. ولا يزال من الصحيح أن العالم لا يطلب المال لذاته، وإنما يطلبه بوصفه وسيلة فحسب؛ فسهولة العيش وقضاء المطالب المادية - وربما بعض المطالب الكمالية - يتيح للعالم أن يتفرغ لعمله العلمي بذهن خال من المشاغل، ومن هنا كان الوضع الأمثل عند العلماء هو أن تقوم الدولة بتلبية احتياجاتهم وتزويدهم بكل ما يلزمهم للبحث، بحيث تصبح عقولهم مكرسة للتفكير في المشاكل العلمية وحدها، أما استغلال البحث العلمي استغلالا ماديا فأمر لا يكترث به العلماء.
ولا يمكن أن يسمى هذا زهدا بالمعنى الصحيح، وإن كان فيه بالفعل كثير من عناصر الزهد؛ ذلك لأن العالم إنسان يحظى بمستوى عقلي يفوق المستوى العادي، وهناك متع كثيرة يسعى إليها الإنسان العادي وينفق من أجلها الكثير من المال، لا يكترث بها العالم ولا يشعر إزاءها بأي استمتاع. فمن الصعب على كثير من العلماء - مثلا - أن يشعروا بلذة حقيقية من تلك السهرات الصاخبة في الملاهي الليلية، حتى لو كان يملك المال الذي تتكلفه، على حين أن التاجر أو رجل الأعمال قد يجد فيها متعة كبرى، وقد يكون قدر كبير من سعيه وراء الربح مستهدفا حياة من هذا النوع. وهكذا يبدو تصرف العالم في هذه الحالة زهدا، ولكنه - في حقيقته - استخفاف بأمور لا تثير في نفسه رغبة حقيقية من أجل الوصول إليها.
وهنا لا نستطيع أن نقول: إننا - في عصرنا الحديث - قد تجاوزنا بكثير ما كان يدعو إليه أفلاطون؛ ذلك لأن هذا الفيلسوف اليوناني الكبير قد حرم على العلماء - في مدينته الفاضلة - اقتناء الذهب والفضة «اكتفاء بما في نفوسهم من هذين المعدنين النفيسين»، وهو قد دعا إلى قيام المجتمع أو الدولة بتوفير كل المطالب المادية للعلماء حتى لا يشغلهم شيء سوى بحثهم وراء الحقيقة، ولكن الصورة العامة التي رسمها لوضع العلماء في المجتمع المثالي - كما تخيله - لم تكن صورة زاهدة بالمعنى الصحيح؛ إذ إن العلماء كانوا يحصلون على كل مطالبهم الضرورية، وكانوا يتمتعون جسديا ونفسيا بكل ما يميل إليه الإنسان السوي. أما انصرافهم عن الاتجار أو الكسب فراجع إلى أن طبيعتهم ذاتها تأبى الانشغال بهذه الأمور.
ولكن ماذا نقول عن الشهرة؟ هل صحيح أن العالم - كما كان يشيع في العصور القديمة والوسطى - إنسان يزهد في الشهرة ويبحث عن الحقيقة في صمت، دون أن يهتم بأن يعرفه أو يسمع عنه أحد؟ الواقع أن هذا الرأي يظل صحيحا إذا كنا نعني بالشهرة ذلك الضجيج الإعلامي والإعلاني الأجوف الذي يتمتع به نجوم السينما أو الرياضة البدنية أو بعض السياسيين؛ فالعالم لا يجد متعة في أن يشيع اسمه بين عامة الناس وسط أسماء تلك الشخصيات التي تهتم بها وسائل الإعلام الجماهيرية الحديثة، والتي هي في معظم الأحيان شخصيات سطحية. ولكن هناك نوعا آخر من الشهرة يسعى إليه العالم بكل حماسة، هو الشهرة في الوسط العلمي ذاته، بل إن كل من مارس تجربة البحث العلمي على حقيقتها يعلم أن كلمة صدق يقولها عالم آخر ممتدحا فيها بحثه، قد تكون أحب لديه من أموال الدنيا. وهكذا يتحمس العالم للشهرة بمعنى اعتراف المتخصصين والعارفين بقيمة عمله. أما الشهرة الجماهيرية السطحية فلا تهمه في شيء؛ لأنه على أية حال لن يستطيع - مهما فعل - أن يجاري مطربا عاطفيا أو لاعبا رشيقا في اكتساب الشهرة بين عامة الناس.
وأخيرا فلعل موضوع المال هذا أن يثير مشكلة أصبحت تلقى في السنوات الأخيرة اهتماما كبيرا في بلاد العالم الثالث، ومنها بلادنا العربية، وكذلك في الهيئات الدولية التي تعنى بشئون البلاد النامية، وأعني بها تلك المشكلة المعروفة باسم هجرة العلماء أو تسرب العقول، فنحن نعاني من رفض عدد كبير من أبنائنا - الذين يتعلمون في الخارج - العودة إلى أوطانهم التي هي في أشد الحاجة إلى خبرتهم وعلمهم لكي تبني لنفسها مستقبلا أفضل. ومن المعترف به أن قوة الجذب التي توجد لدى بعض الدول المتقدمة، والتي تتمكن بواسطتها من احتجاز أعداد كبيرة من علماء البلاد النامية، هي من أهم العوامل التي تؤدي إلى مضاعفة معدل التقدم في تلك البلاد، وتباطؤ هذا المعدل في البلاد التي يهاجر منها العلماء.
والتفسير الشائع هو أن المال عامل حاسم في هجرة العلماء، لا سيما وأن البلاد التي يهاجرون إليها قادرة على إغرائهم بأجور تزيد أضعافا مضاعفة عن أقصى ما يحلمون في بلادهم الأصلية. وقد يكون عامل المال ذا تأثير بالفعل في بعض الحالات، ولكن أغلب الظن أن هناك عوامل أخرى تنتمي إلى صميم العمل العلمي، هي التي تدفع العلماء إلى ترك بلادهم الأصلية وتقديم خبراتهم إلى بلاد غريبة عنهم، وعلى رأس هذه العوامل: وجود الجو الذي يسمح للعالم بممارسة عمله على الوجه الذي يتطلع إليه؛ ففي اعتقادي أن عامل تحقيق الذات يقوم - في حياة العالم - بدور يفوق بكثير جميع التطلعات المادية، وإحساس العالم بأنه يحقق كل ما لديه من إمكانات، وبأن فرص البحث مهيأة له بلا عوائق، وبأن الجو العام - في المجتمع الذي يعيش فيه - يسمح له بالمضي في عمله العلمي دون أن تشغله الدسائس والمؤامرات والمشاغل التافهة. هذا الإحساس هو العامل الحاسم في اختياره للمكان الذي يفضل أن يعمل فيه، وأوضح مثل على ما نقول هو ما حدث لعلماء الصين؛ إذ كان عدد من هؤلاء العلماء قد هاجروا إلى الخارج وخاصة إلى الولايات المتحدة، حيث تبوءوا مراكز مرموقة، وكانوا يتقاضون مرتبات ضخمة، ولكن في اللحظة التي دعاهم فيها الوطن العودة؛ عاد معظمهم بالفعل، ولم يكن هناك أي وجه للمقارنة بين أحوالهم الجديدة ووضعهم القديم من الناحية المالية، ولكن كان هناك الإحساس بأن الوطن في حاجة إليهم، وبأن المجتمع ينفق على البحث العلمي بأقصى ما يمكنه من سخاء، وبأن أدوات البحث العلمي - من أجهزة ومراجع - متوافرة، كما أن الجو العام يشجع على البحث ولا يضع أية معوقات أمام المشتغلين به. وبالفعل لاحظ المراقبون الذين زاروا هذا البلد - حتى من بين خصومه - أن الدولة تعامل العلماء ومراكز البحث معاملة تفوق بكثير مستوى التقشف العام السائد في المجتمع، وهذا أقصى ما يحتاج إليه العالم ؛ أن يشعر بأن بلده محتاج إليه، وبأن نتائج بحثه لن تهمل وإنما ستعود على المجتمع بالنفع، وبأن الدولة تحترم العلم وتخصص له كل ما في طاقتها من إمكانات، وبأنه يشارك بصورة إيجابية في مسيرة مجتمع يسعى بجدية من أجل النهوض. أما الكسب أو المال فيأتي في مكانة ثانوية إذا تحققت هذه الأهداف الرئيسية، ومن المؤكد أن المجتمع الذي يحترم العلم إلى هذا الحد لن يقبل أن يترك علماءه يعيشون في مستوى هابط. كما أن العالم - من جهته - لن يطلب لنفسه أكثر مما يطيق مجتمعه إذا أيقن أن هذا المجتمع جاد، وأنه خلا من الفساد والانتهازية والوصولية والرغبة في التسلق على أكتاف الآخرين وعلى حساب قوتهم الضروري. (1-3) الحياد
قلنا من قبل: إن الموضوعية هي الصفة التي تلخص جميع جوانب الأخلاق العلمية، وعرضنا لمعنيين من معاني الموضوعية؛ هما الروح النقدية والنزاهة، والمعنى الثالث للموضوعية هو الحياد، وهو معنى عظيم الأهمية، وإن كان يثير إشكالات ينبغي أن ينتبه إليها المرء حتى لا يسيء فهم هذا اللفظ الذي يستخدم - رغم وضوحه - بمعان شديدة التباين.
إننا نصف الشخص الموضوعي بأنه محايد، ونعني بذلك أنه لا ينحاز مقدما إلى طرف من أطراف النزاع الفكري أو الخلاف العلمي؛ فالعالم ينبغي أن يقف على الحياد، بمعنى أن يعطي كل رأي من الآراء المتعارضة حقه الكامل في التعبير عن نفسه، ويزن كل الحجج التي تقال بميزان يخلو من الغرض أو التحيز؛ فالموضوعات التي يعالجها، والأفكار التي تقدم إليه، تقف كلها أمامه على قدم المساواة، دون أية محاولة مسبقة من جانبه لتفضيل إحداها على الأخرى، وعندما ينحاز العالم آخر الأمر، فلا بد أن يكون انحيازه هذا مبنيا على تقدير موضوعي بحت لإيجابيات الحجج وسلبياتها. والعالم محايد بمعنى أنه يترك تفضيلاته الذاتية جانبا؛ إذ إننا لا نستطيع - بغير شك - أن نتصور عالم نبات يهتم في أبحاثه بزهرة معينة لمجرد كونه يحبها، أو عالم حيوان يهمل نوعا حيوانيا معينا لمجرد أنه لا يطيق شكله.
ولكن معنى الحياد العلمي اكتسب في وقتنا هذا أبعادا أوسع من ذلك بكثير، وأول هذه الأبعاد ذو طابع أخلاقي واضح، فمن الشائع أن نجد كتابات تتهم العلم بأنه سبب الشرور التي تعانيها البشرية، وخاصة بعد أن أدى تحالفه مع التكنولوجيا إلى تغيير وجه الحياة على نحو يرى فيه الكثيرون انحدارا لإنسانية الإنسان، ولكن من المألوف - من ناحية أخرى - أن نرى كتابا يمجدون العلم على أساس أنه هو القوة القادرة على أن تحقق الجنة الموعودة للإنسان على سطح هذه الأرض. وهكذا يتهم بعضهم العلم بأنه ينزع إلى الشر بطبيعته، ويتغنى البعض الآخر به لأنه مصدر أعظم خير يستطيع الإنسان أن يحققه في حياته.
ولكن الرأي الأكثر شيوعا من هذين الرأيين، هو القائل أن العلم «محايد» بين الخير والشر؛ فالعلم أداة تتيح للإنسان أن يفهم العالم المحيط به وأن يفهم نفسه على نحو أفضل؛ ومن ثم فهو يزيد من قدرته على السيطرة على العالم الخارجي، وعلى عالمه الداخلي الخاص، ولكن هذه القدرة «محايدة»؛ بمعنى أنها لا تعدو أن تكون طاقة أكبر، قابلة لأن تتشكل في اتجاه الخير أو الشر، وهذه الطاقة قد تكون عقلية تتمثل في فهم أفضل للظواهر، أو مادية تتمثل في مزيد من السيطرة على هذه الظواهر وتسخيرها لأغراض الإنسان. ولكن هذه الأغراض قد تكون متجهة إلى تحقيق السعادة والرخاء للبشر، وقد تتجه إلى إرضاء نزوات حاكم مستبد أو تحقيق مصالح فئة جشعة أو ضمان التفوق لشعب مغتصب.
Bog aan la aqoon