في هذا العرض العاجل اخترنا ثلاثة أمثلة لإنجازات العلم المعاصر؛ هي الطاقة النووية والعقول الإلكترونية وغزو الفضاء، ومن المستحيل أن يقتصر المرء على أمثلة كهذه إذا شاء أن يقدم صورة شاملة لما حققه العلم في العصر الحاضر؛ بحيث إن أي اختيار لا بد أن يغفل إنجازات عظيمة الأهمية، ولكن الواقع أننا لم نختر هذه الأمثلة إلا لأنها هي الأشهر على مستوى المعلومات العامة، وكم من كشوف أخرى صامتة أو لا تحيط بها ضجة كبيرة، كان لها في حياة الإنسان تأثير لا يقل عن تأثير النماذج السابقة.
وعلى أية حال، فإن هذه الأمثلة تكفي للكشف عن الطبيعة الثورية للعلم المعاصر الذي أحدث تحولا حقيقيا في حياة البشر، وأصبح هو الحقيقة الأساسية في العالم الذي نعيش فيه، وحسبنا أن نقارن بين أسلوب الحياة في مثل هذه الأيام منذ مائة عام، وبين أسلوب حياتنا الحالي؛ لكي نقتنع بأننا لن نفهم عالمنا هذا إلا في ضوء التقدم العلمي الذي نعيش فيه ونتمتع بإنجازاته دون أن نشعر؛ ذلك لأن العلم - الذي لم يعد ظاهرة هامشية على الإطلاق - يكتسب أبعادا اجتماعية تزداد أهميتها يوما بعد يوم، وفي كل لحظة يزداد الإنسان اقتناعا بأن مصيره - سواء أكان يسير نحو الأفضل أو نحو الأسوأ - مرتبط بالعلم، فما هي هذه الأبعاد الاجتماعية؟ وما تأثيرها الفعلي والممكن على الإنسان؟
الفصل السادس
الأبعاد الاجتماعية للعلم المعاصر
(1) العلم والمجتمع
ليس العلم ظاهرة منعزلة، تنمو بقدرتها الذاتية وتسير بقوة دفعها الخاصة وتخضع لمنطقها الداخلي البحت، بل إن تفاعل العلم مع المجتمع حقيقة لا ينكرها أحد؛ فحتى أشد مؤرخي العلم ميلا إلى التفسير «الفردي» لتطور العلم، لا يستطيعون أن ينكروا وجود تأثير متبادل بين العلم وبين أوضاع المجتمع الذي يظهر فيه، حتى ليكاد يصح القول بأن كل مجتمع ينال من العلم بقدر ما يريد. ولا شك أن العرض الموجز الذي قدمناه من قبل للمراحل الرئيسية لتطور العلم وللنمو التدريجي لمعناه ومفهومه، يتضمن أدلة وشواهد متعددة على الارتباط الوثيق بين حالة العلم في أي عصر وبين أهم العناصر في الحياة الاجتماعية لذلك العصر؛ بحيث يكون العلم جزءا من كل، ويكون وجها واحدا لحياة متكاملة يحياها المجتمع.
فالتاريخ يقدم أمثلة كثيرة تثبت أن المجتمع يحدد - بقدر معقول من الدقة - نوع العلم الذي يحتاج إليه، وهذا لا يتنافى على الإطلاق مع تأكيد أهمية العبقرية الفردية للعالم، ودوره الأساسي في الكشف العلمي، فلا أحد يزعم أن العالم مجرد «أداة» يستعين بها المجتمع لتلبية حاجاته، أو أن الكشوف العلمية يمكن أن تتم على أيدي أناس لم تتوافر لهم عبقرية كبيرة، ما دامت تظهر في المجتمع المناسب وفي الوقت المناسب. بل إن هذه أحكام باطلة تبخس العالم الكبير حقه، وتصوره كما لو كان وسيلة في أيدي قوة غيبية تتحكم فيه تحكما تاما، حتى لو كان المرء يطلق على هذه القوة الغيبية اسما يبدو في ظاهره علميا، هو «حاجة المجتمع».
وحقيقة الأمر هي أن الكشف العلمي يحتاج إلى تضافر العاملين معا؛ حاجة اجتماعية وعبقرية ذهنية، وكل ما في الأمر أنه عندما تتوافر الحاجة الاجتماعية لا يكون من الصعب ظهور العبقرية الذهنية؛ ذلك لأن أفراد البشرية - الذين يعدون بالملايين - لا يخلون في كل عصر من عباقرة، ولكن المهم أن يأتي العبقري في وقته، وأن يلبي حاجات عمره، ومن المؤكد أن هناك حالات ظهر فيها عباقرة في غير أوانهم؛ أعني في وقت لم يكن المجتمع فيه مهيأ لقبول كشوفهم، فكانت النتيجة أن لمعت عبقريتهم فجأة ثم انطفأت فجأة كالشهاب البارق، دون أن يتركوا وراءهم تأثيرا باقيا. وهذه ظاهرة ضربنا لها من قبل مثلا واضحا؛ هو تلك الآلات التي اخترعها العالم اليوناني المشهور «أرشميدس»، ولكنه خجل من إظهارها على الملأ، ونظر إليها كما لو كانت «لعبا» للتسلية. ولو كان هذا العبقري يعيش في عصرنا الحديث لأدرك على التو أهمية هذا التنظيم الميكانيكي لعناصر الطبيعة في ميدان التطبيق العملي، ولتوصل إلى ضرورة استخدام مبدأ الآلية من أجل توفير جهد الإنسان ووقته، ولكنه كان يعيش في عصر توجد فيه «آلات آدمية» - هم العبيد - فما الداعي إلى التفكير في آلات طبيعية مادية؟
وفي الميدان النظري البحت، نستطيع أن نضرب مثلا آخر ينتمي إلى صميم عالمنا العربي، وهو حالة ابن خلدون؛ فهذا العالم العبقري قد توصل - في «مقدمته» المشهورة - إلى المقومات الرئيسية للدراسة العلمية للمجتمع البشري؛ أي لعلم الاجتماع (الذي أسماه «علم العمران»)، وكثير من آرائه قد ترددت - فيما بعد - بطريقة تكاد تتشابه حتى في التفاصيل عند أولئك الذين اعتبرهم الأوروبيون روادا لعلم الاجتماع، ولكن الكشف الرائع الذي توصل إليه ابن خلدون لم يجد مجتمعا يستجيب له؛ فلم يظهر في مجتمعه من ينبه إلى أهميته، ولم يتابع آراءه وتعاليمه تلاميذ يكملون رسالته، ولم تستمر حركة العلم الجديد الذي توصل إليه في مسيرتها، بل توقف كل شيء، وظهرت عبقريته كما لو كانت شعلة ساطعة انطفأت بسرعة، ولم يتنبه إليه الناس إلا عند «إعادة اكتشافه» بعد عصره بقرون عديدة، كل ذلك لأن الفترة التي ظهر فيها ابن خلدون والتي أعقبت ظهوره كانت فترة بداية الانهيار في الحضارة الإسلامية، وبداية عهد الغزوات الأجنبية وما ترتب عليها من انحلال داخلي فيها.
وما هذه إلا أمثلة نود أن نثبت بها أن الكشوف العلمية المستقرة في أي عصر هي حصيلة التفاعل بين عاملين؛ بيئة اجتماعية مهيأة لها، وعبقرية فردية تظهر في الوقت المناسب. والفارق الوحيد في تأثير هذين العاملين يرجع إلى أن أحدهما جماعي والآخر فردي؛ فحين تتوافر الحاجة الاجتماعية لا يكون من الصعب على المجتمع أن يفرز - من بين الملايين من أفراده - العبقرية القادرة على تلبية هذه الحاجة. أما حين تتوافر العبقرية الفردية وحدها دون أن تتهيأ الظروف الاجتماعية المواتية، فإن التاريخ قد يطويها في زوايا النسيان، أو قد يقول عنها - إذا أراد إنصافها - إنها عبقرية ظهرت في غير أوانها. (2) الوضع الاجتماعي للعلم المعاصر
Bog aan la aqoon